جيتي كلاوسن لم يكن الحادث الإرهابي الذي تعرضت له صحيفة 'شارلي إيبدو' الفرنسية في السابع من يناير 2015، حيث اقتحم مُلثمون مكتب الصحيفة بالأسلحة تزامنًا مع اجتماع لفريق التحرير بمقر الصحيفة – الأول من نوعه؛ فقد تعرضت الصحيفة لتهديدات إرهابية من قبل الإسلاميين المتطرفين منذ عام 2011، إذ تم إلقاء قنابل حارقة على مكتب الصحيفة لنشرها صورًا أثارت حالةً من الغضب بين المسلمين، وهو ما أثار ردود فعل عنيفة من قبل الإسلاميين المتطرفين ضدها
وعقب تعرض الصحيفة لهجوم إرهابي، توالت ردود الأفعال الرسمية وغير الرسمية، رافضةً ومنددةً ما حدث بوصفه إحدى الجرائم الأخلاقية والإنسانية المتسببة في قتل العديد من الأفراد، لا سيما أن عدد القتلى نتيجة هذا الحادث يُعد الأكبر على الأراضي الفرنسية منذ الاحتلال النازي لفرنسا. وفي هذا الإطار نشرت مجلة 'Foreign Affairs' الأمريكية تقريرًا للكاتبة جيتي كلاونس بعنوان 'فرنسا تحترق: الهجوم على مقر صحيفة شارلي إيبدو ومستقبل تنظيم القاعدة'.
هجمات إرهابية لوأد حرية التعبير:
تبدأ كلاونس تقريرها بوصف الحادث وكيفية وقوعه، وفقًا لشهود عيان. وتُدلل من خلال ما حدث على أن تنظيم القاعدة قد يكون المتورط الأكبر باضطلاعه في تنفيذ هذه العملية، بناءً على اتفاق كافة الروايات على أن منفذي الهجوم قد قاموا بنداء أسماء محررين بأعينهم، بالإضافة إلى رسامي الكاريكاتير بالصحيفة قُبيل إطلاق النار عليهم، وكذا أسلوب تنفيذ الهجوم.
وبحسب التقرير فإن هذا الحادث ليس إلا إحدى حلقات المؤامرات التي تُحاك وتُنفذ ضد شخصيات إعلامية بعينها لقيمتها الرمزية في الغرب، وكذا لقدرتها على تشكيل أحد النماذج الناجحة للتعبير عن حرية الرأي.
ووفقًا للكاتبة فإن مجلة شارلي إيبدو تُعتبر أحد أبرز المجلات الممثلة لحرية التعبير بفرنسا، والتي على الرغم من تعرضها للعديد من التهديدات منذ عام 2011 فإنها استمرت -وفقًا للتقرير- في إبراز أفكارها على الرغم من التحذيرات والتهديدات المستمرة لها. ويُشير التقرير إلى أن الطريقة التي نُفِّذَ بها الحادث تُشير إلى أن مرتكبي الحادث اكتسبوا تلك المهارات من خلال تنظيم القاعدة، وتُشير الدلائل الأولى التي أعقبت الحادث إلى أنهم أعضاء في تنظيم القاعدة بشبه الجزيرة العربية.
هوية مرتكبي الحادث:
وفقًا للتقرير فقد تم تحديد هوية مرتكبي الحادث وهم: حامد مراد (18 عامًا)، والأخوان سعيد وشريف كواتشي (32 و34 عامًا)، ولكن الجدل الدائر في الوقت الحالي متمثل حول: هل هم أعضاء في تنظيم القاعدة بشبه الجزيرة العربية؟ أم أنهم أعضاء بتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ' داعش'؟. ووفقًا للكاتبة فإن مآل هذا الجدل يرجع إلى سابقة إلقاء القبض على شريف كواتشي في يناير 2005، وإدانته بعد ثلاث سنوات بتورطه مع جماعة سبق وخططت لتجنيد وإرسال فرنسيين للقتال في العراق لصالح تنظيم القاعدة. يُضاف إلى ذلك إلقاء القبض عليه مرة أخرى في مايو 2010 بعد محاولته إطلاق سراح اثنين من الجهاديين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية (جمال بقال وإسماعيل آيت علي بلقاسم) مُرتكبي حادث تفجيرات مترو باريس في عام 1995.
وتُشير كاتبة التقرير إلى أن منفذي الحادث قد تلقوا بالفعل تدريباتهم إما في سوريا أو العراق، أما فيما يتعلق بانتمائهم فتقول الكاتبة إنهم كلهم من أصول عربية ترجع إلى شبه الجزيرة العربية، وعليه فإن انتماءهم للقاعدة في شبه الجزيرة العربية أو لتنظيم الدولة الإسلامية أو حتى لبعض الجماعات التابعة للأخير؛ ليس هو محور الاختلاف الحقيقي.
فبحسب التقرير فإن كل الجهاديين متحالفون مع تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. ولكن الجدل الحقيقي -من وجهة نظر كاتبة التقرير- يجب أن يتمثل في: 'هل من تبنى فكرة تنفيذ الهجوم هو تنظيم القاعدة أم تنظيم الدولة الإسلامية؟'، خاصة مع ما يواجهه الأول من ضغوط تنافسية بسبب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في إطار ما قد يُطلق عليه إحدى المحاولات اليائسة للفوز، وتذكير العالم بأن تنظيم القاعدة ما زال متواجدًا، وبقدرته على الاضطلاع بعمليات خارج شبه الجزيرة العربية واليمن.
وقد أكدت الكاتبة أن 'صعود منظمة لا يعني تراجع البعض'، فعلى الرغم من تأكيد العديد من المُحللين أن تنظيم القاعدة قد تراجع في مقابل بزوغ نجم تنظيم الدولة الإسلامية على الساحة؛ فإن هذه التحليلات لا يجب أن تُؤخذ على محمل التأكيد واليقين، خاصةً مع استمرار تهديد تنظيم القاعدة للغرب منذ ما يقرب من 20 عامًا، وامتلاكه العديد من العناصر المدربة والقادرة على الاضطلاع بأية مهمة خارج أراضي اليمن وشبه الجزيرة العربية.
سمات العمليات التي يضطلع بها تنظيم القاعدة:
حددت الكاتبة في تقريرها أهم سمات عمليات تنظيم القاعدة التي تطلق عليها 'قواعد لعبة تنظيم القاعدة'، لتؤكد أن هذه القواعد يمكن رصدها عبر العمليات التي اضطلع بتنفيذها سابقًا، بداية من حادث 2011 الذي أعقبه بث خطبة لأنور العولقي على شبكة الإنترنت بعنوان 'الغبار لن يستقر'، والذي حرض فيه صراحة أتباعه على أخذ زمام الأمور على عاتقهم إزاء كل من يتطاول على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فقد تم ربط هذا الفيديو بالعديد من الحوادث التي أعقبته والتهديدات التي تلقاها رسامو الكاريكاتير بالعديد من المجلات، ومنها شارلي إيبدو.
وفي مارس 2013 نشر تنظيم القاعدة ما أُطلق عليه آنذاك 'ملصق المطلوبين في الرسوم المسيئة للرسول' والذي أُدرج عليه (ستيفان تشاربونيير) رسام الكاريكاتير المقتول في هجوم 7 يناير.
وتستطرد بأن طريقة تنفيذ الحادث تؤكد أن منفذي الحادث على دراية كاملة بكافة المعلومات الداخلية عن المجلة، وهذا النوع من التخطيط المُسبق والمحكم يتميز به تنظيم القاعدة، بل ويُعد إحدى السمات المميزة له برصد كافة التفاصيل الخاصة بالمكان قُبيل تنفيذ الهجوم، بالإضافة إلى تكليف عناصر مدربة ذات كفاءة للقيام به بدلا من الاعتماد على الهجمات المحلية التي غالبًا ما تفشل نتيجة عدم كفاءة العناصر المستخدمة لتنفيذها، وتُدلل الكاتبة على ذلك بإحباط محاولات مماثلة لاقتحام مكاتب تحرير صحيفة 'يولاندس بوستن' (الدنماركية). وعليه فإن المهارة التي تم بها تنفيذ الحادث تؤكد اضطلاع تنظيم القاعدة بها، خاصةً مع تكرار الحوادث التي تعرضت لها فرنسا مسبقًا، والتي يتم تنفيذها عن طريق أفراد غادروا البلاد للقتال في الخارج، ثم يعودون بعد ذلك لتطبيق مهاراتهم التي اكتسبوها على أهداف 'محلية'.
وتختتم جيتي كلاوسن تقريرها بالإشارة إلى أنه مع تناقل الأخبار سريعًا باشتباه اضطلاع تنظيم القاعدة في هذا الحادث، فإن ردودَ أفعال بعض وسائل الإعلام تمثلت في إزالة كافة محتويات وصفحات صحيفة 'شارلي إيبدو' من على مواقعها، وعلى رأسها 'وكالة أسوشيتد برس'، والذي هو من وجهة نظر كاتبة التقرير رد فعل خاطئ، لأنه أيًّا كان منفذ الهجوم (القاعدة أم تنظيم الدولة الإسلامية) فإن الحرب ضد الغرب لن تتوقف، وسوف توجد العديد من المجموعات التي ستواصل هذه الحرب، وعليه فإن الرد المناسب لتحدي الإرهاب الدولي يتمثل في اتخاذ عددٍ من الإجراءات، على رأسها: زيادة الأمن الداخلي من خلال تبادل المعلومات بين الحكومات حول مواطنيها من المسافرين إلى سوريا والعراق، وتأمين الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية والتي تتطلب هي الأخرى بنية تحتية قوية لتأمين انتقال المواطنين عبرها.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية، القاهرة.