أوراق إستراتيجية » الكيانية اللبنانية الطائفية ــ العميلة تتفكك وتنقلب الى نقيضها

جورج حداد(*)

في الفكر الديني المسيحي تطرح فكرة ان السيد المسيح "وطأ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور".
وفي الفكر الفلسفي الجدلي ــ العلمإجتماعي تطرح افكار مثل:
ــ تحول النقيض الى نقيضه؛
ــ وان الذهاب بالدمقراطية البرجوازية الى نهايتها، يوصل الى نقيضها: الاشتراكية؛
ــ وأن النظام الرأسمالي ــ الامبريالي يلد، ذاته وبذاته ومن داخله بالذات، حفّاري قبره؛
ــ وان قليلا من الوطنية يوصل الى الشوفينية (التعصب القومي)، وكثيرا من الوطنية يوصل الى الاممية (تآخي جميع الامم).

واليوم، من خلال كل آلام المخاض الجديد التي تمر فيها الدولة اللبنانية وجماهير الشعب اللبناني، نرى بوضوح، حتى بالعين المجردة للمواطن اللبناني العادي، كيف ان التركيبة الكيانية اللبنانية المصطنعة، الطائفية ــ العميلة، تتفكك وتنهار وتنقلب على ذاتها؛ وكيف يتم القضاء على الطائفية بالطائفية، وكيف ان "اقوى قوة طائفية" في التركيبة الطائفية اللبنانية، بشخص حزب الله، تتحول الى "اقوى قوة وطنية لبنانية" هي التي حررت لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، وانقذته من خطر الطاعون الداعشي، وهي التي تمنع اجتياح اسرائيل للبنان من جديد، وتحمي لبنان من الانزلاق مجددا الى الحرب الاهلية بوجهها الطائفي البشع.
 
لقد اعترف السفير الاميركي السابق في لبنان، جفري فيلتمان، بأن اميركا انفقت مئات ملايين الدولارت في لبنان من اجل تشويه صورة حزب الله، ولكنها فشلت. كما اعترفت السعودية بأنها انفقت مليارات الدولارات على عملائها واذنابها في لبنان، لتلميع صورتها البشعة وفرض وصايتها على لبنان، ولكنها حصدت الفشل الذريع. وهذا ما دفع محمد بن سلمان الى ان يفقد صوابه ويضرب عرض الحائط بكل القوانين والاعراف الدبلوماسية الدولية ويدوس رؤوس كل "السياديين" و"الحياديين" اللبنانيين، حينما اقدم على احتجاز "صبيّه" رئيس الوزراء اللبناني واهانته واجباره على اعلان استقالته... من الرياض.

ومع كل ذلك فإن جميع النبّاحين "اللبنانيين" ضد الاحتلال الايراني المزعوم للبنان، وكل اسيادهم واولياء نعمتهم ومشغّليهم الاميركيين والاسرائيليين والسعوديين لا يستطيعون ايجاد اي دليل على الاحتلال الايراني المزعوم، والاهم والاخطر انهم لا يستطيعون انكار "لبنانية" حزب الله، الذي يوفر عليهم التعب، ويعلن بكل افتخار انه حزب شيعي، و"حزب ولاية الفقيه"، وانه يتلقى المساعدات التسليحية والانسانية من ايران الثورة، ويدين بالولاء لمرشد الثورة الايرانية سماحة السيد علي الخامنئي.

ومع ان مساعدات المازوت الايراني وصلت الى كل بيت محتاج وكل مستشفى ومدرسة في لبنان، فإن جهود جميع النبّاحين "السياديين" و"الحياديين" اللبنانيين ذهبت ادراج الرياح، ولم يستطيعوا ايجاد ولا شبه دليل واحد على الاحتلال الايراني المزعوم للبنان، والا لاقاموا الدنيا ولم يقعدوها، ولتواصلت اجتماعات مجلس الامن الدولي والجمعية العامة للامم المتحدة ليلا ونهارا لاتخاذ قرارات معادية للاحتلال الايراني المزعوم للبنان، ولتشكل حلف عسكري دولي ــ عربي، يرفد عدوان عسكري اسرائيلي جديد، ولبدأت حرب تدخل شرسة ضد لبنان على طريقة الحرب الوحشية ضد الشعب اليمني المظلوم المتواصلة منذ ثماني سنوات.
      
واذا كان حزب الله يبرز بوصفه حزبا "شيعيا" يدين بالعقيدة الدينية الشيعية حول "ولاية الفقيه"، وبالولاء للقائد الروحي والثوري ـ الشيعي سماحة السيد على الخامنئي، فهذا لا يعني ابدا ان الحزب هو حركة دعوة تبشير دينية "شيعية" كالرهبنات والارساليات التبشيرية المسيحية: الجزويت والفرنسيسكان والمعمدانيين وشهود يهوه وغيرهم؛ ولا يعني ابدا ان الحزب يعمل لـ"تشييع" لبنان؛ بل ان الحزب، من زاوية النظر السوسيولوجية ــ السياسية ــ الستراتيجية، يأخذ قيمته السياسية والعسكرية واهميته التاريخية من انه حزب وطني جهادي مسلح يكافح ببطولة وتفان نادريْ المثيل، ويقدم الوف الشهداء والجرحى والمصابين، دفاعا عن الارض والشعب والوحدة الوطنية اللبنانية.

فكيف جرى ان الحزب ذي الوجه "الأوضح طائفيا" و"الاكثر طائفية" هو نفسه الحزب "الاكثر وطنية" و"الاكثر لبنانية" في لبنان؟!

هذا ما ينبغي على جميع الباحثين الموضوعيين، وجميع القيادات الدينية والسياسية المسؤولة، من مختلف الانتماءات والاتجاهات، التمعن والبحث فيه، بدل الضياع في متاهات "النأي بالنفس" السقيمة والعقيمة، والتفتيش عن الاحتلال الايراني المزعوم في مغارة علي بابا اللصوصية في البنك المركزي وغيرها من اوكار اللصوص والمحتكرين ومجوعي الشعب التابعين للمارونية السياسية والسنية السياسية والسفارة الاميركية.
وهذا ما نحاول في السطور التالية تسليط الضوء عليه، من وجهة نظرنا الشخصية المتواضعة.

***

يعتقد الكثير من الباحثين في التاريخ ان الادارة الاستعمارية الفرنسية، هي أغبى ادارة عرفها التاريخ الاستعماري.

وفصل ما سمي "دولة لبنان الكبير" عن سوريا هو مثال نموذجي صارخ على الغباء التاريخي للادارة الاستعمارية الفرنسية.

ولا يكاد يضاهي غباء تلك الادارة في التشكيل الطائفي القسري لـ"دولة لبنان الكبير"، سوى غبائها في اعتبار "الجزائر فرنسية".

ففي اواخر الحرب العالمية الاولى التي ظهرت فيها علائم انتصار المعسكر الانجلو ــ فرنسي على المعسكر الالماني ــ النمساوي ـ المجري ــ العثماني، بدأ التزاحم بين المستعمرين الانكليز والفرنسيين. وعقدت اتفاقية سايكس ــ بيكو في 1916 تحت عنوان "تقاسم المغانم" بين الدولتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا. فأعطي العراق وجنوب سوريا (فلسطين والاردن) الى بريطانيا، وأعطيت بقية سوريا (اي بما فيها "متصرفية جبل لبنان" وكيليكيا ولواء الاسكندرون) الى فرنسا. ولكن المستعمرين الانكليز فاجأوا شركاءهم الفرنسيين و"اصدقاءهم" العرب باصدار "وعد بلفور"، في 2 تشرين الثاني 1917، لمساندة اليهود في تشكيل "وطن قومي يهودي ــ "اسرائيلي" " في فلسطين، يكون مرتبطا ببريطانيا الاستعمارية ومن خلفها التشكيلة الامبريالية العالمية الانجلو/ ساكسونية ــ اليهودية. وتحت تأثير ردة الفعل، اتخذ المستعمرون الفرنسيون قرارهم "التاريخي" الغبي بتقسيم سوريا الى خمس دويلات طائفية: 2 سنيتان (دمشق وحلب) وعلوية ودرزية، واحداها "دولة لبنان الكبير" كي تكون "وطنا قوميا  مسيحيا ــ لبنانيا" مرتبطا بفرنسا الاستعمارية ومن خلفها التشكيلة الامبريالية العالمية الفرنكو/ لاتينية ــ الكاثوليكية.

وفي تسرعها لاتخاذ هذا القرار الانفعالي الغبي، غاب عن الادارة الاستعمارية الفرنسية ان اليهودية هي حالة فريدة لا تتكرر:

ـــ فاليهوه (الله اليهودي المزعوم) هو واحد، و"شعب الله المختار" المزعوم هو واحد. واليهودية، كديانة وكمجموعة بشرية، ظهرت مع ظهور النقود والرأسمال، قبل ظهور النظام الرأسمالي بالوف السنين، وظهرت كطائفة دينية متحوسلة (اي متحولة الى وسيلة وظيفية) اجتماعيا كفئة متخصصة بجمع النقود والمتاجرة بجميع انواع السلع بما في ذلك المتاجرة بالبشر (العبيد والاماء) وإقراض النقود  بالربا لسائر البشر (غير اليهود)، على هامش النظم الاجتماعية ــ الانتاجية التي قامت عبر التاريخ: الرعوية البدوية البدائية، والعبودية، والاقطاعية، و"الآسيوية ــ الاسلامية" (الخراجية)، واخيرا كجزء عضوي اساسي متجذر في الرأسمالية والامبريالية.

وخلال مئات السنين، فإن هذه الطائفة من الكانزين والمرابين والتجار والنخاسين طورت لنفسها منظومة مفاهيمية دينية ــ اخلاقية ــ "ثقافية" ــ اجتماعية ــ "قومية" خاصة بها، هي ما يسمى "الديانة السماوية" اليهودية؛ كما طورت لغة مصطلحاتية (JARGONS) خاصة (هي اللغة العبرية المشتقة من الارامية التي كانت سائدة في العالم الهيلينيستي الى جانب الاغريقية القديمة)، ــ "لغة" يدمدم بها اليهود امام غير اليهود كي لا يفهمونها.

وضمن هذا السياق المفاهيمي ـ الديني ـ اللغوي ربطت اليهودية نفسها دينيا بمصر (عبر يوسف وموسى التوراتيين، وما سمي كذبا وبهتانا العبودية اليهودية في مصر، في حين ان اليهود لم يكونوا عبيدا، بل كانوا يعملون كنظّار عبيد لدى فرعون مصر) والبحر الاحمر، والعراق (عبر ما سمي السبي البابلي) وفلسطين (عبر ما سمي الهيكل ومملكة داوود وسليمان التوراتيين). وصاغت اليهودية كل خرافاتها واكاذيبها و"نبوءاتها" في رواية دينية مؤسطرة دونتها في ما سمي التوراة التي تعترف بها المسيحية ايضا، ويعترف بها القرآن الكريم بطريقته المميزة في ما يسمى "الاسرائيليات".

واستنادا الى هذا "التاريخ" المؤسطر دينيا، وفي مطلع القرن التاسع عشر، عمدت الطغمة المالية اليهودية العليا، التي تقود الجماعة اليهودية وعلاقاتها العالمية، الى اختراع فكرة الصهيونية (غير الدينية ولكن المرتبطة بالدين) التي تقول ان اليهود هم "قومية" قبل وبعد، مع وبدون، الدين اليهودي، وان لغتهم العبرانية هي لغة "قومية" سامية اصيلة (شقيقة للارامية ولكنها غير مشتقة منها) وليست لغة فئوية خاصة مصطلحاتية  (JARGONS)، وان "تاريخهم" المزيف، الاورشليمي ــ "الاسرائيلي" ــ المصري ــ العراقي، هو "تاريخ حقيقي" مؤسطر دينيا في التوراة.

اي ان الطائفية اليهودية كانت تمتلك ذرائع "تاريخية" وهمية مؤسطرة دينيا، بوجود "قومية يهودية" مزعومة بالترادف مع وجود الديانة اليهودية التي، للاسف الشديد، تعترف بها الديانتان المسيحية والاسلامية بوصفها ــ ايضا! ــ "ديانة شقيقة": سماوية، توحيدية، ابراهيمية، الخ. وهذا كله كان يساعد الطائفية اليهودية على تضليل الجماهير الشعبية اليهودية العادية بالفكر الصهيوني، ومن ثم تضليل قطاع واسع من الرأي العام العالمي.
وهذا كله بالاضافة الى الدور القيادي، الاقتصادي والسياسي، الذي كانت تضطلع به الطغمة المالية اليهودية العليا في النظام الامبريالي العالمي الذي كانت تقوده بريطانيا حتى نهاية الحرب العالمية الاولى.
وقد بدأت تنظيمات الحركة الصهيونية تتشكل في مطلع القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية واوروبا . وفي 1898 عقد في بازل بسويسرا المؤتمر الصهيوني العالمي الاول بقيادة المغامر السياسي الدولي: تيودور هرتزل. وضم المؤتمر ثلاثة تيارات: ديني، وقومي يميني، واشتراكي ــ دمقراطي علماني "يساري".

واستبعد المؤتمر اقتراحات بانشاء "الوطن القومي اليهودي" في افريقيا او اميركا اللاتينية، وقرر المطالبة بفلسطين كوطن قومي يهودي، وانشاء دولة يهودية "دمقراطية برجوازية" حديثة على الطريقة الاوروبية، تكون بمثابة رقبة جسر لاوروبا "المتحضرة" في الشرق الادنى المتخلف والهمجي(!!!). وفي 1908 عقد ممثلو عدد من الدول الاوروبية بزعامة بريطانيا مؤتمرا أقرت فيه الموافقة على انشاء الدولة اليهودية في فلسطين. وصدر "وعد بلفور" في 1917 بالاستناد الى هذا القرار الاوروبي المشترك.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر كانت قد بدأت حركة شراء الاراضي لليهود في القدس وفلسطين بتسهيل من الموظفين العثمانيين الكبار وبعض السماسرة العرب (واحدهم المدعو عباس افندي، جد الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس الذي يتابع السير على خطى جده). وقد فضح هذه العمليات المفكر النهضوي العربي نجيب العازوري ("لبناني" من قرية عازور في قضاء جزين في جنوب لبنان) الذي كان احد الموظفين الكبار في الادارة العثمانية في القدس، فطارده العثمانيون، ففر الى مصر، ثم الى باريس، وحكم عليه بالاعدام غيابيا. وفي باريس اصدر العازوري في 1905 بالفرنسية كتابه "يقظة الامة العربية" (صدرت ترجمته العربية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت) الذي يقول فيه ان مصير المنطقة يتعلق بالصراع بين الحركة الصهيونية والقومية العربية.

وهذا كله كانت تدركه الامبراطورية البريطانية، التي كانت تتلمس بوادر تضعضعها وقرب انهيارها، فعمدت الى حجز مكانة مميزة لها ــ عبر "وعد بلفور" ــ لمرحلة ما بعد افول العصر الامبراطوري البريطاني.

***

نستنتج من كل ذلك ان "وعد بلفور" لم يكن قرارا قائما على "فراغ"، كما كان قرار انشاء "دولة لبنان الكبير"، بل كان يستند الى:

ــ1ــ وجود قرار دولي ــ اوروبي بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين،، نظرا لاهمية موقعها الستراتيجي.
ــ2ــ الدور النافذ للطغمة المالية اليهودية العالمية في قيادة النظام الامبريالي العالمي.

ــ3ــ وجود خلفية دينية ــ ايديولوجية ــ سياسية "تاريخية" مزيفة لـ"القومية اليهودية". ومن ثم وجود تنظيم مالي ــ ديني ــ سياسي ــ عسكري يهودي يصارع من اجل تحقيق "الدولة اليهودية" الموالية للغرب الامبريالي.
ولم يكن يوجد اي ظل لما يشبه هذه العوامل في حالة "دولة لبنان الكبير"، لا من زاوية النظر "المسيحية"، ولا من زاوية النظر "اللبنانية" و"الفينيقية":

ـــ فالمسيحية الشرقية، ومنها جميع المسيحيين اللبنانيين (وندع جانبا المسيحية الغربية التي صاغتها الامبراطورية الرومانية كـ"مسيحية سلطوية رومانية مركزية مضادة" للكنائس المسيحية الوطنية الشرقية الاصلية)، ــ نقول ان المسيحية الشرقية لم تكن تقتصر على "متصرفية جبل لبنان" القديمة، ولا على فسيفساء "دولة لبنان الكبير"، بل هي ترتبط بفلسطين ومصر وسوريا والعراق واليمن وغيرها من بلدان الشرق الادنى وشمال افريقيا. وجميع بطاركة الطوائف المسيحية الشرقية الرئيسية لا يزالون الى اليوم يحملون لقب "بطريرك انطاكية وسائر المشرق"، بمن فيهم بطريرك الطائفة المارونية الكريمة.

ـــ وفيما خص الطائفة المارونية، التي اراد المستعمرون الفرنسيون استغلال علاقاتها الكنسية القديمة مع بابوية روما، فإنها قد بدأت بالظهور على ايدي الراهب ــ الناسك القديس مار مارون ومريديه من الرهبان في شمال سوريا في محيط مدينة حلب، وانتشرت تعاليمه في شمال سوريا وكيليكيا وانطاكية وما عرف لاحقا باسم لواء الاسكندرون. وكان مار مارون ورهبانه سريانا اورثوذوكس، وكانت تعاليمه ومواعظه موجهة ضد "روما الشرقية" (التي عرفت لاحقا باسم بيزنطيا)، التي شنت حملات اضطهاد شرسة ضد اتباع مار مارون، وهدمت اديرتهم وقتلت اكثر من 350 راهبا والمئات والالوف من المؤمنين اتباع مار مارون. ففر قسم كبير منهم الى جبل لبنان الوعر وغير المأهول واحتموا به. وهؤلاء السريان الاورثوذوكس "السوريون" اتباع مار مارون، الذين فروا الى جبل لبنان، هم الذين اتخذوا فيما بعد تسمية "موارنة"، ولكنهم احتفظوا بتراثهم السرياني "السوري"، حيث واصلوا التكلم باللغة السريانية حتى قبل 200-300 سنة لا اكثر، ولا يزالون الى اليوم يقيمون القداديس في الكنائس المارونية باللغة السريانية اضافة الى العربية.

***

ولكن بالرغم من الغياب التام لأي ظل لـ"تاريخ" وهمي مؤسطر حول وجود "قومية مسيحية ــ لبنانية"، فإن عنجهية الادارة الاستعمارية الفرنسية الغبية سوّلت لها انها تستطيع ان تلوي عنق التاريخ، وان تصطنع من فراغ "وطنا قوميا مسيحيا ــ لبنانيا"، بقوة قرارات  الاحتلال الاستعماري الفرنسي، وبالاستناد السياسي الى:
ــ1ــ الاحقاد المسيحية الشعبية المتوارثة ضد المظالم السلطوية الاسلامية في العهد العثماني وما قبله.
ــ2ــ العلاقات الكنسية القديمة  المارونية مع بابوية روما المعادية للمسيحية الشرقية.

ــ3ــ العلاقات المالية والتجارية الممتازة بين فرنسا والبرجوازية التجارية السنية، منذ حملة ابرهيم باشا المصري على لبنان وتوسيع مدينة بيروت ومرفإها ومن ثم انشاء "ولاية بيروت" العثمانية وتحولها الى قاعدة تجارية وبنكية وثقافية وسياسية رئيسية لفرنسا.  

وبعد انشاء "دولة لبنان الكبير"، التي اعيد تسميتها بالاسم الفخم "الجمهورية اللبنانية" في 1926، ووضع لها "علم وطني" هو كناية عن العلم الفرنسي ذاته تتوسطه ارزة خضراء، كما وضع للجمهورية الجديدة دستور وطني، هو كناية عن نسخة معدلة عن الدستور الفرنسي، وأعلن عن انشاء نظام سياسي رئاسي ــ برلماني في الجمهورية الجديدة. وفي تلك المرحلة بالذات كانت "الثورة السورية الكبرى" بقيادة سلطان باشا الاطرش في اوج اشتعالها في سوريا (وفي بعض المناطق "اللبنانية" في البقاع ومنطقة حاصبيا والعرقوب في جنوب لبنان).

ولاجل التحسب لاي مفاجآت، وضمان السيطرة التامة على "الجمهورية اللبنانية"، تم وضعها تحت سلطة "المفوض السامي" الذي تنتدبه السلطة الاستعمارية الفرنسية لادارة الحكم في "الجمهورية اللبنانية". وأعطي المفوض السامي الفرنسي حق التدخل في كل صغيرة وكبيرة في الدولة اللبنانية، بما في ذلك  حق تعليق الدستور، وعزل رئيس الجمهورية، واقالة الحكومة او اي وزير، وحل مجلس النواب.

ومنذ اليوم الاول لاعلان "الجمهورية اللبنانية"، جند المستعمرون الفرنسيون كل "صداقاتهم" و"علاقاتهم" السياسية والثقافية، لاجل تزوير التاريخ واختراع "وطن لبناني" قديم موهوم، و"قومية لبنانية ـ مسيحية" موهومة، بالاستناد الى مجتزآت مقطوعة عن التاريخ والجغرافيا، حول تاريخ الفينيقيين.

وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى اهم محاولتين لاختراع  "القومية اللبنانية ـ المسيحية" الموهومة:
الاولى ـ المحاولة التي قادها الشاعر المشهور سعيد عقل، وكان من ابرز وجوهها الشاعر الشعبي موريس عواد. وكان هدف هذه المحاولة الزعم بوجود "لغة قومية لبنانية" مختلفة عن اللغة العربية. واقصى ما توصلت اليه هذه المحاولة هو الادعاء، الفارغ من اي محتوى تاريخي وعلمي حقيقي، بأن "اللغة العامية" او "اللغة المحكية" اللبنانية هي "اللغة القومية اللبنانية"، المختلفة عن اللغة العربية  والمغايرة لها. ولاجل تأكيد هذا الادعاء الفارغ، كتب الشاعر سعيد عقل بالحرف اللاتيني، بدلا عن الحرف العربي، وسماه "الحرف القومي اللبناني". وبهذا الحرف كتب سعيد عقل عدة قصائد ونصوص له. وسمي هذا البناء المبني على الرمال "اللغة القومية اللبنانية".

ولكن التاريخ اسقط تماما هذه المحاولة الثقافية ــ اللغوية المزيفة. اذ بعد انهيار الامبراطورية العثمانية الظلامية المتعفنة، انتقلت المنطقة العربية، بما فيها لبنان، الى مرحلة تاريخية جديدة هي مرحلة الاستعمار الاوروبي الغربي الذي، بالرغم من كل سلبيات الاستعمار، لم يكن بالامكان موضوعيا فصله عن مجتمعاته المرتبطة بالثورة العلمية والثقافية والصناعية. وفي الظروف التي اوجدتها هذه المرحلة، انتشرت بشكل كبير، قياسا الى الماضي العثماني، المدارس والمطابع والصحف والمجلات والاذاعات، واخيرا التلفزيونات (في الـ60-70 سنة الماضية). وقد ادى كل ذلك الى التقريب بين "اللهجات العامية المحكية" في مختلف الاقطار العربية، كما الى التقريب بين تلك اللهجات وبين اللغة العربية الفصحى، التي اخذت تخرج تدريجيا من لفائفها الموميائية البالية، واخذت تتحول من جديد الى لغة عربية فصحى مرنة ومبسطة، يفهمها ويتحدث بها كل مواطن عربي عادي وحتى تلامذة المدارس الابتدائية. ولسوء حظ ادعياء "اللغة القومية اللبنانية"، فإن القطر اللبناني هو مثال نموذجي على هذا الصعيد.

المحاولة الثانية ــ والمرتبطة عضويا بالمحاولة الاولى ــ تتمثل في قيام جوقة من المثقفين المسيحيين، على رأسهم المؤرخ العلامة البروفسور فؤاد افرام البستاني، بحملة "تاريخية ــ علمية" وهمية حول "الهوية اللبنانية الحصرية للفينيقيين" (وبالتالي "مسيحيتهم")، وبناء على ذلك حُصر الفينيقيون القدماء ضمن الجغرافية الصغيرة لـ"دولة لبنان الكبير" (جبيل وبيروت وصيدا وصور وبعلبك)، وزُعم وجود "قومية لبنانية ــ مسيحية" قديمة. وتعتبر هذه "القومية" الموهومة والمزيفة، العمود الفقري "للعقيدة" الفكرية ــ السياسية، الانعزالية ــ الطائفية، لحزبيْ الخيانة الوطنية: "الكتائب" و"القوات اللبنانية"، اللذين هما وجهان لعملة واحدة، واللذين حاربا الى جانب القوات الاسرائيلية لدى اجتياح لبنان في 1982، وعنهما انبثق ما سمي ""جيش لبنان الجنوبي" بقيادة العميل انطوان لحد.

ولكن التجربة التاريخية العالمية تثبت دائما انه مهما تعرض التاريخ للتزييف، فإنه في نهاية المطاف يلفظ كل تزييف.

ـــ فالفينيقية لا يمكن حصرها ضمن "الجغرافية اللبنانية" للجنرال غورو؛ كما لا يمكن فصل التاريخ الفينيقي عن مملكة ايبلا، وافاميا، واوغاريت، والكنعانيين والاراميين والسريان والانباط، وسوريا وفلسطين والاردن، تماما مثلما جبيل وبيروت وصيدا وصور وبعلبك. وتؤكد جميع الدراسات التاريخية انه لا يمكن النظر الى الفينيقيين كمكون مبتور لـ"قومية لبنانية ــ مسيحية" مزعومة، بل كمكون تاريخي للقومية العربية والامة العربية بمفهومها الحضاري والثقافي، لا النسبي البدوي الابتر، العنصري والرجعي.  

وقد اسقطت التجربة التاريخية الملموسة محاولة اختراع "لغة قومية لبنانية"، غير اللغة العربية، ومحاولة اختراع "قومية لبنانية ــ مسيحية"، غير القومية العربية.

واليوم، فإن جميع دعاة "القومية اللبنانية"، وعلى رأسهم حزبا "الكتائب" و"القوات اللبنانية"، يعترفون بالانتماء العربي للبنان، ولكنهم يعملون لاخذ لبنان الى الانضواء في صفوف الانظمة العربية، بقيادة النظام السعودي الوهابي ــ الداعشي، الموالية والعميلة للامبريالية الاميركية والغربية واسرائيل واليهودية العالمية.

***

وبعد الفشل في اختراع "عقيدة قومية لبنانية ــ مسيحية" لم يبق امام الادارة الاستعمارية لـ"الجمهورية اللبنانية" سوى ان تبني هذه الكيانية المصطنعة، التي حبلت بها وأخرجتها الى الحياة دوائر المخابرات والادارة الاستعمارية، على الاسس "المصلحية ــ البراغماتية" السياسية ــ المافياوية ــ الطائفية"، التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1ــ ان "الكيانية اللبنانية" هي دولة لقيطة، لا هوية وطنية حقيقية لها. والاس الاساسي لوجودها هو الولاء للاستعمار الاوروبي الغربي الذي اوجدها، والتي لا حياة لها بدونه.

2ــ ان الكيانية اللبنانية هي تركيبة مصطنعة، تتحكم بها وتديرها الدوائر الاستعمارية، وتقوم كشركة محاصصة مافياوية ــ طائفية بين الطوائف التي تتركب منها الكيانية اللبنانية؛ والانتماء "الوطني!" للكيانية اللبنانية يمر عبر "الانتماء الطائفي" لـ"المواطن!"؛ وتقاس "وطنية!" كل طائفة بمقدار ولائها للنظام الاستعماري الاوروبي الغربي الذي أوجد هذه الكيانية.

3ــ اذا كانت شركة المحاصصة الطائفية المافياوية تمثل الهيكلية الفيزيولوجية البنوية للكيانية اللبنانية، فإن الفساد يمثل روحها والدم الذي يجري في عروقها. فالكيانية اللبنانية ولدت بالفساد، ولا يمكن لها ان تعيش ساعة واحدة بدون الفساد. ان تعيين اصغر حاجب في اي دائرة، كما "انتخاب" اي رئيس جمهورية او نائب او وزير او رئيس او  عضو مجلس بلدي، لا يمكن ان يتم الا من خلال منظومة الفساد التي تتحكم بالحياة العامة في الكيانية اللبنانية. فالرشوات، وشراء المناصب، و"الشطارات" والسرقات والصفقات المشبوهة والاحتكارات واساءة استخدام الوظيفة وفساد القضاء واستخدام النظام المصرفي لنهب الدولة والمواطنين والتحكم المافياوي بالاقتصاد الوطني بمجمله وبكل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والتعليمية والاعلامية... كل ذلك، وبأبشع صوره واكثرها وقاحة وعهرا، يندرج تحت عنوان الفساد في التركيبة الكيانية اللبنانية، الطائفية ــ العميلة. ولا يمكن التصدي لاي صفقة مشبوهة في لبنان او حتى طلب التحقيق في اي قضية فساد، حتى لو كانت تتوفر فيها جميع عناصر "القبض على الجاني بالجرم المشهود"، لان التركيبة الكيانية الطائفية اللبنانية، بمؤسساتها الاكليروسية والسياسية، سرعان ما تتحرك لوضع الخطوط الحمراء والدفاع عن اللصوص المفضوحين بحجة الدفاع عن "الوحدة الوطنية!"، تؤازرها مؤسسات "الشرعية الدولية" للامبريالية العالمية، وطبعا مؤسسات ما يسمى "جامعة الدول العربية" التي اسسها الاستعمار البريطاني في 1945 لاجل تكريس انشاء اسرائيل في 1948. ان مجرد توجيه الاتهام الى اي لص في التركيبة الطائفية اللبنانية يمكن ان يتحول الى مشكلة دولية وخطر اجتياح اسرائيلي جديد او اندلاع حرب اقليمية او عالمية جديدة.

4ــ ولاجل تثبيت قاعدة ولاء الكيانية اللبنانية للغرب الاستعماري والامبريالي، ومن ضمن الصفة العامة للكيانية اللبنانية كشركة محاصصة طائفية مافياوية ينخرها الفساد وتقودها الدوائر الاستعمارية الغربية، طُبعت الكيانية اللبنانية بميزتين بنويتين هما:

الاولى ــ إضفاء طابع "مسيحي!" على هذه الكيانية، وتسليم زمام قيادتها لـ"المارونية السياسية". ولهذه الغاية وُضعت كل مفاتيح السلطة والمقدرات السياسية والامنية والعسكرية والمصرفية والاقتصادية والتجارية والتعليمية والاعلامية الخ، في ايدي المافياويين ورجال العصابات التابعين للـ"المارونية السياسية".

والثانية ــ إعطاء دور مميز للـ"السنية السياسية" في التركيبة الكيانية الطائفية اللبنانية.

وبناء على ذلك، إختزلت جميع الطوائف المسيحية خلف "المارونية السياسية"، وإختزلت جميع الطوائف الاسلامية خلف "السنية السياسية". واذا كان يمكن النظر، بالحسابات المحلية، الى نظام المحاصصة الطائفية اللبنانية كـ"صفقة مافياوية" مسيحية ــ اسلامية، فإنها تعتبر بالدرجة الاولى صفقة مافياوية بين المارونية السياسية والسنية السياسية.

ويسمى هذا النظام الطائفي المافياوي الفسادي الهجين: العيش المشترك، والوحدة الوطنية، و"رسالة لبنان الى العالم"، وغير ذلك من اكاذيب الديماغوجيا التي طورتها الطوائفية اللبنانية خلال المئة سنة الماضية.
وطوال القرن الماضي مرت في لبنان والمنطقة العربية والعالم احداث وتطورات وتغيرات كبرى نشير الى اهمها وهيا: اندلاع الحرب العالمية الثانية وظهور المعسكرين "الشرقي" بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق و"الغربي" بقيادة اميركا؛ و"الحرب الباردة"؛  وجلاء الانتداب الفرنسي عن لبنان؛ واستبدال النفوذ الاستعماري الفرنسي بالنفوذ البريطاني ثم الاميركي على لبنان؛ وصعود موجة حركات التحرر الوطني من الاستعمار التقليدي في جميع البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ واحداث او "ثورة" 1958 ضد حكم كميل شمعون؛ وقيام وسقوط الوحدة المصرية ــ السورية ذات الاهداف المشبوهة في 1958 ــ 1961؛ وظهور ما يسمى "انظمة الحكم الوطنية والتقدمية" (كالناصرية في مصر والبعثية في العراق وسوريا) في العديد من الدول العربية، والتي رعتها منذ البداية او "احتوتها" و"احتضنتها" سرا لاحقا المخابرات الاميركية، بعد حلول الهيمنة الاميركية على المنطقة في اعقاب انهيار النفوذ الاستعماري البريطاني والفرنسي التقليدي بعد "حرب السويس" في 1956؛ صعود دور أنظمة آبار النفط السعودية والخليجية بعد الحرب العالمية الثانية؛ الحرب الاهلية اللبنانية والتذابح الطائفي على الهوية و"كنتنة" لبنان طائفيا؛ وظهور المقاومة الفلسطينية؛ والاجتياح والاحتلال الاسرائيلي للبنان مدة 22 سنة، وطرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان؛ وقيام وانتصار الثورة الاسلامية في ايران، وظهور المقاومة الاسلامية ضد الاحتلال الاسرائيلي للبنان في علاقة وثيقة مع الثورة الاسلامية الايرانية؛ وقيام الدبابات الاسرائيلية بايصال العملاء المفضوحين لاسرائيل الى سدة الرئاسة في "الجمهورية اللبنانية"، ومحاولة فرض "الصلح" بين اسرائيل ولبنان (بعد "كامب دايفيد") وتحويل لبنان الى محمية اسرائيلية يقودها السفاحون الطائفيون وعملاء اسرائيل المفضوحون في ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة انطوان لحد في الجنوب، وحزب "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع في باقي الاراضي اللبنانية؛ وقيام المخابرات الاميركية والاسرائيلية باغتيال رفيق الحريري واتخاذ ذلك حجة لسحب التفويض الاميركي للوجود السوري السابق في لبنان؛ والعدوان الاسرائيلي الوحشي ضد لبنان في 2006 بهدف كسر شوكة المقاومة الاسلامية بقيادة "حزب الله"، وفشل اسرائيل في تحقيق اهدافها لاول مرة في تاريخ الحروب بين الجيش الاسرائيلي والجيوش العربية؛ و"الربيع العربي" المشؤوم و"الحرب  العالمية للجيش التكفيري العالمي" ضد سوريا والعراق تحت الخلطة العجيبة لشعارات "الدمقراطية الاميركية" و"الخلافة الداعشية"، وظهور خطر انتقال الداعشية الى لبنان، بالتعاون الوثيق العلني المفضوح بين الدواعش وبين السنية (الحريرية) السياسية، والضمني و"السري" المعلوم بينهم وبين المارونية (الجعجعية) السياسية؛ واخيرا لا آخر: الازمة الاقتصاددية والمالية والمعيشية الخانقة التي يمر بها لبنان الان، والتي انفجرت بشكل خاص بعد اندلاع ما سمي "الثورة" المزيفة والمشبوهة في 17 تشرين الثاني 2019، والتي لم تكن سوى ""مسرحية سياسية" من تأليف واخراج وكر الجاسوسية الاميركية في عوكر، وتلازمت مع إقرار "قانون قيصر" في كانون الاول 2019 ضد سوريا، والذي بموجبه تم فرض الحصار الاقتصادي الاميركي الشامل ضد لبنان.

وقد اثبتت الكيانية اللبنانية الطائفية ــ العميلة قدرتها على الثبات والتكيف مع جميع الاحداث والتطورات والتغيرات آنفة الذكر، وظهرت الدولة اللبنانية بوصفها لا جسما دولويا يعاني من حالة سرطانية يمكن مواجهتها ومعالجتها واصلاحها، بل بوصفها هي نفسها حالة سرطانية طائفية ــ عميلة، في شكل دولة، عصية على العلاج والاصلاح. ويبدو الان بالعين المجردة كيف تدير السفارة الاميركية الدولة اللبنانية، في كل التفاصيل، وكيف انه بعد السرقة الموصوفة لاموال المودعين، وإفقار جميع المواطنين اللبنانيين عن طريق الإسقاط المأساوي للقيمة الشرائية للعملة الوطنية، فإن الدولة اللبنانية، بقضها وقضيضها، بأحزابها واكليروساتها الطائفية "الموالية"، وقضائها وقواتها الامنية وجيشها، تعجز عن طلب الاطلاع على ومراقبة حسابات البنك المركزي، لسبب "بسيط" هو ان حاكمه الذي كان طوال الـ30 سنة الماضية يرفع شعار "الليرة بخير" (والموظف شكليا لدى الدولة اللبنانية) يحظى برضى السفارة الاميركية.  

***

ولكن الدوائر المخابراتية الاستعمارية، الفرنسية والانكليزية والاميركية ومعها اسرائيل، التي أنشأت الدولة الكيانية اللبنانية الطائفية ــ العميلة، ورعتها و"طورتها"، ارتكبت "خطأ تأسيسيا تاريخيا"، سيؤدي الى اسقاط هذه الكيانية الطائفية، بالسلاح الطائفي بالذات.

ويتمثل هذا "الخطأ التاريخي" في تبني سياسة تهميش الطائفة (والطائفية) الشيعية، وهي السياسة التقليدية المعتمدة للانظمة والدول التي حكمت فسيفساء الرقع الجغرافية "اللبنانية" منذ ايام السفاح الطائفي ــ العنصري الكردي (المعادي للشيعة خاصة وللعرب عامة) صلاح الدين الايوبي، مرورا بالمماليك، فالعثمانيين، وصولا الى الجنرال غورو، الذي اعلن انشاء "دولة لبنان الكبير" في 1 ايلول 1920 بحضور الزعيمين الدينيين للموارنة والسنة، وغياب الشيعة.

وقد أسفر، ويسفر، عن هذا "الخطأ التأسيسي التاريخي"، نتائج وتبعات مصيرية بالنسبة لاستمرار وجود، او زوال، او القيام بتغيير جذري لوجود الدولة اللبنانية. وفي رأينا المتواضع ان اهم تلك النتائج والتبعات هي ما يلي:

ـــ ان تهميش الطائفة الشيعية (كنزعة طائفية في مجتمع يقوم على الطائفية، وككتلة بشرية "لبنانية!" من طائفة محددة، هي احدى ثلاث اكبر كتل بشرية طائفية في لبنان؛) مثّل قمة او ذروة الطابع الطائفي للكيانية الطائفية اللبنانية. ومن هذه "القمة" او "الذروة" الطائفية بالذات، بدأ انحدار الكيانية الطائفية اللبنانية، الذي وصل اليوم الى طرح السؤال المصيري: يكون لبنان او لا يكون؛ وكيف يمكن ان يكون، اذا قدّر له ان يكون!

ولمن يتساءل عن "واقعية" استنتاجنا هذا نقول: ان "طائفيات" جميع الطوائف اللبنانية (باستثاء الطائفة الشيعية)، كانت ولا تزال تنضوي تحت مظلة الكيانية الطائفية اللبنانية، ونظام المحاصصة الطائفية اللبنانية. وخلال المائة سنة المنصرمة نمت وترسخت جميع "الطائفيات" اللبنانية كجزء لا يتجزأ، وكمكوّن اكبر او اصغر في التركيبة الطائفية ــ العميلة للدولة اللبنانية، التي كانت ولا تزال تقودها بشكل رئيسي المارونية السياسية بالتحالف الوثيق مع السنية السياسية. واذا اجرينا اي تشريح لجثة الدولة اللبنانية، الطائفية ــ الفاسدة ــ العميلة، التي وصلت اليوم الى "حالة الموت الكلينيكي"، فسنجد ان جميع الطائفيات غير الشيعية، الكبيرة والصغيرة، كانت تنال حصتها في تركيبة الدولة الطائفية اللبنانية، وحصتها في مكاسب الفساد الذي ينخر عظام هذه الدولة المسخ والمنحطة، التي انبرى رئيس وزرائها خلال العدوان الاسرائيلي في 2006 يذرف الدموع وهو يستجدي اميركا و"المجتمع االدولي" والسعودية و"الاشقاء العرب" كي تستمر اسرائيل في العدوان حتى تحطيم المقاومة الاسلامية (الشيعية) بقيادة حزب الله. ثم قام هو نفسه، بعد فشل العدوان، بنهب 11 مليار دولار من المساعدات الانسانية التي وصلت الى لبنان، طبعا بعد توزيع كوتا الحصص لمختلف الطائفيات، ولم يجد من يقول له "يا ما احلى الكحل بعينك!".

ولكن خلال هذه الحقبة التاريخية الطويلة، وحينما كانت مختلف الطائفيات تنال حصصها من دولة "الوفاق الوطني!"، فإن الطائفة الشيعية، و"بفضل" تهميشها بالذات، قد نمّت ورسخت وطورت "طائفيتها الخاصة"، خارج أطر الدولة اللبنانية، وبمعزل عنها، وضدها. واذا وضعنا خلف ظهورنا او تحت اقدامنا كل جوقة النبّاحين ضد حزب الله، فإن ظاهرة بناء الطائفة الشيعية لذاتها، في اتجاه معاكس للدولة اللبنانية، هو ما ينبغي على جميع الباحثين الموضوعيين والصادقين النظر فيه وبحثه بعمق وصدق.

واليوم اصبحت توجد في لبنان دولتان:

الاولى ــ الدولة الطائفية العميلة الآيلة الى السقوط، والى فرط وإغلاق جميع المؤسسات العامة والخاصة وذهاب كل عامل وموظف ومدرس ورجل امن وعسكري الى بيته، واعلان لبنان منطقة منكوبة بحاجة الى المساعدات الانسانية، ــ دولة يمكن لاسرائيل ان تحتلها في بضع ساعات لولا وجود المقاومة بقيادة حزب الله.
والثانية ــ "الدولة ضمن الدولة" الشيعية، التي تتمثل سياسيا في ما يسمى "الثنائي الشيعي" او "الثنائي الوطني" (حزب الله وحركة امل).

وفي ظروف ضعف وتخاذل واستسلامية مؤسسات الدولة اللبنانية وفرض نهج المارونية السياسية والسنية السياسية، القائم على الخيانة الوطنية والفساد والاحتكار ونهب وتجويع الشعب، فإن الطائفة الشيعية بنت المقاومة الاسلامية (الشيعية) بقيادة حزب الله، وتمكنت من تحرير الارض اللبنانية المحتلة في ايار 2000، ومن الصمود وكسر شوكة العدوان الاسرائيلي في تموز ــ اب 2006، وبذلك تحولت المقاومة (الشيعية) بقيادة حزب االله الى قوة اقليمية تقف بوجه اسرائيل ذاتها، التي اصبحت تخشى القوة العسكرية للمقاومة بقيادة حزب الله، اكثر مما تخشى جميع الجيوش العربية متفرقة او مجتمعة.

ولا يحتاج المرء الى كثير ذكاء كي يرى انه، في ظروف الانهيار العام للدولة اللبنانية، فإن الطائفة الشيعية تقوم ببناء مؤسساتها السياسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والاعلامية، في ارتباط وثيق مع المؤسسة العسكرية للمقاومة.

واليوم يقف لبنان على مفترق فيه خياران لا ثالث لهما:

ـــ اما الاعلان الرسمي عن وفاة "الجمهورية اللبنانية" للجنرال غورو.

ـــ واما ان يتقدم حزب الله لاخذ موقعه التاريخي في قيادة "الحركة الوطنية اللبنانية" (بمعناها الواسع) و"حركة التحرر القومي العربي" الثورية؛ وان يتخلى ــ اي "الحزب" ــ عن تردده، ويستلم زمام السلطة في لبنان، بكل قطاعاتها: المالية والاقتصادية والسياسية والقضائية والتعليمية والامنية والعسكرية الخ. (والحزب له من الحكمة ما يمكنه من ايجاد الاشكال المناسبة لكل حالة)، وان يرسل المارونية السياسية والسنية السياسية الى مزبلة التاريخ، وان ينصب المحاكم للفاسدين واللصوص والاحتكاريين ومجوعي الشعب اللبناني المظلوم، وان يستفيد من "الفراغة" (اي الوجود القانوني الشكلي لدولة لبنانية عضو في هيئة الامم المتحدة ومعترف بها من دول العالم) ويشرع في تطبيق برنامج لانقاذ الشعب اللبناني واعادة بناء الدولة اللبنانية على اسس جديدة تماما، ــ برنامج وطني يتجاوز الطائفية، كل طائفية، بما فيها الطائفية الشيعية، وذلك على طريق تحويل لبنان الى قاعدة راسخة لتحرير فلسطين من سرطان الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، وقاعدة راسخة لتوحيد جميع حركات التحرر العربية في النضال لاجل ازالة الوجود والنفوذ الامبريالي ــ الغربي على كامل الارض العربية، وفتح افق عصر نهضوي حقيقي للامة العربية العريقة، تأخر اكثر من مائة سنة منذ انقشاع ظلامية السلطنة العثمانية، وان تعود الامة العربية للاضطلاع بدورها الحضاري التاريخي العالمي، جنبا الى جنب روسيا والصين وايران!
ـــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبنان مستقل

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية