مقالات » زيارات المطران الحاج المتكررة إلى الأراضي المحتلة: دلالاتها وارتباطاتها بالتهافت الخليجي على التطبيع

د. علي أكرم زعيتر

 

يحاول عدد من الصحافيين والكتاب أن يقللوا من أهمية اللقاء الذي جمع عدداً من المطارنة والأساقفة الموارنة وعلى رأسهم المطران اللبناني موسى الحاج بالرئيس الصهيوني إسحق هرتسوغ، معزين الأمر إلى اجتهاد شخصي حدا بالمطران الحاج إلى تتويج جرائم تطبيعه بلقاء الرئيس العبري. فيما الحقيقة تقول، إن خطوة المطران الحاج ليست اجتهاداً شخصياً كما يحاول هؤلاء إيهامنا. بل إن للأمر أبعاداً عميقة مرتبطة بمسألتين:

 

1_الوعي الجماعي الماروني الذي أعيد تشكيله مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين، على يد الإرساليات والبعثات التبشيرية الغربية.
2_السياسة التي انتهجها البطاركة الموارنة منذ قرون، والقائمة على مبدأ التبعية السياسية والدينية للغرب، وهو أمر قد نتسامح به في ما خص الشق الديني، باعتبار الكنيسة المارونية جزءاً لا يتجزأ من الكنيسة الكاثوليكية الغربية (روما/الفاتيكان)، بيد أننا نجد صعوبة بالغة في تقبل الشق السياسي منه، باعتبار أن الكنيسة ذاتها تؤمن بمبدأ فصل الدين عن الدولة، وذلك بخلاف الإسلام الذي لا يجيز فصل السياسة عن الدين، انطلاقاً ممَّا جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية: ”سياستنا عين ديانتنا“.

وبالرغم من كل المبررات التي أطلقها المطارنة والخورانة والأساقفة المجتمعين بهرتسوغ، في بيانهم المسهب الذي وزع على وسائل الإعلام، والذي دعوا فيه إلى وقف المجازر بحق أهل غزة، فإن أحداً من المسيحيين الشرفاء في لبنان وفلسطين وسورية والأردن وسائر الوطن العربي، لم يقتنع بما جاء في ورقة المسوغات تلك، ذلك أنها ليست المرة الأولى التي تقدم فيها الكنيسة المارونية في عهد البطريرك الحالي بشارة الراعي على خطوة من هذا النوع.
 ففي العام ٢٠١٤ أقدم البطريرك الراعي نفسه على زيارة الأراضي المحتلة في سابقة وصفها كثيرون من أهل الإعلام والسياسة بالخطيرة التي ستؤسس لمرحلة ما بعد التطبيع.

ويبدو أن ما خشيه كثير من هؤلاء بات اليوم حقيقة واقعة، فما ارعوى الراعي عن فعله عام ٢٠١٤ لم يرعوِ تلميذه النجيب (المطران الحاج) عنه عام ٢٠٢٣. آنذاك أعلن الراعي عن عزمه على زيارة الأراضي المحتلة لدواعٍ رعوية دينية، دون أن يلتقي بأي من المسؤولين الإسرائيليين، أو حتى أن يحظى بمواكبة أمنية إسرائيلية. بينما لم يجد المطران الحاج حرجاً في أيٍّ من ذلك.

ليس معلوماً حتى الساعة كيف سمح الحاج لنفسه بلقاء مسؤول إسرائيلي بهذا المستوى، علماً أنه يحمل جواز سفر بلد (لبنان) لا يقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، ويجرم التعامل معه بأي شكل من الأشكال، حتى ولو كان لقاءً عرضياً، فما بالك بلقاء معد له سلفاً ومع شخصية رفيعة بمستوى هرتسوغ.
 لا نعلم ما ستكون ردة فعل الكنيسة المارونية أو ما ستكون عليه مبرراتها هذه المرة، ولكن مما لا شك فيه أنه لن يكون بمقدورها إقناع أحد بمبرراتها، حتى أولئك الذين اعتادوا على مداهنتها والتطبيل لها عند كل كبيرة وصغيرة.
 إن زيارة المطران الحاج ومن قبلها البطريرك الراعي إلى الأراضي المحتلة مرفوضة بتاتاً، ولكن كان بمقدور الحاج من باب ”أضعف الإيمان“ أن ينحو منحى سلفه الراعي، وأن ينأى بنفسه عن لقاء هرتسوغ أو التقاط صورة تذكارية معه.

إن إصرار المطران الحاج على التقيد ببروتوكولات الزيارة، يعني جملة من الأمور، أهمها:
أ_ أن الحاج لا يقيم وزناً للقانون اللبناني الذي يجرم التطبيع، فضلاً عن اللقاء بمسؤولين صهاينة.
بـ_ أن الكنيسة المارونية، لا تعتبر نفسها طرفاً في الصراع العربي الإسرائيلي، علماً أن الكثير من رعاياها العرب في الأراضي المحتلة كانوا وما زالوا يعانون من إرهاب وإجرام الاحتلال. وما قصف المستشفى المعمداني التابع للكنيسة الأرثوذكسية ومعه عدد من الكنائس في قطاع غزة، خلال المعركة الجارية، إلا دليل حي على عدم اكتراث الكنيسة المارونية لمصير المسيحيين الفلسطينيين .
جـ_أن جرأة المطران الحاج، على استباحة المحرمات، متأتية بالضرورة من الدعم والتشجيع المعنوي والنفسي الذي يتلقاه من رأس الكنيسة (البطريرك الراعي).
  ولعل ما توانى عنه البطريرك السابق بطرس صفير طوال فترة سِيامَتِه، لم يتردد الراعي عن فعله، ما ينم عن حقيقة باتت جلية، مفادها: إن الراعي يحاول استغلال موجة التطبيع التي تشهدها المنطقة، وجرأة عدد من الأنظمة الخليجية على إقامة علاقات طبيعية مع كيان الاحتلال ليمرر مشاريعه وأحلامه، ويحقق ما عجز أسلافه عن تحقيقه.
د_ أن مشروع ”الوطن القومي الماروني“ الذي نادى به بعض أقطاب المارونية السياسية مطلع القرن العشرين، عقب توقيع اتفاقية سايكس بيكو، ووضعِها موضع التنفيذ، وما نجم عن ذلك من تقسيم الوطن العربي إلى كيانات مستقلة، عاد إلى الواجهة من جديد، ولكن بلبوس مغاير هذه المرة، بعدما خِلنا لعقود خلتْ أنه ذهب إلى غير رجعة.

يبدو أن القوى الانعزالية اللبنانية، والتي طالما حلمت بفصل لبنان عن محيطه العربي، وقطع كل صلاته بالقضية المركزية للعرب (فلسطين)، قد تنفست الصعداء مؤخراً، بعد تهافت الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية على اللحاق بركب التطبيع، فخالت هذه القوى على حين غرة، أن الفرصة مؤاتية لتدلي بدلوها مع الدلاء. وما الهفوات وزلات اللسان التي نسمعها بين الفينة والأخرى من هنا وهناك، إلا ترجمة عملية لحالة الثقة والأمل التي تعيشها تلك القوى. فهل تندرج خطوة المطران الحاج الأخيرة، وتصريحات البطريرك الراعي حول الحياد ضمن هذا الإطار؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مصادفة محدودة الأثر، لا ينبغي أن نلقي لها بالاً؟

بكلمة واحدة نقول، لا، ليست مجرد صدفة. إن ما وراء الأكمة أدهى وأنكى. أي نعم، نحن لا ندعي أن البطريركية المارونية منخرطة في المؤامرة التي يجري الإعداد لها، والتي اصطلح على تسميتها بصفقة القرن، كما لا ندعي بأنها تلِغ مع الوالغين في وعاء (الديانة الإبراهيمية) التي وُضِع حجر أساسها في الإمارات، ولكن يبدو أن هناك داخل غرف بكركي المغلقة من دغدغته أحلام اليقظة، فبدأ يغني على ليلاه، على وقع موسيقى التطبيع،  ظناً منه أن بمقدوره أن يعيد إحياء المشروع الماروني الانعزالي.

من غير المنطقي أن يتعامل إعلامنا مع سقطة المطران الحاج وكأن شيئاً لم يكن، بذريعة أن التطرق لشخصية دينية بهذا المستوى قد يشعل فتيل أزمة طائفية في البلد.
 صحيح، أن ما أقدم عليه المطران الحاج، لا يمكن تحميل وزره للموارنة مجتمعين، نظراً لأن بين أبناء هذه الطائفة الكريمة أفراداً وأقطاباً كثر رافضون لمفهوم الانعزالية، ومتصالحون مع فكرة الانتماء للأرومة العربية، وغيورون على أبناء أمتهم الذي يسقطون على مذبح المقاومة والفداء في غزة، ولكن بالمجمل لا يمكن أن ننكر أن الوعي الجماعي الماروني ما زال مثقلاً بتلاوين الانعزالية والتنصل من المسؤوليات الملقاة على عاتق أبناء الأمة أو بالحد الأدنى على الناطقين بالعربية.
  إن أزمة الانتماء التي يعيشها بعض مسيحيي الشرق مردها بالدرجة الأولى إلى عبث الاستعمار في عقول نخبوييهم قبل مئة عام، وإلى تبعية بعض أقطابهم وقادتهم الروحيين والسياسيين للغرب في أيامنا المعاصرة. فحتام تبقى ربقة المسيحيين بيد هؤلاء المأجورين والمرتهنين للغرب؟ ومتى يحين موعد خروج السواد الأعظم من المسيحيين الوطنيين عن صمتهم؟

على شباب المسيحيين، لا سيما الموارنة منهم، أن يعوا أنهم جزء لا يتجزأ من هذه الأمة، وأنهم مسؤولون على غرار المسلمين عن الوقوف إلى جانب أهل غزة، وعليه فإن مقتضى الشعور بالانتماء والإحساس بالمسؤولية يحتم عليهم استنكار وإدانة ما أقدم عليه المطران الحاج وسواه من الأساقفة والمطارنة.
  إن أملنا معقود على هؤلاء، لأنهم الحلقة الفاصلة التي ستضع حداً لتاريخ طويل من التغريد خارج السرب. وتعيد الأمور إلى نصابها، فتصل ما ينبغي وصله، وتقطع ما ينبغي قطعه. فلا يبقى عذر للنخبويين ولا لرجال الدين الذين لا يزالون يستقون مواقفهم وآراءهم ممَّا خلفه رجال الاستشراق وأدوات الاستعمار.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية