روبرت رابيل
يمكن إرجاع تاريخ السلفية إلى العالِم المسلم إبن تيمية في القرن الثالث عشر والرابع عشر. وتعني كلمة السلف اصطلاحياً - الأجداد. إلا أن إبن تيمية استخدم المصطلح للإشارة إلى صحابة النبي محمد في القرن السابع، معتبراً أنه يتوجب على المسلمين السعي إلى العودة إلى الطريق الذي انتهجه السلف. وإلى جانب هذا المفهوم، يُنسب إلى إبن تيمية إنشاء ممارسة التكفير، أي الإعلان أن المسلمين الذين لا يعتبرون إسلاميين بصورة كافية هم كفار.
وقد برزت الوهابية السلفية في عام 1932 بعد أن أصبحت الدين الرسمي للمملكة العربية السعودية التي أقيمت آنذاك. وبعد ذلك، حدث تلاقح في الأفكار والأيديولوجية بين الوهابية و «الإخوان المسلمين» في الجامعات السعودية. وقد كان «الإخوان المسلمون» يستخدمون الدين كأيديولوجية سياسية لتعبئة المجتمع، ولكن بعد أن واجهت العائلة المالكة في السعودية تحدياً في عام 1979، كمن في الاستيلاء على المسجد الحرام في مكة، تحولت المملكة نحو دعم أحد أشكال السلفية الأكثر هدوءاً.
أما في الوقت الحالي، فيمكن تمييز السلفية وفق ثلاث فئات رئيسية هي: الأكثر استكانة والناشطين والجهاديين السلفيين. ويركز السلفيون الأكثر استكانة على التربية الإسلامية والدعوة، في حين يريد الناشطون ممارسة السلطة والنفوذ على حكوماتهم بسبب عدم رضاهم عن الحكام العرب. أما بالنسبة إلى الجهاديين السلفيين، الذين جسدهم زعيم تنظيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن، فهم يعتقدون أن الطريق للعودة إلى العصر الذهبي للإسلام وللمجتمع الإسلامي يكمن في الحرب المقدسة أو الجهاد.
السلفية تنبثق في لبنان
دخلت السلفية إلى لبنان في أربعينيات القرن الماضي على يد شيخ يُدعى سالم الشهال الذي اعتنق المذهب الوهابي وتنقل في جميع أنحاء عكار في شمال لبنان، ليزور أكثر من ثلاثمائة قرية من القرى الفقيرة لتعزيز هذه الأيديولوجية. وقد شكلت السلفية موضع جذب بسبب عوامل مختلفة، من بينها الهزائم المذلة التي ألحقتها إسرائيل بالعالم العربي في عامي 1948 و1967 وما تلى ذلك من تشويه سمعة القومية العربية.
وقد انتشرت المنظمات السلفية خلال الحرب الأهلية وذروة الاحتلال السوري للبنان بين عامي 1990 و 2005. وكان السلفيون في لبنان - من المنظور السوري على الأقل - من النوع الأكثر استكانة، وبالتالي غير سياسيين ولا يشكلون تهديداً. كما أن تعزيز هذه المجموعات أدى أيضاً إلى الاستفادة من التخفيف من وحدة المجتمع المسلم السني اللبناني وإضعافه. وقبل فترة طويلة من ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، أنشأ الإسلاميون في لبنان إمارة سلفية إسلامية بين عامي 1982 و1985.
وفي الواقع، يمكن أن تُعزى أولى مفاهيم الجهادية السلفية إلى ظهور "الحركة الإسلامية المجاهدة" في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة. وقد تم شحذ هذه الإيديولوجية أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وبعد ذلك من خلال اتصال شبكات السلفية عبر الوطنية بتنظيم «القاعدة». وبعد الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين في عام 2003، سافر مسلحون من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ولا سيما من عين الحلوة، إلى العراق للجهاد ضد الأمريكيين. وقد استغل النظام السوري الفكر السلفي لتقويض جهود الولايات المتحدة في العراق، من خلال غض النظر عن المقاتلين الذين يعبرون حدود سوريا وكانوا يقاتلون في صفوف «القاعدة».
بيادق سياسية
في 14 شباط/ فبراير صادفت الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق وزعيم المجتمع المسلم السني في لبنان رفيق الحريري. وشكّل مقتله ضربة لأهل السنة، بما في ذلك السلفيين. فقد كان الاحتلال السوري قد أضعف المجتمع السني في لبنان، وقام الحريري بإحيائه سياسياً واقتصادياً. ومباشرة بعد وفاته - إثر اغتيال يُعتقد على نطاق واسع أن مرتكبيه هم نظام الأسد العلوي وميليشيا «حزب الله» الشيعية - تم عقد اجتماعات بين قطر والكويت والمملكة العربية السعودية لدعم السلفيين في لبنان. وتدفقت كميات كبيرة من الأموال إلى لبنان خلال انتخابات عام 2005 من خلال المنظمات السلفية مثل "مؤسسة الشيخ عيد الخيرية" القطرية و"جمعية إحياء التراث الإسلامي" الكويتية.
ويحافظ سعد الحريري - نجل رفيق الحريري - الذي تولى زمام القيادة السنية في لبنان، على علاقة متباينة مع السلفيين. فمن جهة، يحتاج إلى أصواتهم في الانتخابات البرلمانية، إذ أن السلفيين يحافظون على موطئ قدم قوي في شمال لبنان منذ الأربعينيات. ومن جهة أخرى، هو معتدل يسعى إلى إبقاء الجهاديين السلفيين بعيدين عنه. وخلال المقابلات، شكى أحد القياديين السلفيين من أن سعد الحريري استخدم السلفيين فقط عندما احتاج إليهم، ولم يمنحهم أي غطاء في المقابل. وقد أعرب سلفيون آخرون عن آراء سلبية مماثلة تجاه الحريري. ومع نمو الحركة السلفية في لبنان، فإنها قد أدّت إلى زيادة الانقسام في المجتمع المسلم السني وتخفيف قوته الجماعية.
وقد شكّل السلفيون أيضاً عاملاً هاماً في سوريا، حيث كانوا من أوائل الداعمين للثورة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد عام 2011. وقد ساعد الجهاديون السلفيون من عين الحلوة على تدريب المقاتلين من «جبهة النصرة» التابعة لـ تنظيم «القاعدة». ويستمر غيرهم من المقاتلين في سوريا بتلقي الدعم اللوجستي من طرابلس، لبنان. وفي الوقت نفسه، أصبح «حزب الله» - الذي يقاتل إلى جانب نظام الأسد في سوريا - يعتبر "حزب الشيطان" بالنسبة إلى السلفيين، الذين يشكون من أن الزعماء السنة مثل الحريري لم يتخذوا أي إجراء فعّال للحد من أنشطة «حزب الله» التي تستهدف السنة في سوريا.
لذا من الصعب على نحو متزايد التمييز بين الناشطين السلفيين والجهاديين السلفيين في لبنان. فخلال معركة القصير التي دارت في سوريا عام 2012 على سبيل المثال، أصدر العديد من العلماء السلفيين الناشطين فتاوى تشير إلى أن الجهاد في سوريا هو واجب إسلامي. أما اليوم، فيبرز مستوى جديد من المرونة بين الناشطين السلفيين والجهاديين السلفيين. إن هذا التحول في لبنان شائع ومقلق على حد سواء.
السنة في أزمة
تعكس مشاكل أهل السنة في لبنان الأزمة السنية في المنطقة ألا وهي: أزمة الهوية. ففي السابق، كان السنة اللبنانيون أبطال القومية العربية. أما الآن فهم مصطفون إلى جانب المملكة العربية السعودية، أو تابعون لها. كما ولا يتمتع السنة اللبنانيون بمبدأ للتعبئة العامة أو التنظيم، بينما يبرز عنصر واحد فقط يوحد مجتمعهم نسبياً وهو كونهم معارضين جداً لـ «حزب الله» وأفعاله في سوريا. وحتى إن السنة في لبنان منقسمين فيما بينهم حول كيفية معالجة هذه المشكلة.
إلى جانب ذلك، يعاني السنة في لبنان أيضاً من أزمة في القيادة. فسعد الحريري يعيش حالياً في المنفى في باريس، حيث من الصعب للغاية بالنسبة له خلق التضامن الطائفي وروح الوحدة الجماعية والحفاظ عليهما. وفي الوقت نفسه، ومن أجل الحفاظ على قبضته الهشة على القيادة، يحتاج الحريري لأصوات، مما يدفعه، كما ألمح من قبل، إلى الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على مجموعة متزايدة من السلفيين اللبنانيين.
وبالمثل، يجد السنة أنفسهم في خضم أزمة دينية. فـ "دار الإفتاء"، أو المكتب الشرعي، يمثل تقليدياً المرجعية الدينية السنية في لبنان. لكن السلفيين هم خارج نطاق المنظمة، وبدلاً من ذلك يفضلون المؤسسات والمساجد الخاصة بهم التي لا توجد لها علاقة على الإطلاق مع "دار الإفتاء". ومثل هذا الولاء المنفصل لا يشكل مشكلة للبنان فحسب بل لبقية العالم السني أيضاً.
وممما يزيد الأمور تعقيداً، أن لبنان يشكل حالياً هدفاً للجهادية السلفية، وهو التهديد الذي أدى - للمفارقة - إلى قيام درجة معينة من الوحدة في بلد منقسم. فقد [نجح] كل من «جبهة النصرة» و تنظيم «داعش» بأسر جنود لبنانيين وقتلهم، مما خلق تأييداً شعبياً متزايداً للجيش. وعلى الرغم من أن بعض السلفيين يبدون الآراء المناهضة للجيش - لأنه يُنظر إليه على أنه يتعاون مع «حزب الله» ضد المقاتلين السنة - إلا أن معظمهم يعتبر أن الجيش خط أحمر. وعلى أي حال، يبرز تصور مشترك بأن لبنان في خطر، وهناك القليل الذين يريدون تصعيد التوترات الطائفية. فتجربة الحرب الأهلية اللبنانية لا تزال محفورة في الوعي الجماعي.
لم يعد من الممكن فصل لبنان عن سوريا، إذ إن الصراع انتشر نحو المدن الحدودية عرسال وبريتال ورأس بعلبك بالقرب من منطقة القلمون. وفي ظل هذا التهديد، وعلى الرغم من الاحتكاك، يعمل الجيش اللبناني والاستخبارات اللبنانية بطريقة أو بأخرى سوية ضد السلفية الجهادية. وفي هذا الإطار، لا بد للولايات المتحدة من مواصلة تقديم المساعدات العسكرية لدعم لبنان في مواجهة الجهاديين السلفيين وتنظيم «الدولة الإسلامية» السلفي المتطرف. فإذا انهار لبنان أو جيشه، سيصبح السلفيون تلقائياً جنود المشاة للطائفة السنية.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى.