ميرفت عوف
أقر البرلمان التركي في 21 يناير (كانون ثاني) الماضي مشروع تعديل دستوري، ونشرت الجريدة الرسمية التركية في 11 فبراير (شباط) الماضي. القانون الذي تتيح تعديلاته الدستورية التحول إلى النظام الرئاسي.
يبدو اتفاق جميع الأحزاب التركية على ضرورة تغيير الدستور الحالي الساري منذ الثمانينيات، وفي الواقع وصلت معركة التأييد والمعارضة لهذه التعديلات إلى الدول الغربية عندما قرر المسؤولون الأتراك الذهاب هناك لإقامة فعاليات دعائية داعمة للتعديلات أمام حشود الجالية التركية، فقد سبب قرار بعض الدول الأوروبية بحظر النشاطات التركية أزمة تبديها التصريحات الحادة بين هذه الأطراف.
التعديلات الدستورية التركية
قررت السلطات التركية إجراء استفتاء شعبي في 16 أبريل (نيسان) المقبل لاعتماد تعديلات دستورية، في حالة موافقة أكثر من 50% من الناخبين عليها ستصبح هذه التعديلات الدستورية نافذة، وستدخل حيّز التنفيذ بعد الانتخابات العامة التي سيتم إجراؤها في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2019.
ويعد من أبرز التعديلات المطروحة التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وهو نظام يمكن الرئيس التركي من تعيين كبار مسؤولي الدولة بمن فيهم الوزراء مباشرة، كما يحق للرئيس التدخل في القضاء التركي والحفاظ على صلاته الحزبية، وتقر هذه التعديلات إقامة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معًا في يوم واحد كل خمس سنوات، إضافة إلى رفع عدد المقاعد في البرلمان التركي من 550 مقعدًا إلى 600 مقعد، وتخفيض سن الترشح للبرلمان من 25 عامًا إلى 18 عامًا، وتتيح التعديلات لأردوغان البقاء رئيسًا لتركيا بصلاحيات واسعة حتى عام 2029، بحيث يحق له أن يبقى في منصبه لولايتين رئاسيتين كحد أقصى أي حتى عام 2029 وليس عام 2024 كما هو الآن.
وبينما يؤكد الرئيس التركي على أن هذه التعديلات ستعمل على تغيير نظام الحكم في تركيا بحيث يصبح شبيهًا لنظام الحكم الرئاسي في فرنسا والولايات المتحدة، ويحذر من أن التصويت ضد تلك التعديلات من شأنه أن يقوّي أعداء تركيا بمن فيهم جماعة حزب العمال الكردستاني، يؤكد معارضو التعديلات الدستورية أن هذه الخطوة بمثابة تمهيد لحكم استبدادي من قبل أردوغان وقد ترقى إلى استيلائه على مقاليد الحكم في تركيا، معتبرين أن إقرار هذه الإصلاحات سيقضي على أي فرصة لتحقيق حياد منصب الرئيس، وتزيد من تضييق الخناق على البلاد، وترفع من نسبة الفساد وتدفع السياسة الخارجية نحو مزيد من الانهيار.
ويرى الكاتب التركي «إسماعيل ياشا» أن: «الجبهة المعارضة للتعديلات الدستورية تقوم دعايتها على أسس مختلفة، أبرزها القول بأن الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي سيؤدي إلى الدكتاتورية»، مضيفًا: «بدأت هذه الدعاية تتحول في الأيام الأخيرة إلى القول بأن التعديلات الدستورية ستقضي على الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك وستقيم على أنقاضها سلطنة جديدة على غرار السلطنة العثمانية.»
أسباب حظر الدعاية التركية
في محاولتهم لحث الأتراك على تأييد الاستفتاء المقبل، أدرك المسؤولون الأتراك أهمية التوجه نحو مخاطبة مواطنيهم في الخارج، فكانت البداية نحو ألمانيا، حيث الجالية التركية التي يعود تاريخ وجودها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي يبلغ عددها نحو ثلاثة ملايين شخص من بينهم 1.4 مليون شخص لهم حق التصويت في هذا الاستفتاء، و تذهب في الغالب أصواتها الانتخابية لصالح حزب العدالة والتنمية.
مع بدء هذه التحركات، توجه الأوروبيون نحو منع إجراء أي فعاليات للدعاية التركية لصالح التعديلات الدستورية، وكانت البداية من ألمانيا أيضًا حين أقرت السلطات هناك إلغاء فعاليتين انتخابيتين لوزير العدل «بكير بوزداغ» ووزير الاقتصاد «نهاد زيبكجي» التركيين، ثم رفضت النمسا مشاركة الرئيس التركي في فعالية هناك عبر «فيديو كونفرانس»، لتلحق بعد ذلك الحكومة الهولندية بركب ألمانيا والنمسا، عندما اعتبرت أن خطط إقامة تجمع سياسي بشأن التعديلات الدستورية التركية في مدينة روتردام بأنها «غير مرغوب فيها».
لم تتوان السلطات التركية عن اعتبار هذه الخطوات متنافية مع القيم الديمقراطية، ودليل على رفض الدول الأوروبية للتعديلات الدستورية في تركيا، وكما يقول الباحث في الشأن التركي سعيد الحاج إن هذا القرار: «يشير إلى هواجس ألمانية-أوروبية حول الأوضاع السياسية في تركيا ورغبة محتملة بالتأثير على نتيجة الاستفتاء الذي سيحول النظام السياسي فيها إلى رئاسي سيكون أقوى مرشحيه الرئيس الحالي أردوغان غير المحبوب في أوروبا».
ويرجع الباحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة «محمود الرنتيسي» التوترات السابقة إلى عدة أسباب من أهمها تصاعد التيار اليميني وتزايد الإسلاموفوبيا في أوروبا مع استدعاء التاريخ العثماني الإسلامي وإسقاطه على الواقع اليوم، ويضيف الرنتيسي لـ«ساسة بوست»: «من الأسباب المهمة أيضًا التقارب التركي الروسي الذي لا ترتاح له معظم الدول الأوروبية، إضافة لوجود دول أوروبية لا تنظر بإيجابية إلى تركيا تحت إدارة حزب العدالة والتنمية خاصة مع عدم خضوع تركيا للاتحاد في عدد من الملفات، ومن أهمها ملف منع تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا»، ويتابع: «كما أنه من تلك الأسباب عدم قبول تركيا لإيواء دول مثل ألمانيا لأعضاء من حزب العمال الكردستاني وترك الحرية لهم للعمل منها .
من جانبه، يعتبر الكاتب والمحلل السياسي «علاء فاروق» أن الهدف من حظر الدعاية على تركيا بخصوص الاستفتاء هو الضغط على نظام أردوغان، ليستجيب للمطالب السياسية الأوروبية وخاصة في الملفات الشائكة مثل ملف سوريا، وكذلك محاولة ابتزازه مقابل السماح لبلاده بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم فهي مماحكات سياسية لا أكثر ويتبناها بعض متطرفي أوروبا سواء من أحزاب أو مسؤولين وعلى رأسهم اليمين المتشدد في هولندا وبعض ساسة برلين، حسب فاروق، ويتابع القول لـ«ساسة بوست»: «الجالية التركية تشكل أكبر الجاليات في أوروبا ومن ثم فإن مشاركتها في استفتاء أبريل (نيسان) المنتظر ربما يكون نقطة فارقة في توسعة إصلاحات أردوغان من عدمه، لكن ربما هذه العنصرية الأوروبية والتي تتعارض مع أدنى حقوق الإنسان ستكسرها قوة وأنفة مضادة من قبل أردوغان».
يذكر أن العلاقات التركية الألمانية تعرضت لمنعطفات توتر في الفترة الأخيرة، فالبلدان وهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو) مرتا بسلسلة من الخلافات بعد محاولة الانقلاب التركي في يوليو (تموز) العام 2016، إذ اتهمت أنقرة السلطات الألمانية أكثر من مرة بإيواء متورطين في الانقلاب، وأيضًا إيواء أعضاء من حزب العمال الكردستاني.
كما تسببت حادثة اعتقال تركيا للصحفي الألماني من أصل تركي «دينيز يوجل»، الذي يعمل في صحيفة «دي فيلت» الألمانية في مشكلة بين البلدين، إذ اعتبرته تركيا «عضوًا في حزب العمال الكردستاني وعميلًا لألمانيا«.
التوتر على المدى المنظور
«يا ألمانيا لا علاقة لك بالديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد، وتصرفاتكم هذه لا تختلف عن ممارسات النازية«، هكذا عقب الرئيس التركي أردوغان على منع وزيري الاقتصاد والعدل التركيين من التحدث في فعاليات الدعاية التركية لصالح الدستور في ألمانيا، مضيفًا: «عندما أشاء أذهب إلى ألمانيا، وفي حال حاول أحدهم منعي حينها سأقيم الدنيا ولن أقعدها».
إذًًا، يظهر في هذا التصريح حدة تركية من حظر الدعاية الدستورية، فخلافًا لما قاله أردوغان، قال وزير الخارجية التركي «مولود جاويش أوغلو»: «إذا كنتم ترغبون في الحفاظ على علاقاتكم معنا عليكم أن تتعلموا كيف تتصرفون»، كما يظهر إصرار المسؤولين الأتراك على مواصلة عقد هذه التجمعات حتى موعد الاستفتاء، فقد قال وزير الاقتصاد التركي «نهاد زيبقجي» أنه سيتوجه إلى ألمانيا، وهو مستعد لـ«التنقل من مقهى إلى مقهى، ومن بيت إلى بيت«، فتركيا مصرة على اعتبار هذه المواقف تقويض لسيادة القانون في تركيا، وتهدف للحد من الفصل بين السلطات.
وردًا على الموقف التركي، جاءت التصريحات الأوروبية حادة أيضًا، إذ دعا المستشار النمساوي «كريستيان كيرن» لـ«فرض حظر يشمل الاتحاد الأوروبي كله على ظهور ساسة أتراك في حملات سياسية، لتفادي تعرض دول أعضاء مثل ألمانيا لضغوط من تركيا»، وطالبت وزارة الخارجية الألمانية تركيا بـ«بالتتوقف عن صب الزيت على النار».
ووسط التصريحات المضادة التي جاءت بنفس القوة، يتوقع أن يستمر التوتر في المدى المنظور، فـ«حالة التأزم والتوتر مرشحة للاستمرار في المدى المنظور، على الأقل حتى ظهور نتيجة الاستفتاء واتضاح المسار التركي المستقبلي، فإما أن يفكك الطرفان بعض الألغام في العلاقة البينية، وإما أن تتعمق الأزمة أكثر وهو السيناريو الأوفر حظًا وفق المعطيات الحالية»، كما يقول الباحث في الشأن التركي سعيد الحاج.
ولذلك يقرأ المختص بالشأن التركي «سمير العركي» خلال حديثه لـ«ساسة بوست» تأزمًا في الأمور على مستوى التصريحات، ويوضح: «الموقف الأوروبي يعكس رغبة أوروبية في بقاء الوضع على ما هو عليه لعل وعسى تعود الحكومات الائتلافية التركية يومًا ما بما تعنيه من توابع كارثية على الاقتصاد والسياسة والمجتمع»، ويتوقع العركي أن يأتي الموقف الأوروبي بنتائج عكسية تدفع مزيدًا من الأتراك إلى التصويت بنعم، ويضيف: «المفارقة أنه في الوقت الذي تم فيه إلغاء فعاليتي الوزيرين بكير بوزداغ ونهاد زيبكجي تم السماح لنائب حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال بإقامة فعالية معارضة للتعديلات في ألمانيا».