بدأ حبل المشنقة يضيق حول «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش) في سوريا والعراق وليبيا، بعد الهزائم التي لحقت به مؤخرًا من قبل ضربات التحالف الدولي والجيش العراقي، ما وضع حدًا لحلم تمدد «دولة الخلافة»، وهو ما يمثل ضربة موجعة للتنظيم في عام 2016.
لكن من جانب آخر، قد يقود هذا الانتصار آلاف المسلحين بالمناطق المشتعلة إلى العودة لبلدانهم التي هاجروا منها لنصرة تنظيماتهم المسلحة. وتأتي تونس في مقدمة الدول المُصَدرة للمسلحين الجهاديين نحو بؤر التوتر في العالم.
سجال في تونس حول عودة جهادييها
تشهد تونس خلال الفترة الأخيرة نقاشًا ساخنًا بين الأطياف السياسية والمجتمعية بشأن مصير الجهاديين العائدين من سوريا والعراق وليبيا، ولاسيما بعدما اشتد الضغط العسكري على المسلحين في تلك المناطق المشتعلة؛ ما قد يدفع الكثير منهم إلى العودة لأوطانهم.
وتقول الحكومة التونسية «إن عدد التونسيين الملتحقين ببؤر التوتر خارج البلاد، منذ سنة 2011، هو ثلاثة آلاف شخص، بينما يشير تقرير للأمم متحدة حول استخدام المرتزقة بأن العدد يصل إلى 5500 جهادي تونسي، فيما ترجح الاستخبارات الأمريكية أن يفوق العدد ستة آلاف مسلح تونسي بالبؤر المشتعلة، معظمهم انضم إلى «تنظيم الدولة» و«جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقًا التابعة للقاعدة).
وعاد منهم ـ حتى الآن ـ حوالي 800 جهادي، بينهم الموجود في السجن، ومن هو قيد الإقامة الجبرية، أو تحت المراقبة الأمنية اللصيقة، كما أعلن لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة التونسية، «إياد الدهماني».
وتختلف مكونات الحكومة التونسية، مختلفة المشارب، في التعاطي مع ملف الجهاديين العائدين؛ ففي حين تطالب «حركة النهضة» باستقبالهم واحتضانهم تحت مسمى «التوبة»، تعارضها الأحزاب السياسية الأخرى، وتعتبر ذلك خطرًا أمنيًا يحدق بالبلاد.
وسبق لرئيس حركة النهضة التونسية، «راشد الغنوشي،» أن صرح قائلًا: إن «اللحم إذا بار (فسد)، فعَليْه بأهله. نحن لا نستطيع أن نفرض على الدول الأخرى الجهاديين التونسيين»، في إحالة منه لضرورة استقبالهم كمواطنين تونسيين؛ ليرد عليه «سفيان طوبال»، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس بالقول «الأصبع إن تعفّن فإن القص أولى به»، كما حملت الأحزاب السياسية حركة النهضة مسؤولية تسفير الجهاديين خلال ولايتها السابقة.
وكان تصريح للرئيس التونسي، «باجي القائد السبسي»، الرأي العام التونسي، يقول فيه: إن «خطورتهم (الجهاديين) أصبحت من الماضي. وكثير منهم يريدون العودة، لا يمكننا منع تونسي من العودة الى بلاده، وليست لدينا السجون الكافية»، قبل أن يتدارك الأمر، بعد تلقيه موجة انتقادات، ويقول «لن نتسامح مع الإرهابيين، وسيطبق على العائدين منهم قانون مكافحة الإرهاب الصارم».
فيما أعلن حزب «آفاق» رفضه القاطع لأية اتفاقات معلنة كانت أو سرية، خارجية أو داخلية، مع تنظيم عودة الإرهابيين، معللًا بأن «هذا الملف هو ملف أمن قومي بالغ الخطورة، ولا مجال فيه للتفاوض أو المقايضة تحت أي ضغط أو غطاء دوليين»، وتؤيده في ذلك هيئة «ائتلاف المواطنين التونسيين»، التي نظمت مظاهرات شعبية ترفض العفو عن الجهاديين العائدين.
في نفس السياق، حذرت أيضًا النقابة الرئيسة لقوات الأمن في تونس من «صوملة البلاد في حال عودة الارهابيين الذين مارسوا وتدربوا تدريبًا عسكريًا محترفًا، واستعملوا كل أنواع الأسلحة الحربية المتطورة، وتعودوا على سفك الدماء والقتل، وتبنوا عقيدة جهادية».
كيف ستتعامل الحكومة التونسية مع المسلحين العائدين؟
تطرح مسألة التعامل مع الجهاديين العائدين من مناطق التوتر تحديًا كبيرًا أمام الحكومة التونسية، فبين فريق سياسي يدعو إلى رفض هذه العودة مطلقًا، وفريق آخر يرى «التوبة والغفران» كطريقة للتعاطي معهم.
وأثارت شائعات لرواج قانون «التوبة» بهدف تمريره في البرلمان التونسي انتقادات واسعة، قبل أن يُطمئن رئيس الحكومة، «يوسف الشاهد»، بأن الأخيرة «لم توقع أي اتفاق حول عودة الارهابيين، وليست مع عودة الإرهابيين من بؤر التوتر، ولا تسعى بأي شكل من الأشكال لأن يعودوا إلى تونس»، مؤكدًا بأن من سيرجعون سيتم إيقافهم فورًا حال وصولهم إلى التراب التونسي، ومحاكمتهم، ويطبق عليهم قانون مكافحة الإرهاب.
وعقدت الحكومة التونسية منذ فترة، وفق ما نقلته وكالة «فرانس برس»، جلسات عدة حيال تهديد عودة الجهاديين إلى تونس، بحضور خبراء قضائيين وأمنيين؛ بغية رسم خطة واضحة للتعامل مع هذا الملف الساخن.
وفي هذا المسعى، تعمل تونس على إعداد استراتيجية شاملة للتعاطي مع العائدين الجهاديين إلى الوطن، وهي تتعلق بالوقاية والحماية والملاحقات القضائية والاستجابة، بحسب الرئاسة التونسية.
ويخشى مراقبون أن يتحول العائدون من بؤر النار إلى قنابل موقوتة قد تفتح باب الجحيم على تونس في حالة استقبالهم بالأحضان، إلا أن إغلاق الباب في وجههم بشكل نهائي، من شأنه أن يجعل الجهاديين في غمرة يأسهم يقاتلون مع التنظيمات المسلحة حتى آخر نفس، ما سيؤجج حركة الجهاد العالمي، ومن ثم تظهر الخطورة الشديدة لهذا الملف الشائك.
بالنسبة لبعض البلدان العربية فعادة ما تستقبلهم في السجون، وتجبر البعض منهم على عمل مراجعات دينية تحت التعذيب، قبل أن يطلق سراحهم بعد مدة؛ ليصبحوا متابعين أمنيًا بشكل دائم، حيث يكون هم الدولة الوحيد هو إبعاد خطرهم على الأمن القومي، وليس محاسبتهم على جرائمهم السابقة.
أما في أوروبا فيبدو العائدون من بؤر التوتر أكثر حظًا؛ حيث يتسللون كلاجئين بعيدًا عن أعين الأمن؛ ليختار العديد منهم بدء حياة جديدة، وفي حالة كشف البعض منهم؛ يحصلون عادة على التأهيل النفسي، وكثيرًا ما يطلق سراحهم، خصوصًا مع صعوبة العثور على دلائل قوية تقنع المحاكم الأوروبية بكونهم كانوا أعضاء في التنظيمات المتطرفة.
دول متوجسة من عودة المسلحين التونسيين
في ظل النقاش الدائر في تونس حول طريقة التعاطي مع الجهاديين العائدين من سوريا والعراق وليبيا، تتابع بعض البلدان المعنية بالملف الجدل الدائر بترقب.
يمثل ذوو الجنسيات المغاربية، معظم الملتحقين الأجانب المشاركين في القتال بمناطق التوتر، الشيء الذي يجعل هذه البلدان أكثر عرضة للتهديدات الناجمة عن عودة الجهاديين، وكانت واشنطن قد حثت دول شمال إفريقيا على التعاون لبلورة استراتيجية كاملة تتجاوز البعد الأمني لحل هذا الملف.
وتعد الجزائر الأكثر تهديدًا من عودة التونسيين المشاركين في القتال بالشام والعراق؛ حيث تتخوف السلطات الجزائرية من أن ينضم هؤلاء العائدون إلى التنظيمات الجهادية المتواجدة في الجبال بالحدود التونسية الجزائرية، وهو ما قد يستنزف الجيش الجزائري، الذي يكافح منذ عقود لتطهير البلاد من الجهاديين إلى اليوم.
في نفس المسار، تذهب بعض البلدان الأوروبية، التي تنظر بقلق لعودة الجهاديين التونسيين؛ خشية انتقالهم لأوروبا وتنفيذ «اعتداءات جهادية»، خاصة وأن العديد من التونسيين ثبت تورطهم في عدة اعتداءات، كان آخرها اعتداء الدهس في العاصمة الألمانية، برلين، الذي نفذه التونسي، «أنيس العمري».
ويبدو أن الحكومة التونسية تعي تخوف الغربيين؛ ما يجعلها تطالب بمنح مالية أكثر سخاء؛ مقابل أن تحد من خطورة هذا الملف.