بقلم جورج فريدمان/ Strategic Forecasting ـ 25 تشرين أول، 2011في أسبوع إستمرت فيه الأزمة الأوروبية بالتعاظم، إختار البيت الأبيض، علناً، التركيز على إعلان يتعلق بإتهاء الحروب. لقد قيل بأن موت معمر القذافي علامة على نهاية الحرب في ليبيا، وسادت الإثارة بشأن ليبيا ديمقراطية جديدة. أما بخصوص العراق، فقد حول البيت الأبيض رفض الحكومة العراقية بالسماح للجنود الأميركيين بالبقاء إلى قرار من قبل واشنطن بدلاً من الرفض العراقي.
بالرغم أنه كان هناك في الحالين شعور مطابق لشعور &qascii117ot; المهمة أنجزت&qascii117ot;، فإن المسألة لم تكن واضحة تماماً. فالإنسحاب من العراق يخلق تعقيدات إستراتيجية هائلة بدلاً من إغلاق هذا الملف. في حين أن التعقيدات في ليبيا حقيقية لكنها بالكاد تكون إستراتيجية، الحدثان يتقاسمان خصائص معينة وهما مفيدان.
ليبيا ما بعد القذافي
دعونا نبدأ مع الحدث الأدنى أهمية، موت القذافي. فبعد سبعة أشهر من تدخل الناتو، تم قتل القذافي. والبارز أن هذا الأمر أخذ وقتاً طويلاً كي يحدث، نظراً لأن التدخل إشتمل على ما هو أكثر بكثير من الضربات الجوية، بما في ذلك عمليات القوات الخاصة على الأرض لتحديد الأهداف للضربات الجوية، تدريب جنود ليبيين، إدارة الخدمات اللوجستية، الإشراف على الإتصالات والتخطيط وكذلك تنظيم وقيادة المتمردين الليبيين في المعركة أحياناً.
ربما نتج طول المدة الزمنية هذه من إستراتيجية مصمَّمة للتقليل من حجم الضحايا الى أدنى حد ممكن على حساب إطالة الحرب. بدلاً من ذلك، وحيث أن الحرب لزمها سبعة أشهر لتحقيق هذا الهدف، فإن الأمر قد يعكس مدى إنقسام المتمردين، رداءة التدريب وعدم الكفاءة. مهما كان السبب، فإن السؤال يالذي يتبقى هو ما الذي يعتقده الناتو بأنهى قد أنجزه بموت القذافي، بالقدر الذي قد يعتبر فيه موته مرضياً.
إن المجلس الإنتقالي الوطني ( NTC)، المنظمة - المظلة التي صِيغت ووُضعت لإحتواء المتمردين، ليس في موقع حكم ليبيا بواسطة أية إيديولوجية، هذا عدا عن حكمها من خلال ديمقراطية دستورية. فالقذافي والداعمين له حكموا ليبيا مدة 42 عاماً؛ فالوحيدون في المجلس الإنتقالي الوطني الذين لديهم أي نوع من الخبرة مع الحكومة كانوا قد إكتسبوا تلك الخبرة أثناء عملهم كوزراء أو مسؤوولين بمستوى أدنى في حكومة القذافي. قد يكون البعض غيروا ولاءهم من حيث المبدأ، لكني أشك بأن يتمكن معظم الذين إنشقوا من إنقاذ أنفسهم. وفي حين أبرزت وسائل الإعلام عدداً من هؤلاء الوزراء السابقين على أنهم معارضين للقذافي، فإن كل واحد منهم ممن خدموه وعملوا معه يعتبر متواطئاً معه في جرائمه.
هؤلاء الأفراد هم الأقل حظاً بجلب الإصلاح إلى ليبيا والأكثر حظاً بتشكيل الأساس لدولة جديدة، بصفتهم الليبيين الوحيدين الذين يعرفون ما الذي يعنيه الحكم. حول هؤلاء هناك طائفة من القبائل تعيش بعدائية وبعلاقات توتر فيما بينها بدرجات مختلفة وهناك إسلاميون متطرفون لا يُعلم عددهم ولا قدراتهم، لكن يمكن الإفتراض بأن لديهم إمكانية الوصول إلى أسلحة. من الأسلم أن نفترض بأن عدداً من تلك الأسلحة، من مختلف أنواع الفتك والقتل، ستكون في السوق السوداء في المنطقة في وقت قصير، وقد تكون كذلك الآن.
لم يحكم القذافي ليبيا 42 عاماً من دون دعم حقيقي وأساسي، كما يوحي عناد أولئك الذين خاضوا الحرب نيابة عنه. ( بالإمكان وصف جيش دفاع سرت بأنهم متعصبون فعلاً.)
القذافي مات، لكن جميع الداعمين له لم يموتوا. هناك عناصر أخرى داخل البلد ممن قد لا يكونوا من الداعمين له لكنهم ليسوا أقل إهتماماً بمقاومة الذين يحاولون الآن تحمل مسؤولية الحكم – وإن مقاومة أي شخص ينظر إليه على أنه مدعوم من قبل قوى غربية. وكما الحال مع إحتلال بغداد في العام 2003، فإن ما لم يكن متوقعاً – لكن لم يكن ينبغي توقعه – هو أن جماعات متنوعة سوف تقاوم القادة الجدد وتشن حرب عصابات.
لقد تم إعلام بغداد بأنه ينبغي عليها تحمل القوة الساحقة بأية عملية غزو بحيث يتم التخلص من كل المعارضة. وإلا، فإن المعارضين للإحتلال – إلى جانب عناصر من الأهالي تحمل الضغينة لآخرين مثلهم – قادرون تماماً على خلق الفوضى. عندما ننظر الى قائمة أعضاء المجلس الإنتقالي الوطني ونحاول تصورهم وهم يتعاونون مع بعضهم البعض نأخذ بالإعتبار عدداً من الداعمين للقذافي الأشرار الآن والذين ليس لديهم الكثير ليخسروه، فالطريق الى ديمقراطية دستورية مستقرة تعمل إما من خلال إحتلال الناتو ( غير الرسمي طبعاً) أو من خلال فترة من الفوضى الشديدة. إن المسار الأرجح المنتظر أمامنا هو وجود للناتو يكون كافياً لإغضاب الليبيين لكنه غير كاف لتخويفهم.
وليبيا ليست بلداً إستراتيجياً. فهي ليست كبيرة بعدد سكانها ولا محورية جيوسياسياً. إنه بلد يملك النفط، كما يحب الجميع الإشارة لذلك، وهذا ما يجعله بلداً جذاباً. لكن من غير الواضح أن يكون وجود النفط هو ما سيزيد الميل نحو الإستقرار. عندما نعود لنلقي نظرة على العراق، بلد غني بالنفط، نرى بأن النفط قد أصبح، وببساطة، قضية جدلية في كوكبة من القضايا الجدلية.
درس بغداد
بخصوص ليبيا، يتملكني شعور حول بغداد في نيسان عام 2003. إن إعلان الرئيس باراك أوباما عن إنسحاب أميركي كامل من العراق يعطينا شعوراً حول بما هو موجود في نهاية نفق مكافحة التمرد. ينبغي الفهم بأن أوباما لم يرد إنسحاباً كاملاً. فقبل بضعة أسابيع فقط من الإعلان، كان أوباما يفتش عن طرق لإبقاء بعض الجنود الأميركيين في المنطقة الكردية من العراق. لقد ذهب وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا الى العراق وهو يريد إتفاقاً يتيح له إشتراط توفير عدد أساسي من الجنود الأميركيين في العراق ما بعد الموعد النهائي المحدد للإنسحاب في 31 كانون الأول.
وفي حين يبدو بأن الفكرة قد جذبت البعض في العراق فعلاً، فإنها فشلت في النهاية. وهذا لأن هيكلية صنع القرار لدى الحكومة العراقية التي برزت من الإحتلال الأميركي والحرب هي بنية حكومية مجزأة جداً بحيث أنها أخفقت حتى بوضع قانون حول الهايدرو كاربون، مسألة حاسمة وخطيرة بالنسبة لمستقبل العراق. لذا فإنها لم تكن في موقع التوصل إلى إجماع عام، أو حتى أكثرية بسيطة، حول السؤال المتعلق بوجود مستمر لقوات أجنبية على أرض العراق. كثير من العراقيين يريدون وجوداً أميركياً، تحديداً أولئك القلقين على مصيرهم ما أن ترحل الولايات المتحدة عن العراق، كالأكراد والسنة. أما النقطة الأهم فليست أن العراقيين قد قرروا بأنهم لا يريدون جنوداً أميركيين على أرضهم؛ وإنما أن الحكومة العراقية كانت متنافرة للغاية لتتوصل إلى أي قرار في نهاية المطاف.
إن البعد الإستراتيجي لهذا الأمر هائل. فالإيرانيون كانوا ينمون نفوذهم في العراق قبل العام 2003. لم ينموا قوة كافية للسيطرة على العراق كلياً. فهناك أناس كثيرون جداً في العراق، حتى من بين الشيعة، ممن يرتابون بالقوة الإيرانية. مع ذلك، للإيرانيين نفوذ حقيقي – ليس كافياً لفرض سياسات إنما كاف للوقوف سداً وعائقاً أما أية سياسة يعارضونها بقوة. إن للإيرانيين مصلحة أمنية وطنية أساسية في وجود عراق ضعيف وفي إنسحاب القوات الأميركية، ولديهم نفوذ كاف في بغداد لضمان بقاء المطالب الأميركية مرفوضة.
إن قياس النفوذ الإيراني في العراق ليس بالأمر السهل. فقسم كبير من هذا النفوذ مؤلف من التأثير والعلاقات الغير مرئية أو التي لا يتم إستخدامها إلا في القضايا الملحة. وقد طورت الولايات المتحدة أيضاً شبكة علاقات في العراق، كما فعل السعوديون ذلك. لكن الولايات المتحدة ليست جيدة، تحديداً، بتنمية داعمين لها موثوقين من القاعدة الشعبية. أما الإيرانيين فقد قاموا بعمل أفضل لأنهم على دراية أكبر بالمنطقة والأرض ولأن ثمن خيانة الإيرانيين أعلى بكثير من ذاك المفروض من قبل الولايات المتحدة. هذا يعطي الإيرانيين منصة أكثر إستقراراً للإنطلاق بالعمل منها. وفي حين حاول السعوديون الحصول على تلك المنصة بالطريقتين وذلك بالسعي للحفاظ على النفوذ من دون توليد شعور معاد للسعوديين، كان الموقف الإيراني أكثر صراحة، رغم أنه كان بطريقة معقدة و مخادعة.
دعونا ندرس ما هو الرهان هنا: إيران لديها نفوذ كاف لتشكيل بعض السياسات العراقية. ومع الإنسحاب الأميركي، سيكون على حلفاء أميركا تكييف أنفسهم مع كل من إيران والداعمين لها في الحكومة لأن ليس هناك من خيارات أخرى كثيرة أمامهم. وبذلك، فإن الإنسحاب لا يخلق توازن قوى؛ إنه يخلق ديناميكية يتزايد بها النفوذ الإيراني إذا ما أرادوا ذلك – وبالتأكيد هم يريدون. بمرور الوقت، فإن إحتمال حاجة العراق للتكيف مع المصالح الإستراتيجية الإيرانية أمر أكثر ترجيحاً. فإحتمال أن يصبح العراق دمية بيد إيران أمر لا يمكن إستبعاده. وإن لهذا الأمر ، خصوصاً، عواقب إقليمية واسعة نظراً لسوريا.
دور سوريا
تأمَّل بالتفاوت الليبي مع سوريا. فعلى إمتداد الأشهر الماضية، فشلت المعارضة السورية تماماً بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. إن عدداً من التقارير الواردة حول سوريا أصلها من عناصرمعادية للأسد خارج سوريا الذين يرسمون صورة عن الإنهيار الوشيك للنظام. هذا، وببساطة، لم يحدث، لأن السبب، في جزء منه، يعود إلى كون جيش الأسد مخلص له ومنظم جيداً. ولأن المعارضة ضعيفة وبائسة التنظيم. قد يكون لدى المعارضة دعم واسع، لكن المشاعر لا تهزم الدبابة. فتماماً كما كان القذافي على حافة الإنتصار عندما تدخل الناتو، لا يبدو النظام السوري قريباً من الإنهيار. من الصعب أن نتصور تدخل الناتو في بلد يحُد تركيا، العراق، الأردن، إسرائيل، ولبنان نظراً للمخاطرة الحقيقية بخلق فوضى إقليمية. في المقابل، كان القذافي معزولاً سياسياً وجغرافياً.
كانت سوريا قريبة من إيران قبل الثورة. وكانت إيران الداعم الأكبر للنظام السوري. فإذا ما نجا الأسد من هذه الأزمة، فإن إستعداده للتعاون مع إيران سيشتد فحسب. أما في لبنان، فإن حزب الله يعتبر قوة كبرى – جماعة دعمها الإيرانيون لعقود. لذا، وإذا ما إنتهى الإنسحاب الأميركي من العراق بنفوذ إيراني حقيقي في العراق، ولم يسقط الأسد، عندها فإن توازن القوى في المنطقة سوف يتحول تماماً.
هذا الأمر سيؤدي إلى بروز قوس مجاور متلامس من النفوذ الإيراني الممتد من الخليج الفارسي وصولاً الى البحر المتوسط على طول الحدود الشمالية للعربية السعودية وعلى طول الحدود الجنوبية لتركيا. كما سيؤثر النفوذ الإيراني على الحدود الشمالية لإسرائيل مباشرة ولأول مرة أيضاً. أما ما الذي سيفعله السعوديون، الأتراك والإسرائيليون بخصوص ذلك فأمر غير واضح بعد. كيف سيستغل الإيرانيون موقعهم أمر غير واضح أيضاً. فعلى عكس صيتهم المعروف، هم حذرون جداً في عملياتهم العلنية، حتى ولو كانوا يخاطرون في عملياتهم السرية. إن الإنتشار العسكري الكامل من خلال هذه المنطقة أمر غير مرجح لأسباب لوجستية، إن لم يكن لأسباب أخرى. مع ذلك، إن إمكانية القيام بإنتشار كهذا، وواقع وجود نفوذ سياسي فعال بشكل متزايد بصرف النظر عن التحرك العسكري أمر هام إستراتيجياً. إن سقوط الأسد سيخلق مانعاً لنار النفوذ الإيراني، رغم أنه سيؤدي إلى صعود نظام أصولي سني.
النقطة هنا، بالطبع، هي أن القرار بالإنسحاب من العراق والعجز عن إقناع الحكومة العراقية بترك القوات الأميركية تبقى في البلد يحمل في طياته إمكانية تبدل توازن القوى في المنطقة. فبدلاً من إغلاق الملف حول العراق، فإن ذلك يفتح، وببساطة، فصلاً جديداً بما كان يعتبر، دائماً، الفكرة المفهومة ضمناً للعراق، تحديداً القوة الإيرانية. فالحرب الأهلية التي أعقبت سقوط صدام حسين كان لها أبعاداً عديدة، إنما أهم أبعادها، إستراتيجياً، كانت المبارزة بين الولايات المتحدة وإيران. وتأمل إدارة أوباما بأن تتمكن من الحفاظ على نفوذ أميركي في العراق من دون وجود الجيوش الأميركية. ونظراً لأن النفوذ الأميركي بوجود الجيش كان دوماً مقيداً، تعتبر هذه النظرية مريحة فتفترضها واشنطن، برغم أنها نظرية مشكوك بها.
الأزمة الليبية ليست في منطقة عالية الرهانات، لكن درس العراق درس مفيد. فتدخل الناتو أسس المسرح لمعركة بين الجماعات الغير متوافقة فيما بينها بسهولة والتي أدى عدائها للقذافي ومن ثم موارد الناتو إلى جعلها تتماسك مع بعضها البعض. فإذا ما رحل الناتو سينجم عن ذلك فوضى، ببساطة. إذا ما قدم الناتو مساعدات، سيكون على أحدهم حماية عمال المساعدات. إذا ما أرسل الناتو جنوداً، سيقوم أحدهم بمهاجمتهم، وعندما سيدافعون عن أنفسهم، فإنهم سيقتلون أبرياء. هذه هي طبيعة الحرب. إن فكرة الحرب النظيفة فكرة خيالية. ليس الأمر هو أن الحرب ضرورية أحياناً، وإنما أن الحرب التي تكون وهمية هي دوماً مؤذية. كانت الحرب في العراق حرباً وهمية من نواحي عديدة، وربما لا شيئ يدل على ذلك أكثر من الأسلوب الذي تركت فيه الولايات المتحدة العراق. هذا الأمر يتم تكراره في ليبيا، بالرغم من أن الرهانات هناك أصغر حجماً.
في الوقت الحالي، سوف يزداد نفوذ إيران في العراق، والآن السؤال هو سوريا.
إن حرباً أخرى للناتو في سوريا أمر غير مرجح وسيكون له عواقب لا يمكن التكهن بها. أما بقاء الأسد فسيؤدي الى خلق ميدان نفوذ إيراني غير مسبوق، في حين أن سقوط الأسد سيفتح الباب لأنظمة يمكن أن تثير تدخلاً إسرائيلياً.
كانت الحرب العالمية الثانية حرباً لطيفة من حيث أنها قدمت نهاية نظيفة – إلا إذا كنت تعتبر، بالطبع، أن الحرب الباردة والخوف من حرب نووية وشيكة قد خلفتها مباشرة.
نادراً ما تنتهي الحروب بشكل نظيف، إنما تنتهي بوجود دمل متقيحة أو تؤسس المسرح للحرب المقبلة. يمكننا رؤية ذلك بوضوح في العراق. إن التهاني العالمية بموت معمر القذافي تعتبر مشؤومة بالقدر الذي تعتبر فيه كل إحتفالات النصر كذلك، لأنها تتجاهل السؤال الخطير والحاسم: ماذا الآن؟