أوراق إستراتيجية » وكالة الأمن القومي الأميركية وانطلاق الحرب السيبرانية

إعداد : نسيب شمس

يوم السبت في 4 حزيران / يونيو من العام 1983، كان الرئيس الأميركي رونالد ريغان يقضي يومه في منتجع "كامب ديفيد" في حالة استرخاء، يُطالع بعض الأوراق. 

وما أن أنهى تناول العشاء، وكما كان يفعل في كثير من الأحيان، جلس لمشاهدة أحد الأفلام، كان عرض تلك الليلة فيلم "WarGames" بطولة ماثيو برودريك Matthew Broderick الذي كان يُجسد دور فتى مراهق، بارع في أمور التكنولوجيا، يقوم من دون باختراق الكومبيوتر المركزي في " قيادة دفاع الفضاء الجوي لأميركا الشمالية"، معتقداً أنه يلعب لعبة جديدة Game، دون أن يدرك بأنه أوشك على إشعال حرب عالمية ثالثة.

ذهب الرئيس ريغان إلى النوم مهجوساً بما شاهد في الفيلم. ومع صباح يوم الأربعاء التالي، عاد الرئيس الأميركي إلى البيت الأبيض، وعقد اجتماعاً حضره وزراء الخارجية والدفاع، والخزانة، إلى جانب فريقه لشؤون الأمن القومي، ورئيس الهيئة المشتركة لرؤساء الأركان، وستة عشر من أعضاء الكونغرس البارزين، كان الاجتماع لمناقشة نوع جديد من الصواريخ النووية وأرجحية محادثات الأسلحة مع الاتحاد السوفياتي. لكن ريغان لم يستطع إبعاد ذلك الفيلم عن ذهنه، وفجأة في لحظة ما، نحّى أوراقه جانباً، وسأل ما إذا كان أي شخص آخر قد شاهد ذلك الفيلم. لم يكن أحد قد شاهد الفيلم، إذ أنه كان قد عُرض من فوره في دور السينما في يوم الجمعة الأخير. ثم انطلق في عرض ملخص تفصيلي عن حبكة الفيلم الروائية. أجال بعض رجال الكونغرس النظر في الغرفة بابتسامات مكبوتة، أو بحواجب مُقوسة تعبيراً عن دهشتهم. قبل ذلك بأقل من ثلاثة أشهر، كان ريغان قد ألقى خطاب "حرب النجوم" داعياً العلماء إلى استحداث أسلحة ليزرية يمكنها – في حالة الحرب – أن تسقط الصواريخ النووية السوفياتية حينما تندفع نحو أميركا، ولم تلقَ الفكرة أي قبول؛ إذ أنها بدت فكرة غريبة ومجنونة الآن، ما الذي كان الرجل العجوز بصدده؟

بعد أن انتهى ريغان من عرضه لملخص الفيلم، توجه إلى الجنرال جون فيسي، رئيس الهيئة المشتركة لرؤساء الأركان، الضابط الأعلى في جيش الولايات المتحدة، وسأله: هل يمكن حدوث مثل هذا الأمر في الواقع؟" هل يمكن لأحد اقتحام كومبيوتراتنا المهمة شديدة الحساسية؟

قال فيسي، الذي نشأ متمرساً على مثل هذه الاستفسارات، إنه سوف ينظر في الأمر.

بعد ذلك باسبوع عاد الجنرال فيسي بإجابته إلى البيت الأبيض حيث تبين واتضح أن فيلم “WarGames” لم يكن قط مستبعداً وغير معقول، قال فيسي: السيد الرئيس، المسألة أسوأ كثيراً مما تظن".

بدأ العمل، سلسلة من المذكرات صدرت، وأنشئ مجموعات العمل، وأعدت الدراسات، وعقدت الاجتماعات، شارك الكثير من الدوائر والمؤسسات المعنية، وبعد خمسة عشر شهراً، أسفرت كل هذه الجهود عن صياغة "التوجيه الرئاسي السري المتعلّق بالأمن القومي" أي الوثيقة "إن إس دي دي – 145 " (NSDD-145)" وكان عنوان التوجيه " السياسة القومية بشان الاتصالات وأمن نظم المعلومات المؤللة" (National Policy on Telecommunications and Automated Information Systems Security)  ووقع عليه الرئيس الأميركي رونالد ريغان في 17 أيلول/ سبتمبر من العام 1984.

كانت هذه البداية... وهذا ما سيتم الاصطلاح على تسميته لاحقاً "وسائل الحرب السيبرانية"، وبموجب ذلك التوجيه صارت "وكالة الأمن القومي" هي المسؤولة عن تأمين جميع الخوادم Servers وشبكات الكومبيوتر في الولايات المتحدة، التي كانت أكبر أجهزة الاستخبارات الأميركية، والتي تأسست عام 1952، وهي أكثرها سرية وتكتما. وبأن مختصر اسم الوكالة “NSA” كانت تعني “No Such Agency” أي لا يوجد مثل هذه الوكالة. هكذا كان يتمازح العاملون في الوكالة.

كانت جذور وكالة الأمن القومي “NSA”، تعود إلى الحرب العالمية الأولى، ففي آب/ أغسطس من العام 1917، بعد فترة وجيزة من انضمام الولايات المتحدة إلى المعركة، أنشأت حكومة الولايات المتحدة "فرع الاستخبارات العسكرية" (إم آي – 8) Military Intelligence Branch 8 (MI-8)، الذي مُخصصاً لفك رموز شيفرة إشارات البرق (التلغراف) الألمانية. ظلت الوحدة قائمة إلى ما بعد الحرب، تحت رعاية مزدوجة من وزارتي الدفاع والخارجية، وكانت داخل مبنى عادي في نيويورك، وكان المنتمون إلى الوحدة يطلقون عليها "الغرفة السوداء" “The Black Chamber”. وكان اسمها الرمزي " رَهَط تحويل الكود" (Code Compilation Company) وكات تقوم برصد اتصالات مشتبه بهم بأنهم مخربون.

كان أكبر ضرباتها المفاجئة إقناع شركة ويسترن يونيون Western Union بإتاحة إمكانية الوصول إلى جميع البرقيات المنقولة عبر أسلاكه. أغلقت الغرفة السوداء في العام 1929.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، جرى إحياء الرصد عبر "وكالة أمن الإشارة" Signal Security Agency التي عملت جنباً إلى جنب مع نظراء بريطانيين، في فك رموز شيفرة الاتصالات الألمانية واليابانية، مما ساعد الحلفاء على حسم الحرب لمصلحتهم. وبعد ذلك تحولت إلى "وكالة أمن الجيش الميداني" (القوات البرية) Army Security Agency، ثم "وكالة أمن القوات المسلحة" Armed Forces Security Agency مُتعددة الفروع. ثم في العام 1952، وبعدما أدرك الرئيس الأميركي هاري ترومان أن الفروع لم يكن بعضها يتعاون مع بعض، صارت مؤسسة موحدة لكسر الشيفرة أُطلق عليها اسم "وكالة الأمن القومي" National Security Agency.

كان لدى الوكالة مديريتان رئيسيتان: "استخبارات الإشارة" Signals Intelligence (SIGINT) و"أمن المعلومات" Information Security (INFOSEC)، وأصبحت في وقت لاحق تسمى "تأمين المعلومات" Information Assurance. كانت مديرية استخبارات الإشارة هي الجانب النشط والمشرق في الوكالة، حيث المهندسون، وخبراء تشفير، والجواسيس القدامى، يقومون بجرف وتفحص البث اللاسلكي، والتنصت على الدوائر الكهربائية والكابلات. وكان كل هذا بهدف اعتراض وتحليل الاتصالات التي تؤثر في الأمن القومي. 

أما مديرية أمن المعلومات، فقد كانت تختبر موثوقية وأمن الأجهزة والبرمجيات التي كانت فرق استخبارات الإشارات تستخدمها. لكن على مدار معظم تاريخ الوكالة لم يكن هناك اتصال مباشر بين الجانبين وحتى لم يكن يضمهما مبنى واحد. كانت أعمال الصيانة هي مهمة تقنيي مديرية أمن المعلومات، ولم يكونوا قط جزءاً من العمليات. أما فرق استخبارات الإشارات فلم يكونوا يفعلون شيئا سوى العمليات، لم يكونوا يتشاركون مهاراتهم أو قدراتهم وأفكارهم الثاقبة للمساعدة في إصلاح ما كانوا يرصدونه من عيون في المعدات.

بدأ كياني وكالة الأمن القومي في توحيد قواهما بعض الشيء مع اقتراب نهاية فترة رئاسة الرئيس الأميركي جيمي كارتر. تزايد إدراك مسؤولي البنتاغون أن السوفيات كانوا ينفذون إلى روابط اتصالاتهم، ورغبوا بأن تبدأ مديرية أمن المعلومات في اختبار الأجهزة والبرمجيات المستخدمة ليس فقط في وكالة الأمن القومي، ولكن لدى وزارة الدفاع أيضاً. تم تشكيل مؤسسة جديدة، "مركز أمن الكومبيوتر" (Computer Security Center)، كان الهدف أن يبدأ المركز الجديد في دمج مسؤولي العمليات في مديرية استخبارات الإشارة مع التقنيين في مديرية أمن المعلومات في مشروعات مشتركة. كانت المعارف ستبقى مستقلة ومختلفة لفترة أطول، ولكن الحواجز بدأت تتراجع وتزول.

جاء الأمر بإنشاء "مركز أمن الكومبيوتر" من مساعد وزير الدفاع لشؤون القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات (إيه إس دي سي 3 آي" ASD-C3I، وهو حلقة الوصل بين البنتاغون ووكالة الأمن القومي.

ومع وصول الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وتكليفه كاسبار واينبرغر بوزارة الدفاع، عين دونالد لثام “Donald Latham” مساعداً لوزير الدفاع لشؤون القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات ASD-C3I. ولثام كان من استلم من موظفي الجنرال جاك فيسي سؤال الرئيس الأميركي رونالد ريغان، ولم يستغرق دونالد لثام وقتاً طويلاً ليرسل رداً، الإجابة ذاتها التي قدمها فيسي إلى الرئيس: نعم، المسألة أسوأ كثيراً مما تظن.

وضع دونالد لثام  التوجيه الرئاسي " السياسة القومية بشأن الاتصالات وأمن نظم المعلومات المؤللة" (National Policy on Telecommunications and Automated Information Systems Security) وبدأت الولايات المتحدة الحرب السيبرانية...

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية