عزة هاشم (*)
لفتت ردودُ أفعال التيار الشيعي في مصر تجاه بعض الأحداث والقضايا الداخلية والخارجية -خاصةً ردود فعلهم تجاه 'عاصفة الحزم'- الأنظار، وأثارت العديدَ من التساؤلات حول حدود التواجد الشيعي في مصر، ودلالاته، وتداعياته، خاصةً في ظل ما شهدته مصر في الآونة الأخيرة من تغيرات سياسية واجتماعية انعكست بصورة مباشرة على هذا التيار، والذي يحاول منذ ثورة 25 يناير 2011 خلق دور فاعل له في مسار الأحداث، من خلال محاولة ممارسة بعض الأنشطة الدعوية الخاصة به، إضافة إلى محاولات التواجد الإعلامي المستمر تفاعلا مع الأحداث الداخلية والإقليمية التي تتقاطع مع معتقدات أو رؤى التيار الشيعي. وغالبًا ما تقابل هذه المحاولات بالرفض أو المعارضة من قبل العديد من أطياف المجتمع المصري، والتي لا تزال رافضة قبول التواجد الشيعي والاعتراف به، نظرًا لما ترسخ في أذهان المصريين من صور نمطية، عززها التناول الإعلامي وحملات الهجوم التي تشنها التيارات السلفية المتشددة على الشيعة، والتي تتزامن مع ملاحقات أمنية وتداعيات سياسية غير معززة لهذا التواجد.
أولا: خريطة التواجد الشيعي في مصر:
على الرغم من إطلاق العديد من الأرقام التقديرية حول أعداد الشيعة في مصر، والتي تراوحت بين المبالغة في التقدير من خلال أرقام يطلقها المتحدثون باسم التيار الشيعي في مصر، مثل بهاء أنور الذي صرح في سبتمبر 2012 بأن عدد الشيعة المصريين يبلغ ثلاثة ملايين شخص موزعين على محافظات الجمهورية، وتعليق محمد الدريني -الأمين العام للمجلس الأعلى لآل البيت- على ما يُطلق من أرقام تقديرية حول عدد الشيعة في مصر بأن هناك ما يزيد على عشرة ملايين صوفي في مصر، ويوجد بينهم ما لا يقل عن مليون يتبعون الفكر الشيعي، بالإضافة إلى تقرير لجنة الحريات الدينية الأمريكية الذي قدر نسبتهم في مصر بـ1% من السكان - إلا أنه يصعب الجزم بصحة أو خطأ ما يتم إطلاقه من أرقام، فلا يوجد حتى الآن ما يمكن القول بأنه إحصائية علمية موثقة يمكن الاعتماد عليها لتقدير حجم الشيعة في مصر، والذي غالبًا ما يواجه بالكثير من العقبات، ومن أهمها عدم إعلان الكثير من الشيعة المصريين عن معتقدهم نتيجة الخوف مما يمكن أن يتعرضوا له من ضغوط وملاحقات أمنية وإعلامية ومجتمعية.
ويتمركز التواجد الشيعي في مصر في عددٍ من المحافظات، منها: (الدقهلية)، خاصة مدينة المنصورة، وهي بلدة أحمد راسم النفيس أحد أبرز القيادات الشيعية المصرية. و(الشرقية) التي يتمركز فيها الشيعة في منطقة تُسمى 'كفر الإشارة' بالقرب من الزقازيق، وتطلق عليها بعض وسائل الإعلام اسم 'وكر الشيعة'. وكذلك (المنوفية)، خاصة مركز قويسنا الذي شهد ظهور عدد من الشيعة على استحياء. وأيضًا (الغربية) حيث يوجد في طنطا ضريح السيد أحمد البدوي الذي يَفِدُ إليه ملايين المصريين من المحافظات كافة سنويًّا. ويُحاول الشيعة استغلال ذلك الأمر في التواجد في تلك المنطقة تحت شعار 'حب الأولياء'، بالإضافة إلى التواجد الطفيف للغاية في بعض المحافظات، مثل: أسيوط، وسوهاج، وشمال وجنوب سيناء، فضلا عن بعض أحياء القاهرة.
ثانيًا: إخفاق محاولات نشر الفكر الشيعي في مصر:
يمكن القول إن محاولات نشر الفكر الشيعي في مصر قد أخفقت على مدى تاريخ مصر الحديث، حيث يرى الدكتور سعد الدين إبراهيم في كتابه 'الملل والنحل والأعراق' أنه وعلى الرغم من الجذور الفاطمية للمصريين، وحبهم الشديد لـ'آل البيت'، ومكانة 'سيدنا الحسين' و'السيدة زينب' لديهم، وعشقهم الخاص 'الصوفي' للسيدة نفيسة؛ فإن المذهب الشيعي كفكر وممارسة لم يجد أرضًا يقف عليها، وهناك عوامل عديدة لتقلص الفكر الشيعي في مصر أو لقلة عدد المتشيعين فيها، منها:
- الثقل الديني والشعبي للأزهر الشريف (السني) والذي انتصر في معركته الدينية والتاريخية على المذهب الشيعي رغم المحاولات المعاصرة للتقريب بين المذاهب والتي بدأها الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق.
- أفكار وتوجهات وممارسات جماعة الإخوان المسلمين التي ساهمت في الحد من تغلغل الفكر الشيعي في مصر بشكل لافت، لأن مشروع الجماعة الديني والسياسي يختلف قلبًا وقالبًا مع جماعات الشيعة، وذلك في إطار ما يعرف بالإسلام السياسي.
- عدم وجود جذور عائلية شيعية في مصر أو مساجد خاصة أو حتى وافدين جدد منحدرين من أصول شيعية كما في بعض دول الخليج.
- العقيدة الشعبية للمصريين، فبرغم حبهم الشديد 'لأهل البيت'، فإنهم ينظرون إلى ممارسات الشيعة بوصفها ممارسات غريبة قد تحمل شبهات 'كفر'، وخاصة الطقوس الشيعية في الاحتفالات السنوية الموسمية خاصة في ذكرى استشهاد الإمام الحسين والتي يصاحبها بكاء وجلد للذات بسلاسل وجنازير وسكاكين وإصابات يحدثها المتباكون في أجسادهم.
- سب الشيعة المعتاد لصحابة الرسول (ص) وإلصاق الاتهامات بهم في الوقت الذي يجل فيه المصريون الصحابة ويضعونهم في مكانة من الإجلال تالية للرسول بوصفهم أقرب الناس إليه.
ثالثًا: ملامح النشاط الشيعي في مصر بعد ثورة 25 يناير:
على الرغم من أن هناك العديد من القيود التي كانت تفرض على الشيعة في مصر وتحول دون ظهورهم للعلن، فإن السنوات التالية لثورة 25 يناير 2011 وما صاحبها من تخفيف القيود الأمنية المفروضة على مختلف التيارات الدينية في مصر، قد شهدت نشاطًا ملحوظًا وظهورًا علنيًّا للشيعة الذين حاولوا المشاركة بصورة فاعلة في الأحداث، وحرصوا على الاندماج في صفوف الأغلبية، والوقوف جنبًا إلى جنب بجوار مختلف الأطياف الدينية والسياسية، وقد اتخذ النشاط الشيعي في مصر خلال الفترة الأخيرة عددًا من الصور والأشكال التي كان من أهمها:
- إطلاق المبادرات السياسية: من خلال محاولات التيار الشيعي المصري المشاركة في الحياة السياسية بعد ثورة 25 يناير، والتي بدت في تكرار المطالبة بإنشاء حزب سياسي، وهو المطلب الذي لا يزال يُقابل بالرفض، اعتمادًا على ما ينص عليه الدستور المصري من حظر إقامة أي أحزاب على أساس عقائدي أو ديني، وقد أعلن عددٌ من النشطاء الشيعة عن امتثالهم للقرار، وقرروا الانخراط في عددٍ من الأحزاب والحركات السياسية، في محاولة لخلق تواجد على الساحة موازٍ لتواجد الإخوان والتيار السلفي. وكذلك حاولوا أن يتواجدوا سياسيًّا من خلال المشاركة في العديد من التظاهرات والفعاليات السياسية، مع حرصهم الدائم على التأكيد على أن مطالب شيعة مصر لا تختلف كثيرًا عن مطالب المصريين جميعًا، كما حاول الشيعة النفوذ إلى البرلمان عبر تقديم عددٍ من المطالب لمجلس النواب قبل حله، أهمها: المطالبة بتخصيص نسبة من مقاعد مجلس النواب المصري لهم، بالإضافة إلى الطلب الذي تقدموا به للمجلس العسكري بالمشاركة في اللجنة التأسيسية للدستور.
- النشاط الإعلامي: تعرض التيار الشيعي في مصر لحالة من التعتيم الإعلامي، والتي استمرت حتى ثورة 25 يناير، بينما شهدت الفترة التالية للثورة إنشاء عدد من القنوات الفضائية المتحدثة بلسان الشيعة في مصر، وثارت عقب عملية عاصفة الحزم العديد من الدعاوى والمطالب التي قادتها تيارات سلفية بإغلاق جميع القنوات الشيعية التي يتم بثها عبر القمر الصناعي المصري 'نايل سات' مثل قنوات: 'الغدير، والفرات، والمعارف، والعهد، والمنار، وغيرها)، حيث دشنت ائتلافات سلفية حملة موسعة بعنوان 'عاصفة الحذف' ضد القنوات الشيعية التي تهاجم (عاصفة الحزم)، داعية لغلق القنوات الشيعية التي تبث في مصر، وشملت الحملات تدشين صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وحملات طرق أبواب في معظم المحافظات، وتنظيم ندوات ومؤتمرات لمناهضة الفكر الشيعي في مصر.
- النشاط المجتمعي والخيري: على غرار جماعة الإخوان المسلمين يقدم الشيعة في مصر العديد من النشاطات والمشروعات الخيرية والمراكز الطبية في القرى والمناطق الشعبية والفقيرة من خلال عددٍ من الجمعيات الخيرية التي زاد عددها بشكل ملحوظ بعد رفع الحظر عنها عقب ثورة 25 يناير، إضافة إلى مطالبة السلطات الرسمية المصرية والأزهر الشريف بالاعتراف بالمذهب الشيعي كمذهبٍ يتم التعبد به في مصر، والسماح بإقامة 'حسينيات' لهم، ولم يبادر الشيعة بهذه المطالب لأول مرة بعد ثورة 25 يناير 2011، وإنما حدث أن سعى الشيعة في مايو 2002 إلى رفع دعوى يُطالبون فيها الدولة بأن تعترف بهم، وأن تُعيد إليهم جمعيتهم (جمعية أهل البيت)، وأن تسمح لهم بإنشاء مساجد خاصة، وإقامة حسينيات (مجالس الشيعة) لإلقاء المحاضرات الدينية والسياسية.
- المواقف السياسية الإقليمية: حيث يُحاول الشيعة في مصر التفاعل من التغيرات والتحولات الإقليمية، والتي كان من أشهرها موقفهم من عملية 'عاصفة الحزم'، والذي يُعد الموقف السياسي الأول من نوعه منذ ثورة 25 يناير الذي يخرج فيه الشيعة عن رأي الأغلبية، خاصة في ظل حرصهم الدائم على الظهور بمظهر المتفقين مع مختلف الأطياف الدينية والسياسية في مصر. ففي الوقت الذي أعلن فيه بعض قيادات الشيعة موقفهم الرافض لـ'عاصفة الحزم' كونه موقفًا سياسيًّا وليس دينيًّا، وأن رفضهم للحرب على الحوثيين ليس لأنهم شيعة ولكن لأنهم يرفضون أي حرب دينية، أو أي حرب بين المسلمين؛ فقد تجاوزت تصريحات بعضهم إلى حد إطلاق العديد من التصريحات المنددة بالجيش، والتي تدعو للانتفاض ضده، وأهمها تصريح الطاهر الهاشمي، القيادي الشيعي المصري، عندما علق على 'عاصفة الحزم' قائلا: 'لسنا أقل من الشعب الأمريكي الذي انتفض على جيشه في حروب فيتنام والعراق'.
رابعًا: موقف الدولة من التواجد الشيعي:
غالبًا ما كانت علاقة الدولة المصرية بالشيعة رهنًا بعلاقتها مع إيران، فقد جاءت الثورة الإيرانية 1979 بآثار سلبية على الشيعة في مصر، على عكس ما كانت تُخطط له طهران من تصدير ثورتها للبلاد العربية، فقد وجدت الأفكار الشيعية القادمة من إيران حائِطَي صد؛ الأول: هو جماعات الإسلام السياسي، والثاني: 'الأمن المصري'، على اعتبار أن محاولة إعادة إحياء الفكر الشيعي وتوجهاته الجديدة التي تهدف إلى إقامة حكومات دينية في المنطقة، وتغيير الحكام 'على الطريقة الخومينية' يُهدد الاستقرار في المنطقة العربية، خاصة مصر، وهو ما تسبب في تعرض معتنقي الفكر الشيعي للعديد من الضربات الأمنية الوقائية، وفي ظل توتر العلاقات المصرية الإيرانية، وموقف شيعة مصر من سياسة الحكومة المصرية الحالية، ومشاركتها في 'عاصفة الحزم'؛ يمكن أن تزداد مستقبلا حدة التوترات والتعامل الأمني مع الشيعة في مصر.
- هل يُنذر النشاط الشيعي في مصر بفتنة دينية قادمة؟
تُثار تساؤلات عدة حول مستقبل الوجود الشيعي في مصر، وما إذا كانت الخلافات مع التيار السلفي التي بدت واضحة عقب 'عاصفة الحزم' ستؤدي إلى اشتعال فتنه ما في مصر، خاصة في ظل ما تشهده العديد من الدول المحيطة بمصر من صراعات مذهبية بين السنة والشيعة أدت إلى فتن ومن ثم إلى حروب.
ويشن التيار السلفي في الفترة الأخيرة حملة للتنديد بعدد من الجمعيات الشيعية التي تم اتهامها في بلاغات رسمية بعقد لقاءات مع أجهزة مخابراتية لدول إقليمية، كما نشر العديد من الفيديوهات المصورة لفعاليات ذات الطابع الشيعي تُقيمها هذه الجمعيات، واصفين قيام هذه الجمعيات بأنه 'خطة ممنهجة لنشر التشيع والطقوس الشيعية في مصر، واستغلال المجتمعات الفقيرة من أجل جذبهم للتشيع عن طريق الإغراءات المادية والعينية'.
وتجدر الإشارة إلى أن جهدًا كبيرًا قد بُذل في العديد من محاولات التقريب بين التيارين السني والشيعي في مصر في مختلف المراحل التاريخية، والتي كانت تسعى لدمج التيار الشيعي والاعتراف به كتيار ديني في المجتمع المصري، بداية من إنشاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر في عام 1947، مرورًا بالمبادرة الشهيرة التي أطلقها شيخ الأزهر محمود شلتوت، والتي كانت تهدف في ذلك الوقت إلى القضاء على الخلافات بين المذاهب بإدخال دراسة المذاهب في الأزهر، وما تبعها من مبادرات لشيوخ الأزهر والتي كان آخرها المبادرة التي أطلقها الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر للتقريب بين السنة والشيعة للاتفاق على جمع شمل الأمة، والتصدي لأعدائها، وخاصة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها 'داعش'، والتي أبدى من خلالها ترحيبه بالتقريب بين أتباع المذاهب وليست المذاهب نفسها (لأن المذاهب بينها خلاف جوهري في أصل العقيدة)، إلا أن هذه المبادرات قوبلت بهجوم ومعارضة شديدة تسببت في إخفاقها.
وخلاصة القول.. إن محاولات الشيعة في مصر تحقيق تواجد كبير لهم على الساحة السياسية والاجتماعية، من الصعب نجاحها، في ظل وجود العديد من المحاذير الاجتماعية والأمنية والسياسية، والتي تُمثل عائقًا قويًّا أمام التمدد الشيعي، والتي يمكن أن تُساهم بصورة أو بأخرى في انحسار النشاط الشيعي في مصر، خاصة في ظل الانطباع السائد لدى الرأي العام بأن الشيعة هم ذراع إيران في مصر، ونواتها لتحقيق السيطرة المنشودة على الإقليم بشكل عام، وعلى مصر بشكل خاص.
(*) باحث في علم النفس الاجتماعي
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية