كينيث بولاك
معهد Brookings ـ 18 كانون الثاني، 2012
مع كل ما يجري من الأمور المثيرة للقلق في الشرق الأوسط، فإن من الصعب تتبع كل شيء يبدو سائراً بشكل خاطئ. إذ لم تكد الحرب الأهلية الليبية تنتهي حتى اندلعت أخرى في سوريا. ويبدو العراق مصمماً على اتباع خط جيرانه السوريين وربما تخطيهم. ولا تزال مصر تخوض نزاعاً متعدد الجوانب بين الجيش، والإسلاميين، والليبراليين العلمانيين. كما أن هناك اضطرابات من المستوى المنخفض، إنما المتنامي، قد بدأت بالبروز في السعودية.
وسط كل هذا، فإن الموضع الوحيد الذي سارت فيه الولايات المتحدة قدماً بحزم وتصميم – أو ربما تم جرها إليه من قبل الكونغرس وحلفائنا الأوروبيين – هو فرض ضغوط أكبر على إيران من أي وقت مضى. لكن إذا كان تقدم إدارة أوباما إلى الأمام واضحاً كفاية عندما يتعلق الأمر بسياستها تجاه إيران، فإن مصير هذا التقدم غير واضح. فالعقوبات ضد إيران ستنجح بشروطها الخاصة في الوقت الذي ستنتج عنها عواقب مؤسفة، إن لم يكن غير مقصودة.
لقد جاءت آخر صلية ضد إيران قبل بضعة أسابيع، عندما وقع الرئيس أوباما على قانون 'المخصصات الدفاعية'، الذي انطوى على عقوبات صارمة وحشية جديدة تمنع المعاملات مع البنك المركزي الإيراني ( CBI)، أو أية جهة تتعامل مع هذا البنك. إن أهمية هذه العقوبات هي أن منع التعاملات مع البنك المركزي الإيراني سيحرم إيران من عقود مبيعات النفط الطويلة الأجل. فإذا لم يكن هناك من بلد مستعد للتعامل مع البنك المركزي الإيراني، فستكون إيران مجبرة على بيع نفطها إما لبلدان وشركات مستعدة لطرح مسألة العقوبات الأميركية جانباً فقط، أو الاعتماد على مبيعات السوق الاعتباطي للحصول على المال نقداً – طريقة غير فعالة للغاية ستخفض العائدات النفطية الإيرانية بشكل كبير إلى حوالي الثلث – وبما أن إيران تعتمد بشدة على العائدات النفطية، فإن هذا الأمر يمكن أن يكون له وقع كبير على الاقتصاد الإيراني.
سيبدو هذا الأمر الآن شيئاً جيداً، أليس كذلك؟ ربما، وربما لا. لقد أظهر النظام الإيراني، بالتأكيد، عدم ميله التام لوقف برنامجه النووي (عدا التخلي عنه) في وجه العقوبات السابقة، التي لها تأثير جدي الآن على الاقتصاد الإيراني. إن الأمل بملاحقة عائدات النفط الإيرانية بهذا الأسلوب قد يفرض ضغطاً كبيراً جداً على الاقتصاد الإيراني، متسبباً بتضخم هائل وحتى بانهيار اقتصادي، بحيث لن يكون لدى النظام أي خيار ما عدا المساومة والقبول بالمطالب الدولية ذات الصلة ببرنامجه النووي.
إن المشكلة، ربما، هي أن هذه العقوبات مدمرة إلى درجة بحيث إنها يمكن أن تأتي بنتائج عكسية، ما يخلق ثلاث مجموعات من النتائج على الأقل، نتائج ستترك الولايات المتحدة بوضع أسوأ مما هو الحال عليه اليوم، مهما يكن التأثير على إيران.
النتيجة العكسية الأولى: التأثير على الاقتصاد الإيراني
إحدى الأمور الهامة والمثيرة المتعلقة بملاحقة صادرات النفط الإيرانية بهذا الأسلوب هو أن من المرجح أن تؤذي اقتصاد إيران واقتصادنا في آن معاً. أما الرهان فهو أنه سيؤذي الاقتصاد الإيراني بشكل أقسى وأسرع من اقتصادنا. لقد تسببت العقوبات على البنك المركزي الإيراني بزيادة مفاجئة في التضخم وبهبوط في قيمة الريال الإيراني بالفعل بحيث إن الإيرانيين تسابقوا لبيع كميات كبيرة من أموالهم الموجودة بعملة الريال لصالح الدولار، والباوند، واليورو عملة صعبة يتوقع منها أن تحافظ على قيمتها بمرور الوقت وتكون أكثر سهولة في المتاجرة والمقايضة دولياً.
لكن من المحتمل أن يرفع الحد من الصادرات النفطية الإيرانية من أسعار النفط الدولية. إذ لا يزال هناك ركود ضئيل في القدرة الإنتاجية النفطية في العالم. وقال السعوديون إنهم سيعوضون أي هبوط بالنفط الإيراني عن طريق زيادة إنتاجهم، إنما يتساءل الكثير من المحللين عن قدرة الرياض على القيام بذلك تماماً أو لفترة مستدامة من الزمن. إضافة لذلك، كان هناك اضطرابات هامة، ولو أنها بمستوى منخفض الشدة، عبر السعودية – اضطرابات كافية لدفع الحكومة السعودية إلى الانغماس بإنفاق محلي ضخم لشراء حالة الشكاوى الشعبية. بالنتيجة، قد تكون الرياض مستعدة للتساهل إزاء زيادة الأسعار لدعم عائداتها النفطية هي أيضاً.
إن الحد الذي سيكون فيه النفط الإيراني خارج السوق، حقاً، بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا هو الذي سيزيد من أسعار النفط المتبقي. وإن الحد الذي سيأخذه النفط الإيراني ليجد طريقه للعودة إلى السوق بطرق مختلفة – طرق قانونية، الأسواق الاعتباطية، طرق غير شرعية، كالسوق السوداء – سيؤدي إلى قصور وكلفة نقل متزايدة ما سيؤدي بدوره إلى زيادة في الأسعار. أما التقديرات بشأن هذه القفزة في الأسعار فتختلف، لكن إحدى المصادر، على الأقل، عرضت زيادة تبلغ 20 دولاراً للبرميل، ما يعني زيادة 15 إلى 20 بالمئة تقريباً.
وفي حال فاتتك السنوات الأربعون الماضية من التاريخ الاقتصادي الأميركي، فاعلم أن ليس هناك من سلعة على الأرض تؤثر على الاقتصاد الأميركي بشكل أسرع أو أعمق من النفط. إن زيادة في الأسعار بنسبة 20 بالمئة ستنتهي بزيادة هامة جداً في أسعار البنزين الأميركي، مع تأثير مصاحب على الأسعار ( على سبيل المثال: التضخم) في الخارج. ويستحق الأمر الإشارة إلى أن كل ركود أميركي، عملياً، منذ الحرب العالمية الثانية كانت تسبقه زيادة في أسعار النفط. بالواقع، إن مشاكلنا الاقتصادية الحالية سبقتها زيادة أسعار النفط ثلاثة أضعاف ما بين عامي 2005 و 2007.
النتيجة العكسية الثانية: تآكل العقوبات
هناك عيب مميت محتمل في هذه العقوبات وهو أنها تزيد من سخونة الوضع مع إيران إلى درجة لا يمكن تحملها ديبلوماسياً، وهذه معضلة لأن العقوبات نادراً ما تعمل بسرعة. فالعقوبات، تاريخياً، تعمل بشكل بطيء جداً، وعندما تعمل فعلاً – ضد جنوب أفريقيا في الثمانينات أو ليبيا في التسعينات، على سبيل المثال – فإنها تنجح بسبب التصور الموجود بأنها ستصبح أسوأ فأسوأ بمرور الوقت. وللعقوبات سجل متواضع بما يتعلق بإحداث صدمة فجائية تستهدف الحكومات للسير في مسار معكوس، فإذا ما اعتقدت الحكومة بأن العقوبات ستتآكل بمرور الوقت، فإنها عادة ما تقاوم، وغالباً ما يصبح هذا كالنبوءة المتحققة ذاتياً.
ينبغي أن تكون تجربتنا مع العراق في التسعينات إنذاراً هاماً لنا حول ما قد يحدث مع إيران. ففي حالة العراق، فرضت الولايات المتحدة – والمجتمع الدولي بكامله، الذي تصرف برعاية مجلس الأمن الدولي – عقوبات صارمة ووحشية على العراق في العام 1991 مع نهاية حرب الخليج. لقد كانت العقوبات شديد وقاسية إلى حد كان من المتوقع عالمياً أن صدام حسين سيكون مجبراً على الإذعان لكل المطالب الدولية بغضون فترة لا تتعدى بضعة أشهر لأن لا أحد، ولا حتى صدام، سيسمح بأن يتضور شعبه من الجوع حتى الموت. لكن هذا كان ما فعله بالضبط. لقد رفض الإذعان بالكامل ( لم يتخل عن برامج أسلحة الدمار الشامل إلى ما بعد العام 2005، وطبعاً لقد رفض حتى عندها توضيح موقفه هذا في تصميمه الحامل في طياته هزيمة ذاتية لإقناع شعبه والإيرانيين بأنه قد استعاد قدرة أسلحة الدمار الشامل السرية لديه). وكما كان متوقعاً تماماً، ارتفع معدل التضخم في العراق، انهار الدينار، وأصبح الاقتصاد في حالة شبه ركود. لا أحد يعلم عدد العراقيين الذين ماتوا نتيجة العقوبات وتلاعب صدام بها، لكن 200000 يبدو تقديراً عادلاً.
إن موت الكثير جداً من الأبرياء لم يكن كارثة إنسانية فحسب. لقد قوض بشكل مباشر العقوبات ضد النظام، لأنه روَّع الناس عبر العالم. وبمرور الوقت، تحول الرأي العام الدولي، بشكل قاطع وحازم، ضد العقوبات العراقية بسبب ما كان يحدث للشعب العراقي. وأصبحت مسألة فرض العقوبات أمراً صعباً أكثر فأكثر على الولايات المتحدة، إلى درجة أنه بحلول العام 2000، كانت العقوبات تعاني من نزف وكان العراق يأخذ أكثر من مليار دولار ( والمبلغ يتزايد) بشكل مدفوعات غير شرعية.
إن العقوبات الصارمة والوحشية على إيران يمكن أن تتبع، وبشكل مماثل، مساراً مشابهاً. ففي المدى القصير، ستتسبب العقوبات بما لا يقبل الشك بضرر هائل للاقتصاد الإيراني، ومعه، للشعب الإيراني, كما حصل فعلاً. في كل الأحوال، لقد أظهر هذا النظام عدم ميل تاماً للسماح للضائقة الاقتصادية بالتأثير على نواياه النووية وهزها. بالواقع، من المهم أن نتذكر أن أولئك الذين يحكمون في طهران مختلفون جداً عن الجماعات الأكثر انقساماً التي أدارت البلد في الماضي. وسط ثورة 2009 الخضراء، قام المتشددون الإيرانيون بتطهير الحكومة من عناصرها الأكثر إعتدالاً، بحيث إن أولئك الذين يديرون النظام الإيراني اليوم هم أكثر تجانساً وأكثر تشدداً من أي وقت مضى، منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية. فهم يبدون مصممين على مقاومة كل الضغوط الدولية، إنهم غير مبالين، وهذا معروف، بمأزق الاقتصاد الإيراني ( كونهم تجاهلوا، عملياً، تأثير العقوبات الاقتصادية على امتداد عمر الجمهورية الإسلامية)، وقد أظهروا التصاقاً هائلاً ببرنامجهم النووي. وهذه كلها أمور تعرض إلى أنهم سيستمرون بالوقوف ثابتين، كما فعل صدام، وسط الخراب الاقتصادي.
بمرور الوقت، هناك أرجحية عالية لأن تأتي بلدان أخرى وتعتبر بؤس الشعب الإيراني خطأ تتحمل تبعاته الولايات المتحدة وليس القيادة الإيرانية، تماماً كما حدث مع صدام. وفي تلك المرحلة، قد نجد أن العقوبات القاسية والمفرطة مع إيران، كما كان الحال مع العراق، ستحمل في طياتها الهزيمة الذاتية وستفتت العقوبات الأكثر تدرجاً واعتدالاً في أماكن أخرى والتي قد تكون استمرت وتحتمل أرجحية أكبر بتحقيق هدفها.
النتيجة العكسية الثالثة: حرب غير مقصودة
من الصعب التغاضي عن الإشارات الصادرة عن إدارة أوباما عن أنها لا تفتش عن حرب مع إيران. لقد ظل مسؤولو الإدارة يرددون بإخلاص أن ' كل الخيارات على الطاولة' مع إيران، لكنهم يعددون لاحقاً، ومباشرة، الأسباب التي تجعل من الخيار العسكري خياراً فظيعاً. لقد أوضح الرئيس الأميركي نفسه أنه يريد تخفيض عدد الحروب التي تشنها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وليس زيادتها. لسوء الحظ، إن تحركات الإدارة باتجاه إيران قد تدفعنا للدخول في حرب تسعى هذه الإدارة إلى تجنبها.
من المهم محاولة رؤية العالم من المنظور الإيراني. فما يراه الإيرانيون هو حرب متفق عليها وغير معلنة تشن ضدها من قبل ائتلاف الولايات المتحدة، وإسرائيل، والسعودية، وبعض الدول الأوروبية. إن واقع عدم تنسيق كل هذه البلدان نشاطاتها مع بعضها بعضاً بالضرورة دوماً هو خسارة من دون شك لصالح القيادة الإيرانية. فهم واقعون تحت رحمة هجوم اليكتروني مثل فيروس 'ستاكسنت'. وأحدهم يقوم بقتل علمائهم النوويين في شوارع طهران ويفجر مواقع صواريخهم البعيدة المدى. لقد كثفت الولايات المتحدة والأوروبيون من اتصالاتهم مع المعارضة الإيرانية. ويعتقد الإيرانيون أن العناصر الخارجية تقوم باتصالات، أيضاً، مع جماعات منشقة كالأكراد، والبلوش، والعرب في خوزستان. وقد كثفت الولايات المتحدة من جهودها في مجال البث الإذاعي إلى داخل إيران لزعزعة سيطرة النظام على المعلومات. وتدعم واشنطن القدرات العسكرية لدول في مجلس التعاون الخليجي. فالسعوديون يمولون وكلاءهم لمحاربة وكلاء إيران من البحرين إلى لبنان وصولاً إلى العراق واليمن. ويقوم الأميركيون والأوروبيون بشن حرب اقتصادية بشكل عقوبات تتسبب بالشلل على نحو متزايد.
من وجهة نظر القيادة الإيرانية، سيكون من السهل رؤية هجوم شامل، غير معلن، وخفي ( إنما متعدد المحاور) متصاعد يشن ضدهم. ويبدو أن الإيرانيين يقاومون ويردون كيفما استطاعوا. وفي حين أن ليس لدي تأكيد مستقل على أن الإيرانيين حاولوا فعلاً قتل السفير السعودي في الولايات المتحدة في الخريف الماضي، يبدو أن المسؤولين الحكوميين الأميركيين على كل المستويات متأكدون، بشكل لافت، من أنهم قاموا بذلك، ويزعمون أن هذه المحاولة لم تكن سوى واحدة من عدة عمليات يعمل الإيرانيون على تطويرها. هذا الأمر منطقي للغاية بالتأكيد، نظراً إلى الحملة التي يراها الإيرانيون تشن ضدهم، بحيث إنهم سيردون الضربة بنفس الأسلوب تماماً - ملاحقة رمز من رموز العلاقة الأميركية ـ السعودية، والقيام بذلك في العاصمة الأميركية انتقاماً للاغتيالات الجارية في صفوفهم.
علاوة على ذلك، يبدو من غير المرجح أن يكون هذا المجهود هو الأخير بهذا الصدد. أما تهديداتهم بإغلاق مضيق هرمز فليست جدية ـ إنهم يعرفون تمام المعرفة أن القيام بذلك سيكون له نتائج عكسية فظيعة على قضيتهم ـ لكن ذلك كان، من دون شك، مجهوداً للتسبب بالذعر في سوق النفط، ما يرفع الأسعار، الأمر الذي يساعدهم ويؤذينا. لقد كانت محاولة على صعيد الحرب الاقتصادية من جانبهم. علينا توقع المزيد.
إن المشكلة الكبيرة هي أنه في مرحلة ما قد ينجح الإيرانيون في إحدى مناوراتهم الانتقامية. تصوروا كيف يمكن للشعب الأميركي أن يتفاعل ويرد لو أنهم نجحوا في تفجير مطعم في قلب واشنطن، وقتلوا وجرحوا العشرات. بالطبع، سيعتبر الأميركيون ذلك بمثابة هجوم غير مبرر وسيكون هناك على الأرجح صرخات عامة تطالب بالثأر والدم. باختصار، كلما زدنا من سخونة الوضع مع إيران، كلما قاومت إيران أكثر، والطريقة التي يحب هؤلاء الرد بها يمكن أن تقود، وبسهولة، إلى تصعيد غير مقصود.
لا شك بأن الحرب ستترك إيران في وضع أسوأ بكثير جداً من وضعنا. لكنها ستكون مؤلمة لنا نحن أيضاً، وقد تطول أكثر بكثير مما يريد بعضنا لأن هذه هي طبيعة الحروب، خاصة الحروب التي تشمل هذا النظام الإيراني. وبالتالي، إذا ما استمررنا بسلوك هذا الطريق نزولاً، فالأفضل لنا أن نكون مستعدين للسير به حتى النهاية. وإذا لم نكن نطيق هضم إمكانية هكذا تصعيد، فإن علينا إعادة درس مسارنا الحالي.