محمد سليمان
اتجهت جميع أنظار الجهات الفاعلة والمراقبين الدوليين نحو التيار الإسلامي في مصر، وذلك بعد الإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك في 11 شباط/فبراير 2010، نتيجة اندلاع الثورة المصرية، وترقب الجميع كيفية دمجه في المعادلة السياسية، ليحل محل القوى الحاكمة الأوتوقراطية التاريخية. وقد تعامل الإسلاميون - وعلى رأسهم "الإخوان المسلمون" - مع المشهد السياسي الجديد باعتباره "حسماً إلهياً" للصراع حول هوية مصر الإسلامية، خاصة بعد تصدرهم المطلق لاستحقاقات الحكم في مصر، في أعقاب ثورة كانون الثاني/يناير.
وجاء ما لم يتوقعه التيار الإسلامي؛ ففي صيف عام 2013، تدخلت المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية بإسقاطها الرئيس الإسلامي "محمد مرسي"، ليتم تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا "عدلي منصور" رئيساً مؤقتاً للبلاد، بينما تحكمت المؤسسة العسكرية على مجرى الأحداث في الواقع.
ولم يستسغ الإسلاميون هذا "الانقلاب على الشرعية" فعملوا على التصدي بشدة للتدخل العسكري الذي أطاح برئيسهم، ولكل من دعم ذلك، فقاموا بحشد مؤيديهم للاعتصام في ميداني "النهضة" و"رابعة العدوية"، مع إغلاق المراكز الحيوية المحيطة بالميدانين لأكثر من شهر. كما قاموا باستدعاء القوى الإقليمية الداعمة للإسلاميين كقطر وتركيا، إلى جانب دخولهم في مفاوضات مع "الاتحاد الأوروبي"، لكي يلعب دور الوسيط بينهم وبين المؤسسة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، حاولوا استمالة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات الدينية في سيناء، كورقة ضغط لإعادة "محمد مرسي". وبالرغم من تنوع أدواتهم الجماهيرية والمحلية والإقليمية والدولية، إلا أن ذلك لم يمنع النظام المصري من فض اعتصام "رابعة" في الرابع عشر من آب/أغسطس، مخلفاً العديد من القتلى والجرحى، لكي تبرهن المؤسسة العسكرية بشكل نهائي على إحكام سيطرتها على كل من الدولة والمجتمع.
وأدت تلك الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها "الإخوان المسلمون"، إلى إبطال مركزية "الجماعة" في مصر. و بدأت حالة من الفصل بين تجربتهم في مصر وتجاربهم في دول أخرى مثل: تونس، والمغرب، والأردن. إذ تمكن "إخوان" تونس من خلال "حركة النهضة" من الوصول لاتفاق مع الجهات الفاعلة الأخرى لكي تتجنب المصير الدموي لإخوان مصر. وفي الأردن صوت "الإخوان المسلمون" على لائحة جديدة تفصلهم عن "إخوان" مصر. وفي المغرب استمر "الإخوان" في مشاركتهم في السلطة، في حكومة العاهل المغربي التي دعمت قرار المؤسسة العسكرية المصرية بالإطاحة بالرئيس "مرسي".
وفي مصر، حدث إقصاء سياسي واجتماعي لكافة مكونات التيار الإسلامي، بمن فيهم "الإخوان المسلمين" ("حزب الحرية والعدالة")، و"الجماعة الإسلامية" ("حزب البناء والتنمية")، والمنشقين عن "الإخوان المسلمين" ("حزب الوسط")، والجماعات السلفية الصغيرة ("حزب الفضيلة"، "حزب الإصلاح"، "حزب العمل الإسلامي"، "حزب الوطن"، و"الجبهة السلفية"). بالإضافة إلى ذلك، تم تضييق الخناق على تيار الإسلاميين الإصلاحيين مثل "عبد المنعم أبو الفتوح"، و "حزب مصر القوية". وكانت هناك أيضاً، محاولات لحظر "حزب النور" - الذراع السياسي لـ "الدعوة السلفية" في الإسكندرية - نظراً لتعارض وجوده مع دستور عام 2014 الذي يحظر قيام الأحزاب على أساس ديني.
وكان لفض اعتصامَيْ "رابعة" و"النهضة" تداعيات على المشهد السياسي، حيث تصدر الإسلاميون الحراك الاحتجاجي في شوارع القاهرة والمحافظات ضد السلطة الجديدة. ومع ذلك، لم تتمكن تلك التظاهرات من جذب تيارات سياسية أخرى، وفشلت في إحداث أي تغيير حقيقي منذ إسقاط نظام "مرسي" في الثلاثين من حزيران/يونيو. ورغم ذلك الانكسار الذي مُنِيَ به الإسلاميون سياسياً، وخروجهم من حكم مصر خاسرين لكل مكتسباتهم في أعقاب "الربيع العربي"، إلا أنهم ظلوا غارقين في تصوراتهم حول حلم الخلافة الإسلامية المطلقة، والانتصار على أنواع المعارضة، أي: الديمقراطيين، والليبراليين، واليساريين، وحتى الجيش.
ولا يزال نظام "السيسي" يشكل عقبة أمام إعادة إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية. فمنذ قيام "السيسي" بفض اعتصامي "رابعة" و"النهضة" في صيف عام 2013، يستمر نظامه في موقفه الرافض لجميع الإسلاميين سواء أولئك الذين حملوا السلاح، أم لا. ويرى النظام أن جميع الإسلاميين يشكلون خطراً وشيكاً على الدولة وتهديداً لاستقرارها، في معادلة محصلتها صفر وتأتي بتكلفة عالية في فترة زمنية حرجة من تاريخ مصر. فالبلاد تفتقر إلى نظام سياسي واضح وأجندة إقليمية مركزة، وهي منهكة اقتصادياً، ومتشرذمة اجتماعياً، وتعاني من مشاكل طائفية وعرقية، ومن الإرهاب في مناطق جغرافية متعددة. إن تراكم هذه العوامل تجعل من وصف نظام "السيسي" للإسلاميين كعدو مطلق إجراءً خطيراً. وحتى الآن، لا يوجد أي دليل على احتمال تراجع النظام عن سياسته الحالية.
وتكمن خطورة تداعيات هذا الصراع الدائر بين الإسلاميين ونظام "السيسي" في القلق من تجدد الفوضى السياسية. إلا أن الموقف الضعيف للإسلاميين قد يؤدي إلى زيادة تجنيد أولئك الشباب الذين من السهل إغراؤهم من قبل الجماعات المتطرفة أمثال تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة" و"أحرار الشام". وقد نجحت هذه الجماعات بالفعل في جذب العديد من الإسلاميين الحاليين في مصر، والاستفادة من وضعهم السياسي المزري. ومع هزيمة "الإخوان المسلمين"، وبعد فشل استراتيجيتهم، فقدَ أغلب شبابهم الثقة في الأساليب الديمقراطية، ولم يبق أمامهم سوى الارتماء في أحضان التنظيمات المتطرفة، بدافع حماسهم للتغيير، حتى لو كان ذلك عن طريق العنف. وأما من بقي محافظاً على عضويته في التنظيمات الإسلامية التقليدية كـ "الإخوان المسلمين"، فقد تحوّل أيضاً، إلى العنف المنظم من خلال اللجان النوعية في صراعها ضد نظام "السيسي" ومؤسساته. وإذا فشلت جميع الأطراف المتنازعة في الوصول إلى حلول متفق عليها لوقف إراقة الدماء والحفاظ على المصالح الأكبر لمصر، فإن ذلك يُنذر بمستقبل مظلم.
وعقب فض اعتصام "رابعة العدوية"، اتخذت الأزمة السياسية المصرية منعطفاً خطيراً حيث تصاعدت أعمال العنف التي نظمتها اللجان النوعية التابعة لـ "الإخوان المسلمين"، والتي استمرت على مدار عامين بعد الإطاحة بحكم "الجماعة". ومع ذلك تتزايد احتمالات التوصل إلى صيغة للتعايش ما بين "الإخوان" ونظام "السيسي" خاصة بعد أن أعربت القيادات التاريخية لـ "الإخوان المسلمين" برئاسة القائم بأعمال المرشد محمود عزت عن رغبتها في التفاوض من أجل التوصل إلى تسوية توفر مساحة مستقبلية للمشاركة السياسية لـ "الإخوان". بالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح عزت في قمع نفوذ اللجان الخاصة العنيفة، قد ساهم إلى حد كبير في تراجع العنف في جميع أنحاء مصر. ونظراً لأن الرئيس "السيسي" استمد شرعيته أساساً من خلال معركته الصفرية مع "الإخوان المسلمين" كونهم يشكلون تهديداً للأمن القومي، فإن نجاح أي تسوية بين "الإخوان" والنظام يتوقف على تنحي "السيسي" بعد انتهاء ولايته الرئاسية في عام 2018. ومن ثم، فإن قيام قيادة جديدة تضع في أولوياتها إبرام تسوية سياسية مع "الإخوان" وتدعم التعايش السلمي معهم، سيساهم إلى حد كبير، في ضمان الاستقرار السياسي في مصر.