جون.هـ. ماكين ( باحث مقيم في AEI)
( American Enterprise Institascii117te for Pascii117blic Policy Research ـ AEI)
كانون أول، 2011
إشتدت أزمة الديون السيادية الأوروبية وتزايدت بسرعة على مدى الشهر الماضي. وكانت الأزمة قد تمحورت، حتى أواخر تشرين الأول، حول مشكلة مزمنة مرتبطة الى حد كبير بالفشل بجعل مالية اليونان مستقرة. منذ ذلك الحين، والأزمة تنتشر بسرعة لتصل الى إيطاليا، إسبانيا، وفي الآونة الأخيرة، الى فرنسا. تكافح أوروبا اليوم أزمة ديون منهجية ودقيقة تهدد النظام المالي العالمي واقتصاده. تشكل هذه الأزمة التي تزداد سوءاً أكبر تهديد للاقتصاد الأميركي ونظامه المالي.
إن الجهود الفاشلة بجعل اقتصاد اليونان مستقراً، الذي انتهى باجتماع دراماتيكي آخر للقادة الأوروبيين دام طوال الليل في أواخر تشرين الأول، قدم المادة المحفزة لانتشار أزمة الديون السيادية الأوروبية واشتدادها. فالإجراءات المحددة والخاصة التي طُرحت، والتي سأقوم بتفصيلها في هذا الاستشراف، أكدت، عن غير قصد، على الطبيعة المنهجية لأزمة أوروبا. فما إن تبين نطاق الموارد والإجراءات المطلوبة لاحتواء أزمة اليونان، حتى أصبح واضحاً وبشكل مؤلم، كما أشارت مجلة الـ ' إيكونومست' في عددها الصادر في 29 تشرين الأول، أن وزارات الخزانة الأوروبية لا تملك الموارد الكافية والمناسبة، ' لضمان الديون غير المسددة بعد والحفاظ على تصنيفاتها الائتمانية الخاصة معاً.' بمعنى آخر، كلما التزمت فرنسا وألمانيا أكثر بإقراض البلدان الأوروبية الأكثر ضعفاً كاليونان، إيطاليا، وإسبانيا، كلما أصبحتا ذواتيْ جدارة ائتمانية أقل. إن تدهور الجدارة الائتمانية لفرنسا عززته أساساً كلفة استقراضها في الأسابيع الأخيرة وجعلها تنضم الى أولئك المؤيدين لشراء البنك المركزي الأوروبي ( ECB) لعدد أكبر من السندات الحكومية.
النقاط الأساس لهذا الاستشراف:
&bascii117ll; تشكل أزمة الدين الأوروبية التي تزداد سوءاً بسرعة - المحتومة بسبب اعتقاد خاطئ بأن الحكومات السيادية لا تتخلف عن الدفع – أكبر تهديد للاقتصاد الأميركي ونظامه المالي.
&bascii117ll; أوروبا عالقة في دائرة مفرغة حيث الأزمة المالية المشتدة تؤدي الى إبطاء النمو ورفع كلفة الاقتراض، ما يفاقم الأزمة.
&bascii117ll; أمام أوروبا ثلاث خيارات كريهة: (1) اقتراض كمية أكبر من الأموال من الخارج؛ (2) جعل البنك المركزي الأوروبي ( ECB) يشتري عدداً أكبر من السندات الحكومية؛ (3) السماح للإتحاد النقدي الأوروبي بالانهيار. في النهاية، سيكون البنك المركزي الأوروبي مجبراً على مضاعفة الميزانية العمومية ثلاثة أضعاف.
اليونان كمادة محفزة للأزمة الأوروبية
بدأت تتكشف تفاصيل عرض تشرين الأول لإنقاذ اليونان والتي عملت كمحفز على اشتداد أزمة الديون الأوروبية بشكل حاد. إن ' صندوق الاستقرار المالي الأوروبي' ( ESFS) الذي اتفق عليه المجتمع الأوروبي مؤقتاً في تموز كان ليكون في صميم الخطة الأوروبية المعدة لتمكين دول أطراف منطقة اليورو الأصغر حجماً، كاليونان، من التدحرج والتجدد وخدمة ديونها.
تم تأسيس 'صندوق الاستقرار المالي الأوروبي' ( ESFS) بمبلغ 440 مليار يورو، إلا أن الموارد الفعلية المتوفرة في الصندوق لدعم اليونان ودول مستدينة أخرى موجودة على أطراف منطقة اليورو تحولت لتصبح موارد أقل بشكل لا بأس به بسبب الالتزامات الموجودة تجاه البرتغال، اليونان، وإيرلندا والحاجة المحتملة لإعادة رسملة البنوك التي تمسك بقسم كبير من الديون السيادية موضع التساؤل لدى الحكومات الأوروبية. أبعد من ذلك، كانت البلدان المساهمة الرئيسة التي اصطفت لضمان تمويل صندوق ESFS هي إيطاليا، إسبانيا، فرنسا وألمانيا. وهذا يعني أنه إذا ما كانت إيطاليا، إسبانيا، أو فرنسا، على سبيل المثال، ستعتمد على دعم صندوق ESFS، فإنها ستكون في الواقع تضمن سداد زيادة في ديونها الخاصة. فإقراض نفسها ليس أمراً مطمئناً للدائنين.
بإمكان ألمانيا، فقط، تدبر الزيادة الضرورية المطلوبة في الإقتراض المطلوب لزيادة موارد صندوق ESFS، بشكل بارز، عند نسبة فائدة جذابة أقل من نسبة السوق المفتوح المتوفر لمعظم المستقرضين السياديين. كما أن موارد ألمانيا، في الوقت الذي تعتبر فيه جوهرية وحقيقية، فإنها ليست من غير حدود.
أدى عدم تناسب وكفاية تمويل صندوق (ESFS) الى جهود ' رفع' قدرته الإقراضية. نظراً لأن حوالي 200 مليار يورو من أصل 440 مليار يورو في موارد صندوق (ESFS) متوفرة لضمان الدائنين في مقابل تغطية 20 بالمئة من خسائرهم الأولى في سندات الخزينة. البعض زعم أن بالإمكان ' رفع' صندوق (ESFS) لضمان تريليون يورو في شكل دين جديد. هذا المنطق شابه خلل لأن جزءاً من حزمة الإنقاذ المقترحة لليونان تضمنت شطب 50 بالمئة من ديون اليونان المعلقة. ذلك الكشف المقلق جعل الأسواق تركز على تمويل الحاجات خارج اليونان. فإسبانيا وإيطاليا وحدهما بحاجة الى أكثر من تريليون يورو على مدى السنوات الثلاث المقبلة لدفع الفائدة المترتبة والتدحرج فوق الدين الموجود. تلك الدولتان ـ المفترض بهما التصرف كضامنتين للقدرة الإقراضية المعززة لصندوق (ESFS) – ستكونان بحاجة للاستقراض أكثر بشكل أساس لتمويل عجز الموازنات المستمر على امتداد نفس الفترة الزمنية. لقد ساهمت دائرية هذا المنطق بشعور الأزمة في أوروبا.إن مشكلة تمويل العجز المستقبلي تطرح ' معضلة المشروطية'. ففي ظل هذه المعضلة، أصرت ألمانيا وحتى وقت قريب، وفرنسا- المقرضان الموثوقان الوحيدان لآلية نقل أوروبية داخلية كصندوق (ESFS) ـ على أن وجود صرامة مالية إضافية في شكل إنفاق حكومى أدنى وفرض ضرائب أعلى ينبغي أن يكون أمراً مطلوباً بالنسبة لأية حكومة تتلقى قروضاً من حكومات أوروبية أخرى. ويصر صندوق النقد الدولي (IMF) ، الذي غالباً ما يساهم بجهود إقراض من هذا النوع، على نفس 'المشروطية'.
بالرغم من أن الأمر قابل للفهم من وجهة نظر المقرض، فإن المشروطية تحمل في طياتها هزيمة ذاتية بحالات عديدة. لقد أضرت نتيجتها، النمو الأبطأ والدين الأكبر، بالثقة، المتجلية بوضوح على مدى الثمانية عشر شهراً الماضية في اليونان. لقد تلقى ذلك البلد حزمة مساعدات في الربع الثاني من العام 2010 مقابل التزامه بالقيام باقتطاعات جذرية في برامج الحكومة في الوقت الذي يزيد فيه من جمع الضرائب. وفي حين كان الأمر ضرورياً كجزء من تحرك متوسط الأجل بإتجاه العافية المالية، فإن اقتطاع النفقات الجذري وزيادة الضرائب المفروضة على اليونان انتهيا بعجز موازنة متواصل ومستمركهذا بالإضافة الى هبوط حاد في النمو المالي اليوناني بحيث إن نسبة ديونه الحكومية إزاء الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفعت بحدة رداً على هذه الشروط. بالواقع، إن محاولة تحسين الجدارة الائتمانية اليونانية قد أضرت بها فعلاً.
هذه النتيجة، الأسوأ بشكل لا بأس به، مما كان قد تنبأ به مهندسو الكفالات اليونانية في العام 2010، ألزمت اليونان بالسعي الى حزمة مساعدات ثانية وأكبر في منتصف العام 2011 التي، وبرغم دراما اجتماعات أواخر تشرين الأول، كان لا يزال ينبغي إتمامها. لقد عجل الانهيار الاقتصادي في اليونان منذ أواسط عام 2010، الى جانب الصرامة الإضافية المطالبة بها اليونان كشرط لأخذ القروض الإضافية التي تم التفاوض حولها في العام 2011، بانهيار الحكومة اليونانية في تشرين الثاني 2011. والآن، تحاول حكومة تكنوقراط مؤقتة التفاوض على الشروط التي ستمكنها من الحصول على حزمة إنقاذ لليونان.
إن المجهود المستمر لاحتواء أزمة 2011 في اليونان، البلد الأوروبي الصغير نسبياً، أدى الى طرح قضايا أخرى عجلت في بروز أزمة ديون أوروبية حادة ومنهجية خلال الأسابيع الأولى القليلة من شهر تشرين الثاني. لقد تضمن مصطلح حزمة إنقاذ اليونان التخفيض 'التطوعي' بنسبة 50 بالمئة من قيمة السندات اليونانية التي يمسك بها دائنوه، ومن بينهم مصارف تجارية أوروبية والبنك المركزي الأوروبي. إن اقتطاعاً بنسبة 50 بالمئة من قيمة السندات اليونانية يشكل تخلفاً بالدفع. فإذا ما فُرض هذا التخفيض التطوعي على الدائنين الذين اشتروا التأمين على سنداتهم اليونانية، فإن بالإمكان التعويض عن خسائر هؤلاء المقرضين من قبل بائعي ذلك التأمين. (واسطة نقل التأمين تدعى مقايضة الائتمان الافتراضية). في كل الأحوال، وكما اكتشف مهندسو حزمة الإنقاذ اليونانية، فإنه إذا ما قبل الدائن بشطب تطوعي لسند حكومي مؤمن عليه، الذي بيع ربما من قبل فعالية مالية مفرطة (استخدام ائتمان أو قرض وذلك لتحسين قدرة الشخص على المضاربة وزيادة نسبة المردود من الاستثمار) الذي قد لا تكون قادرة على الوفاء به (فكر ملياً بـ AIG بعد انهيار Bear Sterns)، فصاحب السند لن يكون بحاجة لتعويض الخسارة عليه.
ذكَّر الشطب المقترح على ديون اليونان أولئك الذين اشتروا التأمين على السندات الإيطالية، الإسبانية، والفرنسية بأن الضمانات قد لا تكون صالحة، إما بمرسوم وإما في ضوء عجز أولئك الذين كتبوا سياسات التأمين على الوفاء بها. نتيجة لذلك، بدأ دائنو إيطاليا، إسبانيا وفرنسا بالمطالبة بنسب فائدة أعلى على قروضهم لتلك البلدان. وكانت النتيجة احتمالية متزايدة بتباطؤ تلك الاقتصادات في الوقت الذي ارتفعت فيه خدمة الدين أكثر بسبب الحاجة الى دفع نسب فائدة أعلى على القروض الحالية والمستقبلية.
لقد ذكَّرت مسألة شطب الديون السيادية كجزء من الحزمة اليونانية المقترحة الأسواق بأنه يمكن للحكومات السيادية أن تتخلف عن الدفع، أو على الأقل أن تسدد بأقل، بنسبة هامة، من القيمة الظاهرية (القيمة الاسمية) للدين الجاري تنفيذه في ميزانيتها العمومية. بالنسبة لليونان، كانت هذه الوسيلة مطلوبة كطريقة لتخفيض الدين المعلق ولحث اليونان على قبول الصرامة المالية الإضافية التي طالب بها دائنوه. في كل الأحوال، أصبح الدائنون معرضين لشطب قيمة مطالباتهم نتيجة لحجم الدين اليوناني المعلق والزيادة المرتقبة فيه.
كجزء من الضغط الذي طبقوه لإجبار اليونان على قبول حزمة الإنقاذ في تشرين أول/ أكتوبر 2011، سألت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي، بحدة، الحكومة اليونانية المتعثرة ما إذا كانت تريد البقاء في الإتحاد الأوروبي. لقد كان تأثير هذا الضغط على الأسواق، نظراً للتوكيد السابق من قبل هذين القائدين بأن أي خروج من الوحدة النقدية الأوروبية أمر ' لا يمكن التفكير به' و' مستحيلا'، هو أنه ذكرها بأن تفكك مناطق العملة الأوروبية أمر ممكن في الواقع. وبشكل أكثر تحديداً، إذا ما كان اليونان سيلجأ الى التخلف اللا قانوني عن دفع الدين، معجلاً بذلك من خسائر الدين اللا إرادية لدائنيه، أو ترك الوحدة النقدية تماماً بكل بساطة، يمكن لمرحلة الأزمة الحادة أن تنتشر بسرعة الى باقي أوروبا.
في الوقت الذي اشتدت فيه الأزمة خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر، خلقت المخاوف المتزايدة التي لا يمكن احتواؤها إضافة الى فرص شطب الدين مخاطر انتقال العدوى ما عزز بحدة العائدات على السندات الإيطالية في أواسط تشرين الثاني، برغم عمليات الشراء المتزايدة للبنك المركزي الأوروبي للسندات الإيطالية. وارتفعت نسب الفائدة على السندات الإيطالية لمدة عشر سنوات من 6 الى أكثر من 7 بالمئة، مقارنة بعائدات تقدر بـ 1.7 بالمئة على السندات الألمانية لعشر سنوات. فإذا كانت الوحدة النقدية الأوروبية موثوقة، فإن هكذا ' هوامش' ما بين نسب الفائدة الإيطالية والألمانية ينبغي أن تكون قريبة من الصفر بما أن كلاً من السندات الإيطالية والألمانية تهيمن عليها عملة اليورو ويفترض بالبنك المركزي الأوروبي معاملتها كبدائل ممتازة. وفي حين اشتدت العدوى وبرزت أزمة منهجية حادة بناء على الاحتمالية المتزايدة بحصول انهيار في الوحدة النقدية الأوروبية، ارتفعت العائدات، بشكل أساس وحقيقي، على كل السندات الحكومية الأوروبية ما عدا السندات الألمانية، وحتى أن عائدات ألمانيا بدأت بالارتفاع بشكل طفيف. وارتفعت عائدات السندات الفرنسية لمدة عشر سنوات أكثر من نقطتين مئويتين فوق العائدات الألمانية بعدما كانت أقل بنقطة مئوية فوق العائدات الألمانية على مدى السنوات العديدة الأخيرة.
الأزمة الحقيقية تكمن داخل مصارف أوروبا
تزامن ارتفاع نسب الفائدة على السندات الإيطالية، الفرنسية والإسبانية مع هبوط في قيمة السوق لما قيمته بلايين الدولارات لتلك السندات التي تمسك بها، والى حد كبير، أُسر أوروبية ومصارف أوروبية رأسمالها ضئيل. نتيجة لذلك، هبطت أسعار أسهم المصارف الأوروبية بشكل حاد، في الوقت الذي إرتفعت فيه كلفة الإقراض والاستقراض في سوق الإنتربنك (فيما بين المصارف) بين ليلة وضحاها بشكل حاد. إن الالتباس المتصاعد بخصوص السيولة والإيفائية (القدرة على إيفاء جميع الديون) لدى مصارف أوروبا أدى الى بطء النمو في قسم كبير من أوروبا، بما فيه ألمانيا، ما يزيد من صعوبة إدارة أعباء الدين المتنامي فحسب. أبعد من ذلك، وبما أنه سيُطلب من الحكومات الأوروبية شطب خسائرها بواسطة مصارفها، فقد أدت المخاوف بشأن السيولة البنكية الى رفع كلفة الاقتراض الحكومي.
إن المصارف الأوروبية بحاجة لإعادة الرسملة لتجديد احتياطياتها التي توفر مساحة للمناورة لاستيعاب الخسائر في السندات الحكومية. إن الأسعار الهابطة لأسهمها وضعف الميزانية العمومية يعني أن هذه الحكومات كان عليها الاعتماد على موارد صندوق الاستقرار المالي الأوروبي (ESFS) للمساعدة على زيادة التمويل لإعادة رسملة المصارف، لكن تلك الموارد كانت بالفعل أكثر من مستهلكة لتوفير التمويل لحكومات سيادية أكثر ضعفاً كاليونان والبرتغال.
خلال تشرين الثاني، أدركت الأسواق متأخرة، بعدما حاولت تنظيم حزمة إنقاذ ثانية لليونان، بأن قوة الاستقراض الكافية غير موجودة في أوساط الحكومات السيادية الأوروبية الموثوق بها – ما يعني ألمانيا – لضمان ديون الحكومات السيادية الأوروبية الأقل موثوقية، التي تشمل الآن إيطاليا، إسبانيا، وفرنسا. إن بطء النمو الأوروبي وارتفاع كلفة الفائدة خارج ألمانيا أدى الى خلق ردود فعل ( آلية تغذية استرجاعية ) غير مستقرة بشكل دراماتيكي حيث تؤدي أزمة مالية شديدة الى إبطاء النمو ورفع كلفة الاستقراض، ما يجعل الأزمة المالية تشتد أكثر.
لدى أوروبا ثلاثة بدائل، ليس من بينها واحدة جذابة جداً، نظراً للأزمة المالية المشتدة بشكل سريع التي تواجهها: (1) استقراض مقدار أكبر من المال من خارج أوروبا، (2) جعل البنك المركزي الأوروبي، بصفته الملاذ الأخير المقرض، يشتري عدداً أكبر من سندات الحكومة، أو (3)السماح، وببساطة، لاتحاد النقد الأوروبي بالانهيار. وفي ظل حصول انهيار، فإما أن تعود الدول الى عملاتها الوطنية ما قبل الإتحاد أو تنضم الى مناطق نقدية جديدة أصغر حجماً. واعتاد البعض على التفكير بأن الإتحاد الحالي قد ينقسم الى جزأَين، تاركاً اتحادين نقديين، شمالياً ( العملة 'الصعبة') وجنوبياً ( العملة ' الناعمة'). لكن الضغوط المنهجية تنامت بسرعة منذ فشل إنقاذ اليونان بحيث أن مجموعة العملة الصعبة ستشمل الآن ألمانيا فقط، وربما فنلندا وهولندا، إذا ما تمكنت تلك البلدان الثلاثة من الإتفاق على ترتيب نقدي واحد. علاوة على ذلك، إن عملة أوروبية صعبة واحدة سيرتفع ثمنها بسرعة وتخلق مشاكل للمصدرين الذين يشتغلون في منطقة العملة الصعبة، بما فيها ألمانيا، أكبر دولة مصدرة في العالم. من غير الواضح ما إذا كانت بلدان العملة الناعمة ستكون قادرة على تشكيل اتحاد نقدي أو ستكون متحمسة لذلك، نظراً لخبرتها مع الاتحاد الموجود.
إن الآمال المعقودة على تمكن صندوق الاستقرار المالي الأوروبي (ESFS) من الاستقراض من الخارج لدعم حزمة الإنقاذ اليونانية قد تم تعويمها أثناء جهود الإنقاذ الفاشلة في تشرين أول. إذ اقترح البعض أن الصين، وربما دولاً آسيوية أخرى، ستكون مستعدة لإقراض أوروبا مع صندوق النقد الدولي العامل كضامن أو قناة للتمويل. وبشكل كان متوقعاً، تعثرت هذه الآمال باعتبار أن الحالة البائسة لمالية الاتحاد الأوروبي قد أصبحت أكثر وضوحاً لقادة الصين البراغماتيين، القلقين أصلاً بشأن الانكشاف أمام بلدان غربية مثقلة بالديون بشدة.
أما الخيار المتبقي، إقامة ملاذ أخير كمقرض مع البنك المركزي الأوروبي (ECB) كمشترٍ مؤكد لا شك فيه لسندات الحكومة، فأمر مثير للجدل وفيه خطورة لسبب وجيه. فالبنك المركزي الأوروبي قد سبق واشترى، وفق تقديرات مختلفة، سندات حكومية تقدر بحوالي 200 مليار يورو من بلدان كاليونان، إيطاليا، وإسبانيا، بعضها فقد قيمته. وسيكون البنك المركزي الأوروبي معرضاً لخسائر أخرى في تلك السندات إذا ما تخلفت الحكومات عن السداد أو إنهار الإتحاد النقدي. علاوة على ذلك، إن البنك المركزي الأوروبي يخفض، بشرائه السندات، الحوافز لجهة قيام الحكومات المثقلة بالديون بكبح النفقات وزيادة الضرائب كشرط لتلقي القروض. فالبنك المركزي الأوروبي ، بالتحديد، كان يمسك عن إقراض إيطاليا حيث إن حكومتها التكنوقراطية برئاسة ماريو مونتي تحاول فرض إصلاح مالي على المواطنين الإيطاليين المترددين.
عن طريق تنقيد الديون الأوربية الإضافية، يخاطر البنك المركزي الأوروبي، بالطبع، بحصول تضخم أكبر، لعنة بالنسبة للحكومة الألمانية والبنك المركزي، الذي يحتل رئيسه رئاسة مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي. وقد رفضت كل من أنجيلا ميركل ورئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي، علناً، الدور المرسوم للبنك المركزي الأوروبي كمقرض الملاذ الأخير. وقد تقوَّض موقفهما بشكل طفيف بسبب واقع شراء البنك المركزي الأوروبي سابقاً حوالي 200 مليار من الديون الأوروبية وقد يكون سينكشف أكثر بسبب الكميات الإضافية للديون الحكومية الأوروبية التي يمسك بها كضمانات ملازمة للقروض لمصارف أوروبية.
إذا لم يلعب البنك المركزي الأوروبي دور المقرض كملاذ أخير، فمن الصعب أن نرى كيف سيتماسك الإتحاد النقدي الأوروبي معاً. إن المؤيدين للإتحاد سيرون انهياره بمثابة ضربة وكارثة خطيرة لمجتمع أوروبي قابل للحياة، مجتمع ذي أهداف مشتركة وهيمنة ألمانية صامتة تخلق تجانساً كان غائباً في قسم كبير من النصف الأول من القرن الماضي. سيكون على الأوروبيين في النهاية أن يأخذوا بالاعتبار هذا البعد السياسي الهام للإتحاد النقدي.
إن الإتحاد النقدي الأوروبي، كما هو عليه، قد ولد اقتراضاً مفرطاً من قبل معظم البلدان الأوروبية، التي لن تكون قادرة، في ظل الظروف الحالية ربما، على إعادة سداد ديونها بالكامل. إن إدامة نظام العملة الواحدة الحالي الموجود في أوروبا يتطلب، وببساطة، مكابدة الكثير من آلام التعديل، تحويل أقاليمي كبير جداً للأموال من ألمانيا الى أعضاء أضعف في الإتحاد النقدي الأوروبي، ومخاطرة كبيرة جداً بالنسبة للمصارف الأوروبية ونظيراتها في الولايات المتحدة وأماكن أخرى كي تكون قابلة للحياة اقتصادياً أو سياسياً. إن وضع ألمانيا داخل منطقة نقدية مع اليونان، إيطاليا، وإسبانيا، من بين دول أخرى لم يحوِّل تلك الاقتصادات وينقلها الى اقتصادات واعية للتكلفة وفاعلة وكفوءة كاقتصاد ألمانيا. بالواقع، إن إعارتهم قدرة ألمانيا على الاستقراض كما فعل الإتحاد النقدي جعلهم أقل تنافسية بسبب الإعانة على زيادة الاستهلاك الناتج عن إمكانية الوصول الى التسليف السهل المتولد من العضوية في الإتحاد النقدي الأوروبي.
البنك المركزي الأوروبي سينتقل الى التخفيف الكمي
إن الأزمة المالية التي انفجرت في العام 2008 في الولايات المتحدة وعاودت الظهور في العام 2010-2011 في أوروبا كانت بدافع معتقديْن خاطئيْن. فحسب مفهوم أن أسعار المنازل لا تهبط أبداً قررت مسبقاً الفقاعة المالية الأميركية. والجزم بأن الحكومات السيادية لا تتخلف عن الدفع حتمت الأزمة المالية الأوروبية. ومع هاتيْن التفاهتيْن المثبت عدم صحتهما في فترة زمنية تجاوزت العامين بقليل، يترنح النظام المالي العالمي على شفير خيار ما بين الانهيار ومحاولة إنعاش عدائية. وكان الخيار الأخير، التخفيف الكمي، قد ابتدأه ' الاحتياطي الفدرالي الأميركي،' الذي عزز الميزانية العمومية حوالي 200 بالمئة منذ العام 2008 من دون الإمساك بالكامل بالأزمة في الولايات المتحدة. لقد عزز البنك المركزي الأوروبي ميزانيته العمومية بنسبة الـ 80 بالمئة الفاترة نسبياً في الوقت الذي تتصاعد فيه الأزمة أكثر وتنتشر في أوروبا.
نظراً للمخاطر العالمية المرتبطة بالانهيار الكامل للنظام المالي الأوروبي، فإن البنك المركزي الأوروبي سيكون مجبراً في النهاية، ربما، على مضاعفة موازنته العمومية ثلاثة أضعاف كما فعل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. ويبدو من غير المرجح أن يكون البنك المركزي الأوروبي العنيد مستعداً للمخاطرة بانهيار مالي منهجي سوف يشتمل على تدمير الإتحاد النقدي الذي كان مسؤولاً عن الحفاظ عليه. نقول، إن الأخطاء ترتكب في الأزمات. قد يكون البنك المركزي الأوروبي متأخراً جداً في إدارة ما يعتبره دواءً تضخمياً مريراً. وإذا ما حصل هذا الأمر، سنرى نتيجة مؤلمة لدواء انكماشي أكثر إيلاماً حتى.