تقرير من إعداد الدكتور هيثم مناع
آب/ أغسطس2014
فضيلة داعش
منذ تشكيل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حاولتُ المستطاع حتى يجري تناول هذه الظاهرة بشكل موضوعي ومواجهتها بعقلانية سياسية وخطاب تنويري وإستراتيجية واضحة تعتمد القيم الديمقراطية المدنية وترفض المهادنة في كل انتهاك ينال كرامة وحقوق الإنسان. في رفض لاختزالها بمؤامرة إيرانية أو مالكية أو لمجرد جماعة تعمل بأمرة المخابرات السورية. إلا أن قول الشاعر غلب "لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي". في مارس/آذار 3102 قابلت أحد المعارضين السوريين من أصحاب العباءة الديمقراطية. بدأ الحديث عن خطف المطرانين من قبل مجموعة شاشانية أرسلتها المخابرات الروسية ومن ثم تسليمهما إلى المخابرات الجوية السورية. لم أعلق وكان هذا آخر اجتماع بهذا الشخص. فماذا أقول له ونحن نرى معتمدين أساسيين في ائتلاف أصدقاء-أعداء الشعب السوري يتحدثون عن أبي عمر الشاشاني كعميل للمخابرات الروسية ولا يعلمون أنه حارب مع الجيش الجيورجي ضد القوات الروسية في بلده قبل هجرته لبلاد الشام. كم سمعنا من تصريحات تتحدث عن القضاء على داعش بثما نُ وأربعين ساعة الأمر الذي يعطي مقدمات الأخبار في "قناة العربية" نوعا من الطمأنينة. يراقب المرء الانحدار في مستوى التحليل والسطحية السياسية والسقوط الأخلاقي والتهافت على المال عند كل من أراد "الستة المبشرون بالسيطرة على مستقبل سورية" تنصيبه "ممثلا وحيدا للشعب والثورة". ويتابع في المقابل من قرر أنه في زمن الجهاد وقيام "خلافة أهل السنة والجماعة" إنما تكون الحاجة لممثل شرعي وحيد لله على أرضه.
من المضحك والمبكي أن الصراعات والمناظرات الأكثر جدية كانت في صف قيادات داعش والنصرة وأحرار الشام وفصائل المهاجرين باعتبارها قد رضعت من حليب "القاعدة" وتعرف بعضها بعضا وليس بوسع شخص مثل أبي ماريا القحطاني أو أبي محمد الجولاني اتهام من مدهما بالمال والرجال وعناصر نجاح انطلاقتهم بالعمالة للنظام السوري أو العراقي؟
لقد تم تعبيد الطريق الإعلامي والسياسي والعسكري لخروج تنظيم "داعش" إلى النور كقوة مسلحة وعقائدية إقليمية في إصرار السلطة السورية وبعدها العراقية على الحل الأمني العسكري في مواجهة ما يحدث. مع سياسة تركية وخليجية وغربية فاشلة ووكلاء سوريين صغار وعدد من السماسرة الإقليميين الذين أعماهم الحقد، وغطى على بصرهم وبصيرتهم الخوف من حراك شعبي واعد أرادوا قتله في بلاد الشام ولو استتبع ذلك تمزيق الأوطان وتحطيم الإنسان.
في وقت كان روبرت فورد يحدثني عن العلاقة بين "وحدات حماية الشعب" والنظام السوري في وقت تغطي السلطات التركية صفقات بيع النفط السوري على أراضيها ويسمح الاتحاد الأوربي بعمليات البيع هذه، كان تنظيم داعش قد أطبق خطة "التمويل المتعدد المصادر" التي تسمح له بهامش واسع من الاستقلالية في القرار حتى عن الجماعات السلفية الخليجية التي تضخ له بالمال والرجال. وفي وقت كان ينعق فيه
الائتلافيون بالمطالبة بالأسلحة النوعية تمكن التنظيم من الحصول على كميات كبيرة من هذه الأسلحة في الرقة والموصل. وعندما سعت قطر والسعودية لامتلاك مجموعات جهادية خاصة بهما قرر تنظيم داعش مواجهة مفتوحة مع كل من سماهم "الصحوات".
ويمكن القول اليوم أن كل ما حققه النظام السوري وحلفائه على صعيد تصفية قيادات الجماعات الجهادية نقطة في بحر التصفيات المتبادلة التي قامت بها هذه الجماعات بحق بعضها البعض. فأهل البيت أدرى بما فيه ومن فيه. وإن كان "خلاف اللصوص على الغنائم" قد كشف الكثير من المستور. فأية كارثة في أن يكون أبو محمد الجولاني أول من يتحدث عن هدر أكثر من مليار دولار في "جبهة النصرة" في وقت يحدثنا فيه بعض قدماء الماركسيين عن طهارة النصرة. ويموت الأطفال في المخيمات جوعا.
فضيلة داعش تأتي من كونها قد عرّت الأساطير التي صنعتها "الجزيرة" منذ أول عملية للنصرة في الشمال ضد قاعدة للدفاع الجوي غطاها أحمد زيدان، إلى ذاك التقديم في هالة قدسية لأبي محمد الجولاني مع تيسير علوني. إلى ذلك الغطاء المتعمد على كل الجرائم التي ارتكبتها النصرة في تكرار بائس للتجربة العراقية التي ولدت في كنفها.
فضيلة داعش أنها كشفت الخطاب الإخواني الشعبوي الذي يتحدث منذ حسن البنا إلى سيد قطب والقرضاوي في الإسلام دين وعقيدة، دولة وقانون وشريعة ومنهج حياة، علم وآداب وأخلاق وهوية، أمة وسياسة واقتصاد وحسبة وجيش ومخابرات. ويخدّر العامة بمقولة "الإسلام هو الحل". يؤثر الجماعة على المجتمع ويحق له ما لا يحق لغيره. مع كل ما حملت هذه الإيديولوجية والممارسات من غطاء للتطرف في سورية والعراق.
فضيلة داعش أنها اختصرت على المفكرين عشرات الكتب والدراسات في الرد على أطروحات العودة إلى الوراء لبناء "خلافة راشدية على منهج النبوة". فضيلة داعش أنها وجدت في الأحاديث النبوية كل ما يغطي عوراتها وجرائمها وتخلفها في فقه ما زال فيه ضعيف الحديث خير من حكَمُ الرجال. فضيلة داعش أنها فضحت الباطنية السياسية لتوظيف الدين كإستراتيجية سلطة.
تنظيم داعش وليس المثقف النقدي هو الذي أسقط الهالة عن مفهوم الحاكمية لله. وهو الذي ترجم مفهوم جاهلية القرن العشرين لسيد ومحمد قطب في أرض الواقع. وهو من طبق على الأرض شعار "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". هو من جعل التكفير سنّة... وهو الذي حوّل العنف والتوحش إلى منهاج حياة.
يتكلم المرء بمرارة وهو يستعرض شريط الأحداث. وكيف باسم الثورة تم اغتيال كل مقومات ما يمكن تسميته بثورة. كانت الأخطاء تتراكم وكان الجواب دائما النظام هو المسئول. أصبحت الأخطاء جرائم واستمرت الأسطوانة المشروخة نفسها. لم يكلف أحد نفسه عناء النظر إلى ما آلت إليه الأمور. بيع قرار السوريين لغيرهم بدراهم، وجرى تسليم قرار المسلح السوري لمن وفد من خارج الحدود والمعالم )تاركا الأهل والبلد(.
وأي فائدة في التذكير بما قلنا منذ أغسطس/آب 3100 "إذا تسلحت تطرفت وتطيفت".
ألم نخون لمطالبتنا من يريد القتال بالذهاب لبيت أبيه يقاتل فيه؟ ألم تقم الدنيا من أصحاب العبارة الثورية يوم طالبنا بوضع التخوم بين أصحاب مشروع التغيير الديمقراطي وأصحاب المشاريع الظلامية؟
لعل من فضائل داعش أيضا معرفتها بما يسمى "المهاجرين". مستواهم الثقافي والسياسي ومحدودية وعيهم الديني والمشكلات الذاتية والموضوعية التي حولتهم لمشاريع انتحار. لهذا تعامل تنظيم داعش معهم كالقطيع واتبع سياسة لاستقطابهم تقوم على قواعد بسيطة: المال والسلطان زينة الحياة الدنيا، أضرب الرأس تلحق بك العناصر، الأحسن يصاهرنا والباقي يلتحق بالحور العين... ولا شك بأن للضباط السابقين في الجيش العراقي دورا هاما في فرز الأفراد والجماعات وتوظيف استيراد الغرباء لمشروع "الخلافة".
البذرة النغل
في البدء كانت القاعدة. تنظيم عسكري سياسي بإمكانيات كبيرة ودعم أمريكي خليجي هائل لمواجهة المحتل السوفييتي في أفغانستان. استقطبت الحرب الأفغانية المقاتلين من بقاع الأرض وفتحت الباب للسلفية الجهادية للتحول من مجموعات صغيرة في بلدانها إلى قوة عسكرية عابرة للحدود. لن نكرر ما استعرضناه في كتاب )السلفية والإخوان وحقوق الإنسان(، لكن من الضروري التذكير بالهالة القدسية التي أحاطت بكل من ذهب مجاهدا في سبيل الله ضد الكفار والشيوعيين والطواغيت. والحاضنة الاجتماعية والإيديولوجية التي أعطتهم قوة المثال والقدوة في السعودية وقطر والكويت. انتهت الحرب الأفغانية وتفتت الاتحاد السوفييتي. وصار من الضروري لكل من دعم هذه الحالة البحث عن وسيلة يتخلص من تبعاتها عليه. فقد انتهت مدة صلاحية "الجهاد الأفغاني" عند صانعيه، وتحوّل المجاهدون من أجل الإسلام إلى منبوذين ممن أرسلهم.
إلا أن هؤلاء المنبوذين كان لهم قصتهم وأساطيرهم. ولم يعد بوسع أولياء الأمر السيطرة عليهم. فهم يعتقدون بأن جهادهم هو الذي غيّر صورة العالم وأنهى الحرب الباردة ووضع حدا للشيوعية في بلاد الإسلام. وأن جهادهم لم ينته مع رحيل القوات السوفييتية بل بدأ.
تغيرت التحالفات ودول الدعم والمأوى والجهاد. وتوزع أبناء التجربة الأفغانية بين الحرب الشاشانية والبوسنة والجزائر. في حين حاولت المخابرات الباكستانية استعادة نفوذها في أفغانستان بدعم الطالبان البشتون. وعاود أسامة بن لادن عملية تجميع السلفية الجهادية في أفغانستان باعتبارها مركزا للتدريب العسكري والقيادة الآمنة المقر.
كان العراقيون بكل فئاتهم أبعد الناس عن "القضية الأفغانية". فقد ورطتهم حكومتهم بحروب شغلتهم عن العقد الزمني الأفغاني. ومنعهم طلب البقاء على قيد الوجود في ظل العقوبات والدكتاتورية من ترف "السياحة الجهادية. ويمكن القول أن التيارات السلفية والإخوانية لم تكن موضع ملاحقة واستهداف من النظام العراقي. لذا لا يستغرب قدوم عدد من قدماء الأفغان العرب للعراق قبل 3112 . ويمكن القول أن التحرك الجدي باتجاه العراق تبع حالة الفوضى التي حملتها قوات الاحتلال والقرارات المدمرة التي اتخذها بول بريمر الحاكم الأمريكي في العراق بضرب بنية الدولة العراقية وحل الجيش العراقي. الأمر الذي لم يجد معارضة من الطرف الكردي الذي احتفظ لنفسه بقوات البيشماركة أو الأحزاب الإسلامية الشيعية التي وجدت في ذلك فرصة لإعادة بناء الجيش من المجموعات المسلحة التي تشكلت في إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها.
بهذا المعنى تتحمل قوات الاحتلال المسئولية الأولى عن خلق كل العناصر الموضوعية لتشكيلات عسكرية واسعة خارج نطاق الاحتلال. بكل ما أصلت من استئصال واجتثاث وإبعاد لكل من كان بصلة عسكرية أو سياسية مع النظام السابق. ولم تكن الطبقة السياسية الجديدة التي حملت لواء رفع المظلومية عن "البيت الشيعي" تحمل أي برنامج وطني ومواطني. بل على العكس من ذلك تعاملت في العديد من المواقف التكوينية للدولة الجديدة بمنطق المحاصصة وتوظيف المشاعر وتقاسم المناصب وخلق عصبية مذهبية تحمي السلطة السياسية الجديدة.
لم يمتلك أبو مصعب الزرقاوي في جعبته السياسية والإيديولوجية ما يسمح له بدور هام في مقاومة الاحتلال أو تقديم تصورات خلاقة لواقع ومستقبل الإنسان في العراق. وقد غطى ضحالته الفكرية بشراسته العسكرية. ويمكن القول أنه التعبير الأفضل لما يسميه علماء النفس حالة النكوص إلى الإحيائية animist . هذه الحالة التي تتجسد في ادعاء الحق المطلق وامتلاك القدرة على فرضه من حوله. وإسقاط كل شبهات ضعف الذات بيقين شيطنة الآخر. لذا أطلق منذ البدء فكرة مسئولية "عوام الرافضة" )الشيعة( عن الاحتلال وعن ابتعاد المسلمين عن دينهم. الأمر الذي فتح له باب العمليات العسكرية السهلة التي تستهدف المدني والعسكري، الطفل والبالغ، المرأة والرجل... كذلك صنف أي فكر غير جهادي-سلفي في خانة الكفر. ولا شك بأن ما حدث من انقلاب جذري في وجود العراقيين بعد إلغاء الدولة والنظام قد هزُّ النسيج المجتمعي في أعماقه وصدّع أركان الوعي الجمعي للناس وزعزع مقومات الاستقرار النفسي للأشخاص وفتح الباب واسعا بعد عقود التصحر السياسي والحروب الدموية والحصار اللا إنساني لنمو النزعات الغريزية والعصبية وبداهة التوحش.
وجدت الإدارة الأمريكية في ضرورة ارتقاء جماعة الزرقاوي لسلم عدو الاحتلال الأول فرصة ذهبية قزّمت وهزّلت فيها صورة أطراف المقاومة المدنية والعسكرية الأخرى. وغطت بالتالي على جرائمها السياسية والإدارية والعسكرية في البلاد.
إلا أن استئصال كوادر المؤسسة العسكرية العراقية في النظام السابق من عملية إعادة بناء الجيش العراقي دفعت بعدد غير قليل من الضباط السابقين للتوجه نحو التعبير الأكثر تعصبا وشراسة في الموقف من العملية السياسية وعملية إعادة بناء أجهزة الأمن والجيش. وقد بدأ التنسيق والتقارب بين أوائل المنتسبين من العراقيين للقاعدة مع هؤلاء الضباط مبكرا للاستفادة من خبراتهم العسكرية ثم بدأت عملية التقارب الإيديولوجي تتسارع في معتقلات الجيش الأمريكي بحيث يمكن القول بأن الكيمياء الحالية لما يسمى بداعش اليوم هي الوليد النغل لسجن بوكا وأبو غريب وسنين الاعتقال في ظل الاحتلال.
ينتمي الداعشي العراقي إلى جيل الثالوث المدنس )الحروب الإقليمية التي خاضها النظام العراقي، المثل الأقسى/مع قطاع غزة/، للعقوبات الجماعية في التاريخ البشري المعاصر، الاحتلال الأمريكي الأغبى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية(. ولا شك بأن الإنسان العراقي الذي فتح عينيه على حربي الخليج الأولى والثانية بكل ما تحملان من عدمية، وكحّلها بعقوبات لا إنسانية لا ناقة فيها للمواطن العراقي ولا جمل، وفقأها بمحتل حطم آخر ما تبقى من الدولة العراقية بعد الكولونيالية قد تمزقت لديه كل علامات التواصل مع الحداثة. فهو لم ير في هذه الحداثة سوى صفقات التسليح وشراء وسائل التعذيب وطغيان الحكم وهدر الموارد والطاقات الطبيعية والبشرية. التدين العام هو الرد الأولي على حضارة لم تغط المدفع والبورصة والنفط بأيُ من معالم الشعور بالكرامة الإنسانية. كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قصيدة "المومس العمياء" قبل أن يشهد العراق الثالوث المدنس. بعد كل مآسي العراق، تصحرت الثقافة وجفت الصحف ولم تعد الكلمات قادرة على وصف هول الوضع البشري.
أثناء بعثة التحقيق التي قمت بها للعراق في حزيران/يونيو 2003 قال لي السائق الذي نقلنا للاجتماع مع الفقيد سيرجيو دي ميلو: "هذه الأمم المتحدة شاركت في قتل أطفال قريتي جوعا ومرضا فهل تعتقد بأنها قادرة على التكفير عن جرائمها بحقنا كشعب؟". لم يكن السائق من الأنبار بل من قرية شيعية في جنوب شرقي العراق.
وقد تطوّع لمرافقتي إلى الفلوجة قبل المجازر التي ارتكبت فيها من حكومات الاحتلال.
كان يعيش كل يوم بيومه لإطعام أطفاله دون أية قناعة بأن هناك نهاية للنفق الذي دخله العراق منذ سبعينيات القرن الماضي. ولعل الجريمة الأكبر في هذا القرن، تكمن في مشاركة الطبقة السياسية العراقية بمعظم مكوناتها في تحطيم بوصلة الخلاص للشعب العراقي عبر البحث الدائم عن كبش محرقة، عن ضحية محلية يستقوي عليها ويحملها مسئولية مآسيه وحالة الإحباط المعمم التي يعيشها. ويمكن ملاحظة ذلك جليا منذ استهداف اللاجئين الفلسطينيين من قبل أطراف المعارضة العائدة للبلاد التي حملتهم شماعة دعم نظام صدام حسين وقرارات اجتثاث الدولة، إلى قرار داعش بالتطهير الديني لمدينة الموصل من المسيحيين مرورا بمحاولتهم "تنظيف" العراق من الطائفة اليزيدية.
بكل أشكالها ومسببيها، تتابعت عملية تدنيس الوعي لتخلق الأرض الخصبة للعنف والتوحش والهمجية. الدريل drill كان وسيلة تمزيق عظام المعتقلين في أقبية الميليشيات وجزُّ الرأس كان الوسيلة الأرخص عند التكفيريين. وفي كلا الحالتين جرى إعدام فكرة الحق في الحياة والحق في سلامة النفس والجسد في مجتمع تعايش فيه الموت مع الحياة في كل خلية وقرية وحي وقصة.
لم يكن بإمكان التكوين الهجين لدولة العراق الإسلامية تحقيق الانسجام الداخلي دون تأصيل التعصب قاعدة والغلو فقها والصرامة والرعب منهجا. فليس بالإمكان ادعاء
"الصفوة" وامتلاك الحقيقة المطلقة وإعطاء جواب لكل سؤال واستباق القرارات وقتل الشك واغتيال الوعي الأخلاقي دون تحقيق القطيعة الذهنية مع الماضي الشخصي لمكونات التنظيم ومسح قصة زيد مع صيرورته أبو أسامة. وكون عملية غسل الدماغ لم تحدث قط. صار من الضروري التمسك بكل المظاهر التي تعطي الجماعة صفة النقاء من البدع وإغلاق باب الفتن وسد الذرائع وتهذيب الشعائر مع استعراضات
إعلامية مبالغ فيها لتحطيم المزارات والمساجد والكنائس والتماثيل وحرق محال السجائر والجلد الميداني والرجم والصلب وقطع الرؤوس وأخذ الصور مع الرؤوس الخ.
وهنا يبرز الطابع الفصامي لداعش. فهي تمارس كل أشكال استبدال ال مثًلُ بالمقايضات النرجسية ( تعسف السلطة، الانتهازية، السرقة، القتل، الخطف، الخوات، الانتقام، الثأر، الاعتداء على المحرمات..). وتعلن جهارةًُ كفر أو ردة كل من يعترض طريقها.
أصبح العداء الأعمى للحداثة واختزالها بصناعة المتفجرات والعالم الافتراضي ودور المال هو رد الفعل البدائي المشترك بين التكفيري العراقي ونظيره القادم من بلدان النفط والغاز. حالة الفصام التي خلقها النظام السعودي بين ليبرالية السوق والانغلاق السياسي والاستعصاء الثقافي والتلوث الوهابي سمحت لظاهرة الجهاد الأفغاني بالعودة بقوة إلى السعودية التي تحكم على المحامي وليد أبو الخير بالسجن 15 عاما بتهمة نزع الولاية الشرعية فس 7/ 6/ 2014 أي عشية احتلال داعش لمدينة الموصل، في وقت تؤكد الشهادات وجود أكثر من مائتي سعودي بين مقاتلي داعش على أبواب المدينة.
يوسف القرضاوي يتحدث من قطر عن ثورة شعبية وينسى مطالبة الناتو بالتدخل للدفاع عن الثوار. أكثر من خمسة آلاف شاب سعودي وقطري وكويتي قتلوا في أقل من خمسة أعوام ليس من أجل إقامة الخلافة في بلدانهم بل من أجل إقامتها على أرض العراق والشام. هل يمكن تفسير ذلك بنجاح الأجهزة الأمنية في القضاء على القاعدة في مملكة الصمت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ؟ ما هي مسئولية أجهزة مخابرات البلدين الوهابيين فيما يحدث؟ ما هو دور حكومة طيب رجب أردوغان في عبور آلاف التكفيريين من الأراضي التركية؟ كيف جرت عملية التعبئة والشحن باتجاه بغداد ودمشق بعيدا عن مكة والمدينة والقدس؟ لا شك بأن عمليات توظيف التيار الجهادي التكفيري متعددة الشبكات ومتعددة الأيادي وليس بالإمكان إقناع عاقل بأن حديثا نبويا ضعيفا يتحدث عن عودة الخلافة من الغوطة الشرقية، كان الدافع الأساس لهذه الهجرات الشبابية التي حملت معها مشروع الموت بعد أن غاب عن أفقها أي مشروع من أجل الحياة.
لا يمكن إقامة الفصل بين المقاتل العراقي والغريب القادم من أصقاع الدنيا للجهاد في سبيل الله. ونجد قصة حياة أبو مصعب الزرقاوي تتكرر عند الجانح المهمّش التونسي (الذي لم تقدم له "التريوكا" الحاكمة لا شغل ولا خبز ولا أمل وأغمضت العين لأشهر عن سفر الشباب التونسي لسورية)، والذي أراد تخليص الشعب السوري من نظام يسمع ليلا نهار على كل القنوات الفضائية غربية وخليجية أنه "يقتل الأطفال ويغتصب النساء". فوجد فيمن دفع له كلفة السفر ودفعه للجهاد محسنا مجاهدا في سبيل الله والعدالة.
وصف لي أحد المقاتلين الذين انتهى بهم الأمر إلى طلب اللجوء السياسي في فرنسا بعد أن قضت "جبهة النصرة" على مجموعته "المعتدلة" صورة "النصيري" عند هؤلاء الغرباء عن الثقافة العربية والإسلامية قائلا: "النصيري بالنسبة لهم هو أي جندي أو موظف في دولة الأسد. هو شيطان هذا الزمان ولا بد من تخليص الأرض من رجسه ونجسه إذا ما أردنا عودة الإسلام إلى أرض الإسلام".
يتحمل المجتمع المشهدي، بتعريف غي ديبور له، مسئولية كبيرة في انتاج التطرف وتمجيد العنف. فهل كان بإمكان أي عمل غير "الهجرة والجهاد" أن يحوّل جماعة مهمشة وجدت نفسها خارج المنظومة لرأسمالية قبل أن تكوّن وعيا تختار به موقفها منها، إلى عناوين الصحف ومقدمة نشرات الأخبار، غير هذا العنف الذي حول محمد وسفيان ورشيد وسليم... من مجرد منبوذين من جيرانهم إلى أبو البراء البلجيكي وأبو لقمان الألماني وأبو محمد الفرنسي وأبو أسامة البريطاني... إن الشهرة التي تمنحها وسائل الإعلام تعطي منسو المجتمع الأوربي الأهمية وقوة الحضور وجاذبية "دور البطل". ولا ينسى هؤلاء "المهاجرين" التذكير في كل مناسبة بأنهم قد هجروا "الديمقراطية المجرمة والعلمانية الكافرة ومجون الغرب" من أجل خلافة طهرانية تعيد الناس إلى دينهم أو شهادة ترتقي بهم إلى ملكوت السماء... لم ولن يطرح أي "مهاجر" السؤال الذي طرحه يوما ألبير كامو )العادلون(: "أينبغي اليوم أن تسيل أنهار من الدم لكي يمكن غدا إقامة العدالة؛ وهل يتعين علينا أن نصبح قتلة ليكون عندنا نظام اجتماعي أفضل؟". فالشعور الهذياني بامتلاك الحقيقة المطلقة يحرم القاتل من الوقوف عند عدد ضحاياه وأساليب قتلهم. فبكل الأحوال، الحياة الدنيا محطة تافهة في موازاة الحياة الآخرة الأبدية.
لقد توصلنا من متابعة تجربة داعش، من خلايا الزرقاوي إلى خلافة البغدادي، إلى ضرورة تناول التجربة عبر الأشخاص بعد أن تبين لنا تأثير الأشخاص على طبيعة وتركيب ووظيفة الإيديولوجية التي يعلنون عنها. فمن الصعب اعتبار تأثير الإيديولوجية على مكونات أصحاب القرار في هذه التجربة حاسما. ولعل هذا ما يفسر الغلو المتعمد والمشهدي الذي يحمل في طياته كل عناصر الهدم دون امتلاك أي تصور خلاق لإعادة البناء بغض النظر عن نمط الحياة المطلوب في هذا البناء.
هيثم مناع
النشأة
أبو مصعب الزرقاوي
اسمه أحمد فاضل نزال الخلايلة، أردني من الزرقاء. لا يتحدث أصحابه عن الفترة التي سبقت وصوله لأفغانستان في 1989 رغم أهميتها الكبيرة في التكوين النفسي لهذا الشاب الذي ولد في عائلة من عشرة أبناء في 1966 . توفي والده وهو في سن المراهقة فترك الدراسة لينضم لعصابة أشقياء وكان أول حكم قضائي عليه بتهمة حيازة المخدرات والاعتداء الجنسي وعمره 19 عاما.
في عام 1989 ، سافر الزرقاوي إلى أفغانستان للانضمام إلى ما يعرف اليوم بالأفغان العرب ضد الغزو السوفيتي، ولكن السوفيت كانوا يغادرون بالفعل في الوقت الذي وصل إليه. وهناك التقى بأبي محمد المقدسي الذي شكل بالنسبة له أول معلم سلفي جهادي. رجع بعدها إلى الأردن، واعتقل عام 1993 بعد العثور على أسلحة ومتفجرات في منزله. أمضى ست سنوات في سجن أردني مع أبي محمد المقدسي بعد الحكم عليهما بالسجن خمسة عشر عاما في قضية "بيعة الإمام" انتهت بعفو ملكي.
بعد إطلاق سراحه من السجن وفي عام 1999 عاد لأفغانستان وأقام معسكرا للتدريب برضا القاعدة ليعود للمنطقة في عام 2000 . من المفيد الإشارة إلى أن الزرقاوي قد تزوج من ثلاث نساء إحداهن في سن الرابعة عشرة من العمر. وقد سمع به العالم أول مرة على لسان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الذي تحدث عن تحالف بين القاعدة التي أوفدت الزرقاوي للعراق وصدام حسين.
في العام 2004 قام أبو مصعب الزرقاوي بذبح أحد الرهائن الأمريكيين في العراق، ويدعى يوجين أرمسترونغ، وذلك بجز عنقه بسكين في فيديو مصور قامت جماعة "التوحيد والجهاد" بنشره على الإنترنت لتبدأ سنّة جزُّ وقطع الرؤوس عند هذه المجموعة.
. أسس ما سمي بتنظيم "التوحيد والجهاد" وظل يتزعمه حتى مقتله في يونيو 2006 كان الزرقاوي يعلن مسؤوليته عبر رسائل صوتية ومسجلة بالصورة عن عدة هجمات في العراق بينها تفجيرات انتحارية، وإعدام رهائن. ويسجل محاضرات صوتية لأتباعه.
وإذا ما تركنا ما قاله في فريضة الجهاد جانبا نجد أساس ما عنده يعتمد موقفا تكفيريا من الشيعة يمكن متابعته في عدة محاضرات ومواقف أبرزها "حقيقة الرافضة رفض الله". كذلك كان يتحدث بحقد عن الديمقراطية ويعتبرها سبيل المجرمين كما يتضح من مداخلته (ولتستبين سبيل المجرمين: الديمقراطية). بايع تنظيمه أسامة بن لادن في 2004 وصار اسم التنظيم إلى "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين".
تميز تنظيم القاعدة بعمليات استهدفت النجف وكربلاء والحجاج الشيعة وأماكن العبادة الإسلامية والمسيحية واليزيدية. وقد بدأ هذه العمليات بعملية استهدفت رئيس المجلس الإسلامي الأعلى محمد باقر الحكيم في 29 آب/أغسطس 2003 في مدينة النجف وقتل فيها ما لا يقل عن ثمانين ضحية. وفي آذار 2004 أدت تفجيرات استهدفت ذكرى عاشوراء إلى مقتل 271 شخص ومئات الجرحى.
بدأ الزرقاوي بعد إصابته يفكر جديا بنقل قيادة التنظيم إلى أحد الأعضاء العراقيين، وهو ما حدث بالفعل عقب مقتله، حيث أعلن عن أبي عبد الرحمن العراقي نائب أمير التنظيم، زعيما للقاعدة وكان قد وجه بدوره رسالة إلى أبي مصعب الزرقاوي في وقت سابق لقتله بعنوان "لبيك لبيك يا أبا مصعب"، وتولت قيادات عراقية ميدانية قيادة التنظيم بعد الزرقاوي، معتمدة سياسة الاستشهاد للمهاجرين والتمكين للعراقيين.
حاول تنظيم القاعدة في العراق جمع شتات الجماعات الجهادية من خلال إعلان مجلس شورى المجاهدين في العراق، وكان عبارة عن تجمع لعدد من الجماعات الجهادية، وتم الإعلان عنه في 15 يناير 2006 ، وتم اختيار عبد الله رشيد البغدادي لإمارة المجلس، وضم المجلس كلا من تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وجيش الطائفة المنصورة، سرايا أنصار التوحيد، سرايا الجهاد الإسلامي، سرايا الغرباء، إضافةًُ إلى كتائب الأهوال وجيش أهل السنة والجماعة، وكان الغرض المعلن للمجلس "إدارة الصراع في مواجهة الاحتلال الأمريكي وما وصفهم بالعملاء والمرتدين ".ولكن سرعان ما تم حله في منتصف أكتوبر من العام نفسه، لصالح النواة الصلبة المحيطة بأبي عمر البغدادي التي اعتبرت نفسها الأكثر تأهيلا شرعا وجهادا لإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية .
أبو عمر البغدادي هو حامد داوود محمد خليل الزاوي من مواليد قرية الزاوية التابعة لمدينة حديثة في ولاية الأنبار عام 1964 . ولد وعاش حياته في ولاية الأنبار. تخرج من كلية الشرطة في بغداد وكانت بداية عمله ضابطا في الشرطة العراقية. وقد كان معروفا في حديثة بتزمته الديني وبدأ ذلك يزداد بعد حرب الخليج الثانية في بداية تسعينيات القرن الماضي حتى انه تعرض اثر ذلك إلى مضايقات كثيرة من أجهزة النظام التي لم تكن في مواجهة وقتئذ مع السلفيين لضعف تواجدهم ولكنها وبسبب وجوده في جهاز أمني قررت فصله دون اعتقاله بتهمة الوهابية في 1993 . بعد تركه لوظيفته عمل في محل لتصليح الأجهزة الكهربائية بالقرب من منزله وكان كثير التردد إلى جامع العساف المجاور لمنزله إلى أن أصبح إماما للمصلين فيه. يروي شهود من حديثة بأنه كان يعطي الدروس في العقيدة السلفية بموافقة ضمنية من السلطات التي لم تدخل في مواجهة مع السلفيين أو الإخوان المسلمين في التسعينيات. لم يكن الجهاد على أجندة الحلقة التي أحاطت بالبغدادي بقدر ما كان التركيز على تشذيب العقيدة من البدع والدعوة لإلغاء تعدد الأذان والسنة القبلية في صلاة الجمعة وغير ذلك مما يعتبره السلفيون مخالفة للسنة النبوية. يروي مؤيدوه أنه قد كتب مخطوطا فيه سبعين دليلا على كفر صدام حسين ولو أنه لا يظهر في أي موقع أو اقتباس. باشر التدريب مع عدد من إخوانه في حديثة بعد الاحتلال وشكل مجموعة من المقاتلين. تواصل مع أبو محمد اللبناني وأبو أنس الشامي وانضم عبرهما إلى جماعة التوحيد والجهاد. تسلم عدة مهام وانتقل بين الولايات ثم صار مسئولا عاما عن تنظيمها. ويقول أبو أسامة العراقي في وصف أسلوب عمله "كان لا يقبل انضمام اي جندي للتنظيم إلا بعد معرفة عقيدته واختباره فكان رحمه الله يرفض انضمام من يحمل فكرا وطنيا يقاتل من أجل الديمقراطية". في 30 ديسمبر 2007 دعا أسامة بن لادن إلى مبايعة أبو عمر البغدادي أميرا على "دولة العراق الإسلامية" وكانت معظم التشكيلات السلفية الجهادية في العراق قد بايعته.
في يوم الاثنين 19/4/2010 أعلنت قوات الاحتلال الأمريكية عن مقتل أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المصري في منطقة الثرثار بعد مواجهات مسلحة لعدة ساعات.
لخص أبو عمر البغدادي طبيعة وأهداف تنظيمه في رسالة صوتية (منشورة في كتاب السلفية والإخوان وحقوق الإنسان ص 217 وما بعدها) وقد كان موقفه من عموم الشيعة وغير أهل السنة تكفيريا وعنيفا. كذلك كان له موقفا حادا من الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمين) حيث جاء في مقال له: "إننا نحبُ الصراحةُ وإن كانتُ أحياناً مرَّة، ولكنُ ينبغي على أمتنا الغراءُ أن تدرك أن "الإخوانُ المسلمينُ" في بلادُ الرافدينُ وعلى رأسهمُ الحزبُ الإسلاميُ يمارسونُ اليومُ أشنعُ حملةُ لطمسُ معالمُ الدينُ في العراق، وخاصةُ ذروةُ سنامه الجهادَ؛ فبينما نجدُ الأكرادُ يعملونُ جاهدينُ لبناءُ دولتهمُ الكردية، والروافضُ الحاقدينُ لترسيخُ سيطرتهم على طولُ البلادُ وعرضها، وخاصةُ مناطقُ الوسطُ والجنوبُ ـ نجدُ الإخوانُ المسلمينُ بقيادتهم لجبهةُ "التوافقُ"، يعملونُ بكَدُ وجدُ لصالحُ الاحتلال، ضاربينُ عرضُ الحائطُ كلُّ الدماءُ التي أزهقَتُ والأعراضُ التي هتكَتُ والأموالُ التي أنفقَت، وطالبينُ بإلحاحُ فريدُ بَقاءُ الاحتلالُ ريثما تتوطدُ أركانُ دولةُ الرافضةُ بالعراقُ ويَتمُ بناءُ مؤسساتها العسكريةُ والأمنيةُ."
يمكن القول أن أبو عمر كان يعيش الأشهر الأخيرة لما يمكن تسميته القيادة المشتركة العراقية الدولية للتنظيم. فقد بدأت قضية دور العراقيين في القيادة وإدارة العمليات وتحديد السياسات تبرز في العام الأخير قبيل مقتله. وقد لعبت النقاشات والمراجعات في سجن بوكا كذلك عمليات الانتساب والاستقطاب في الأنبار وصلاح الدين دورا كبيرا في ضرورة "عرقنة" مشروع دولة العراق الإسلامية وضرورة وجود كوادر عراقية في كل مواقع المسئولية مع الاستفادة القصوى من المقاتلين غير العراقيين. خاصة وأن استراتيجية الزرقاوي وما بعدها لم تحمل أي مشروع يتناول مشاكل الناس واحتياجاتهم. ولا نجد أية تصورات تتناول مستقبل الناس وقضايا معيشتهم بل تركيز على شحن الأحقاد المذهبية وتغيير نمط تفكير الناس في شعائرهم وعقائدهم. يقول أحد المخطوفين من قبل التنظيم في شهادة له "خلال أشهر لم أسمع عندهم موضوعا خارج التعبئة المذهبية ورفض الاحتلال. من يمت ذاهب للجنة ومن يعش حسبه الله ونعم الوكيل".
هنا يمكن الحديث عن جيل قيادي جديد نال فيه العديد من ضباط الجيش العراقي السابقين والعديد ممن همشتهم سياسة "ترتيب أوضاع البيت الشيعي في الدولة" مكانا هاما ليس فقط في التنظيم العسكري وإنما في مجلس الشورى أيضا (نذكر للمثل لا للحصر ممن التحق بالتنظيم كل من العقيد حجي بكر) واسمه الحقيقي سمير الخليفاوي (والعقيد أبو عبد الرحمن البيلاوي) واسمه الحقيقي عدنان إسماعيل نجم (والعميد محمد الندى الجبوري (الملقب بالراعي) والعميد إبراهيم الجنابي والعقيد عدنان لطيف السويداوي (أبو مهند) والعقيد فاضل عبد الله العفري (أبو مسلم) والعقيد فاضل العيثاوي (أبو إلياس) والعقيد عاصي العبيدي والعقيد مازن نهير والمقدم نبيل عريبي المعيني (أبو عفيف) والمقدم محمد محمود الحيالي (أبو بلال) والمقدم ميسر علي موسى عبد الله الجبوري ” أبو ماريا القحطاني“ والأخير صار شرعي عام جبهة النصرة.ُُ
مع هذا الجيل دخل في قاموس التنظيم موضوع "عراقية القيادة" وقضية التمويل المتعدد المصادر والعمليات العسكرية ذات المردود الاقتصادي وجمع الإتاوات وسرقة موارد الدولة وخطف الرهائن وتهديد رجال الأعمال في أرزاقهم إن لم يدفعوا إتاوات يحمون بها حياتهم. كذلك استنفار رجال أعمال سلفيين من داخل وخارج العراق والاستفادة من الطاقات المالية لأشخاص من النظام السابق لتغطية تكاليف ومصاريف التنظيم المتعددة الخ.
مشروع الدولةُ
1 ـ أبو بكر البغدادي
إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البدري السامرائي، ولد في الجلام من أعمال السامراء العراقية عام 1971 م، ينحدر من عائلة متدينة تأخذ بالمنهج السلفي في فهم العقيدة الإسلامية، من عشيرة البوبدري العراقية، هو خريج الجامعة الإسلامية في بغداد، درس فيها البكالوريوس، والماجستير وأعد أطروحة دكتوراه حول التجويد، عمل أستاذاُ ومعلماُ وداعية.
في زمن النظام العراقي السابق كان إمام جامع أحمد بن حنبل في سامراء وعمل إماما وخطيبا لجامع الكبيسي في منطقة الطوبجي في بغداد، وإمام وخطيب أحد المساجد في الفلوجة عام 2003 . وجه اهتماماته بتجربة التيارات السلفية الجهادية مع احتلال بغداد. مرَُّ البغدادي قبل تزعمه لتنظيم داعش على العديد من التنظيمات السلفية الجهادية في العراق، فأنشأ أول تنظيم أسماه "جيش أهل السنة والجماعة" بالتعاون مع بعض رفاقه في الخط والنهج الجهادي، ونَشَّط عملياته في بغداد وسامراء وديالى وبعض المناطق السنية الأخرى، اعتقلته قوات التحالف بتاريخ 04/01/2004 وأطلق سراحه في شهر كانون الأول عام 2006 . انضم مع تنظيمه إلى مجلس شورى المجاهدين، وعمل على تشكيل وتنظيم الهيئات الشرعية في المجلس المذكور، وشغل أبو بكر البغدادي منصب عضو في مجلس الشورى. وجمعته بأبي عمر البغدادي علاقة وثيقة، فكان يعتبر اليد اليمنى له والرجل الثالث في التنظيم. وكان والي الولاة والمشرف العام على الولايات والمشرف على إدارة العمليات عام 2008 . عمل كعضو بمنصب الأمير الشرعي للأنبار، أمير الفلوجة، أمير ديالى ثم ولاية بغداد القاطع الشمالي، فالأمير الشرعي لسامراء، وبهذا عمل في كل أنحاء غرب ووسط العراق. قتلت زوجته من قبل عشائر الفلوجة من عشائر البوفراج. وقد أوصى أبو عمر البغدادي قبل مقتله بأن يكون أبو بكر البغدادي خليفته في زعامة الدولة الإسلامية في العراق، وهذا ما حدث في السادس عشر من أيار/ مايو 2010 م. حيث نصّب أميرا للدولة الإسلامية في العراق.
تابع أبو بكر البغدادي عملية بناء نواة عسكرية صلبة من العراقيين معتمدا على حجي بكر وعبد الرحمن البيلاوي وعدد من الضباط السابقين الذين احتلوا مفاتيح مفصلية في التنظيم. وقد حرص على منح غير العراقيين دورا أساسيا في التركيبة الشرعية لتأمين الضخ الدائم للتنظيم بالمهاجرين. ويلاحظ التركيز على السعوديين مثل أبي بكر القحطاني (عمر القحطاني) و(تركي البنعلي) و (تركي بن مبارك بن عبد الله) من البحرين والسعودي عثمان آل نازح العسيري إضافة لأسماء عدة لسعوديين وكويتيين يلاحظ أنها مغمورة في معظمها ولا يعتد بها حتى في الأوساط السلفية الجهادية. ويلاحظ اعتماد البغدادي على حلقة تلعفر التركمانية في المواقع الأمنية الأساسية. إضافة لاعتماده الإعلامي على السوري أبو محمد العدناني الذي عايش مختلف مراحل التنظيم في العراق.
يعتمد البغدادي في مشروعه على ستة عناصر نضجت خلال عملية استعادة تنظيم داعش لبناء نفسه بعد تجربة الصحوات:
الأول: الاستفادة القصوى من خبرة ضباط الجيش العراقي السابق الذين أصبحوا في موقع تحديد السياسات العسكرية.
الثاني: تأمين موارد مالية ضخمة تسمح للتنظيم بامتلاك القدرة على تحقيق برنامجه.
الثالث: اعتماد الإعلام وسيلة مركزية من وسائل النصر والتأكيد عبر الإعلام على صورة الجبروت والقسوة والرهبة لتحييد وإخضاع كل المخالفين لمشروع الخلافة.
الرابع: إتباع سياسة المفاوضات مع العشائر والبنيات الاجتماعية المحلية مستفيدا من درس "الصحوات".
الخامس: عدم التهاون مع أي تنظيم جهادي يريد التعاون مع داعش على قاعدة الندية (البيعة أو القتال).
والسادس: الغلو في التعامل مع أية مجموعات سكانية غير "سنية" لتطهير أماكن تواجد التنظيم ممن يمكن أن يشكل قاعدة احتجاج أو رفض لممارسات التنظيم.
2 ـ أبو عبد الرحمن البيلاوي
اسمه الحقيقي عدنان اسماعيل نجم يلقب ايضاُ بأبي أسامة البيلاوي وأبو البراء، من مواليد 1973 في محافظة الأنبار. خريج الكلية العسكرية الدورة 77 انضم لصفوف الحرس الجمهوري وتدرج لرتبة رتبة مقدم. كان الساعد الأيمن لأبي مصعب الزرقاوي (قتل الزرقاوي في غارة أميركية في 7 يونيو العام 2006) خلال سنوات ثلاث وتركزت مهامه على تحديد المواعيد الخاصة بالأخير، كما كان مقرباُ من كبار قادة
التنظيم في محافظة الأنبار. أعد الانتحاري الذي نفذ عملية الطارمية التي استهدفت وزارة العدل، أشرف على عمليات الهجوم على التجمعات الانتخابية، استهداف الجوامع والكنائس والحسينيات وأربعينيات الحسين، التخطيط لاقتحام سجن صلاح الدين الإصلاحي وجامعة الإمام الصادق، اقتحام سجن الطوبجي والتاجي وأبو غريب. رئيس المجلس العسكري وعضو مجلس الشورى.
في العام 2007 ، تم اعتقاله في مدينة البصرة )جنوب العراق(، وتم سجنه في سجن بوكا الذي كان يديره الجيش الأميركي، وبعد خمسة أعوام تم تسليمه إلى السلطات العراقية التي أودعته في سجن أبو غريب الواقع في العاصمة العراقية بغداد. في يوليو العام 2013 ، استطاع الهرب من السجن، بعد هجوم تنظيم القاعدة على السجن وتهريبه السجناء.
ذهب بعدها مباشرة إلى الأراضي السورية، وتولى قيادة عدة عمليات لتنظيم داعش ضد القوات السورية النظامية .
عاد بعد ذلك إلى العراق بعد شن الجيش العراقي عملياته العسكرية في محافظة الأنبار (غرب العراق)، ضد مسلحي داعش .
أقام في الموصل باسم مزوّر وتزوج فيها ثانية لتغطية تحركاته ومتابعة نشاطه كرئيس للمجلس العسكري العام لتنظيم داعش. تولّى منصب القائد الثاني في التنظيم بعد مقتل حجي بكر .
في 5 حزيران/يونيو 2014 ، أعلنت قيادة عمليات الجيش العراقي في محافظة نينوى، مقتله بحزام ناسف إثر مداهمة منزله واعتقال سائقه (ابن عمه). وذكر مصدر أمني أن "قوات الرد السريع قتلت الرجل الثاني، والقيادي في تنظيم داعش الإرهابي والمدعو عدنان إسماعيل البيلاوي، وهو يرتدي حزاماًُ ناسفاًُ في منطقة حي المزارع بالجانب الأيسر من مدينة الموصل (شمال العراق) مركز محافظة نينوى" . تؤكد
العديد من الشهادات أنه مهندس فكرة السيطرة على مدينة الموصل للانطلاق منها لبغداد . وقد أطلقت داعش اسمه على عملية اجتياح الموصل.
عدة شهادات شخصية جمعناها عن المرحلة السابقة للاحتلال تتحدث عن ضابط بعثي معجب بالرئيس العراقي السابق ومن المخلصين في صفوف الحرس الجمهوري. ولم نتمكن من الحصول على شهادات محايدة أو موضوعية عن التحولات التي عاشها البيلاوي في العقد الأخير من حياته. وقد شكل احتلال العراق بالنسبة له زلزالا على الصعيدين الشخصي والسياسي. الأمر الذي دفعه للتواصل مع المجموعات المسلحة الأكثر تطرفا رغم ابتعادها عن قناعاته وطريقة حياته. ويقال بأنه وضع تجربته العسكرية في خدمة تنظيم "التوحيد والجهاد" وكان ينسق ذلك مباشرة مع الزرقاوي حتى مقتل الأخير واعتقال البيلاوي في سجن بوكا. وضع بنفسه خطط عمليات استهدفت مرافق الدولة وأماكن العبادة. يختصر أحد من اعتقل معه في السجن تحوله للتيار الجهادي بجملة "أسلم وحسن إسلامه وجهاده". ولا شك بأنه من الكوادر العسكرية الأمنية التي رفعت مستوى الأداء العسكري لداعش.
3 ـ العقيد حجي بكر
اليد اليمنى لأبي بكر البغدادي حتى مطلع 2014 واسمه الحقيقي سمير عبد حمد العبيدي الدليمي وعرف بأسماء حركية كثيرة مثل أبو بلال المشهداني وحجي بكر. ولد في الخالدية )الأنبار( في مطلع الستينيات وترعرع ونشأ فيها حتى أكمل الدراسة الإعدادية. التحق بالكلية العسكرية وتخرج ضابطا وتدرّج بالرتب حتى وصل لمرتبة عقيد قبيل الاحتلال الأمريكي. يؤكد لنا أحد مؤسسي جماعة التوحيد والجهاد مبايعته
لأبي مصعب الزرقاوي مع عدد من الضباط السابقين. حافظ على علاقة جيدة بالجيش الإسلامي في العراق وكان يساعدهم بخبرته العسكرية. اعتقل في سجن بوكا. كلّف مبكرا بمتابعة انتاج السلاح الكيماوي وتطوير الاسلحة في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. تسلم مسؤولية المجلس العسكري للتنظيم وتسلم عام 2012 وزارة التصنيع العسكري للتنظيم . كذلك تولى إدارة العمليات العسكرية وإدارة المعسكرات في الشام. قتل في سوريا في شهر كانون الثاني/يناير 2014 في مواجهات بين جبهتي النصرة والإسلامية مع داعش في مدينة الأتارب شمال حلب.
جمع حجي بكر بين التخطيط العسكري والتواجد الميداني. وقد شكلت خسارته ضربة هامة للتنظيم. إلا أن المعلومات التي حصلنا عليها تؤكد دوره الكبير في انتساب واندماج عدد كبير من الضباط البعثيين في صفوف داعش. ويمكن القول أن الهيكل العسكري الذي أقامه مع البيلاوي ما زال يشكل النواة الصلبة لتنظيم داعش العسكري.
4 ـ أبو أيمن العراقي
أبو أيمن العراقي أو أبو مهند السويداوي، أهم مسئول ل”داعش” في سوريا اليوم، من منتسبي الجيش في عهد الرئيس السابق صدام حسين، إذ كان ضابطا برتبة مقدم، عضو أول مجلس عسكري لداعش والمكون من 2 أشخاص. كانت كنيته في العراق أبو مهند السويداوي. من مواليد 1965 . كان والي الأنبار وتولى إدارة قاطع الكره الشمالي، . اعتقل من قبل قوات الاحتلال عام 2007 وأطلق سراحه من سجن بوكا عام 2010 تولى مسؤولية الأمن في داخل التنظيم، ثم ارسل كداعية للبغدادي الى مدينة دير الزور في سوريا عامي 2011 -2014. كان المسئول العسكري الأول في مدينة ادلب وجبل اللاذقية وريف حلب، يروي إعلام داعش أنه استطاع خلال تواجده في سوريا تجنيد أكثر من ألف مقاتل لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، وكان لهؤلاء دورا أساسيا في بناء التنظيم في سوريا . وقد نجح في التأثير على عدد من الجماعات غير السورية وجذبها لخط داعش. وفق شهادات مقاتلين من كتيبة المعز بن عبد السلام "كان تحت تصرف أبو أيمن العراقي إمكانيات مالية كبيرة وقد قتل بنفسه عددا من المقاتلين والشرعيين منهم للمثل لا للحصر أبو بصير الطرطوسي )كمال حمامي( وقتل الشيخ جلال بايرلي ويوسف عشاوي(". وفي شهادة لإسلامي قابل أبو أيمن عدة مرات كتب يقول "اعتبر أبو أيمن كل من يتعامل مع الائتلاف والجيش الحر أو المعارضة العلمانية أو يرفض مبايعة داعش أو يتلقى التمويل والسلاح من الإقليم أو الغرب كافرا وقد قام بقتل أبو بصير بعد اجتماعه بنائب لبناني من كتلة المستقبل وكان يتحدث عن قائمة من مائةشخص للاغتيال والقتل".
لعل أبو أيمن العراقي أكثر شخص أ علن عن مقتله في داعش فقد أعلن الجيش السوري خبر قتله مع أبي حمزة السعودي وآخرين في 04/10/2013 . في 24/04/2014 أعلن الجيش العراقي عن مقتله جنوبي الرمادي في العراق وفي 08/05/2014 أعلن مصدر في جبهة النصرة خبر قتله في الحسكة. وفي 17/06/2014أعلن مصدر أمني عراقي عن مقتله في الموصل. إلا أن اسمه يعود للظهور في كل منطقة تسعى داعش لدخولها من دير الزور إلى الغوطة الشرقية.
5 ـ أبو علي الأنباري
أبو علي الأنباري: من أهم قيادات التنظيم. اسمه علاء قَرداش التركماني. ولد في تلعفر من أسرة تركمانية. استخدم ألقاباًُ عدة، منها أبو جاسم العراقي، وأبو عمر قرداش، وأبو علي الأنباري. كان مدرساًُ لمادة الفيزياء، وفي الوقت نفسه ناشطاًُ بعثيّاًُ ومسئول فرقة حزبية أيام النظام السابق. مع الغزو الأميركي للعراق، التحق بجماعة أنصار الإسلام. وبعد فترة قصيرة انفصل عن التنظيم، و يقال إنه طرد بعد إدانته بتهم مالية وإدارية. التحق بعدها بقاعدة الجهاد، وبعد ثلاثة أشهر عيّن مندوب تنسيق بين المجموعات، ثّم عزل بعد أقل من عام.
التحق بتنظيم دولة العراق الإسلامية، وبدأ نجمه في الصعود منذ تولي أبو بكر البغدادي إمارة التنظيم.
مسئول شرعي في التنظيم، متواجد في مدينة الرقة، يقوم بإعطاء دروس دين في جامع الإمام النووي بين صلاة المغرب والعشاء. ورد اسم الأنباري في ويكيليكس دولة البغدادي وفي موقع وزارة الداخلية العراقية كأحد كبار قادة التنظيم وكمقرّب جداًُ من البغدادي، خاصة بعد مقتل القيادي الآخر في التنظيم العقيد حجي بكر. كان يعتبر عين البغدادي المخلصة داخل جبهة النصرة قبل الخلاف وكان يرفع التقارير لزعيمه البغدادي بخصوص تصرفات الجولاني وجبهة النصرة وحال دون قتل الجولاني على يد أبو أيمن العراقي بدعوى أن الأوضاع لا تتحمل ذلك. تسلم مهمات أساسية في الرقة خاصة بعد التذمر العام من سلوك أبو لقمان الذي تولى أمر الرقة لزمن طويل. ينسب له التخطيط لعملية اغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ومحاولة اغتيال رياض الأسعد. قاد نقاشات مع جبهة النصرة بحضور أبو فراس السوري وأبو حسن تفتناز وأبو عبيدة التونسي وأبو همام الشامي انتهت بالفشل.
يمثل أبو علي الشخصية الأمنية بامتياز. وينسب