على الرغم من تصاعد عمليات تصفية العناصر القيادية بالتنظيمات الإرهابية على مستوي العالم كأحد آليات إستراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 إلا أن أغلب تلك التنظيمات تمكنت من الحفاظ على بقائها عبر تجاوز تداعيات سقوط رموزها القيادية وتوسيع نطاق عملياتها الإرهابية، مما أثار تساؤلات جادة باتت موضع لدراسات أكاديمية متعددة حول أسباب إخفاق إستراتيجية تصفية القيادات الإرهابية في تفكيك أبنية التنظيمات الإرهابية وتحجيم قدرتها على مواصلة أنشطتها الإرهابية، وهو التساؤل الذي تناولته تفصيلاً دراسة جينا جوردن Jenna Jordan الصادرة تحت عنوان مهاجمة القيادة تفقد تأثيرها: لماذا تتعايش التنظيمات الإرهابية مع هجمات اقتلاع الرؤوس Decapitation والتي نشرتها دورية الأمن الدولي International Security في ربيع 2014.
محفزات استهداف القياداتتصاعدت حدة الجدل في الأوساط الأمنية والأكاديمية الأمريكية عقب التمدد الجغرافي لتنظيم القاعدة في باكستان وصعود حدة العمليات الإرهابية عقب اغتيال أسامة بن لادن قائد التنظيم في منطقة أبوت أباد الحدودية مع باكستان في 2 أيار/ مايو 2011، إذ أن الإستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب استندت دعامتها الرئيسية على تصفية قيادات التنظيمات الإرهابية بهدف تفجيرها من الداخل أو على الأقل إعاقة قدرتها على تنفيذ أنشطتها الإرهابية.
واتضح ذلك من خلال تتابع هجمات القوات الخاصة الأمريكية واغتيالها لأبو مصعب الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في العراق في حزيران/ يونيو 2006 والقبض على قيادات عسكرية فاعلة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي مثل عملية القبض على أبو أنس الليبي في 5 تشرين الاول/ أكتوبر 2012 فضلاً عن هجمات الطائرات بدون طيار التي أسفرت عن اغتيال قيادات مثل أبو يحي الليبي في باكستان في حزيران/ يونيو 2012 وأنور العوالقي القيادي الروحي لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي تمت تصفيته في اليمن في آب/ أغسطس 2011 وإلياس الخميسي القيادي العسكري بحركة الجهاد الإسلامي في باكستان، ويرجع الاعتماد المتصاعد على اغتيال القيادات في مكافحة الإرهاب وفق دراسة جينا جوردن إلي عدة افتراضات تتداولها المراكز البحثية الأمريكية المتخصصة في مكافحة الإرهاب:
1- كاريزمية القيادات: حيث تفترض المؤسسات الأمنية والعسكرية الأمريكية أن القيادات الإرهابية تعد بمثابة مركز القوة داخل تلك التنظيمات نتيجة تمتعهم بمصادر دينية وعقائدية للشرعية تمنع مسائلتهم وتكفل لهم الطاعة المطلقة من جانب تابعيهم مما يجعلهم غير قابلين للاستبدال Irreplaceable ومن ثم يؤدي استهدافهم لتدمير التنظيمات الإرهابية تلقائياً.
2- تعدد الأدوار: تشير بعض دراسات الأمن إلي أنه كلما تعددت أبعاد دور قيادة التنظيمات الإرهابية وجمعت بين الأبعاد الروحية العقائدية ونظيرتها العملياتية العسكرية، تصاعد تأثير غياب تلك القيادات على بقاء التنظيم وتماسكه وقدرته على البقاء مستقبلاً.
3- الاستحواذ على المعلومات: يؤدي استهداف القيادات للوصول لمعلومات مهمة حول هيكل التنظيمات الإرهابية وعناصرها ومصادر تمويلها ومخططاتها العسكرية مما يؤدي لتعزيز كفاءة عمليات مكافحة الإرهاب على غرار الوثائق التي تم التحفظ علىها أثناء القبض على أبيمال جوزمان زعيم تنظيم الدرب المضئ في بيرو التي أدت لتفكيك التنظيم والقضاء علىه.
4-هرمية التنظيم: عادة ما تكون التنظيمات الإرهابية ذات الطابع الهرمي الهيراركي أكثر قابلية للانهيار عقب التصفية الجسدية لقياداتها، إذ أن القضاء على المركز الرأسي للسلطة والمعلومات محور شبكة الاتصالات التنظيمية يؤدي لفقدان التنظيم قدرته على استئناف نشاطه ومن ثم يتفكك لتنظيمات فرعية ضعيفة تفقد القدرة على التواصل والتنسيق.
تهديدات إرهابية متصاعدةتشير الدراسة إلي أنه على نقيض المسلمات السائدة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي فإن اغتيال القيادات الإرهابية لا يؤدي لانهيار التنظيم أو إضعاف قدرته على تنفيذ عمليات إرهابية، على النقيض تشير الإحصاءات إلي أن التنظيمات التي لا يتم تصفية قياداتها تكون أكثر قابلية للضعف والتفكك ذاتياً من نظيرتها التي تواجه عمليات اغتيال لقياداتها، ففي مقابل تفكك 53% من التنظيمات التي تم اغتيال قياداتها بين عامي 1995 و2004 فإن حوالي 70% من التنظيمات التي لم يتم اغتيال قياداتها في ذات الفترة تعرضت للانهيار والتصدع تنظيمياً على المدى المتوسط.
وتستند الدراسة لتحليل الإحصاءات الصادرة عن قاعدة بيانات الإرهاب العالمي التي تؤكد وجود علاقة طردية بين عمليات اغتيال القيادات الإرهابية وعدد الهجمات التي ينفذها تنظيم القاعدة والتنظيمات الإقليمية والمحلية المنتسبة إليه، حيث أن تصاعد عمليات تصفية القيادات بداية من عام 2005 وفي أعوام 2010 و 2011 توازي مع طفرة غير مسبوقة في عدد هجمات تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية المرتبطة به فضلاً عن تصاعد الخسائر البشرية والمادية المترتبة على هذا التصاعد النوعي في عمليات القاعدة مما يقوض الافتراضات السائدة حول فاعلىة اغتيال القيادات في تدمير وتحجيم نشاط التنظيمات الإرهابية.
وعلى الرغم من الضعف التنظيمي للقاعدة عقب الحرب الأمريكية على أفغانستان عام 2001 واحتلال العراق عام 2003 إلا أن الجماعات الإرهابية الإقليمية تمكنت من الحفاظ على بقائها والانتشار عبر الحدود إقليمياً والإحلال محل الدول في بعض المناطق الطرفية وتأسيس إمارات تخضع لحكمها المباشر في الرقة ودير الزور وريف حلب والحسكة وإدلب في سوريا وفي شبوة ومأرب وأبين في اليمن وفي الموصل وديالي والرمادي والفلوجة في العراق وفي بني غازي ودرنة في ليبيا وفي مناطق شمال مالي على الرغم من تصاعد عمليات استهداف قياداتها.
دعائم البقاء التنظيمييتمثل التساؤل الأكثر إثارة للجدل فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب في كيفية تمكن التنظيمات الإرهابية من البقاء وتوسيع نطاق عملياتها عقب اغتيال قياداتها الرئيسية وفي هذا الصدد تقدم دراسة جينا جوردن عدة أسباب رئيسية أهمها ما يلي:
1- البنية البيروقراطية: تمكنت بعض التنظيمات الإرهابية من تطوير هيكل بيروقراطي يقوم على التخصص وتقسيم الوظائف والمهام وتطوير قواعد وإجراءات تتسم بالحياد Impartiality عدم الاعتماد على أشخاص بعينهم Impersonal وتحتفظ التنظيمات الإرهابية بوثائق تنظيمية تضم تفصيلات حول الأعضاء ورتبة كل منهم والمخصصات المالية الخاصة به وتمويل الأنشطة وخرائط التنظيم وخطوط القيادة والسيطرة داخل التنظيم وهو ما يستدل علىه ببعض الوثائق التي تمكنت قوات مكافحة الإرهاب من ضبطها عقب احتلال أفغانستان والعراق، ففي تقرير لمؤسسة ويست بوينت لمكافحة الإرهابFor Combating Terrorism WestPoint تم تحليل حوالي 109 من وثائق التنظيمات الإرهابية وتضمنت عقود موقعه من جانب الكوادر العسكرية واستمارات استبيان للأعضاء ومذكرات حول تكتيكات العمليات الإرهابية وتقارير للمتابعة وتقييم الكوادر وملفات محاسبية تتعلق بتمويل التنظيم.
2- تصاعد اللامركزية: عقب تصاعد الحرب الأمريكية على العراق تمكنت التنظيمات الإرهابية من تعديل كياناتها المؤسسية لتصبح ذات طابع شبكي مسطح يتسم باللامركزية وعدم الاعتماد على قيادات بعينها في أداء مهامها العسكرية، ويستدل على ذلك بالبنية التنظيمية للقاعدة التي باتت تميل للفصل بين قيادات نواة التنظيم Core Leadership التي تتسم بمحدودية العدد والنطاق والفروع والوحدات الملحقة ذات الاختصاص العسكري التي تتسم بالتخصص وتوزيع المهام فيما بينها، والخلايا المحلية التي لا تخضع للتنظيم مباشرة وإنما تنتسب عقائدياً للتنظيم وتدين لقياداته بالولاء أسمياً.
يرتبط ذلك بالفصل الواضح بين الأجنحة السياسية والعسكرية والمؤسسات الاجتماعية لبعض التنظيمات الجهادية بهدف الحفاظ على بقاء التنظيم في مواجهة عمليات مكافحة الإرهاب مثل حماس وحزب الله وحركة نمور تحرير التاميل، فبينما تتسم المؤسسات السياسية والاجتماعية والإعلامية لتلك المؤسسات بالعلنية والهيراركية فإن الأجنحة العسكرية لها تتسم بالسرية والشبكية واللامركزية مما يزيد من احتمالات صمودها في مواجهة اغتيال القيادات.
3- الاستناد لقاعدة مجتمعية: تتميز التنظيمات الإرهابية الدينية والانفصالية بقدرتها على الاستناد لقواعد شعبية تكفل قدر من الشرعية المجتمعية ومن ثم تتمكن من حشد الموارد البشرية والمالية واجتذاب المتطوعين والاعتماد على المتعاطفين في التخفي من عمليات التعقب والمراقبة والإفلات من محاولات الاغتيال.
وفي هذا الصدد تكشف استطلاعات الرأي التي أجريت في مناطق نشاط بعض التنظيمات الإرهابية مدي تمتعها بدعم مجتمعي واسع النطاق، ففي استطلاع الرأي الذي أجرته كريستين فير Christine Fairونيل مالهوترا Neil Malhotra والذي شمل أكثر من 6000 باكستاني أغلبهم في مناطق بيشاور والبشتون وبلوشستان معاقل تنظيم القاعدة وحركة طالبان، أكد حوالي 47% من المبحوثين أن أنشطة تنظيم القاعدة تستهدف تحقيق العدالة والإنصاف للمسلمين حول العالم وأشار حوالي 37% أن القاعدة تسعي لتحقيق الديمقراطية بينما أكد حوالي 47% أن تنظيم القاعدة يحمي المسلمين حول العالم، في المقابل تضمنت نتائج استطلاع للرأي أجراه مقياس الرأي العام العربي Arab Barometer في اليمن تأكيد حوالي 73% من المبحوثين أن التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط يمثل مبرراً لعمليات تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة.
4- شبكات الأمان الاجتماعي: تعتمد التنظيمات الإرهابية على تعزيز شعبيتها في مجتمعاتها المحلية عبر تقديم خدمات اجتماعية والإحلال محل الأدوار التنموية للدول التي باتت عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، حيث تمكنت بعض التنظيمات الإرهابية مثل لاشكار الطيبة Lashkar-e-Taiba في باكستان وحماس في قطاع غزة وحزب الله في لبنان وحركة شباب المجاهدين في الصومال وتنظيم القاعدة في اليمن من تأسيس برامج اجتماعية تتضمن تقديم سلع غذائية ومساعدات مالية للفقراء وخدمات تعلىمية وصحية وهو ما دفع تنظيم القاعدة في أفغانستان للتركيز على جهود الإغاثة الإنسانية في أحداث الفيضانات المدمرة في باكستان في عام 2010 لخلق صورة ذهنية إيجابية وتعويض انسحاب الدولة من بعض المناطق الطرفية.
5- الأيديولوجية العابرة للحدود: تعتمد التنظيمات الإرهابية على أساس عقائدي يلقي قبولاً من قطاعات واسعة من جماهير الدول الإسلامية، إذ أن الأهداف المعلنة لتنظيم القاعدة تتلخص في إقامة دولة الخلافة الإسلامية وهدم النظم السياسية المخالفة للشريعة ومحاربة التواجد العسكري الأجنبي في الدول الإسلامية، مما يجعل التنظيم قادر على حشد تعاطف وتأييد بعض المتدينين والمنتمين للتيارات السلفية في الدول الإسلامية،حيث كشفت نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها مركز الرأي العام العالمي عام 2009 World Public Opinion عن أن غالبية المبحوثين في أوزبكستان واندونيسيا والأردن ونيجيريا وباكستان يؤيدون هجمات تنظيم القاعدة على القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، بينما كشف استطلاع مشروع التوجهات العالميةProject of Global Attitudes التابع لمركز بيو لاستطلاعات الرأي في أبريل 2012 أن نسبة لا تقل عن 35% من المبحوثين في الأراضي الفلسطينية واندونيسيا ومصر وباكستان والأردن ولبنان تدعم تنظيم القاعدة وعملياته ضد المصالح الأمريكية.
6- الضحايا المدنيين: يتسبب سقوط ضحايا من المدنيين أثناء عمليات اغتيال قيادات التنظيمات الإرهابية في إثارة سخط الرأي العام على عمليات مكافحة الإرهاب وربما تحفيز عمليات انتقامية ضد الولايات المتحدة، حيث تؤكد إحصائيات المؤسسة الأمريكية الجديدة The New American Foundation على أن هجمات الطائرات بدون طيار لاغتيال قيادات التنظيمات الإرهابية أدت لسقوط ضحايا مدنيين في اليمن وباكستان وأفغانستان يتراوح عددهم بين 261 و305 خلال عام 2012 بينما أشارت تقديرات مكتب الصحافة الاستقصائية The Bureau of Investigative Journalism إلي أن أعداد الضحايا المدنيين تتراوح بين 411 و 884 قتيلاً مما يحفز الشعور بالعداء ضد الولايات المتحدة ويزيد من قدرة التنظيمات الإرهابية على استقطاب مزيد من الكوادر والمتطوعين.
إجمالاً تستنتج الدراسة أن التنظيمات الإرهابية الدينية والانفصالية الأقدم والأوسع نطاقاً من حيث عدد الكوادر والوحدات عادة ما تتمكن من التعايش مع اغتيال القيادات وتصعيد قيادات جديدة أكثر تطرفاً وميلاً للعنف، وعلى النقيض قد تؤدي عمليات الاغتيال لزيادة التماسك التنظيمي وتعزيز قدراتها العسكرية، وبينما يؤدي اغتيال القيادات الميدانية والعسكرية لإعاقة نشاط التنظيمات الإرهابية فإن اغتيال القيادات العقائدية والروحانية يزيد من وتيرة العمليات الإرهابية الانتقامية على غرار تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية عقب اغتيال بن لادن في باكستان وأنور العوالقي في اليمن، وتظل إستراتيجية قطع الرؤوس تفتقد للفاعلىة في مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تتسم بالمؤسسية واللامركزية والشبكية والتي تستند لدعم شعبي وأسس عقائدية عابرة للحدود.
المصدر: المعهد الاقليمي للدراسات الاستراتيجية