أوراق إستراتيجية » أميركا والقوى الإقليمية في شرق أوسط متحول


الدكتور غريغوري غاس(*)
الدكتور أيان س. لوتسيك(**)
لم يطلق كثير من الناس تسمية ' الرشيقة والحاذقة'، في أي وقت على الولايات المتحدة في تعاملها مع التغيير الحاصل في الشرق الأوسط. فخلال الحرب الباردة، كان السكان المحليون، أي المواطنون، هم من استغل كلتا القوتين العظمتين، بالتلاعب بهما ضد بعضهما البعض للدفع قدماً بمصالحهما، في الوقت الذي كانت واشنطن وموسكو تحدقان ببعضهما البعض. وقد حررت نهاية الحرب الباردة أميركا لتتصرف من دون قيود كبيرة في المنطقة. فالتحرر من الخوف من رد فعل القوة العظمى الأخرى أنبت تهوراً وطيشاً بظل حكم بوش الابن، لينتج عن ذلك كارثة غزو العراق، التي لا زالت الولايات المتحدة تحاول التعافي منها. إلا أن نهاية الحرب الباردة عنت شيئاً مختلفاً خلال فترة حكم إدارة أوباما. فالمرونة والاختلاف الضئيل في ردود فعلها تجاه الثورات العربية عام 2011 يعكسان تركيزاً على التغييرات الجارية في المنطقة نفسها بدلاً من التركيز على حسابات  في لعبة مع السوفيات أو على بقايا التزامات إيديولوجية للهيمنة الأميركية. وفي حين تكتسح قوة الشعب ذات الوجه الإسلامي نظاماً بعد آخر في الشرق الأوسط، وطالما أن آثار الانتشار النووي تشكل تحديات مباشرة وآنية للمصالح الأميركية وحلفائها، فإن السياسات الأميركية التقليدية المعتمدة على ' الاستقرار السلطوي' وعلى التفوق العسكري الإسرائيلي تخضع لأزمة شديدة وخطيرة. لحسن الحظ، لقد برهنت الإدارة الحالية عن دهاء ضروري للتكيف مع هذه التحولات. في كل الأحوال، لا تزال واشنطن تواجه تحديات قد لا تكون تعلم كيفية تلبيتها.
وبشكل لا تتسم به أية قوة كبرى تعمل في الشرق الأوسط، يبدو أداء الولايات المتحدة أفضل بشكل لا بأس به من معظم القوى الإقليمية، التي بدت، بالتحديد، مربكة وغير بارعة في ردودها إزاء تحولات الأنظمة واستمرار الاضطرابات. فإسرائيل، السعودية وإيران كلها تنظر إلى الأحداث الإقليمية من خلال منظار قديم. وتعمل 'إسرائيل' وكأنما هي عالقة في زمن القومية الرومنطيقية للقرن التاسع عشر ومواجهة اليهود لأشكال شريرة وخبيثة من معاداة السامية أفلتت من عقالها في أوروبا المتعصرنة بسرعة. فمبادئ الصهيونية الأساسية باعتماد اليهود على الذات، الأنانية الوطنية والتوسعية الانتهازية التي خدمت الحركة القومية اليهودية جيداً في فترة بطولية هي مبادئ غير متلائمة بشكل خطير في شرق أوسط متغير بسرعة. مع ذلك تبدو هذه المبادئ ممسكة بقبضة حديدية بالحياة السياسية الإسرائيلية وبتطلعات عدد من القادة الإسرائيليين. وتنظر السعودية إلى المنطقة من خلال عدسة التضامن الملكي الثنائية البؤرة ومن خلال صراع مذهبي متزايد مع إيران لأجل النفوذ الإقليمي. أما إيران، التي قد يفترض المرء أنها ستكون القوة الإقليمية الأنسب من غيرها لجهة الاستفادة من الهيجان الثوري، فقد كانت مربكة بسبب التغييرات الحاصلة في العالم العربي. وقد تمسكت طهران بحليفها السوري الغارق بالدماء وهي مستمرة بتراجع الحريات في الداخل في الوقت الذي تلجأ فيه، أكثر فأكثر، إلى عبارات معاداة أميركا ومعاداة الصهيونية البالية لحشد الدعم محلياً وإقليمياً. تركيا فقط هي التي عدَّلت، وبحذاقة، سياستها لتتلاءم مع الربيع العربي، وذلك من سياسة ' صفر مشاكل مع الدول المجاورة' الأمر الذي أدى إلى علاقات طيبة من دولة لدولة مع الأسد، القذافي وإسرائيل، إلى موقف داعم للتغيير الديمقراطي في المنطقة. وكون تركيا نفسها تخضع الآن إلى تحول ديمقراطي، ولو كان غير تام، فإنها تعتبر في الموقع الأفضل من بين القوى الإقليمية لتلعب دوراً قيادياً في شرق أوسط أكثر ديمقراطية.
هذا لا يعني القول بأن توازن القوى السياسية أو المذهبية ليس هاماً في الوقت الذي يعمل الربيع العربي نفسه بنجاح. فالقوة الإسرائيلية، المال السعودي، والروابط الإيرانية مع الجماعات الشيعية أمور ستؤثر كلها على الأحداث وهي تتطور. لكن لا يبدو أن أيا من هذه الدول تدرك أن هناك تحولاً كبيراً يحصل في المنطقة باتجاه أنظمة سياسية تكون فيها موافقة الخاضعين للحكم ضرورية لسياسات محلية مستقرة وحيث يلعب الرأي العام دوراً أكبر بكثير في صنع السياسة الخارجية.
أميركا والربيع العربي
حصرت الحرب الباردة اهتمام كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بالآخر. فقد سعى كل منهما إلى الحصول على مكاسب في مناطق العالم الثالث أو منع الآخر من الحصول على هذه المكاسب فيها. وبسبب كونهما آمنين من أعداء آخرين، لم يكن لدى القادة في واشنطن وموسكو الحافز، ولا الاهتمام،  لممارسة الحكمة والتعقل والحكم الحذر في كل حالة ركود دولية ظهر فيها تنافسهما وعداوتهما. فانتشار تنافسهما وصلته بمستوى الموارد المحلية، والحجم الهائل لهذين العملاقين، خلق فرصاً للأقزام لا يمكن مقاومتها لجهة استغلال تجاهل القوى العظمى للشؤون المحلية والحاجة لحلفاء محليين.
إن الأمر الذي مكَّن من استغلال الضعيف للقوي في هذه الظروف هو تماثل الرشاقة السياسية، مع وجود جهات فاعلة محلية قادرة على المناورة بسلاسة وإثارة إحدى القوى العظمى ضد الأخرى للاستفادة وذلك بطرق غالباً ما أربكت وأحبطت القوى الدولية الضخمة الحجم الثقيلة الحركة ، والبطيئة التعلم. إلا أن الحرب الباردة انتهت قبل عقدين من الزمن. والآن ، وبينما العالم يتغير في الشرق الأوسط، تبدو الولايات المتحدة، على الأقل، مستعدة تماماً للتكيف مع التغيير وحتى مرحبة به. إن السياسة الخارجية لإدارة أوباما في المنطقة مبنية على تقييمين أساسيين:
&bascii117ll; المنطقة هامة ، إلا أن بضع تطورات فيها تعتبر تهديدات محتملة للمصالح الأميركية الحيوية؛
&bascii117ll; الردود المتعددة لمشاكل متوسطة المدى، حتى لو كانت ناقصة، أفضل بكثير من الالتزام المباشر والعلني للموارد العسكرية الأميركية.
لقد استعرضت إدارة أوباما رشاقتها وسرعة حركتها في ردها المحسوب إزاء ليبيا وردودها المتباينة إزاء الاضطرابات في مصر، تونس، اليمن، البحرين وسوريا. هذا الأمر، ونتحدث تاريخياً، يشكل تناقضاً حاداً مثيراً للسخرية مع ردود أنظمة أساسية في المنطقة تواجهها ثورات وتحولات تجعل من السياسات والمواقف القديمة أمراً غير ذي صلة ، وحتى خطيراً.
من الصحيح القول بأنه في حالات خاصة ـ مثل كوبا و'إسرائيل' ـ حيث تتطرق العلاقات الخارجية  إلى أجهزة حيوية للسياسة الأميركية المحلية، تبدو السياسة الأميركية ضيقة الأفق وغير منطقية اليوم كما كان المعيار في مناطق العالم الثالث خلال الحرب الباردة. بالواقع، وبما يتعلق بـ'إسرائيل'، سيكون من السهل صنع وجهة النظر plascii117s ca change, plascii117s c&rsqascii117o;est la meme chose عن طريق الاستشهاد برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وإحباطه للجهود الأميركية باستخدام تعليق بناء المستوطنات في الضفة الغربية لإعادة ضبط ' عملية السلام'. لكن في الشرق الأوسط المعاصر، سيكون هذا بمثابة خلط للمفاهيم. فالحرب العراقية في طريقها لأن تنتهي ـ المفهومة، بحسب النموذج الفييتنامي، بأنها كانت حكاً استراتيجياً خاطئاً وغبياً وتعجرفاً سياسياً؛ وتورط الناتو في أفغانستان بدأ يخمد؛ و 'الحرب على الإرهاب' تضاءلت وتحولت إلى حملة  لفرض القانون وإلى متخصصين بمكافحة الإرهاب. بالتالي، من الواضح أن الولايات المتحدة (على الأقل بظل إدارة ثانية لأوباما) لن ترتكب نفس عدد الأخطاء تقريباً لجهة الإفراط بالتورط في الشرق الأوسط كما حصل إبان الحرب الباردة وفي العقدين التاليين لاحقاً.
سوف يواجه هذا التعديل، في كل منطقة من العالم، تحديات متمايزة، بوصفه، جزئياً، وظيفة للخصائص الخاصة للمناطق المختلفة ولتاريخها، ونتيجة لعلاقات خاصة تملكها الولايات المتحدة، أو الدوائر الناخبة الأميركية الأساسية مع جهات فاعلة محلية، في الجزء الآخر من الموضوع. إن الاختبار الشرق أوسطي الكبير لمقاربة أميركية جديدة سيكون إيران. ففي أوائل الخمسينات، فرض البريطانيون ضغوطاً شديدة على الولايات المتحدة لسحب مصالحهم الموجودة في إيران، حيث قامت حكومة منتخبة ديمقراطياً بظل محمد مصدَّق بتأميم موجودات شركة النفط التي أصبحت لاحقاً ' بريتيش بتروليوم'. وبعد رفع هذه الضغوط لبعض الوقت، استسلم القادة الأميركيون لجدل عناصر بريطانيين وموالين للشاه داخل إيران من أنه حتى وإن كان مصدَّق نفسه ليس شيوعياً، فإن الخطر الذي يمكن لسياساته أن تجلبه في زعزعة الاستقرار وفتح مجال الفرص لحزب ' توده' الشيوعي  أمر غير مقبول. وما أن تولى  الأخوان Dascii117lles ( جون فوستر وآلن) مسؤولية السياسة الخارجية وأجهزة الاستخبارات في واشنطن  كان الأمر كافياً لنا للركوب. فالإطاحة بمصدق التي هندستها الـ CIA في العام 1953 واستبداله بالشاه كان مثالاً كلاسيكياً على تلاعب الأقزام والذي أدى، بعد ربع قرن، إلى الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني وإلى كارثة لحقت بالمصالح الأميركية في المنطقة.
إن المشكلة المعروضة أمام واشنطن في إيران حالياً تعتبر مثالاً بارزا ًولافتاً على الكيفية التي يتناغم بها التاريخ، ولا يكررنفسه. فصناع القرار الأميركيين يواجهون حملة مكثفة من الضغط العام والخاص، النابعة بالأصل من إسرائيل ومن عدد من الداعمين لها في الولايات المتحدة، والتي يعززها بعض الحلفاء الخليجيين لأميركا، ' للقيام بشيء ما' حيال إيران. ذلك ' الشيء' مختلف بين المؤيدين، بدءاً من تغيير النظام وصولاً إلى تنفيذ هجوم على المواقع النووية الإيرانية، المشاركة فيه، أو على الأقل التفويض بذلك. مجدداً، يتم إبراز شبح التهديد التوليتاري للعالم المتحضر على أنه يرتفع ويتزايد في طهران ـ الشيوعية الحمراء في العام 1953، الأصولية الإسلامية الاستبدادية في 2012. ويثار الجدل والنقاش، وتؤدى عمليات المحاكاة وتتم الرهانات في التعاملات على الانترنت. هل ستهاجم الولايات المتحدة و/ أو إسرائيل إيران هذا العام؟ إن الحقيقة نفسها بكون هذا الأمر قضية نقاش صريح ومنتظم يعتبر نجاحاً بالنسبة لحكومة نتانياهو. فالأمر ينطوي على تبرير أساسي للتساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة أكثر قدرة الآن، في الواقع، على تنفيذ سياسات مفصلة وفق مصالحها عما كانت عليه إبان الحرب الباردة أو خلال الحرب في العراق أثناء ولايتيْ إدارتيْ جورج بوش الابن.
نحن نعتقد بأن الأمر كذلك. فرغم كون هذا العام هو عام انتخابي، عندما تكون رافعة الحكومات الإسرائيلية على حساب السياسة الخارجية الأميركية أكبر، فإن الولايات المتحدة لن تهاجم إيران. إن إدارة أوباما تثبت بأنها أقل عرضة للتلاعب بها من قبل حلفائها المحليين من الإدارات السابقة التي كانت موجودة، بإدراكها أنه لا يمكن ضمان مصالحها الأوسع نطاقاً في شرق أوسط متغير بمغامرات عسكرية.  فإذا ما حدث هكذا هجوم، فإنه سينفذ من قبل 'إسرائيل' في مقابل ضوء أحمر  أميركي، وليس تشجيعاً عليه بضوء أخضر أو أصفر أميركي. إن ديبلوماسية الإدارة الهادئة إنما المصمِّمة،  قيَّدت 'إسرائيل'، في نفس الوقت الذي نفذت فيه ما يمكن اعتباره، ربما، مجموعة من أشد العقوبات الاقتصادية فعالية وتعقيداً والتي لم يسبق أن فرضت أبداً على بلد كبير ومهم كإيران. لقد نظمت جبهة دولية واسعة ضد الانتشار الإيراني وزادت الضغوط على طهران على كل مستوى. قد لا تنجح، في النهاية، في منع إيران من الحصول على قدرة السلاح النووي. إلا أن مقاربتها تعتبر فرصة أكبر بكثير للنجاح في منع مواجهة عسكرية نووية في المنطقة منه من القيام بضربة عسكرية ستوحد الإيرانيين خلف حكومتهم (على الأقل مؤقتاً)، وتنهي الخلافات المحلية حول الإستراتيجية النووية، وفي أفضل الأحوال، ترجع برنامجها بضع سنين إلى الوراء.
في السياق الواسع، تدل قضية إيران على أن الولايات المتحدة تجد أن من الأسهل عليها التكيف مع اختفاء النظام القديم في الشرق الأوسط من هؤلاء الحلفاء المحليين الذين يعتبر منطقهم السياسي الأساسي متناقضاً بسبب رياح التغيير للقرن 21.  فبظل هذا الرئيس، الولايات المتحدة ليست مشلولة  إزاء القيام بأي عمل بسبب الخوف من الوقوع في الخطأ ، ولا هي مضللة بـ 'عقيدة' منتظمة مبسَّطة بشكل خطير. وللدليل على وجود الرشاقة وخفة الحركة في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، تأمل الدرجة التي كانت فيها السياسات مفصلة على قياس التحديات والفرص والقيود في العراق ، ليبيا، مصر وسوريا، بشكل خاص، تلك الإعدادات المقدمة المختلفة جداً، كما كان حال مقاربة الإدارة للقضية النووية الإيرانية.
&bascii117ll; في العراق، نفذت إدارة أوباما، وبمهارة وكفاءة، اتفاق إدارة بوش مع بغداد حول انسحاب القوات الأميركية. ففي وجه الدعوات الصادرة عن صقور حرب العراق الفاقدين لمصداقيتهم بوضع الاتفاق جانباً، تركت الإدارة العملية السياسية العراقية تأخذ مجراها، بشكل مناسب. إذ أن محاولة فرض وجود عسكري أميركي على حكومة عراقية مترددة ومنتخبة ديمقراطياً لا بد وأنها ستكون قمة الحماقة في هذا الشرق الأوسط الجديد للربيع العربي.
&bascii117ll; في مصر، تطلب حصول تحول سياسي ثوري حقيقي، إنما تحول لا يزال غامضاً، عمليات دقيقة، في آن معاً: فك الارتباط عن علاقتنا بنظام مبارك التي كانت تأتينا بنتائج عكسية على نحو متزايد؛ الوقوف دعماً للتغيير الإصلاحي الذي تنادي به أقلية علمانية ـ ليبرالية في مصر يتطابق الأميركيون مع توجهاتها؛ تقييد غرائز الجنرالات المصريين المترددين بالتنازل عن الهيمنة السياسية والاقتصادية؛ وفتح آفاق سياسية وديبلوماسية جدية عن طريق علاقات عمل ناجحة مع الإخوان المسلمين، الذين سيشكلون معنى الديمقراطية المصرية للمدى الطويل.
&bascii117ll; في ليبيا، سلكت الإدارة ، وبنجاح، ممراً ضيقاً بين مجهود متقدم جداً، وأميركي بشكل مفرط لتحمل مسؤولية أحداث وتعددية طرية العود. ولم تكن لتنجح بذلك لولا نوع القيادة التي يمكن لواشنطن فقط ممارستها خلف الكواليس.
&bascii117ll; في سوريا وفي مجلس الأمن الدولي، تواجه الإدارة نوعاً من الانسداد في العمل الدولي حمايةً لسياسات شائنة فظيعة من قبل روسيا والصين اعتاد العالم على المعاناة منها من الأميركيين عند استخدامهم حق الفيتو بما يتعلق بالأعمال الإسرائيلية. ومهما كان الأمر، فإن ديبلوماسية  هيلاري كلينتون القوية والمتعددة الأطراف تظهر بعض النتائج على الأرض وهي ترسل إشارات مناسبة إلى نظام الأسد. الرسالة هي هذه: لا يمكن للنظام الاعتماد على الفيتو الروسي والصيني لحمايته إلى الأبد؛ فالعالم المتحضر سيجد طريقة لتمكين المعارضة السورية؛ لكن معارضة موحدة في سوريا قادرة على تقديم ضمانات للداعمين للنظام، هي وحدها فقط ستكون قادرة على تحقيق أهدافها.
'إسرائيل'، إيران والربيع العربي
اعتبر البعض الردود المبالغ بها التي عرضتها النخب الإسرائيلية تجاه سياسة الغموض النووي لإيران مصممة بغرض التشويش على الاهتمام الدولي، خاصة الأميركي، بالمشكلة الفلسطينية. لكن سيكون من الخطأ فهم ' الإيرانوفوبيا' لإسرائيل كتكتيك لتأخير القرارات كسباً للوقت في  'عملية السلام'.
الإسرائيليون مصابون بعقدة الخوف من المستقبل. إذ أن قلة من الإسرائيليين، وأقل منهم حتى من القادة الإسرائيليين، قادرين على إبراز مستقبل لبلدهم، مستقبل مرض بالنسبة لهم ويعتقدون بأنه قابل للتحقق. فالمسلك المهيمن لدى نخب اليمين ـ الوسطي واليمين ـ المتشدد في البلد هو أن 'إسرائيل' 'فيللا في غابة'؛ سيكون عليها الانخراط في منافسة قاسية ووحشية مع أعداء كراهيتهم لليهود وإسرائيل عميقة لدرجة أن التسويات تشكل، وببساطة، دفعات مقدمة سلفاً للانتحار. وإذا كان لا ينظر لهذا الأمر رسمياً كحالة علاقات دائمة، فإنه يتم التعامل معها كما لو أنها كذلك. هذا التقييم المحبط، من بين أمور أخرى، يساعد على تفسير هبوط يقارب الصفر في توازن الهجرة اليهودية لـ'إسرائيل'. فالإسرائيليون الأفضل تعليماً والأكثر علمانية وليبرالية يهاجرون بأعداد غير متكافئة وتظهر الدراسات الاستقصائية بأن أقليات كبيرة من الإسرائيليين يدرسون الموضوع فعلياً.
بعيداً عن النهاية التراجيدية والدموية لعملية أوسلو، والندوب العميقة التي تركتها على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، يُفسَّر المزاج في 'إسرائيل' أيضاً بالعجز عن استخلاص الضمانات والتطمينات من وضعياتها ومواقفها الصهيونية وشعارات أبطالها الرنانة. إذ بدأت صهيونية هرتزل بفرضية تقول بأن تشرد اليهود مشكلة خاصة وحيوية بالنسبة للمجتمع الدولي وبأنها سوف تتطلب جهداً كبيراً، بما فيه فرض دولة يهودية على السكان المحليين المقاومين ( العرب) لحلها. ويبدو المجتمع الدولي الآن، وبصورة مثيرة للصدمة، بأنه يتعامل مع تشرد الفلسطينيين كمشكلة خاصة تتطلب تدخلاً دولياً وربما فرض تسوية ضد إرادة السكان المحليين ( اليهود). وبدلاً من ركوب موجة التعاطف والدعم للصهيونية كحل لمشكلة معاداة السامية العالمية ـ وبرغم الاستثمارات الضخمة في جهود ' إعادة التصنيف' ـ فقد أشعلت سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة، والمواطنين العرب في إسرائيل موجة دولية منتشرة بسرعة من التعاطف والتعبئة لأجل الفلسطينيين. وهذا يشمل حملة مقاطعة، سحب استثمارات  وفرض عقوبات سعياً ليس لإنهاء الاحتلال فحسب، وإنما، في بعض الحالات، لنزع الشرعية عن إسرائيل كدولة يهودية.
تصور الصهاينة الأوائل الدولة اليهودية كديمقراطية حديثة تعمل كناشرة للحضارة الغربية ضد الشرق البربري. في نهاية المطاف، كان من المتوقع بأن المنطقة سوف تُعصْرن، يتم تغريبها ودمقرطتها في العملية لتصبح كإسرائيل وتتقبل وجودها وحتى تشعر بشعور بالامتنان لهذا الوجود. في هذا السياق، من المقلق بعمق بالنسبة للإسرائيليين وصول الحداثة والديمقراطية إلى تركيا، إلا أن النتيجة كانت اشتداد المعارضة ، وحتى الكراهية، لإسرائيل. فالربيع العربي قد يجلب الديمقراطية إلى المنطقة وقد لا يفعل، لكنه أزال ديكتاتوريين كانت تعرف 'إسرائيل' كيفية التعاون معهم. ففي مصر ما بعد مبارك، يصبح واضحاً وجلياً بأنه سيكون للمعتقدات والمشاعر الشعبية تأثير أكبر على السياسة الخارجية في الشرق الأوسط الإسلامي. هذا الأمر سيعني التزاماً أكبر بالمطالب الفلسطينية وتساهلاً أقل في مجال التعاون الأمني خلف الكواليس مع إسرائيل أو في مسألة غض الطرف عن استخدام 'إسرائيل' للقوة في غزة أو لبنان. فالصهيونية كانت مبنية على فكرة أساسية هي أن اليهود سيكونوا آمنين فعلياً أخيراً في دولة يهودية في الشرق الأوسط إزاء التهديدات المتعلقة بوجودهم. لكن الآن،  ومع إيران التي تجمع، بشكل خجول ومثير للغيظ والجنون خطاب الهولوكست والقدرة النووية، تشعر 'إسرائيل' في صميمها بالحقيقة وبأن من كل الأماكن التي يعيش فيها اليهود، فإن المكان الوحيد الذي يمكن أن يكونوا معرضين فيه حقاً لخطر التهديد لوجودهم الفعلي هي 'إسرائيل'.
قد يتصور المرء بأن حدة وخطورة التحديات التي تواجهها إسرائيل، ولا علاقية المبادئ الإيديولوجية الصهيونية كخرائط طرق فعالة للتفاوض حول وقائع سياسية معاصرة، ستقود 'إسرائيل' إلى الأخذ بالاعتبار تغييرات موضوعية وحقيقية وجذرية تماماً أنتجت مأزقها الحالي التي هي فيه. في كل الأحوال، ليس هناك إشارات كبيرة حول هذا الأمر حتى الآن. فالخطاب المهيمن داخل البلد هو أن الإزدراء الذي يواجَه به قادتها في معظم بلدان العالم هو نتاج معادة السامية المتأصلة ونتاج الكراهية  اللا منطقية بأساسها والتي لا تستجيب لأية تغييرات في السلوك الإسرائيلي. وفيما عدا تمكن الإسرائيليين من تعلم النظر إلى عالمهم ومأزقهم وفرص مستقبلهم بمنظار الاعتماد بشكل أقل على الخرائط الإيديولوجية لزمن ومشاكل مضت في حال سبيلها منذ وقت طويل، فإنهم لن يكونوا قادرين على تعديل أنفسهم للتكيف مع التغييرات السريعة الحاصلة في المنطقة الآن.
تركيا، السعودية وإيران
في حين كان تركيز الناس في الخارج خلال العام 2011 ، وبحق، على الثورات الشعبية والتغييرات السياسية المثيرة التي تحدث في الحياة السياسية المحلية لدول عربية، كان هناك نزاع مستمر أقل وضوحاً يجري لأجل النفوذ السياسي بين ثلاث دول إقليمية كبرى هي: تركيا، إيران والسعودية. فالتنافس السعودي ـ الإيراني له جذوره المتعلق بسياسة توازن القوى في الخليج الفارسي وقد امتد الآن في كل الشرق الأوسط الكبير ليشمل الشرق، أفغانستان وباكستان. وفي حين أن هذا التنافس هو في جوهره عبارة عن نزاع قديم يتعلق بنفوذ الدول، فقد تداخل فيه اليوم الانشقاق المذهبي بين السنة والشيعة. فكل فريق يجد حلفاء له، عادة من بين المذهب الذي ينتمي إليه كل منهما،  في السياسات المشرذمة لدول عربية ضعيفة كلبنان والعراق. ودخلت حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان في تركيا في اللعبة الإقليمية في الآونة الأخيرة، سعياً منها للعودة إلى وضع له نفوذه في منطقة كانت النخب التركية العلمانية في حقبة أتاتورك قد تجاهلتها عن وعي وإدراك. أما لعبة أردوغان الأبرز بهذا الخصوص فكانت اتخاذ خط متشدد ضد إسرائيل، جاذباً بذلك الرأي العام المحلي والإقليمي. إلا أن سياسته كانت مبنية عموماً على مبدأ 'صفر مشاكل مع الدول المجاورة'، أو الحد الأدنى منها على الأقل. وشملت نجاحات هذه السياسة تحسن العلاقات الثنائية مع اليونان، سوريا وإيران وتحولاً باتجاه تبني حكومة إقليمية كردية في العراق بدلاً من عزلها. وكان للسياسة، من دون أدنى شك، آثارها الإستراتيجية على المدى الطويل، لكنها كانت جيدة جداً أيضاً بالنسبة لقطاع التجارة والأعمال الكردي الديناميكي، الأمر الذي زاد ورفع من مستوى التجارة والاستثمارات في كل المنطقة. وكان لدى أنقرة علاقات ممتازة مع ليبيا القذافي وسوريا الأسد قبل عام 2011، وكانت الشركات التركية تجني المال والمكافآت في الوقت الذي أشرقت الشمس في كلا البلدين.
تفاعلت كل من إيران والسعودية، بشكل متوقع، إزاء أحداث الربيع العربي، واعتبرتا بأنه ليس أكثر من جولة جديدة في معركتهما المذهبية المتزايدة للنفوذ الإقليمي. فإذا كان هناك من نظام حليف يعاني من اضطرابات فقد كان الطرف الآخر يسانده، وإن لم يكن حليفاً له فإنه كان يقف ضده. وقد صاحت إيران ابتهاجاً بسقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر مؤكدة على أن الربيع العربي هو في الواقع ربيع إسلامي، التأثير الإقليمي المتموج المتتالي والمتوقع للثورة الإيرانية عام 1979. لكنها وقفت بثبات إلى جانب حليفها في دمشق في الوقت الذي يحارب فيه الأسد للإمساك بالسلطة. وقد صُعقت السعودية بسبب سقوط مبارك، حليفها العربي الأهم، ولامت الولايات المتحدة على عدم قيامها بما يكفي لإبقائه في السلطة. وعندما بدا بأن الحراك الشعبي في مملكة البحرين المجاورة سيدفع الملك وولي العهد إلى نوع من التسوية  مع المعارضة، دخل الجيش السعودي إلى البلد لدعم الفئة المتشددة في العائلة الحاكمة ومساندة القوات المسلحة البحرينية في قمعها للتظاهرات. إلا أن الرياض كانت في المقدمة في دعوتها لوضع حد لنظام الأسد واستبداله بحكومة ' أكثر تمثيلاً' لشعبها.
صُعق السعوديون والإيرانيون بسبب الموجة الديمقراطية في العالم العربي. ويتعامل الجانبان  مع سياساتهم بطرق مناهضة للديمقراطية ـ نظام الخامنئي من خلال زيادة القمع واحتكار العناصر الديمقراطية للنظام الجمهوري الإسلامي. ومع عدم التجاوب تحديداً إزاء الرأي العام في الداخل، كان هؤلاء يتصرفون خارج عمق الأحداث في الوقت الذي اكتسحت فيه الحركات الشعبية المنطقة. أما مشاركة المسلمين السلفيين ونجاحهم في صناديق الاقتراع حيث نالوا حوالي 25 بالمئة من المقاعد في البرلمان الجديد، فمقلقة بعمق بالنسبة للنخبة السعودية الأمر التي بررت حكمها اللا ديمقراطي بالرجوع إلى التفسيرات السلفية للإسلام. أما الإيرانيون فكانوا سعداء بجمع ممثلي جماعات المعارضة العربية في طهران في أواخر كانون الثاني 2012، لكنهم حظروا وجود الصحافة عندما أشير علناً إلى غياب شخصيات المعارضة السورية من قبل نظرائهم المؤتمرين. فبالنسبة لكل من الجانبين كان الربيع العربي مرحلة جديدة من لعبتهما لعبة القوة الإقليمية.. ولم يقدِّر الجانبان كثيراً واقع أنه قد يكون ميدان اللعب في حالة تغيير عميق. أما كيف سيتعامل الجانبان مع السياسات المحلية التي يمكن أن يصبح فيها الرأي العام مهماً بأهمية الهوية المذهبية في تسيير السياسات فأمر علينا أن ننتظر لنرى.
برهن الأتراك فقط عن تقديرهم لطبيعة الأحداث الحاصلة من حولهم. فبرغم الرهان الاقتصادي التركي الهام في ليبيا القذافي، تخلت أنقرة في النهاية عن نظام العقيد ودعمت الجهود الدولية  لمساندة المعارضة. وقد استعرض أردوغان علناً صداقته مع بشار الأسد في الماضي، لكن ذلك لم يجعله يتوقف عن تقديم ملاذ آمن للمعارضة السورية في تركيا ودعوة القائد السوري علناً إلى التنحي. أما زياراته إلى تونس، ليبيا ومصر في أيلول 2011، التي قدم خلالها التجربة التركية مع الديمقراطية والأسلمة المعتدلة كنموذج للمنطقة، فقد كانت كلها زخارف جولة سياحية. ربما تكون القدرة التركية على قراءة المجريات الإقليمية هي، وببساطة، مسألة وجود قيادة أكثر مهارة من تلك الموجودة في إيران والسعودية، لكن من الصعب تجنب الاستنتاج بأن التعامل مع سياسات محلية في الداخل يعطي نخبة بلد ما شعوراً أفضل بما يتعلق بأهمية الحركات الديمقراطية والشعبية في الخارج. لقد برزت تركيا، بالتأكيد، من مرحلة الربيع العربي هذا وموقفها الإقليمي معزز، وهو أمر لا يمكن لأية دولة شرق أوسطية أن تدعيه.
إن المشاعر الطيبة و' القوة الناعمة' ليست كل شيء بالتأكيد في السياسات الإقليمية للشرق الأوسط. إذ لا يزال لدى إيران والسعودية أوراق كثيرة لتلعبا بها  في انتشار الربيع العربي. لكن إذا أصبح العالم العربي أكثر ديمقراطية بالفعل، فإن علينا أن نتوقع حكومات عربية منتخبة شعبياً تتطلع صوب أنقرة للشراكة، وحتى للقيادة، أكثر مما تتطلع صوب طهران أو الرياض.
الاستنتاج
إن أفضل النظريات الديمقراطية تفسر تطورها على أنه ثاني أفضل خيار تبناه معارضون عالقين في مأزق آمالهم بتحقيق هيمنة الدولة. بمعنى آخر، الديمقراطية  نادراً ما ' بنيت'. فهي تبرز من نزاعات فوضوية، غالباً نزاعات عنف أو شبه عنف، كما في الثورة الفرنسية أو الحروب الأهلية الإنكليزية والأميركية. وما نشهده في الشرق الأوسط ما هو إلا عمل افتتاحي في دراما منتشرة ومتجلية للعيان والتي نادراً ما يمكن التنبؤ بحل العقدة في روايتها بشكل تفصيلي. من المحتمل أن تكون الآمال الديمقراطية التي رفعتها كل من تونس ومصر قد تحطمت بفعل النزاع الأهلي والحكم الغير كفؤ. ربما ستقود ثورات 2011، وببساطة، إلى استبدال مجموعة من السلطويين بمجموعة سلطوية أخرى. وإذا كان هذا هو الحال، عندها سوف تستمر النماذج القديمة لتحالفات ديكتاتورية ويستمر توازن القوى الإقليمي بخدمة مصالح 'الدول الإقليمية' وستلعب واشنطن لعبة ' السياسة الواقعية' التي كانت تلعبها في الماضي. 
إلا أن الربيع العربي قد يؤدي إلى التمكين من نوع من تعبئة القوى الاجتماعية المعتبرة والحقيقية الضرورية لخلق الأسس لتطور ديمقراطي. إن أنظمة كهذه، وبما أنها قد تنشأ من هذه النزاعات، فإنها قد تنتج على الأرجح سياسات خارجية متجاوبة مع الأسلمة الديمقراطية والرأي العام الشعبي أكثر من أي مقت مضى. إذ ستجد السعودية الإستبدادية وإيران الدينية بأن إستراتجياتهما المذهبية ستتضاءل فائدتها شيئاً فشيئاً. وإذا كانت 'إسرائيل' لا تستطيع إيجاد طرق للاستفادة من إبداعات غرائزها الديمقراطية، فإن تصلبها الإيديولوجي والثقافي سيقودها إلى عزلة أكبر حتى، وإلى الاعتماد بشكل أعمق على نفوذها السياسي داخل الوليات المتحدة، وارتفاع فرص الحرب. في هذه الأثناء، بإمكان تركيا الديمقراطية استعادة مركزها التاريخي كقائد إقليمي. أما الولايات المتحدة فيمكن أن ترى فرصاً جديدة، إذا ما استمرت بسلوك سبيل المرونة والحكمة التي نصت عليها إدارة أوباما، لضمان مصالحها من دون الإفراط بالالتزام بقوات عسكرية، الأمر الذي اتسمت به السياسة الأميركية منذ 11 / 9.
(*) ـ بروفسور في العلوم السياسية في جامعة فيرمونت ومؤلف كتاب ' العلاقات الدولية للخليج الفارسي'، الصادر عن مطبوعات جامعة كامبريدج، 2010.
(**) ـ بروفسور Bess W. Heyman للعلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا ومؤلف كتاب ' السقوط في فخ الحرب على الإرهاب'، الصادر عن مطبوعات جامعة بنسلفانيا، 2006.

موقع الخدمات البحثية