جيمس جيفري(*)إنّ هدف الرئيس أوباما بإضعاف «داعش» والقضاء عليه في النهاية هو المهمة الصحيحة. فالحملة التي تنفذها الولايات المتحدة مع تحالف مؤلف من نحو 60 بلداً، هي حملة سليمة أساساً مع ما تتضمنه من أعمالٍ عسكرية مباشرة وتدريبٍ القوات المحلية وتجهيزها، فضلاً عن بناء القدرات السياسية مع حلفاء الولايات المتحدة في العراق وسوريا، ووقف تدفق المقاتلين الأجانب والأموال إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومحاربة إيديولوجية التطرف العنيف التي تغذّي التنظيم، وضبط التكاليف البشرية الناتجة عن النزاع. وقد عرفت هذه الحملة نجاحات ملحوظة في الآونة الأخيرة، بدءاً من دحر «داعش» في بعض المناطق واحتوائها في أخرى، وصولاً إلى مضاعفة الالتزام الذي يبديه شركاء الولايات المتحدة في أعقاب عملية الإعدام المروعة التي نفذها التنظيم بحق الطيار الأردني.
إلا أن تنظيم «داعش» يبقى خصماً مرناً ذا خطورة استثنائية، لأسبابٍ أفسرها في ما يلي: إن الحملة التي تقوم بها الولايات المتحدة ستقع تحت وطأة الضغط عندما يبدأ التحالف بتنفيذ هجمات كبيرة على الأرض. ولم يتم الرد بعد على الأسئلة العسكرية المتعلقة بسوريا والأسئلة السياسية بما فيها سيناريوهات "اليوم التالي" في كل من سوريا والعراق؛ وثمة خطر بأن تصبح الحملة مهمة احتواء من شأنها أن تُسفر في النهاية عن فشل التحالف بصورة مروعة وتؤدي إلى ظهور تهديدات جديدة من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية». لذلك أحثّ الإدارة الأمريكية أن تتصرف بشكل أسرع وتتخذ المزيد من المجازفات وتستعين بالمزيد من الموارد وألا تفترض بأن "عامل الوقت إلى جانبنا"، فهو اليوم ليس كذلك، لا في الشرق الأوسط ولا في العالم [بأسره].
طبيعة التهديد الذي يشكله تنظيم (الدولة الإسلامية)
تعود الخطورة البالغة التي يشكلها «داعش» إلى خواص التنظيم الفريدة وتجسيده لاتجاهات ومخاطر طويلة الأجل في الشرق الأوسط الكبير الممتد من باكستان إلى المحيط الأطلسي. وانطلاقاً من هذا الأخير، نرى نظام دولة - كما وصفه مؤخراً هنري كيسينجر - يرزح تحت ضغطٍ هائل مع تشكيك شعوب المنطقة في شرعيته. فولاء هذه الشعوب لأي دولة معينة، ينافس أواصر انتماء حصرية، عشائرية كانت أم محلية، ودوافع مؤيدة للوحدة الإسلامية الإقليمية، ونزعات قومية فيما يتعلق بالشعوب العربية. وفي الواقع أن تنظيم «داعش» - الذي يعدّ الحركة الأحدث بين سلسلة طويلة من الحركات الإسلامية المنادية بالوحدة الإسلامية الإقليمية والتي تتبنى منهج العنف، على غرار تنظيم «القاعدة» وإلى حد ما الحركات الإسلامية السياسية كجمهورية إيران الإسلامية وجماعة «الإخوان المسلمين» - متغلغلٌ في نسيج المجتمع الشرق أوسطي بعدة طرق. لذلك ستحتاج حكومات المنطقة وشعوبها وقتاً وجهداً كبيراً لتحرير أنفسها من تنظيم «الدولة الإسلامية» وجاذبيته المتطرفة، التي بإمكانها إيجاد طرق جديدة للظهور، على غرار بروز «داعش» كجماعة متفرعة من تنظيم «القاعدة».
لكن تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس مجرد ظاهرة أخرى من التطرف الإسلامي العنيف. فجاذبية «داعش» بالنسبة للمسلمين في مختلف أنحاء العالم، وتعبّده لسياسة العنف العدمية، وسيطرته على مساحات شاسعة من الأراضي وما يناهز ستة ملايين شخص أو أكثر، بالإضافة إلى إمكانياته العسكرية التقليدية وغير التقليدية على حد سواء، وجاذبيته كدولة خلافة إسلامية، جميعها عوامل تجعل من هذا التنظيم فريداً وصعب المحاربة. ولا تمنحه طبيعته الخاصة مرونةً ملحوظة فحسب، بل تعطيه أيضاً اندفاعاً لا مفر منه لإلحاق الأذى بالولايات المتحدة ودول غربية أخرى، سواء بشكل مباشر أم عن طريق السكان المحليين المتطلعين إلى الجهاد.
ونظراً إلى طبيعة التنظيم، وضعف نظام الدولة في الشرق الأوسط وهو ما تدفع به الولايات المتحدة إلى الواجهة من أجل التصدي لـ «داعش»، وإلى المخاطر الأخرى التي تهدد الأمن الدولي والتي يتعين على الولايات المتحدة أن تواجهها بشكل متزامن، لا أعتقد أن حملة "الصبر الاستراتيجي" ملائمة. إذ ربما لم يفلح تنظيم «الدولة الإسلامية» في تفكيك التحالف من خلال إعدامه المروع للضابط الأردني، لكنه سيواصل عملياته غير المتجانسة ضد التحالف، وسيسعى إلى توسيع قاعدة دعمه بين أقلية صغيرة من المسلمين، وسيستغل الانقسام السني -الشيعي ليظهر بدور البطل المزعوم للطرف السني.
وفي ظل هذه الظروف، يجدر بالولايات المتحدة أن تخوض المزيد من المجازفات لكي تسرّع من العمليات الهجومية ضد «داعش». ومن الضروري أن تتكلل هذه العمليات بالنجاح حين تبدأ، من أجل الحفاظ على زخم الانتصار على تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بدأ في "سد الموصل" ولوحظت بوادره في أماكن أخرى، من مصفاة بيجي إلى سد حديثة وكوباني. ولكن يجب على الولايات المتحدة أن تقبل مخاطر إضافية من ناحية انخراطها الخاص لتضمن انتصار حلفائها على الأرض في الموصل وغيرها. ولا بد من الإقرار بالجهود الكثيرة التي بذلتها الإدارة الأمريكية منذ حزيران/يونيو لمواجهة «داعش» واحتوائه حالياً. لكن غالباً ما يبدو أنها تطبق مبدأ "الصبر الاستراتيجي" في هذا النزاع، حيث تحدّ من الموارد العسكرية التي تسخّرها للعملية أو ترصدها عن كثب، وعلى وجه الخصوص تَعتبر تفادي أي خسائر أمريكية أولويةً استراتيجية.
لا أحد، وأنا من بينهم - جندي سابق في سلاح المشاة - يريد أن يشهد أي خسائر أمريكية. لكن في الوقت الذي لا تخلو فيه السياسة الأكثر صرامةً من المخاطر، فإن الحملة الراهنة تنطوي على مخاطر استثنائية إذا ما استمرت على وتيرتها البطيئة. وثمة خطوات معينة باستطاعتها - إذا ما اعتبرها القادة العسكريون الأمريكيون حكيمة - أن تسرّع من تقدم هذه الحملة وزيادة فعاليتها. ويقع على عاتقهم، لا على عاتقي، واجب معرفة الخطوات المجدية في كل حالة، ولكن لا يجدر بالإدارة الأمريكية أن تحدّ من تطبيق هذه الخطوات التي يعتبرها القادة العسكريون الأمريكيون مفيدة. وقد تشمل هذه الخطوات تسريع وتيرة الضربات الجوية، ونشر فرق "تنسيق الهجوم النهائي المشترك"، فضلاً عن الفرق الاستشارية لتطال وحدات الكتائب التي تنفذ الهجمات، واستخدام منظومات أسلحة أخرى على غرار مدفعيات الجيش الأمريكي والمروحيات الهجومية، نظراً لدورها المباشر في مساندة العمليات البرية، وتزويد الأكراد بأسلحة أكثر ثقلاً.
السياق السياسي
على غرار الاعتماد المستقبلي بالدرجة الأولى، للرد الطويل المدى على الرسائل التي يوجهها تنظيم «الدولة الإسلامية» وسواه من الحركات الإسلامية المتطرفة، على التطورات السياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط بنطاقه الأوسع، فستعتمد هزيمة «داعش» أيضاً على التطورات السياسية في العراق وسوريا.
وفي العراق، لا يمكن أن تقع مسؤولية استعادة المناطق السنية بالدرجة الأولى على وحدات البيشمركة الكردية وبالتأكيد ليس على عاتق المليشيات الشيعية. فهذه الجهود تستلزم مشاركة بين أطراف داعمة محلية من العرب السنة - كما حصل مع حركة "الصحوة" بين عامَي 2006 و2008 - وقوات عسكرية عراقية نظامية ومنضبطة خالية من النزعات الطائفية، ومصحوبةً بتواصل سياسي بين حكومة بغداد ذات الغالبية الشيعية والعرب السنة والأكراد. وفضلاً للدعم الأمريكي الكبير الذي تم وراء الكواليس، تمكّن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من إحراز تقدم في هذا الإطار حيث عقد صفقة نفط مع الأكراد، وعيّن وزير دفاع ووزير داخلية وثبّت تعيينهما، كما أقر ميزانية لعام 2015 تضمنت صفقة النفط الكردية، وحصل على موافقة الحكومة على تشريع جديد بشأن اجتثاث البعث ومشروع قانون تشكيل حرس وطني، مع الإشارة إلى أن كلاهما يستوجب موافقة مجلس النواب لكهما يهدفان إلى تحقيق المصالحة السياسية مع العرب السنة. إلا أن هذه الجهود، وإن كانت تستحق الثناء، ليست كافية. ويواجه العبادي التهديدات من صفوف السياسيين الشيعة، والضغط من إيران، وتأثير الانخفاض الكبير في الإيرادات النفطية. من هنا يتعين على الدول العربية السنية مضاعفة الخطوات الهامة التي سبق لها وأن اتخذتها بالفعل لتبنّي هذا النظام والعمل مع أصدقائها في المجتمع العراقي السني من أجل كسب تأييدهم.
أما على المدى الطويل، فإنّ التوفيق بين جميع الفئات الدينية والعرقية في العراق بما يكفي لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» وتحرير العراق بشكل دائم من هذه الجماعة ومما سيتبعها من حركات على الأرجح، سيتطلب أولاً، إلغاء المركزية، بما في ذلك في القطاعين المالي والأمني، بشكل مماثل للأوضاع التي تتمتع بها اليوم "حكومة إقليم كردستان"، وذلك في المحافظات السنية وربما في المحافظات الشيعية [أيضاً]؛ وثانياً، تعهدات موثوقة من قبل الولايات المتحدة بتقديم التزام طويل الأمد من جانبها، ويشمل ذلك على الأقل توفير عدد محدود من الجنود الأمريكيين لتدريب وتأمين القوة الجوية كما سبق أن خططت الولايات المتحدة في عام 2011؛ وثالثاً، التوضيح لإيران بأن أي مساعٍ تبذلها طهران للسيطرة على العراق واستبعاد الولايات المتحدة بالكامل ستؤدي إلى ظهور النسخة التالية من «داعش» وفي النهاية إلى تفكك البلاد، وربما أيضاً إلى احتدام النزاع بين الشيعة والسنة. وفي حين لا تستطيع إيران المحافظة على تماسك العراق، إلا أنه باستطاعتها التسبب بانقسامه، الأمر الذي أوشكت سياساتها المتبعة بين العامين 2012 و2014 على فعله.
أما في سوريا، فقد بدأ للتو تطبيق الخطط التي وضعتها الإدارة الأمريكية لتشكيل قوة دفاعية محلية من أجل محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» على ما يبدو، وليس حكومة بشار الأسد. إن الإدارة محقة في إعطائها الأولوية لـ"معركة العراق" على المعركة السورية، إلا أنه سيتوجب في النهاية التعامل مع الوضع السوري إذا كانت الولايات المتحدة جادّة في سعيها لهزيمة «داعش». فحتى النصر في العراق لن يدوم إذا ما احتفظ تنظيم «الدولة الإسلامية» بملاذ في الدولة المجاورة، كما سبق أن شهدنا في الحربين الكورية والفيتنامية وكذلك في العراق وأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن للتحالف الجدي ضد «داعش» القائم على الدول العربية السنية وتركيا أن يبقى متماسكاً على المدى البعيد دون وجود سياسة أمريكية أكثر حزماً تجاه نظام الأسد.
(*) جيمس جيفري هو زميل زائر متميز في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن، وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا.المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى.