نير بومس وأساف هازاني(*) ـ (لوموند دبلوماتيك) ـ 7/5/2014
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
استخدم الإسرائيليون خليطاً من المصطلحات لوصف تطورات الأعوام القليلة الماضية في العالم العربي، عاكسين الكيفية التي فهم بها اللاعبون المختلفون هذه التغييرات. فما كان قد بدأ 'ربيعاً عربياً'، نما ليتحول إلى 'شتاء إسلامي راديكالي' خطير. وفيما ظل قادة إسرائيل غير قادرين على تعريف طبيعة التحولات، أصبح الوصف هو: 'جيشان الشرق الأوسط'. وبالتدريج، تحول اتجاه المراوحة بين التفاؤل والتشاؤم إلى سبب للحيرة العميقة.
متأثرين بتتابع أثر 'الدومينو' الذي تركه إحراق محمد البوعزيزي، البائع التونسي، لنفسه، نظر الإسرائيليون إلى موجة الاحتجاجات كتجربة سوسيولوجية مدهشة تجري 'هناك'، بعيداً عن حدودهم. وفي الأثناء، تابع البلد التفكير في نفسه كحالة منفصلة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط -أو كما وصفها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، (2007-2013)، بأنها 'فيلا في غابة'. وحتى 'الاحتجاجات العشر' التي نظمت داخل إسرائيل في صيف العام 2011، جرى النظر إليها كتعبير عن استياء البرجوازيين، وكمغامرة صيف أكثر صلة بالتطورات الجارية في الولايات المتحدة وأوروبا (حركة احتلوا، الساخطون) منها بالفوضى الإقليمية.
في البداية، اختارت إسرائيل النأي بنفسها. ورغم أن الربيع العربي احتل مكان الصدارة في الصحف الإسرائيلية، فقد مرت تطورات رئيسية في العربية السعودية واليمن والبحرين بدون ملاحظتها تقريباً، خاصة وأنها لم يُنظر إليها على أنها تؤثر مباشرة على الأمن القومي.
لكن عندما بدأت آثار الاضطرارات الإقليمية تجعل نفسها ملموسة، وجدت القيادة الإسرائيلية نفسها مجبرة على القبول بفكرة أن الثورات العربية يمكن أن تؤثر على مصالحها القومية. وعلى الإثر، بدأت الشعور بالقلق عندما بدأت أسلحة كان الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي يمتلكها قبل العام 2011 بالوصول إلى أيدي عناصر إرهابية تعمل بالقرب من حدود إسرائيل. وفي الأثناء، تكثف النشاط الإرهابي الذي بدأ في شبه جزيرة سيناء بعد سقوط حسني مبارك في بداية العام 2011 وازدادت حدته مع عزل محمد مرسي في صيف العام 2013. وكان الرؤساء المصريون المتعاقبون، الذين كافحوا من أجل الحفاظ على مظهر للاستقرار في سيناء، قد واجهوا تحديات متزايدة لسلطتهم هناك. ووجدت إسرائيل التي كانت قد وقعت معاهدة سلام مع مصر في العام 1979 نفسها في مأزق. هل يجب عليها التصدي للنشاطات الإرهابية، أم الاكتفاء بتذكير مصر ومعاتبتها على تقصيرها وعدم كفايتها؟ وقد انطوى كلا الخيارين على مجازفة. لكن كان هناك خيار ثالث تمثل في الموافقة على مراجعة الملحق العسكري لاتفاقية السلام، بطريقة تسمح لمصر بتعزيز تواجد قواتها في سيناء -وهو خيار حاسم من شأنه أن يعني التضحية بالحاضر من أجل مستقبل أفضل للأمن.
لم تكن سيناء هي التحدي الوحيد الذي واجهته إسرائيل. فقد خلقت زعزعة الاستقرار في الأردن، والتي جرى تجاهلها طويلاً، قلقاً متنامياً في إسرائيل. وفي الأثناء، بدأ القتال في سورية في جذب انتباه تنظيمات جهادية عالمية، والتي تمكنت من تثبيت مواطئ أقدامها هناك بينما يهوى البلد في أتون الفوضى العارمة. وقد راقبت إسرائيل هذه التطورات بقلق، راصدة الأراضي الفلسطينية عن كثب، على أمل أن يتوقف 'الشلال' الشرق أوسطي عند الحدود الإسرائيلية. ووجدت القيادة الإسرائيلية نفسها في ورطة تتعمق باطراد أمام السؤال: مع صعود هذا العدد الكبير من المجموعات المسلحة، هل ما تزال الدول تشكل لاعبين مهمين وذوي صلة؟ في العام 2006 كان لبنان غير قادر على الحيلولة دون اندلاع الصراع بين حزب الله وإسرائيل.
في سورية، وخلال الشهور الأولى من الثورة التي بدأت هناك في آذار (مارس) من العام 2011، سعى بشار الأسد مبدئياً إلى تصوير التطورات وكأنها عاصفة عابرة لا علاقة لها البتة بحالة الاضطراب الإقليمي، وأصر على أن احتجاجات أيام الجمعة هي محدودة في الزمان والمكان، ولم ترق إلى مستوى الانتفاضة الجماهيرية ضد حكومته. لكن سورية سرعان ما غرقت في حمام من الدم، وبدأ العنف في داخل البلد بالتأثير على المنطقة بأكملها. ومع تهريب الأسلحة الذي أعقب سقوط النظام الليبي، استمر الجهاديون الأجانب الذين شقوا طريقهم إلى سورية في النمو عدداً.
هكذا، أصبح القتال الدائر في سورية يؤثر راهناً على المنطقة كلها، فيما المحنة التي يمر بها البلد وموجات اللاجئين التي يفرزها تستقطب انتباهاً دولياً متجدداً. وقد أثر مئات الآلاف من اللاجئين الذين تدفقوا على تركيا ولبنان والأردن على الاستقرار في هذه البلدان، في حين لم تتم دعوة إسرائيل، العدو التقليدي، للمساعدة في إدارة المشكلة. وفي الحقيقة، رفض الفلسطينيون التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية فيما يخص جهودهم الخاصة لمساعدة اللاجئين -وهو ما يناسب إسرائيل التي لديها أصلاً ما يكفيها من المشاكل وهي تتعامل مع مستوى عالٍ من هجرة العمالة من أفريقيا.
هناك أسباب أخرى لدى القيادة في إسرائيل للشعور بالارتياح. أحدها هو أن الموضوع الفلسطيني أصبح يتلقى اهتماماً دولياً أقل بكثير منذ بدء الربيع العربي. وحتى تفجر الأعمال القتالية في سورية، كان ما يتبادر إلى الذهن عندما يذكر أحد اللاجئين في الشرق الأوسط، هو اللاجئون الفلسطينيون -لكن 'اللاجئين' أصبحوا الآن يعنون السوريين الذين يشكلون أكبر عدد من الناس المشردين، سواء في المنفى أو في داخل سورية نفسها.
يتعلق السبب الثاني بأمن إسرائيل الخاص -موطن اهتمامها السرمدي والأساسي. وقد غيرت المخاوف من أن يكون تحلل سورية قد غير العلاقات في داخل محور إيران- سورية- حزب الله. ففي السابق، كانت إيران وسورية تركزان على مساعدة حزب الله. والآن، وحتى مع كون إسرائيل متخوفة من أن يعطي نظام الأسد أسلحة غير تقليدية لحزب الله، فقد باتت ترى سورية وهي تصبح المتلقي الرئيسي للمساعدة. وهذا تغيير كبير، في ضوء أن المؤسسة الإسرائيلية كانت قد نحت إلى رؤية التطورات الجيوسياسية فقط برؤية أمنية وتجاهلت كل التغييرات التي حكمت بأنه ليس لها تأثير مباشر عليها.
بينما تكشفت التطورات، كانت إسرائيل سعيدة بالمراقبة من الخطوط الجانبية، معتقدة بأن نظام الأسد متجه إلى الانهيار. كما كانت سعيدة أيضاً عندما أنهت دمشق في العام 2012 علاقتها مع حركة حماس الفلسطينية. ومع نمو الصراع في سورية، كرر العديد من القادة الإسرائيليين ما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن قد قاله في سياق مختلف: 'أتمنى لكلا الجانبين حظاً سعيداً'.
لكن لإسرائيل مصالح واضحة جداً في كل هذا. من شأن سقوط نظام الأسد أن يخدم المصالح الإسرائيلية عبر زعزعة استقرار المحور الإيراني الشيعي. ومن جهة أخرى، وعلى ضوء ضعف المعارضة السورية العلمانية، فإن من الممكن أن يجلب نصر المتمردين نظاماً إسلامياً معادياً لإسرائيل ويضعهم في حديقتها الخلقية الخاصة. الأسد يشكل نوعية معروفة -إنه عدو معلن رسمياً، يحكم من قصر، والذي يمكن الاتصال به. لكن التنظيمات المتمردة لا تملك عنواناً بريدياً، وهي متعددة جداً إلى درجة يستحيل معها قتالها أو التفاوض معها كما يتم في العادة مع الدول (قصف مواقع استراتيجية أو الاتصال عبر طرف ثالث).
نجحت إسرائيل تقريباً في عدم اتخاذ مواقف منحازة بشكل صريح. كما أن الجهد الدبلوماسي الدولي الذي كان قد أفضى إلى تأجيل تدمير الأسلحة الكيميائية السورية خفف من بعض المخاوف الإسرائيلية الجادة. حتى أن قيادة الوطن في قوات الدفاع الإسرائيلية، المسؤولة عن الدفاع المدني، أوقفت إنتاج الأقنعة الواقية من الغاز. كما أقدمت إسرائيل أيضاً على رسم خطوطها الحمراء الخاصة من خلال تنفيذ الضربات الجوية ضد الأهداف العسكرية السورية، لمنع نقل الأسلحة الاستراتيجية (خاصة من سورية إلى حزب الله) والتصدي للتهديد الماثل في تدفق الصراع السوري إلى مرتفعات الجولان (ما تزال إسرائيل تحتل هذه المرتفعات منذ العام 1967، وقد ضمتها إليها في العام 1981)، أو إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. وكانت أحدث هذه الضربات قد نفذت في شباط (فبراير) وآذار (مارس) الماضيين.
لم تعد الجولان، التي خدمت كمنطقة فاصلة منذ الحرب في العام 1973، تفي بذلك الغرض: لم تعد قوات الأمم المتحدة فعالة، وهناك قتال يدور على مقربة منها. وبين الفينة والأخرى، تضرب قذائف المورتر والمدفعية إسرائيل وأهدافاً إسرائيلية، عن قصد أو عن غير قصد.
لكن السؤال هو: كيف يجب أن ترد إسرائيل. هل يجب عليها السماح للأمم المتحدة بتقوية تواجد قواتها في المنطقة، كما سبق وأن سمحت لمصر بتعزيز قواتها في سيناء؟ أم يتوجب عليها الرد على مصادر النيران والمخاطرة بالتالي بتصعيد خطير؟ أم أنه يتوجب عليها مساعدة أحد الأطراف أو الامتناع عن مساعدة الطرفين؟ وإذا قدمت مساعدة ما، فهل يتوجب عليها فعل ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى نحو سري أم علني؟ وثمة سؤال آخر: هل يتوجب على إسرائيل في تلك الحالة تزويد الأسلحة -نوع من المساعدة التي تعرفها جيداً- أم أن تقصر نفسها على تقديم المساعدة الإنسانية؟
من دون مناقشة استراتيجية مفتوحة، كانت إسرائيل منخرطة بفعالية في تقديم المساعدة الطبية في الجولان منذ شباط (فبراير) من العام 2013. وما يزال المساعدون الطبيون في قوات الدفاع الإسرائيلية يعالجون جرحى سوريين في المناطق الحدودية، حيث تم إنشاء مشفى ميداني لتلقي الأعداد المتنامية من الجرحى الذين حول البعض منهم إلى مسشفى في مدينة صفد. وثمة أكثر من 800 سوري تلقوا العلاج حتى الآن. كما أن العمليات الإنسانية تجري بمساعدة تنظيمات غير حكومية مختلفة.
مع تحول جنوبي الجولان ليكون ملاذاً استراتيجياً للتنظيمات الإسلامية الراديكالية، تتعرض إسرائيل راهناً لضغط متزايد للاختيار بين محاولة إعادة قولبة المنطقة والتأثير فيها بشكل كبير، أو الانتظار ورؤية ما يحمله المستقبل. ويظهر تحليل التصرفات الإسرائيلية حتى الآن أنه لم يتم التوصل إلى استنتاج بهذا الخصوص. والمعروف أن إسرائيل لا تساعد الثوار في داخل سورية أو خارجها، ما يشي بأنها تفضل استمرار بقاء نظام الأسد، مختارة العدو الذي تعرفه. ومع ذلك، فإن رغبة إسرائيل في تأمل فكرة التدخل الدولي وتوسيع عمليتها الإنسانية، قد تشير إلى تغيير يلوح في الأفق.
لقد حاولت إسرائيل جهدها حتى الآن إبقاء نفسها بعيدة عن الشرق الأوسط، وعن الصراع السوري على وجه التحديد. ويعكس هذا الموقف، الذي يحظى بدعم شعبي في إسرائيل، موقف الولايات المتحدة. وفي العام 2013، قالت الولايات المتحدة لسورية إنها تجاوزت خطاً أحمر باستخدامها الأسلحة الكيميائية وهددتها بعمل عسكري ضدها، لكنها تخلت عن هذه الفكرة وتحولت إلى خيار 'القيادة من الخلف'. لكن آخرين مثل تركيا وقطر وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، اتخذوا موقفاً أكثر فعالية من خلال دعم عناصر مختلفة من المعارضة الإسلامية.
من جهتها، استجابت التنظيمات غير الحكومية الإسرائيلية مثل 'فلاينغ إيد' و'يداً بيد مع الشعب السوري' بطريقة مختلفة. فكانت هذه المنظمات هي أول من يدرك الحاجة إلى بناء علاقة مع السوريين، وقادت عدداً من نشاطات الدعم الإنساني في الأردن وتركيا وفي داخل سورية نفسها، مع تركيز على إيصال الغذاء والإمدادات الطبية. وقد تم حتى الآن إيصال نحو 1300 طن من المساعدات. وجعلت هذه المبادرات من الممكن للمجموعات الإسرائيلية والسورية العمل سوية للمرة الأولى، وجهاراً في بعض الأحيان. ولسوء الطالع، لم تقدم المؤسسة الإسرائيلية على محاكاة هذه العمليات المدنية.
في الأثناء، تبقى إسرائيل أسيرة دفاعها الخاص -ورؤيتها المستندة إلى الأمن، ولم تبدع في الانخراط الدبلوماسي أبداً- خاصة في الشهور القليلة الماضية بينما كان كامل الجسم الدبلوماسي الإسرائيلي ينفذ إضراباً. ومع ذلك، يبقى من الممكن أن تسمح المبادرات الدبلوماسية والإنسانية لإسرائيل بلعب دور بناء وكسب حلفاء جدد للمستقبل. ومن الممكن أن يثبت الـ800 جريح سوري الذين عولجوا في إسرائيل في العام الماضي أنهم أفضل سفراء.
(*) باحث مشارك في مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية في جامعة تل أبيب. وأساف هازاني، عضو في منتدى الفكر الإقليمي.
نشرت هذه القراءة تحت عنوان: SYRIAN CRISIS POSES DILEMMAS FOR ISRAEL: Choosing not to choose