صوفيا ــ جورج حداد
في الـ20 من شهر آب/ أغسطس الماضي، وفي ساعات المساء الاولى، تم في احدى ضواحي موسكو تفجير سيارة تعود لرئيس حزب "أوراسيا" الكسندر دوغين؛ وكانت توجد فيها ابنته داريا دوغينا، فقتلت على الفور.
وأفادت الدوائر الامنية ان الاعلامية المعروفة داريا دوغينا كانت برفقة والدها الكسندر دوغين يحضران مهرجانا عن "التقاليد" في احدى ضواحي موسكو. وكان موقف السيارات في المهرجان مفتوحا من كل الجهات، وبدون حراسة خاصة، وكان يتواجد فيه فقط عدد من رجال شرطة السير لتنظيم حركة السيارات. وكان بامكان اي شخص ان يدخل الى الموقف ويتجول فيه بحرية. وتقدر الدوائر الامنية ان الجناة استغلوا وقوف سيارة دوغين في الموقف، حيث وضعت فيها العبوة الناسفة. وبعد المغادرة ووقوف السيارة امام منزل داريا دوغينا كان يوجد شخص اخر ينتظر وصول السيارة وقام بتفجيرها عن بعد. وكان من المفترض ان يكون الكسندر دوغين مع ابنته لدى تفجير السيارة، الا انه كان قد تخلّف عن ركوب السيارة مع ابنته، لانشغاله مع بعض اصدقائه الذين استقل السيارة معهم، فنجا من الموت. ويقدر الخبراء الامنيون ان الجناة كانوا ينوون بالاساس اغتيال الكسندر دوغين، ولما "افتقدوه" لم يتوانوا عن قتل ابنته، اولا لتوجيه رسالة تهديد صارمة له، وثانيا للانتقام من ابنته داريا ايضا التي كانت اعلامية بارزة ونشيطة تؤيد بحماس خطه السياسي القومي المتشدد، المعادي للغرب الموالي لاميركا، ولجميع اعداء روسيا.
وكانت داريا دوغينا قد حققت نجاحا ملحوظا في عملها الاعلامي والصحفي، واصبح لها جمهور كبير، بالرغم من انها شابة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها.
واتهمت الدوائر الروسية الاجهزة الامنية والفاشست الاوكرانيين بانهم يقفون خلف اغتيال داريا دوغينا، وقالت تلك الدوائر ان امرأة اوكرانية تدعى ناتاليا فوفك وعمرها 43 سنة، كانت قد دخلت روسيا في تموز الماضي، بسيارة خاصة، برفقة ابنة لها عمرها 12 سنة؛ واقامت في شقة مستأجرة في المبنى ذاته الذي تقطن فيه داريا دوغينا مع والدها، لاجل مراقبتهما؛ وان هذه المرأة غادرت فورا مع ابنتها بعد عملية التفجير، ودخلت جمهورية استونيا على بحر البلطيق في سيارة اخرى، غير السيارة التي دخلت بها الى روسيا. وقد اختفت ناتاليا فوفك مع ابنتها في استونيا. ولكن بعد بضعة ايام فقط افادت الشرطة النمساوية ان ناتاليا فوفك وجدت مقتولة، في شقة مستأجرة في فيينا. وكانت مطعونة بـ17 طعنة سكين، مما يدل على وقوع اشتباك بينها وبين القاتل. ولم تذع الشرطة النمساوية شيئا عن ابنة القتيلة ناتاليا، ولا كيف دخل القاتل الى الشقة. وافادت المعلومات الامنية الروسية ان ناتاليا فوفك هي عضو في المنظمة الفاشية الاوكرانية المسماة "فوج ازوف" الذي يقاتل ضد الروس في شرق وجنوب شرق اوكرانيا. ويقدّر الخبراء الامنيون انه جرى اغتيال ناتاليا فوفك من قبل مشغّليها انفسهم، لاسكاتها ومنع وقوعها في ايدي الاجهزة الروسية بعد انكشاف امرها.
وسارع الرئيس ــ الدمية الاوكراني فولودومير زيلينسكي الى نفي اي مسؤولية لاوكرانيا عن اغتيال داريا دوغينا، متهما الاجهزة الروسية ذاتها بالاغتيال.
وقبل ان يصدر عن المراجع الروسية اي اتهام لواشنطن، سارع الناطق الرسمي باسم البيت الابيض لعقد مؤتمر صحفي طارئ نفى فيه اي علاقة لاميركا بالجريمة.
وفي الوقت ذاته اعلن ان الولايات المتحدة الاميركية قررت منح مساعدة اضافية لاوكرانيا بقيمة 3 مليارات دولار، كمساعدة للاستمرار في حرب طويلة الامد. وتقول بعض الاحصاءات ان "المساعدات" الاميركية ــ ولا سيما العسكرية ــ للنظام الفاشي الاوكراني، منذ الانقلاب الفاشي في شباط 2014 حتى الان، بلغت اكثر من 50 مليار دولار.
وتعرّف داريا دوغينا على انها استاذة فلسفة، وعالمة اجتماع، واعلامية مرموقة، ومراسلة ميدانية نشيطة. وتفيد المعلومات الصحفية انها زارت سوريا بعد قرار البرلمان والحكومة الروسيين في ايلول 2015 بالموافقة على استخدام القوة العسكرية خارج الحدود الروسية، لاول مرة بعد حرب افغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وذلك بطلب من السلطة الشرعية السورية، لمساعدة الشعب والجيش الوطني في سوريا، في التصدي لـ"الحرب العالمية" التي شنت ضد سوريا تحت عنوان "الثورة الداعشية"، التي دعمتها وسلحتها ومولتها الامبريالية الاميركية وحلف الناتو والسعودية وزعانفها الخليجية وتركيا واسرائيل. ودافعت داريا عن صوابية قرار القيادة الروسية بدعم الشعب السوري. كما انها زارت شبه جزيرة القرم بعد اعادتها الى الوطن الام روسيا في 2014. وفي السنتين الاخيرتين واصلت دوغينا زيارة منطقة الدونباس (اقليمي غدانسك ولوغانسك) التي انتفضت ضد الانقلاب الفاشستي المدعوم من قبل اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي، وايدت طموح الجماهير الشعبية الروسية في الدونباس ومحيط بحر ازوف للتحرر من الفاشية وتشكيل "روسيا الجديدة" (نوفايا روسيا) المعادية للفاشية الاوكرانية القديمة ــ الجديدة، المدعومة من قبل اميركا والناتو والاتحاد الاوروبي. وهذه المواقف لداريا دوغينا اكسبتها غضب الدوائر الامبريالية الاميركية والغربية، بالاضافة الى "جريمتها الاصلية" بأنها ابنة الكسندر دوغين، العدو اللدود للمعسكر الامبريالي الاميركي والغربي.
وقبل وقت قصير من اغتيال ابنته داريا كان دوغين قد كتب: ان اوكرانيا وحلفاءها الغربيين ليسوا مستعدين للتسوية. وان روسيا وجهت التحدي للغرب كحضارة. وهذا يعني اننا يجب ان نواصل معركتنا حتى النهاية. كما قال: "ان المسيح اتى بالسيف". وبهذا الصدد سأله الصحفي الروسي المشهور فلاديمير بوزنر (وهو لاديني معروف): هل يمكنه ان يقتل كائنا بشريا. فأجاب دوغين على السؤال بسؤال: "وهل هو عدو؟". فكرر بوزنر: "كائن انساني". فرد دوغين: "اذا كان عدوا ــ أجل، اقتله".
ومنذ 2015 فرضت اميركا والاتحاد الاوروبي وبريطانيا العقوبات على دوغين وابنته داريا.
ولدى تبلغه نبأ اغتيال ابنته قال الكسندر دوغين: "ان النظام الاوكراني الفاشي، وبهجوم ارهابي، قام باغتيال ابنتي داريا، بعد عودتها من مهرجان "التقاليد" في ضواحي موسكو. ان اعداء روسيا قتلوها بشكل دنيء وغادر؛ الا ان اعداءنا لن يصلوا الى هدفهم، ولن يهزموا روسيا. ولكننا لا نتطلع الى الثأر العادي او الانتقام؛ فهذا من الصغائر؛ ان قلوبنا تهفو فقط الى النصر لروسيا!".
واضاف: "لقد كانت فتاة وطنية واورثوذوكسية رائعة، مراسلة حربية وفيلسوفة. تصريحاتها وتقاريرها كانت دوما نفّاذة، غنية بالمعلومات ورصينة. وهي لم تدعُ ابدا الى العنف والحرب. لقد كانت نجمة مضيئة في بداية طريقها".
ووجه كلامه الى الجنود الروس المحاربين في اوكرانيا قائلا: "ان ابنتي الشابة قدمت حياتها على مذبح النصر. فليكن النصر لكم!".
واعرب الرئيس بوتين عن تعازيه لعائلة دوغينا وللشعب الروسي، ووصف مقتلها بأنه "جريمة فظيعة وبشعة" اودت بحياة "انسانة رائعة وموهوبة، ذات قلب روسي حقيقي" وهي "كصحفية، عالمة، فيلسوفة ومراسلة حربية، كانت تخدم شعبها ووطنها بشرف، وتبرهن ماذا يعني ان يكون المرء وطنيا روسيا". واصدر مرسوما بمنحها وسام الشجاعة بعد الوفاة.
وصرح وزير الخارجية سيرغي لافروف قائلا: ان اغتيال دوغينا هو "جريمة وحشية، ولن تكون هناك اية رحمة تجاه القتلة".
وقالت ماريا زخاروفا، الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ان اغتيال داريا دوغينا يدل ان السلطة الاوكرانية تمارس "ارهاب الدولة".
***
وبمراجعة الاعلام الغربي والموالي والمأجور للغرب، بمن في ذلك بعض من يوصفون او يدعون انهم تقدميون ويساريون وشيوعيون، ومنهم الستالينيون والتروتسكيون "معا! يا للعجب!"، نجد ان الكسندر دوغين يتعرض لابشع الحملات الفكرية والسياسية وحتى الشخصية، بأنه "ارهابي" وشوفيني وفاشي ومتعطش للدماء ومعاد للدمقراطية وحقوق الانسان وحق تقرير المصير للشعوب، وداعية لـ"الامبريالية" الروسية، وحتى "مشعوذ" و"راسبوتين جديد" (اشارة الى الراهب غيورغي راسبوتين الذي كان على علاقة غامضة وشبه "سحرية" يمارس بواسطتها تأثيره على زوجة وعائلة القيصر نيقولا رومانوف ــ اخر قيصر روسي، الذي اطاحت به الثورة في 1917، وتمت تصفيته جسديا مع جميع افراد عائلته في 1918، بعد ان كان تم اغتيال راسبوتين قبل ذلك من قبل بعض الضباط القيصريين).
والسؤال الكبير هو: لماذا كل هذا العداء الجنوني ضد الكسندر دوغين، من قبل صنّاع السياسة و"الثقافة" والاعلام في المعسكر الامبريالي الاميركي ــ اليهودي خصوصا والاوروبي والغربي عموما، وعملائه وابواقه و"حلفائه" في اربع زوايا الارض؟
***
يتوجب علينا اولا ان نلقي نظرة على السيرة السياسية والفكرية لالكسندر دوغين، ويالاخص نظريته الايديولوجية حول الصراع بين الكتلة المجتمعية "الاوراسية" والكتلة "الاطلسية" (والمقصود بها بشكل اكثر تحديدا: "شمال الاطلسية"، التي تشمل اميركا الشمالية واوروبا الغربية واوستراليا).
ان التعريف الاولي لـ"الكسندر دوغينط يفيد انه مولود في كانون الثاني/ يناير 1962، في موسكو، وانه فيلسوف، عالم سياسة، عالم سوسيولوجي، إعلامي وكاتب له ثلاثون كتابا منشورا، أهمها " اسس الجيوبوليتيكا" و"الطريق الرابع" اللذان ترجما الى العديد من اللغات العالمية ومنها الفارسية. وهو حائز على مرتبة مرشح في العلوم الفلسفية، دكتور في العلوم السياسية، دكتور في العلوم الاجتماعية. وهو بروفسور في جامعة "لومانوسوف" للدولة في روسيا، وبروفسور شرفي في الجامعة الوطنية الاوراسية، وفي جامعة طهران، وباحث علمي اول في جامعة فودان (في شنغهاي) بالصين. وهو يتكلم عدة لغات اجنبية منها الانجليزية والفرنسية والالمانية والايطالية والاسبانية والبرتغالية.
ويصف الكثير من الخبراء بالشؤون الروسية الكسندر دوغين بأنه " دماغ بوتين" او "القائد الفكري والروحي لبوتين".
وفي ثمانينات القرن الماضي، كان دوغين يعتبر "معارضا" للبيروقراطية السوفياتية، او ما كان يعرف بلفظة "منشق". وفي نهاية الثمانينات، وبالاشتراك مع الكاتب ادوارد ليمونوف والموسيقي ايغور ليتوف، اسسوا "الحزب الوطني ــ البولشفي"، الذي استخدم الرموز القومية والشيوعية، ومنها "علم النصر" على النازية (العلم الاحمر) وشعار المنجل والمطرقة، وخطاب الحنين الى الماضي السوفياتي. وكان دوغين هو الايديولوجي الاول للحزب.
وفي هذا السياق يتحدث دوغين عن تجربة الدكتاتورية الفاشو ـ ستالينية. ويذّكر بحملات ومحاكمات التطهير التي جرت في فترة 1935 ــ 1937، والتي ذهب ضحيتها عشرات الوف العسكريين الوطنيين وعشرات ملايين الشيوعيين والمواطنين الشرفاء الروس خصوصا والسوفيات عموما. حيث كانت تجرى محاكمات صورية، وكان القضاة يتلقون مسبقا لوائح باسماء "المتهمين" والاحكام عليهم بالاعدام، والاشغال الشاقة المؤبدة، او المؤقتة لسنوات، في معسكرات الموت (الغولاغ). وكان النظر القضائي في الدعاوى كناية عن مساخر. وكان خصم الستالينية ــ الفعلي او المفترض ــ يعتبر مسبقا مذنبا. وكانت الادلة تعتبر لا لزوم لها. ولا يتوجب على القضاء سوى فقط اصدار الحكم والعقاب.
وعلينا ان نذكر هنا ان هتلر، من جهة، وستالين، من جهة اخرى، كانا عميلين (او: حليفين) سريين للقيادة اليهودية العالمية العليا، التي فوجئت وذهلت بعد صدور "وعد بلفور" الانكليزي حول انشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين، ان قلة ضئيلة للغاية من اليهود الاوروبيين والروس لبت النداء الصهيوني وهاجرت الى فلسطين؛ في حين ان الغالبية الساحقة من المثقفين والجماهير العمالية والشعبية اليهودية ايدت الافكار الاشتراكية وشاركت في الثورة الاشتراكية المظفرة في روسيا، والثورات والانتفاضات الاشتراكية والدمقراطية في المانيا والمجر وبولونيا وبلغاريا وغيرها. ولهذا قررت القيادة اليهودية العالمية الابادة الجماعية لليهود الاوروبيين والروس، المؤيدين للاشتراكية والدمقراطية وغير الصهيونيين. وهذا ما تولى القيام به النظام الهتلري في المانيا واوروبا، والسلطة الستالينيية في روسيا والاتحاد السوفياتي. وهذه هي الخلفية الاساسية للهولوكوست النازي ضد اليهود الالمان والاوروبيين، ولعمليات التطهير الستالينية في الثلاثينات من القرن الماضي في روسيا والاتحاد السوفياتي. وقد بدأت عمليات التطهير في الاتحاد السوفياتي بعد اغتيال فيليكس دجيرجينسكي (مؤسس جهاز الامن السوفياتي) في 20 تموز عام 1926، والسيطرة التامة لعصابة ستالين على اجهزة الامن ووزارة الداخلية السوفياتية.
ومنذ انشاء وزارة الداخلية (في 1934) التي نظمت واشرفت على عمليات التطهير كان وزراء الداخلية دوما من اليهود المرتبطين بستالين؛ وهم على التوالي: غينريخ ياغودا (اعدم في 1938)، نيكولاي يجوف (اعدم في 1940)، واخيرا لافرنتي بيريا (تمت تصفيته بعد قيامه بتنظيم اغتيال ستالين في 1953، وذلك بعد وقوع النزاع بين ستالين وحلفائه اليهود إثر زيارة غولدا مائير للاتحاد السوفياتي في 1949). وكان لدى ستالين دائما لجنة سرية كانت مهمتها مراجعة لوائح العسكريين واعضاء الحزب وغيرهم من المواطنين، الموقوفين، واصدار الاحكام ضدهم، بالاعدام او الاشغال الشاقة المؤبدة او المؤقتة. زكان جميع اعضاء هذه اللجنة دائما من اليهود. وكانت لوائح المحكومين ترسل الى ستالين ليوقع عليها؛ ومن ثم ترسل الى المحاكم لتنظيم المحاكمات الصورية وتطبيق الاحكام كما هي واردة في تلك اللوائح. وكانت قمة هذه المهزاوية (المهزلة المأساوية) تبلغ اوجها حينمما كان "يُوَشْوَش" للمحكومين بأن "الرفيق ستالين لا يعلم!"، ويطلب اليهم كتابة رسائل استرحام الى المجرم الاكبر يوسف ستالين. وكان الكثير من المحكومين يقعون في هذه المصيدة ويذهبون الى خشبة الاعدام، او الى "معسكرات العمل" (معسكرات الموت) وهم يهتفون: "يعيش الرفيق ستالين العظيم!". وبين فترة واخرى كان يتم تصفية (قتل او اعدام) اعضاء "لجنة الاحكام" اليهودية السرية، وتشكيل لجنة جديدة تحل محلها، تماما كما تم اعدام وزيري الداخلية ياغودا ويجوف، وذلك من اجل دفن معلوماتهم معهم.
وكانت تساق ضد المحكومين سلفا تهم مختلفة: تطرف يساري، تطرف يميني، تخريب، ارهاب، تآمر، اغتيالات تكون الاجهزة الستالينية ذاتها قد قامت بها الخ الخ. ولكن التهمة التي جرى استخدامها اكثر ما يكون فهي تهمة العمالة للنازيين الالمان، وقد وجهت هذه التهمة بشكل خاص ضد العسكريين الوطنيين والشيوعيين الصادقين الذين كانوا يطالبون بتحضير البلاد للدفاع ضد العدوان الهتلري المحتمل، فإتهم هؤلاء العسكريون انهم عملاء استفزازيون للنازيين الالمان يريدون ايجاد مبرر لالمانيا النازية كي تشن الحرب على الاتحاد السوفياتي. في حين ان ستالين كان يجري مفاوضاته مع هتلر لتوقيع معاهدة "عدم الاعتداء" بين البلدين، وهي المعاهدة التي عقدت سنة 1939، والمعروفة باسم "معاهدة مولوتوف ــ روبنتروب" (وزيري خارجية البلدين). وقد تم بنتيجة ذلك اعدام اكثر من 35 الف ضابط وجنرال وحتى ماريشالات من خيرة العسكريين السوفيات، منهم رئيس الاركان في حينه الماريشال الفذ ميخائيل توخاتشيفسكي واضع اسس العلم العسكري السوفياتي، الذي لا تزال تعاليمه تدرس الى اليوم في الاكاديميات العسكرية الروسية. كما ذهب ضحيتها تقريبا جميع الشيوعيين القدامى الذين شاركوا في الثورة الاشتراكية في 1917، وخصوصا منهم الشيوعيون اليهود ــ المعادون الاشداء للصهيونية ولتأسيس "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين.
وردا على اتهام خصومه الغربيين و"حلفائهم" له بأنه يدعو في بعض كتبه الى استخدام الاجهزة الخاصة الروسية لاشاعة الفوضى والنزاعات في الولايات المتحدة الاميركية لتقويضها من الداخل، يقول دوغين ان الليبيرالية الاميركية هي نسخة مكررة تقلد تماما الفاشو ــ ستالينية في توجيه الاتهامات كيفما كان. وكل من هو غير متفق مع الايديولوجيا الليبيرالية الاميركية يعتبر مسبقا مسؤولا عن جميع "الخطايا المميتة". وليس مهما: هل قام "المتهم" فعلا بارتكاب هذه الخطايا ام لا، وهل تفوه او كتب عن بعض الامور ام لا. فـ"القضاء" الليبيرالي يكون مقتنعا سلفا بكل ما تقوله السلطة الاميركية. والذنب يكون مثبّـتا على "المتهم" قبل وقت طويل من "المحاكمة".
وفي رأيه ان الليبيرالية الغربية والاميركية تعتمد حيال خصومها اساليب: الشيطنة، العقوبات، الإلغاء، الإزالة من المنصات، الحرمان من الحسابات في الشبكات الاجتماعية، وفي نهاية المطاف: التصفية المعنوية وحتى الجسدية. هكذا هي مبنية الليبيرالية الغربية وهكذا تتعامل مع جميع من لا يتوافقون معها ويعارضون "مبادئها".
ويخلص دوغين الى القول: وانا واحد من الذين طبقت عليهم "الشيطنة"، التهزيء، التحقير والشتائم. وطبق ضدي "العولميون" شتى اشكال القمع والعقوبات وطرق التهميش.
ويفضح دوغين موقف اميركا والغرب من روسيا قائلا: في تسعيناتت القرن الماضي كنا شهودا على الارتكابات الفظيعة للولايات المتحدة الاميركية وطابورها الخامس في روسيا. كان كل شيء واضحا ولم يرف لهم جفن حيال سيادتنا. وقد دعموا الحركات الانفصالية لتفكيك روسيا. وكتب بريجينسكي بشكل مباشر وصريح حول ذلك. ان هدف ستراتيجية "الاطلسية" كان دائما هو حرمان روسيا من ان تكون احد اركان الجيوبوليتيكا. ولهذا من المهم بالنسبة لهم اضعاف روسيا، وفصلها عن المدى ما بعد السوفياتي، والعمل لتفكيكها بشكل متواصل.
ولكن مهما حصل فإن روسيا لن تكون ابدا مع الغرب؛ اننا مرتبطون باوراسيا ولا يمكننا ابدا ان نستدير نحو الغرب.
***
وفي سنة 2000 اسس دوغين وترأس الحركة الاجتماعية السياسية الروسية "اوراسيا"، التي تحولت في سنة 2002 الى حزب منظم. وحينذاك اسس "الحركة الاجتماعية ــ السياسية العالمية: اوراسيا"، التي اصبحت تمتلك الان فروعا في 29 بلدا، وهو يقود هذه الحركة. ومن خلال حزب "اوراسيا" يطمح دوغين الى التأثير على الحياة الاجتماعية في روسيا.
ويؤكد دوغين ان النظام العالمي الحالي يدخل في مرحلة السقوط. و"انا واثق تماما من اننا في نهاية الحضارة المعاصرة، وليس في نهاية العالم. وقد تكون الصراعات الدموية ممكنة، وربما حتمية"، ولكن العالم سيصبح قريبا عالما مختلفا جدا". حسب تعبير دوغين.
وهو يضيف: "اننا نعمل للتكيف مع صعوبات الوضع الراهن. وبما ان سياسة بوتين تسترشد بالسيادة، والوطنية ومركزة السلطة، فإن الوضع يصبح اكثر احتمالا. ولكن لا احد هو معجب بالرأسمالية ووجود الاوليغارشيا، وتقليد الغرب.
***
فما هي المقاييس الجيوبوليتيكية لتعريف ، او لمفهوم، "اوراسيا" الذي ينادي به دوغين؟
للجواب على هذا السؤال علينا ان نشير اولا الى النقاط التالية:
أ ــ لا يوجد تعريف او تحديد قانوني دولوي لهذا المفهوم. وبالتالي لا يوجد دولة بهذا التعريف. ومن ثم فإنه تعريف يدل فقط على مفهوم جيوبوليتيكي.
ب ــ وعلى ارض الواقع، هناك تقسيم قاري للكرة الارضية (اوروبا، اسيا، افريقيا الخ). وكل قارة لها ميزات وخصائص جغرافية وحضارية وتاريخية مشتركة ومتميزة. وكل دولة (واستطرادا: كل شعب او امة او قومية او اتنية) تقع ضمن احدى القارات يمكن ان توصف بها، كالقول ان فرنسا هي دولة اوروبية، والصين هي دولة اسيوية، ومصر هي دولة افريقية ولبنان هو دولة اسيوية الخ. وهناك اتحادات دولية بالاسم القاري (كالاتحاد الاوروبي، ومنظمة الوحدة الافريقية الخ). كما ان هناك منظمات او اتحادات عابرة للدول والقارات تقوم على اساس لغوي او قومي او ديني (كاتحاد الدول الفرنكوفيونية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، وجامعة الدول العربية الخ).
ج ــ يوجد عالميا ثلاث دول فقط (واستطرادا: امم) تقع اراضيها على اكثر من قارة، وهي:
1ــ روسيا: ,تقع اراضيها على القارتين الاوروبية والاسيوية، فهي دولة "اوراسية".
2ــ الامة العربية (او الشعوب العربية، او القومية العربية، او الوطن العربي، او "العالم العربي"، وتقع اراضيها على القارتين الاسيوية والافريقية، فهي امة "افروسيوية" او "اسيوفرقية".
3ــ تركيا، وتقع اراضيها على القارتين الاسيوية والاوروبية، فهي دولة او امة "اوراسية" كروسيا.
ولكن ينبغي القول ان القسم الاوروبي من جغرافية الدولة التركية هو اراض مغتصبة، محتلة (تماما مثل فلسطين)، ومنزوعة بالقوة من اصحابها الاصليين التاريخيين: اليونانيين والبلغار والمقدونيين والاوروبيين الشرقيين في البلقان. وبالتالي فإن تركيا هي (كاسرائيل) "اوراسية" "ديفاكتو" (امر واقع) جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولكن ليس تاريخيا وقوميا وحضاريا. والـ600 ــ 700 سنة التي مرت على اغتصاب العثمانيين للقسطنطينية والاراضي الاوروبية الشرقية، لم تغير شيئا في النفسية الاغتصابية لحكام تركيا العثمانيين القدماء ــ الجدد. وقد تم ضم تركيا الى حلف الناتو لاعتبارات سياسية وستراتيجية للامبريالية الغربية؛ ولكن "الاتحاد الاوروبي" يرفض الى اليوم ضم تركيا الى عضويته، لانه مضطر ان "يساير" البرلمانات الاوروبية، التي تمثل الى حد ما الرأي العام الشعبي الاوروبي، الذي يعتبر تركيا ــ في منظور تاريخي ــ معادية او مغايرة للحضارة الكلاسيكية الاوروبية التي تعود، في اهم جذورها، الى الحضارة الاغريقية (اليونانية) القديمة الخاصة بالامة اليونانية، التي هي على طرفي نقيض مع الهمجية العثمانية والطورانية، التي لا تزال معششة في رؤوس الحكام والاوساط النافذة في الدولة التركية الراهنة.
اما الروس في اوروبا كما في اسيا، فهم يعيشون على ارضهم التي تعود لهم تاريخيا. ومن ثم فإن حضارتهم وثقافتهم وتقاليدهم و"نفسيتهم" و"وجدانيتهم" ووطنيتهم هي مزيج تاريخي حي "اوروبي ــ اسيوي". فالروس في اقرب منطقة روسية اوروبية الى قلب اوروبا، والروس في اقصى منطقة اسيوية في شرق روسيا، يشعرون بذات الشعور الوطني الروسي.
وكذلك الامر بالنسبة للعرب في اسيا وافريقيا، فهم يعيشون في ارضهم التي تعود لهم تاريخيا. ولا يغير شيئا في هذه الحقيقة كون غالبية سكان البلدان العربية (العراق وسوريا ووادي النيل وليبيا وشمال افريقيا) هم سكان اصليون او اقدمون لهذه البلدان؛ في حين ان قسما آخر جاء الى هذه البلدان من شبه الجزيرة العربية، مع الفتح العربي ــ الاسلامي. ولكن الغالبية الساحقة من سكان هذه البلدان (الاشوريون القدماء والسريان والكنعانيون والفينيقيون والاقباط و"الفرعونيون" والنوبيون والبربر ــ الامازيغ الخ) قد تعربوا حضاريا وبقوا في ارضهم، سواء منهم الذين دخلوا في الدين الاسلامي او الذين بقوا على مسيحيتهم. وبالتالي فإن حضارتهم وتقاليدهم و"نفسيتهم" هي "عربية" ومزبج تاريخي حي "اسيوي ــ افريقي". وبالرغم من التقسيم الولاياتي القديم، ثم الاستعماري الحديث، للارض العربية والامة العربية، وبالرغم من تعدد الدول العربية، ونشوء دورات اقتصادية منفصلة لكل دولة، وبالرغم من جميع حركات التمييز والانفصال القطري بين العرب، فإن الرابط اللغوي ــ الحضاري ــ الثقافي ــ الوجداني بين الشعوب العربية ظل هو الاقوى؛ ولم تستطع كل النزاعات القطرية المصطنعة ان تقضي على نزعة الاخاء والتماهي الوحدوية المتأصلة للشعوب العربية الشقيقة.
وبتعبير "اوراسيا" يقصد الكسندر دوغين "روسيا" بالذات. وبهذا التعبير الجيوبوليتيكي (السياسي ــ الحضاري ــ التاريخي) هو يرى ان "روسيا" (او الدولة الروسية القائمة) هي "مصغّر" او "مكثّف" للقارتين الاوروبية والاسيوية، اي ان "روسيا" هي "اوراسيا صغرى" او "اوراسيا الصغرى"؛ وان القارتين الاوروبية والاسيوية هما "روسيا كبرى" او "روسيا الكبرى". ومن هذا المنظور، فهو يطمح الى توحيد "اوراسيا الكبرى" (اي القارتين الاوروبية والاسيوية) في كيان دولوي واحد، على غرار ما هي "اوراسيا الصغرى" او "روسيا" الحالية كيان دولوي واحد، متعدد الاتنيات والتقاليد واللغات والثقافات والحضارات. ويستنتج من ذلك ان دوغين يعتبر ان روسيا الحالية، "اوراسيا الصغرى"، هي قلب "اوراسيا الكبرى" او القارتين الاوروبية والروسية، تماما مثلما هي العاصمة موسكو: اكبر مدينة في العالم، قلب روسيا او "اوراسيا الصغرى".
وتعمل السلطة الروسية الحالية، بقيادة الرئيس بوتين، لكي تظهر موسكو بأنها "عاصمة روسية اسلامية" مثلما هي "عاصمة روسية اورثوذوكسية". ويذكر في هذا السياق ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قام في 23 ايلول 2015 بافتتاح المسجد الجامع المركزي الكبير في موسكو، بعد تجديده وتوسيعه، وهو اكبر مسجد في اوروبا، ومساحته 18.900 متر مربع، ويضم ستة طوابق، وهو أكبر مسجد في أوروبا، إذ يتسع لعشرة آلاف مصلٍ في وقت واحد. وحينما قام الرئيس الايراني ابرهيم رئيسي بزيارة موسكو والاجتماع بالرئيس بوتين في كانون الثاني 2022، فتح له صالون الشرف في الكرملين كي يصلي فيه. وكان لذلك رمزيته التاريخية الكبيرة، اذ انه اول رئيس اسلامي يصلي في الكرملين. وكان قد صلى في المكان نفسه القائد الثوري الايراني الكبير الشهيد قاسم سليماني، حينما زار موسكو في كانون الاول 2015، واجتمع مع الرئيس بوتين ووزير الدفاع سيرغي شُويْغو، لتنسيق العلاقات العسكرية والستراتيجية الوثيقة، على اعلى المستويات، بين روسيا والجمهورية الاسلامية الايرانية ومحور المقاومة العربية ــ الاسلامية.
وحسب المعطيات التاريخية فإن تعبير "اوراسيا" (او قارتا: اوروبا واسيا) الذي يقول به دوغين يشمل ايضا افريقيا، التي ارتبط تاريخها، على مدى الحقبات والمراحل والازمان، بتاريخ اوروبا واسيا، منذ ايام الامبراطورية الفارسية القديمة، الى ايام فتوحات الاسكندر المقدوني والحضارة الهيلينستية، الى ايام قرطاجة، والامبراطورية الرومانية، والدولة العربية ــ الاسلامية، والسلطنة العثمانية.
كما يرى دوغين انه ـ في مسار الصراع مع "الاطلسية" بقيادة الولايات المتحدة الاميركية ــ فإن البرنامج الاوراسي (كتوجه حضاري) يمكن ان يتوسع ليشمل اميركا الجنوبية والوسطى.
ويطابق دوغين "العامل الاطلسي" البحري بـ"العالم الانجلوساكسوني"؛ في حين ان الاوراسية او "الكتلة القارية" الارضية فهي ترتبط تقليديا بروسيا في كل ابعادها التاريخية. وليس لاوراسيا حدود معينة، بل هي بنية حضارية وقطب جيوبوليتيكي. وبالتالي فإن حدود اوراسيا لا تتطابق مع حدود روسيا؛ بل هي تتطابق مع التوجه التاريخي وأبعاد التطور.
وردا على القول ان روسيا هي "غربية"، لان كتلة كبرى منها هي جزء لا يتجزأ من اوروبا التي هي جزء اساسي من الغرب، يقول دوغين "لا اعتقد ان روسيا هي جزء من الغرب كما يدعي البعض، انها عالم مستقل، اكثر ارتباطا بالشرق. ولقد كانت دائما "شرقية" التوجهات الحضارية والثقافية والوجدانية، بل كانت ولا تزال تعتبر "القطب" الرئيسي في المواجهة بين الشرق والغرب.
***
وحول مفهوم الصراع بين الحضارتين البحرية (الاطلسية) والقارية (الاوراسية)، علينا ان ننظر عن قرب في طبيعة وخلفية مصطلحات المواجهة او الصراع بين الشرق والغرب، والذي اخذه صموئيل هنتنتغتون، في اطروحته الاخيرة، الى ما سماه "صراع الحضارات"، واعطاه طابع صراع بين الاديان. في حين ان الكسندر دوغين يأخذ هذه المواجهة او الصراع الى صراع بين الحضارتين: "الاطلسية" = البحرية، التي تقودها في عصرنا الولايات المتحدة الاميركية الامبريالية ومعها القيادة اليهودية العالمية العليا؛ و"الاوراسية" = القارية = الارضية، التي تقودها بنظره روسيا "القومية ــ الاورثوذوكسية"، وتشمل اوروبا واسيا وافريقيا وحتى اميركا اللاتينية او الجنوبية:
ان الخلفية الاساسية لهذا المفهوم للصراع الدولي هو انه كانت قد نشأت تاريخيا، في المجتمع البشري مأخوذا بكليته المسكونية، نزعتان ثقافيتان او حضاريتان:
الاولى ــ نزعة استعمارية ــ استعبادية للبشر الاخرين، مثّـلتها بشكل نموذجي الامبراطورية الرومانية القديمة، وشاركتها فيها واعطتها طابعا دينيا "الهيا" مزعوما الطغمة العليا الدينية ــ المالية التجارية، اليهودية.
والثانية ــ نزعة انسانية اخوية تدعو الى التآخي والتعاون والتكامل والتدامج بين مختلف المجموعات والمتّحدات المجتمعية الانسانية. وقد عبر ظهور المسيحية الشرقية، على ارض فلسطين الكنعانية ــ العربية، عن هذه النزعة، في صيغتها الوجدانية ــ الدينية القديمة.
ومثلت اسطورة اعتقال وتعذيب واهانة وصلب السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، وتشارك "الاسياد" الرومان والطغمة اليهودية العليا في تلك الجريمة الكبرى، ــ مثلت نقطة الصدام الذي لا رجوع عنه بين النزعتين.
وخلال الـ3-4 قرون اللاحقة خاضت الامبراطورية الرومانية حرب اضطهاد وحشية ضد المسيحية الشرقية، وتابعت توسعها في الشرق فوق جثث ملايين الشرقيين عموما والمسيحيين الشرقيين خصوصا. وبعد سيطرتها على اسيا الصغرى، والبلقان، وسواحل البحر الاسود وصلت الجحافل الرومانية حتى رومانيا، ولكنها في العمق اصطدمت بالمجموعات "الروسية" المتفرقة التي تشكل منها لاحقا الشعب الروسي. اي انه، بعد ان كانت روما قد هيمنت على غالبية الاراضي الاوروبية، واستقوت بها لتغزو الشرق، وبعد التراجيديا الفظيعة لتدمير واحراق قرطاجة العظيمة في 146ق.م، وبعد القتل البشع على الصليب للسيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، وما اعقبه من التمدد الروماني ــ الغربي في اعماق الشرق، فإن "روسيا" (المستقبلية) هي التي كسرت موجة التوسع الاستعماري ــ الروماني ــ الغربي، في الشرق. ومنذ ذلك التاريخ ترسخت هذه "الروسيا" بوصفها الحصن الحصين وخط الدفاع الذي لا يقهر عن الشرق المظلوم، ضد الغرب الاستعماري ــ العبودي. وقد تجلى ذلك بشكل ساطع في نجاح روسيا بتحطيم الحملات الصليبية الشمالية في القرون الوسطى، والقضاء على الجيوش الصليبية الجرارة وقتل وجرح وتشتيت مئات الالوف من المقاتلين والفرسان الصليبيين الشماليين، وتركيع المانيا والسويد ودول البلطيق وبولونيا الكاثوليكية التي ارسلت تلك الجيوش الصليبية الجرارة، واجبارها على التراجع عن الارض الروسية.
وكانت نتيجة كل ذلك بروز ظاهرة العداء والحقد الروماني ــ الغربي على "روسيا"، وهي الظاهرة التي تغلغلت وترسخت في "الثقافة" و"النفسية" الغربية؛ ولتبرير العجز عن قهر الروس واستعبادهم اتهمتهم تلك "الثقافة" العنصرية بأنهم "همج" و"متوحشون".
وبالمقابل نشأت في روسيا ظاهرة "الاستقلالية" و"العنفوان القومي والوطني" والحذر وعدم الثقة والعداء الروسي للنزعة الاستعمارية ــ الاستعبادية الغربية. وترسخت تلك الظاهرة وتغلغلت في "الثقافة" الروسية، وفي اعماق الوجدان الشعبي الروسي.
وكان سكان "روسيا" يسمون صقالبة او سلافيين. وفي الثلث الاول من القرن الرابع وفي اوج الاضطهاد الروماني (البيزنطي) للمسيحيين، اكتشف الامبراطور الروماني ذو الاصل الاغريقي، قسطنطين الكبير، ان والدته نفسها (القديسة هيلانة) تحولت الى المسيحية، فتأكد ان الاضطهاد لم يقض على المسيحية المعارضة للاستبداد الروماني، بل جعلها اقوى واكثر انتشارا. فأعلن وقف اضطهاد المسيحيين والسماح لهم بممارسة عباداتهم بحرية. ثم جرى اعلان المسيحية بوصفها الديانة الرسمية للدولة بدلا عن الديانات الوثنية القديمة. وذلك ليس انطلاقا من ايمان ديني بالمسيحية، بل لسبب سياسي هو: استغلال المسيحية في خدمة التسلط الاستعماري ــ الاستعبادي الروماني. وكانت الكنائس المسيحية في جميع البلدان مجموعة كنائس وطنية مستقلة متآخية، لمختلف المتحدات المجتمعية التي تجمع كل متحد منها اللغة والجغرافيا والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة. ولاجل استخدام المسيحية في خدمة الدولة عمدت الدولة الرومانية الى اعلان الديانة الكاثوليكية (ومعناها الشمولية) التي يترأسها بابا روما والتي تضم المسيحيين اينما كانوا بمعزل عن الكنائس المسيحية الوطنية القديمة. واعتبرت الكنيسة الجديدة الكاثوليكية (الشمولية اللاوطنية) بوصفها كنيسة غربية تابعة لروما وللدولة الرومانية (والبيزنطية = الرومانية الشرقية). وردا على ذلك، ورفضا لها، وتميزا عنها، اخذت الكنائس المسيحية الوطنية تطلق على نفسها صفة "اورثوذوكسية" (اي القويمة او المستقيمة) للتأكيد على وطنيتها وعدم تبعيتها للدولة الرومانية و"كنيستها" الكاثوليكية التابعة للدولة. فصارت الكنائس تسمى، مثلا: الارمنية الاورثوذوكسية (اي الارمنية القويمة او الصادقة في ارمنيتها، اي الوطنية). وكذلك: السريانية الاورثوذوكسية، والقبطية الاورثوذوكسية، والروم الاورثوذوكسية (وكلمة روم اورثوذوكس تكتب كذلك فقط باللغة العربية، لان العرب كانوا يخلطون بين الاغريق والبيزنطيين والرومان فيسمون الجميع : الروم. اما باللغات الاجنبية فإن العبارة العربية "روم اورثوذوكس" تكتب: غريغ اورثوذوكس او يوناني اورثوذوكس، حيث كانت الكنيسة الاورثوذوكسية العربية جزءا من الكنيسة الاورثوذوكسية اليونانية. وحتى اليوم لا يزال مطران القدس الاورثوذوكسي يعين فقط من الجنسية اليونانية).
وحينما تبنى الشعب الروسي المسيحية في 988، فإن الكنيسة الروسية لم تستخدم لنفسها العبارة اليونانية "اورثوذوكس"، بل استخدمت تسمية "برافوسلافنايا تسيركوف" (Православная Церковь) (ونكتبها هنا بالاحرف اللاتينية للفظ الروسي (pravoslavnaya tserkov)، وتعني حرفيا "الكنيسة السلافية المستقيمة او القويمة" اي المخلصة في سلافيتها، او السلافية المخلصة او الوطنية. وحينما اطلق الكسندر دوغين على ابنته الشهيدة داريا دوغينا صفة "برافوسلافنايا رائعة" فهو كان يقصد تماما انها "وطنية رائعة" من خلال "اورثوذوكسيتها الروسية".
***
يطلق العديد من علماء التاريخ والسياسة والاجتماع تسمية "الحضارة الاطلسية" او "البحرية" على الجيوبوليتيكا الغربية (وضمنا النزعة الاستعمارية ــ الاستعبادية الغربية). ولا تتوانى دول ما يسمى "الحلف الاطلسي" (او الناتو) من التباهي بما تسميها "القيم الاطلسية".
في حين يطلقون على نزعة التحرر والتعايش والتآخي والتعاون والتدامج الحضاري تسمية "الحضارة الشرقية" او "الارضية" (territorial).
والكسندر دوغين يتبنى التوصيف "الاطلسي" "البحري" للحضارة الاستعمارية ــ الاستعبادية الغربية.
كما يتبنى التوصيف "الارضي" للحضارة الشرقية، وهو ما يسميه "الاوراسية"، ويعتبر ان روسيا هي "قلب الاوراسية" او "اوراسيا المصغرة" كما اسلفنا، وان التوجه التاريخي يسير نحو تحقيق "روسيا الكبرى" اي "اوراسيا الموحدة" والعالم الموحد ــ متعدد الاقطاب والدول والحضارات والثقافات والاديان.
والسؤال هو: لماذا هذا التمييز بين الحضارتين "الاطلسية = البحرية" الغربية، و"الارضية ــ الاوراسية" الشرقية؟
ونحاول فيما يلي ان نقارب الجواب:
ــ بعد ان سدت "روسيا" الطريق امام استمرار التوسع الارضي للامبراطورية الرومانية القديمة، مما ادى في نهاية المطاف الى تفكك وتحطم تلك الامبراطورية، فإن الدول الاوروبية، التي نشأت على انقاضها، وورثتها "حضاريا"، انخرطت في الفتوحات الاستعمارية خارج القارة الاوروبية. فقامت في القرون الوسطى حمى الاستكشافات البحرية بهدف استعمار الاراضي خارج اوروبا، وكانت الطريق الى الاستعمار هي الطرق البحرية وخصوصا عبر المحيط الاطلسي، التي تم عبورها لاستعمار الاراضي في افريقيا واسيا واميركا (التي اكتشفت "بالصدفة!" خلال احدى الحملات الاستكشافية الاستعمارية). وكانت الدول الاستعمارية تطلق على المستعمرات تسمية "حضارية"، بريئة ولطيفة، هي "الممتلكات" او "الاراضي ما وراء البحار"
(terres d'outre-mer) ــ (overseas lands) التي كانت، شكليا و"قانونيا"، تعتبر جزءا من الدولة الاستعمارية، لها الحقوق ذاتها وتسري عليها القوانين "الوطنية" ذاتها للدولة الاستعمارية. وبذلك كان يتم خداع وتضليل "الرأي العام" داخل البلد الاستعماري. وتحت هذه التسمية "الدستورية" و"الحضارية" و"الوطنية" اللطيفة جرى استعمار ونهب واضطهاد وتعذيب وتجويع وتشريد وقتل وحتى الابادة الجماعية لمئات مليارات البشر وتحطيم مجتمعاتهم الوطنية وطمس وتشويه وازدراء خصائصهم الاتنيية والقومية ومعتقداتهم ودياناتهم ولغاتهم وثقافاتهم وحضاراتهم.
ويكفي ان نذكّر بإحدى هذه الجرائم الفظيعة ضد الوجود الانساني وهي انه جرى في اميركا الشمالية تجميع الهنود الحمر في زرائب كالمواشي، ورسم جلودهم بالكامل برسومات الوشم الجميلة ثم سلخ جلودهم الموشومة وهم احياء، لدباغتها وبيعها للزينة في قصور نبلاء اوروبا. ان مجرد اقتناء جلود الهنود الحمر الموشومة هو بحد ذاته من افظع الجرائم ضد الانسانية (لانه يتضمن "تحبيذ" التعذيب حتى الموت والقتل العمد). واذا حدثت اعجوبة ما، وقررت محكمة العدل الدولية في لاهاي ارسال الانتربول لمداهمة وتفتيش قصور النبلاء في اوروبا واميركا، بما فيها القصر الملكي البريطاني وقصور آل روتشيلد وغيرهم من المليارديرية اليهود وغير اليهود، لوجدوا هذه القصور لا تزال تحتفظ بتلك الجلود الموشومة، التي يجري بيعها وتبادلها كتحف "فنية" فريدة، ولها سوقها السوداء والزرقاء والحمراء وكل الوان القوس قزح. وقد قتل في اميركا الشمالية 112 مليون هندي احمر وتم الاستيلاء بدون اي مقابل على اراضيهم التي بنيت فوقها ما يسمى "الولايات المتحدة الاميركية"، "أم" الدمقراطية والحضارة الغربية "الاطلسية" = البحرية. (راجع كتاب "حق ابادة الآخر" للاستاذ في الجامعات الاميركية، البروفسور منير العكش، وقد صدر الكتاب بالانكليزية في الولايات المتحدة ذاتها، ولم تجرؤ الحكومة الاميركية على الرد عليه. وللكتاب ترجمة بالعربية صدرت في بيروت). وكل ذلك كان يجري تحت سمع وبصر ورعاية وحتى مباركة الكنائس الغربية: "الام" الكاثوليكية، و"ابنتيها" البروتستانتية والانغليكانية، و"حفيداتها" كنيسة الانجيليين، وشهود يهوه، والسبتيين، والمعمدانيين، والمورمون وغيرها. وطبعا بمشاركة وقيادة "المايسترو الحضاري الغربي": الطغمة العليا المالية ــ الدينية لليهودية العالمية.
وهنا لا بد من الاشارة الى نقطة مفصلية جدا وهي: ان الدول الاستعمارية الاوروبية نشأت في الاساس بنتيجة مسيرة حضارية تاريخية لمجتمعاتها الوطنية، وكانت نزعة الاستعمار وممارسة الاستعمار حالة انحرافية من تاريخ تلك المجتمعات وحضاراتها التي هي اوسع من حالتها الاستعمارية. اما الولايات المتحدة الاميركية فهي دولة "لا وجود لها" و"لا تاريخ لها" حضاريا قبل الاستعمار. اي انها حالة استعمارية "خالصة" يبدأ "تاريخها" منذ ان وضع كريستوف كولومبوس قدمه على الارض التي سميت اعتباطا "اميركية". وهنا يجب التمييز ايضا بين اميركا الجنوبية، التي نشأت دولها ومجتمعاتها كمزيج من السكان الاصليين المستعمَرين والغزاة الاستعماريين. بينما في اميركا الشمالية تمت الابادة الكاملة للسكان الاصليين وانشاء "دولة استعمارية خالصة" فوق جماجمهم واراضيهم. وهذه "الدولة الاستعمارية الخالصة" (الولايات المتحدة الاميركية) من "الطبيعي" انها هي التي تقود اليوم الحضارة "الاطلسية" = "البحرية" الاستعمارية، لانها هي نفسها دولة استعمارية لا تشوب "استعماريتها" اي "شائبة" حضارية اخرى غير الغزو والابادة والاستعمار، كما هي حال الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية الاخرى التي يوجد لها تاريخ حضاري قبل الاستعمار وبدونه.
وفي الوقت الذي تنامت فيه وتبلورت النزعة الحضارية الاستعمارية "الاطلسية" = "البحرية"، الغربية، كانت تتنامى ايضا الحضارة "القارية" = "الارضية"، الشرقية، التي تقوم على الانفتاح والتعاون والتدامج الحضاري بين شعوب اسيا واوروبا وافريقيا. وهو ما يسميه الكسندر دوغين "الاوراسية". وقد انتجت هذه الحضارة "الاوراسية" اربع ظاهرات حضارية كبرى طبعت التاريخ الانساني بأسره وهي:
1ــ الحضارة الهيلينستية، التي قادها الاغريق وشملت: البلقان واوروبا الشرقية وبلاد فارس وميزوبوتاميا وسوريا الكبرى وشبه الجزيرة العربية والتلة الاثيوبية ومصر وشمال افريقيا واوروبا.
2ــ ظهور المسيحية، كنقيض لليهوهية اليهودية والوثنية الرومانية، التي انتشرت في كل "العالم القديم" ومن ثم في "العالم الجديد"، وقادها من البداية المسيحيون الشرقيون واولهم الاراميون ــ الكنعانيون = السريان الاورثوذوكس.
3ــ طريق الحرير القديم، التي كانت محركا تجاريا، حضاريا ودينيا بين الصين والعند وغربي اسيا وافريقيا الشمالية وافريقيا السمراء واوروبا، وقادها الصينيون.
4ــ ظهور الاسلام، كاستمرار للمسيحية الشرقية، الذي قاده عرب نجد والحجاز واليمن والمستعربون (الاشوريون والسريان والقبطيون)، في مرحلته الحضارية الصاعدة (قبل سيطرة الكرد والطورانيين والمماليك والعثمانيين على الدولة العربية ــ الاسلامية)، وشمل اسيا وافريقيا واوروبا.
وكانت روسيا، بحكم موقعها الجغرافي وشعبها المنفتح ومتعدد الثقافات والانتماءات الاتنية، حلقة رئيسية في كل تلك الظاهرات. اذ كان الروسي اوروبيا واسيويا مع الاوروبيين، وفي الوقت ذاته اسيويا واوروبيا مع الاسيويين. وهذا جانب مما يسميه الكسندر دوغين: "الاوراسية".
وفي هذا السياق التاريخي، الدرامي دائما والتراجيدي احيانا كثيرة، تكرست الكنيسة الغربية، الى جانب "اليهودية"، بوصفها "الاب الروحي" للحضارة "الاطلسية" = "البحرية"، الغربية، ونزعتها الاستعمارية ــ الاستعبادية.
في حين تكرست الكنيسة "البرافوسلافنايا" الروسية، ومعها الكنائس الوطنية الشرقية، الاورثوذوكسية الاصل كلها، بوصفها الرابط الوجداني والروحي للنزعة التحررية الاستقلالية للحضارة "الاوراسية، = "الارضية"، الشرقية، القائمة عل التآخي والتعاون والتفاعل والتدامج بين الاتنيات والاديان والقوميات والشعوب الشرقية.
ويذكر هنا انه حينما طلب الكاردينال فُويْتولا البولوني (اول بابا غير ايطالي في العصر الحديث وهو البابا يوحنا بولس الثاني رحمه الله) زيارة روسيا، رد البطريرك الروسي قائلا: لن نوافق على اي زيارة لبابا روما لروسيا قبل ان تعترف البابوية بأخطائها (قالها مخففة) التاريخية.
***
في بيان اصدره الكسندر دوغين في 1991 عرض رؤيته الوطنية المتشددة لروسيا، المقدر لها ان تقف ضد الغرب القائم على "الثقافة" الانانية، الفردية والمادية (بالمعنى المبتذل، لا العلمي الفلسفي للكلمة).
وفي 1997 نشر دوغين كتابه الهام "اسس الجيوبوليتيكا ـ المستقبل الجيوبوليتيكي لروسيا"، الذي لاقى نشره مقبولية كبيرة في روسيا. وحصل على تأثير كبير على النخبة العسكرية والامنية، والدبلوماسيين المختصين بالسياسة الخارجية. واعتمد ككتاب تدريس في الاكاديمية العسكرية لهيئة الاركان الروسية. ويقول الخبراء ان الكتاب كان له تأثير كبير على السياسة الخارجية للرئيس بوتين، التي آلت في نهاية المطاف الى التدخل العسكري الروسي في اوكرانيا في سنة 2022 الحالية. وفي هذا الصدد يذكر الخبراء ان دوغين يقول عن اوكرانيا انها دولة مصطنعة "ليس لها اهمية جيوبوليتيكية، ولا ثقافية، ولا عالمية، ولا فرادة جغرافية ولا ميزة اتنية"؛ وان كل المساحة الواقعة شرق خط اوديسا ــ خاركوف تعود الى روسيا.
ويرى دوغين ان موسكو هي "المركز الاوراسي" للمواجهة مع "الغرب الاطلسي". وفي كتابه المذكور يدعو دوغين الى ازالة نفوذ الولايات المتحدة و"الكتلة الاطلسية" في المدى الاوراسي. ويدعو روسيا الى استعادة نفوذها من خلال اعادة ضم الاراضي التي تعود تاريخيا لها، ومن خلال انشاء مختلف الاحلاف والاتحادات.
ويعلن دوغين في الكتاب "ان المعركة لاجل استعادة النفوذ العالمي لروسيا لم تنته، وان روسيا هي المحرك لثورة جديدة معادية للبرجوازية ومعادية لاميركا". "ان الدولة الاوراسية الجامعة سوف تبنى على المبدأ الاساسي بمواجهة العدو المشترك: نبذ "الاطلسية"، السيطرة على الولايات المتحدة الاميركية، ورفض السماح للقيم الليبيرالية الاميركية ان تسود". ويقول: ان الهدف الابعد (للمستقبل) هو "فنلدة كل اوروبا" (اي تحويل كل اوروبا الى قارة محايدة كفنلندا).
والمفتاح الرئيسي للافكار الايديولوجية لدوغين هو نشر ايديولوجية الاوراسية والوطنية البلشفية. وهو يدعو الى النيواوراسية (الاوراسية الجديدة) التي ينبغي تأسيسها على توحيد روسيا واوروبا والشرق الادنى، في مواجهة البلدان الانجلو ــ ساكسونية (الولايات المتحدة وكندا، بريطانيا وايرلندا، اوستراليا ونيوزيلانديا).
وحسب افكار دوغين، على روسيا ان تناهض، على النطاق العالمي، الهيمنة الاميركية.
***
ويكتب دوغين عن بعض البلدان على حدة فيقول:
عن المانيا:
يجب ان تعرض على المانيا السيادة السياسية "ديفاكتو" (كامر واقع)، على غالبية الدول البروتستانتية والكاثوليكية في اوروبا الوسطى والشرقية. وهو يعرض اقامة "محور موسكو ــ برلين".
ويدعو فرنسا الى تكوين كتلة مع المانيا، اذ ان الدولتين لهما "تقاليد راسخة معادية للاطلسية".
وعن المملكة المتحدة (بريطانيا):
فهو يصفها بأنها "قاعدة عائمة للولايات المتحدة الاميركية خارج حدودها الاقليمية"، ويدعو الى فصلها عن اوروبا.
وعن الشرق الادنى واسيا الوسطى:
يؤكد على "الاتحاد القاري الروسي ــ الاسلامي"، الذي يكمن "في اساس الستراتيجية المعادية للاطلسية". وحسب تعبيره يقوم هذا الاتحاد على "الطابع التقاليدي للحضارتين الروسية، والاسلامية". وهو يعتبر ايران حليفا اساسيا، ويستخدم في الكتاب تعبير "محور موسكو ــ طهران".
ويؤكد انه على روسيا ان تنشر معاداة اميركا في كل مكان.
وفي اطلالته في بعض الندوات الفكرية العالمية التي كان يدعى اليها، جادل دوغين بقوة الفيلسوف الفرنسي اليهودي الصهيوني برنار ــ هنري ليفي، الذي كان معروفا بدعمه الشديد لاسرائيل والامبريالية الاميركية ومعاداته لكل حركة ثورية وتحررية في العالم ضد الامبريالية والصهيونية ولا سيما المقاومة الاسلامية ضد اسرائيل والهيمنة الاميركية.
وعن دول المنظومة السوفياتية السابقة في اوروبا الشرقية كبلغاريا وغيرها:
يقول دوغين انها منقسمة داخليا. فالنخب السياسية الحاكمة فيها، وكما كان الامر تاريخيا، هي ذات توجه غربي تبعا لمصالحها الطبقية الضيقة؛ اما الشعوب فهي تحافظ على الحب، الاحترام، الذاكرة التاريخية والموقف الايجابي تجاه روسيا. نحن نتفهم ذلك، ولذلك نتغاضى عن التهجمات. ان روسيا لم تبدل موقفها، ونحن نمد ايدينا دائما لتلك الشعوب. نحن لسنا الغرب، نحن اوراسيا، نحن الشرق.
وعن تركيا:
يقول "ان روسيا تطمح للوصول الى "البحار الدافئة"، وتركيا تعيق وصولها اليها. وهذه البلاد هي اليوم عامل ستراتيجي لـ"الاطلسية". ومن جهة ثانية فإن تركيا هي الداعم الاساسي لـ"المشروع الطوراني"، "الاوراسي المزيف"، الخطير جدا بالنسبة لموسكو. فمشروع "تركيا الكبرى" الطوراني يقوم على التوحيد العنصري للشعوب ذات الاصل التركي من الاناضول وحتى ياقوتيا. ان مشروع "تركيا الكبرى الطورانية" هو خطير جدا في الظروف الراهنة، خصوصا بالنسبة لروسيا، لان تركيا هي مندمجة مع الغرب ليس ثقافيا فقط، بل وستراتيجيا ايضا.
وعن العولمة:
يقول دوغين ما يلي: ان "العولمة" (كما تطرحها اميركا والغرب) هي مفهوم متناقض جدا.
للوهلة الاولى يظهر الانطباع ان المسألة تتعلق بتكثيف الصلات بين مختلف شعوب الارض، من اجل اجراء حوار شامل. ولكن الواقع هو غير ذلك تماما. فـ"العولمة" في المفهوم الاميركي تعني ان جزءا ضئيلا من البشرية (اميركا، التي تخضع لها اوروبا الغربية) تملي على جميع الآخرين نمطها (او موديلها) الخاص، الذي هو نتاج لتطورها تاريخيا، جغرافيا ومَدَوِيا. وهذا يطابق ما يسمى العولمة "وحيدة القطب" او "الاطلسية". انها تمثل نشر وفرض نمط النظام الاجتماعي ــ الاقتصادي والسياسي الاميركي، السيطرة الاميركية، القوة الجيوبوليتيكية الاميركية، ونمط الحياة الاميركي، على جميع اقاليم الارض، والاقتلاع التدريجي لاستقلالية كل منها، ليس فقط الاقليم الروسي، بل والعربي والتركي والايراني والياباني وغيرها.
وكان جورج بوش قد طرح بصراحة ووضوح معادلة: من هو ليس معنا فهو ضدنا. ويمكن شيطنة الاخر، المختلف، وتوجيه اي اتهام له والحكم عليه حتى بتهم كاذبة مثل تهمة اسلحة الدمار الشامل التي اطلقها وزير الخارجية الاميركية من على منبر هيئة الامم المتحدة بالذات؛ وتم قتل ملايين العراقيين وتدمير العراق واحتلاله ونهب ثرواته وتسليمه للفوضى، وعدم تحميل اميركا اي مسؤولية عن ذلك حتى بعد اعترافها رسميا بأن تهمة اسلحة الدمار الشامل في العراق كانت تهمة كاذبة ومفبركة عن سابق تصور وتصميم.
وان "الاوراسية" تعتبر مثل هذه العولمة "وحيدة القطب" انها امر سيئ للغاية. وتدرك الاوراسية الاهمية التاريخية لهذا التحدي، واهدافه، واسبابه وتوجهاته. وهي تقدم بديلها الخاص لهذا النمط العولمي. وهذا البديل هو: ان على جميع العناصر الواعية، المنتمية الى شتى التوجهات الاقتصادية، الثقافية، الدينية والسياسية، ان تتوحد لاجل تشكيل نمط واسع جدا للوجود المشترك لجميع الديانات والاتنيات، في تكتل ستراتيجي موحد، "ذي حجم" كاف يمكنه معه ان يصارع الكتلة "الاطلسية"، و"منفتح" بشكل كاف في العلاقة مع حلفائه المباشرين وشركائه الستراتيجيين في الشرق والغرب. اي ان البديل يعني العمل لتشكيل عولمة متعددة الاقطاب، مناقضة تماما للعولمة وحيدة القطب. اننا نؤمن بالحوار بين الثقافات، ونحن مستعدون ان نكون "منفتحين" تجاه التأثيرات من الشرق ومن الغرب، ولكن فقط مع المحافظة على هويتنا الخاصة. وفي هذا تكمن خصوصية المشروع الاوراسي، الذي لا يتطابق مع الموديل السوفياتي السابق، ولا مع ما يسمى "النمط الدمقراطي" الاميركي. انه نمط نظام دولي جديد لم يسبق له ان تحقق على ارض الواقع.
ويرى دوغين ان المستقبل سيكون للاوراسية، كبديل عن: الفاشية، و"الشيوعية الستالينية والنيوستالينية"، و"الليبيرالية الاميركية".
وقد تمت ترجمة كتاب دوغين حول الاوراسية والمعنون "النظرية السياسية الرابعة" الى الفارسية، وقدم للجمهور في 2013، في اطار الندوة العالمية حول "الجمهورية الاسلامية الايرانية والتعاون الاوراسي"، بحضور ممثلين كبار للدولة الايرانية. وانه لذو دلالة ان السياسيين والمثقفين الايرانيين انفسهم لاحظوا التماثل بين بعض الخطوط الفكرية المعروضة في "النظرية السياسية الرابعة" والنظام السياسي لايران الشيعية المعاصرة، الذي لا يتلاءم مع المخططات الكلاسيكية لما يسمى "الحداثة السياسية".
***
بعد قيام الامبراطورية الرومانية القديمة بالتدمير الوحشي لقرطاجة الكنعانية العظيمة (ابنة صور)، وابادة نصف اهلها واستعباد النصف الاخر على ايدي النخاسين اليهود، ثم التشارك الروماني ــ اليهودي في صلب "يسوع الناصري" في فلسطين الكنعانية، اختل التوازن الحضاري للعالم القديم، وسيطرت فيه النزعة الاستعمارية ــ الاستعبادية ــ الاستغلالية، التي اتخذت، في القرون الوسطى وما بعدها، الطابع "البحري = الاطلسي" الذي تقوده اليوم الامبريالية الاميركية والطغمة المالية العليا اليهودية العالمية. ولكن الزمان دار دورته الطبيعية. والان يشق المحور الشرقي الجديد (الروسي ــ الصيني ــ الايراني) وحلفاؤه الطريق لانقاذ العالم من المصير الافنائي الذي ينتظره، مجتمعيا وبيئويا، فيما لو استمرت الهيمنة الامبريالية "الاطلسية". وتتزايد يوميا الدلائل التي تشير الى انه بتحرير لبنان (كنعاني الجذور) من الطاغوت "الاطلسي" الاميركي، وتحرير فلسطين (كنعانية الجذور ايضا) من الاحتلال اليهودي الصهيوني، ستكون اولى تباشير انبلاج فجر جديد في التاريخ الانساني الحضاري للعالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب لبناني مستقل