يرسم المعماري رهيف فياض صورة للمقاومة، مرتبطة بإعادة الإعمار الذي يجسّد الصمود الأقصى. وعملية إعادة الإعمار التي سيشهدها لبنان في المستقبل، التي هي بفعل التدمير الممتدّ جغرافياً بين الجنوب والضاحية وبيروت والبقاع ليست متماثلة مع الدمار الحاصل في عدوان 2006، لذا يرى فياض أن إعادة الإعمار مختلفة لتصبح لدينا بدلاً من حالة إعمار محصورة، حالات من إعادة الإعمار. وإزاء هذا المشهد، ثمّة إشكالية مطروحة اليوم تتعلق بالجهة القادرة على إعادة الإعمار وسط كل التعقيدات القانونية والعقارية، وما إذا كان الأمر يمكن أن يحصل على شاكلة مشروع «وعد» الذي أنشئ في عام 2006 لإعادة إعمار الضاحية، أم يفترض أن يتم إنشاء هيئة أوسع تشرف على التخطيط العام للإعمار وتنفق الأموال بواسطة قنوات مختلفة، فضلاً عن أعمال التنفيذ ومدى كفاية القدرة المحلية، علماً أن مسألة التمويل تبقى محورية.
عندما تنتهي الحرب، نبدأ بالإعمار. فما هو نموذج إعادة الإعمار الذي يمكن أن ننفذه الآن في ظل كل هذه الوحشية والدمار؟
قمة المقاومة هي إعادة الإعمار. نصب خيمة بانتظار إعادة إعمار منزلي تجعلني مقاوماً للمرة الألف. مرّة بقيت، ومرّة لم أهرب، وأخيراً لأنني أعدت الإعمار.
كل تدمير هو سياسي وليس عسكرياً. لا يوجد ضربة عسكرية صافية. لكن يصعب تحديد نموذج الإعمار الذي يمكن تطبيقه من دون لجنة تحديد حالات إعادة الإعمار. وهذه الحالات لا يمكن تحديدها بالصور والتقارير، بل تتطلب زيارات ميدانية، كما حصل في عام 2006 في إعادة إعمار حارة حريك، واليوم هذا الأمر ضروري لمعرفة الوضع الحالي ميدانياً لتحديد خطة إعادة الإعمار. لكن ما هو واضح الآن حتى الآن، أن المشكلة أكبر من حرب تموز 2006 ورقعة الدمار أوسع في الضاحية، إلى درجة أنه يمكن القول إنها لم تعد مكاناً صالحاً للعيش إطلاقاً، لكن النزوح منها يكاد يعادل النزوح من شمال فلسطين المحتلة، فالواقع هو أن نصف الكيان الآن أنه خارج العمل، إذ لا صناعة ولا تجارة ولا سكن في مستوطنات شمال فلسطين. وبالنسبة إليهم تتعقد القضية مع وجود أسرى، ما يزيد من انقسام المجتمع واحتمالات التفرقة.
إذاً، لا يجب أن ننظر إلى الدمار كأنه مماثل للدمار في عدوان تموز 2006 حين تأسّس مشروع «وعد»؟
لسنا أمام وضع إعادة إعمار كما حصل في عام 2006، بل نحن أمام حالات من إعادة الإعمار. وكل حالة لها ميزاتها الخاصة. الأمر مختلف بعدما تهدّم البلد بالكامل، وامتدّ الدمار من أقصى الجنوب إلى أقصى البقاع وصولاً إلى بيروت. فما يحدّد الاختلاف بين الحالات الإعمارية ليس الدمار الذي يعدّ واحداً بطبيعته المادية، بل في أن إعادة الإعمار تشترط وجود أصول قانونية بشأن حدود العقار وعلاقته بالطريق وبالجيران… فعلى سبيل المثال، عندما عملنا على إعادة إعمار منطقة حارة حريك، نفّذنا ورشة كبيرة تتعلق بإعادة تصحيح مرتبطة بكثرة التعديات على الأملاك العامة والخاصة. لا يوجد أحد في لبنان غير متعدٍ على الأملاك العامة. لذا، علينا دراسة كلّ حالة على حدة للحصول على صورة واضحة عن علاقة العقار بكلّ ما يجاوره. فالمناطق في لبنان منظمة بمراسيم، وتحدّد التراجعات ونسبة الاستثمار والارتفاع. بعد التأكد من كلّ هذه الأمور وجمعها، ينتج من ذلك حالة الإعمار في كل منطقة. صحيح أن إعادة الإعمارعملية متوازية تقنياً، لكن الإعمار القانوني والتنظيمي المديني العام يختلف بين منطقة وأخرى. وبالتالي علينا إعادة التأكد من كلّ هذه العوامل في الأمكنة قبل الانطلاق بورشة إعادة الإعمار. لكن، لا يمكن استبدال الزيارة الميدانية للمشرف الأساسي على المخطط العام، لتصبح لدينا صورة كافية لوضع تصوّر لإعادة الإعمار، إذ يجب إعادة إظهار هذا المخطط سواء كان مخالفاً، أم متوافقاً مع القوانين المرعية. وعلينا أن ننظر إلى إعادة الإعمار على أساس ما كان قائماً. ما هي رقعة الدمار؟ هل حدود الأبنية المدمّرة ظاهرة بما يظهر حدود العقارات؟ هل أزيل الركام من الطرقات التي بات يمكن استخدامها لإعادة تسيير السيارات؟ الحالات الإعمارية مختلفة لا بسبب طبيعة الدمار وحجمه، بل ربطاً بواقع كل حالة. أولاً يجب أن ننظر إلى ما يسمّى بنية تحتية وهذه تسمية خاطئة، والاسم الصحيح هو «التجهيزات» أو «equipements»)، أي كلّ ما هو موجود على الأرض من كهرباء ومياه وطرقات، ثم هناك البنية التحتية تحت الأرض مثل المجاري ومياه الأمطار.
النزوح من الضاحية يكاد يعادل النزوح من شمال فلسطين المحتلة حيث لا صناعة ولا تجارة ولا سكن
في عام 2006 ربطت إعادة الإعمار بالعودة السريعة، فهل ستخرج اليوم أصوات تطالب بمخطّطات جديدة للمناطق التي ستخضع لإعادة الإعمار؟
في إعادة المخطط نحاول تحسينه. ولكن لا يمكننا تغييره بالكامل. تغيير القوانين معقد جداً، ويحتاج إلى ورشة تشريعية تحتاج إلى تعديل القوانين. أما السرعة في عملية إعادة الإعمار عام 2006 كانت على علاقة بما دفعه حزب الله من بدلات إيواء وأثاث بقيمة 12 ألف دولار لكلّ عائلة دُمّر مسكنها. حزب الله، والشهيد السيد حسن نصر الله لم يترك أحداً من دون إيواء في عام 2006. يومها، ارتبطت السرعة بالوفر المالي. أما اليوم، فالموضوع مختلف، إذ ثمة سؤال مطروح: من يموّل؟ ربما تكلف عملية إعادة الإعمار نحو 3 مليارات دولار. وأي جهة ستقوم بالإعمار؟ شخصياً، أرى أنّ التمويل لن يقتصرعلى جهة واحدة لأنه كبير جداً. إذا افترضت أنّ التمويل موجود، لن يكون مصدره واحد، ولن تستطيع جهة واحدة القيام بإعادة الإعمار في كلّ الأماكن التي تعرضت للتدمير، من البقاع والجنوب إلى بيروت.
كأنك تقول إن مشروع «وعد» ليس كافياً، فما الذي تقترحه في هذا المجال؟
من وجهة نظري، يجب تأليف هيئة لإعادة الإعمار، وأول أعمالها الزيارات الميدانية إلى كلّ المناطق التي تعرضت للقصف، ثمّ تحديد الحالات في المناطق المختلفة بعد وضع تقارير تصف حالات الإعمار. وبعدها تُحدّد الكلفة التقديرية لإعادة الإعمار في كلّ حالة. بعد ذلك، تتحوّل الهيئة إلى هيئة استشارية للطرف الذي يريد أن ينفق. وهنا، يستحيل أن يكون غير الدولة. بمعنى آخر، الدولة تأخذ الأموال وتوزّعها، فحجم الدمار كبير جداً لتتمكّن جهة واحدة من العمل عليه وحدها. ودور الدولة هو الإشراف لا البناء. كل ذلك ناشئ من أنه لا يمكن مقارنة صورة ما يحدث اليوم بما حدث عام 2006 حين كان حجم الدمار أقل ولم تكن هناك حاجة فعلية إلى الدولة.
لا يمكن استبدال الزيارة الميدانية لتكوين صورة كافية توضع على أساس أسس إعادة الإعمار
الدولة تقول إنها ستؤسّس صندوقاً عبر البنك الدولي يشرف على عملية التلزيم؟
هذا هروب للدولة من تهمة الصفقات. فعندما تدخل الدولة في عملية بهذا الحجم، ستطرح فكرة الصفقات وتوزيع الأموال على المحسوبيات. رغم ذلك، الدولة هي طرف لا يستغنى عنه عندما يمتدّ حجم الإعمار من حاصبيا إلى الهرمل. ولا أحد لديه الأرشيف اللازم والوثائق والكادرات والإدارات المحيطة بالأوضاع العمرانية والمالية على مستوى الوطن، إلا الدولة. وبالتالي، فإن الدولة بالذات عندما توكل أمر إعادة الإعمار لصناديق، فإن هذه الصناديق لا تفعل شيئاً سوى صرف الأموال. وبالتالي من الأجدى بالدولة تشكيل هيئة وزارية لتكون مشرفة على تصنيف الحالات، ومشرفة على صرف الأموال لإعادة الإعمار.
هل تطرح أن تقوم الدولة بتلزيم إعادة إعمار الحالات المحدّدة؟
لا يوجد جهة واحدة تنفق وتنفّذ. فالصندوق يعطي أموالاً للجهة التي تختارها الهيئة، وهي بدورها تنفق على إعادة الإعمار. فوق الصندوق يجب أن تكون هناك هيئة مشرفة تحدّد الأولويات. هذه الهيئة، مثلاً، تحدّد أنّ إعادة الإعمار سيبدأ من هذا المكان حيث النزوح الأكبر أو الأكثر تضرراً، ثمّ تنتقل إلى مناطق أخرى. هذا هو دور الهيئة التي أتصورها. والهيئة هي مسؤولة عن التلزيم أيضاً، وتعيّن الجهة المشرفة على إعادة الإعمار تقنياً ومالياً، ومَن يشارك من المقاولين. هل في لبنان عدد مقاولين كاف؟ نعم، يوجد، وهم الآن من دون عمل. يستطيعون القيام بهذا العمل. وأتوقع مشاركة بلدان عربية في عملية إعادة الإعمار. وفي حال وجود توجّهٍ كهذا، فإن الدول التي يجب إشراكها يجب ألا يكون فيها مهندسين لبنانيين مشاركين في إعمارها مثل دول الخليج. مثلاً، هناك مصر والجزائر يمكنهما المشاركة لوجود كفاءات وشركات وقدرات مالية وكادرات تقنية تسهم في صنع الهيئة المسؤولة عن إعادة الإعمار. وأستبعد المغرب، وأقبل بفرنسا لارتباطاتنا التاريخية بها والتي تعود إلى أيام الاستعمار. أيضاً هناك معسكر ثان لا أحد يتكلم عنه في لبنان مثل الصين وروسيا. فمن المعروف أن أكبر طرف قادر على تقديم التقنيات والسرعة اللازمة هم الصينيون. وعدم القبول بجهات دولية محدّدة دون غيرها، يساوي الفشل، وإيران يجب أن تكون موجودة أيضاً.
على فرض توافر التمويل فإن مصدره ليس جهة واحدة كما لن تستطيع جهة واحدة إعادة الإعمار في كلّ الأماكن
إلى أي مدى تشبه هيئة إعادة الإعمار، مجلس الإنماء والإعمار مثلاً أو ما كان مطروحاً في السابق لإعادة إعمار بيروت؟
الهيئة التي أتحدث عنها هي موازية لعمل مجلس الإنماء والإعمار غير الموجود حالياً.
هناك الكثير من التفاصيل المرتبطة بإعادة الإعمار والحالات القانونية، مثل حي السلّم حيث الأبنية بمعظمها غير قانونية، فكيف يعاد إعمارها في هذه الحالة؟
مثل هذه الحالات كانت موجودة في حارة حريك عام 2006؛ المبنى غير قانوني لكن العقار له مالك. وهذا يدخل ضمن المخطط العام، فيعاد إعماره وفقاً لما كان مسكوناً ضمن القانون. وفي حال كانت الأرض مشاعاً، يوكل الأمر إلى البلديات كي تمثّل جميع المالكين، لا لتقوم هي بدور بناء مباشر. فالبلدية تعرف عدد المالكين. القصة معقّدة، إنما تتطلب فكراً واسعاً، ولا تنحصر بأفراد، بل يقوم بمهمة كهذه مجموعة هيئات. وهي مهمّة ليست مستحيلة، بل يجب تجزئتها. وهنا الحديث لا يتعلق بالنسيج الاجتماعي، لأن الفرد يقدّم خريطة بيته التي تُعتمد في إعادة بناء المبنى ويعود له الطابق ذاته والمساحة نفسها. وتدخل المساحة في خريطة مسح المنطقة التي يجب أن توضع في البداية لإظهار الطرقات، والساحات العامة، والحدائق العامة، والأماكن الدينية. على أن يُبحث في وضع المدارس الرسمية التي يمكن نقلها، أو تحسينها وزيادة مساحتها. الدولة موجودة دائماً، لكن ماذا يفعل مجلس الإنماء والإعمار؟ هو يلزّم.
لنأخذ مثلاً الضاحية، حيث الجمعية العامة للمالكين أخذت قراراً بأكثرية 90% أنّها تريد تكليف حزب الله بإعادة إعمار الضاحية. لذا نشأ مشروع «وعد».