د. مثني العبيدي(*)
تحمل الأزمة المزمنة في العراق بين طياتها مفاجآت غير متوقعة، ومتغيرات متسارعة، ورهانات لا يمكن حسبان نتائجها بدقة. ولم يكن أي طرف، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي، ليستطيع النأي بنفسه عن انعكاسات وتأثيرات هذه الأزمة المعقدة ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
وأكراد العراق الذين تَصَوَّرَ البعض أنهم بعيدون عن الأزمة الحالية، أو أنهم الطرف العراقي الذي ينطبق عليه المثل القائل: 'مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ' حين تحققت لهم مكاسب كبيرة في وقت قصير لم يكونوا ليحلموا باكتسابها بهذهِ السهولة - جاءت التطورات لتضعهم في أعتى موجات المواجهة مع الجماعات المسلحة، وبالسرعة ذاتها، أو ربما أسرع من تلك التي واجهتها القوات الأمنية التابعة لحكومة المركز. وَوُضِعَتْ قواتُ البشمركة الكردية التي كانت تتفاخر بها القيادات الكردية، وتراهن على قوتها واستعدادها لمواجهة التهديدات الأمنية التي لربما يتعرض لها إقليم كردستان مهما كان نوع هذهِ التهديدات والمخاطر - في رهان المواجهة.
نشأة وتطور قوات البشمركة
تعني كلمة البشمركة 'الفدائيين' أو 'الذين لا يخشون الموت'، وصار المصطلح يُشير إلى الأشخاص أو المقاتلين الأكراد. وتُعد قوات البشمركة من أقدم الجماعات أو الميليشيات المسلحة في العراق، وتعود جذور وجودها إلى عشرينيات القرن الماضي تحت أسماء مختلفة، بيد أن الإعلان عنها رسميًّا قد جاء في عقد الستينيات من القرن المذكور، وكانت في البدء تُدار من قبل الزعامات القبلية في شمال العراق، ومن ثمَّ تشكلت قوات البشمركة كأذرع عسكرية للأحزاب السياسية الكردية، لا سيما الحزبين الكرديين الرئيسيين 'الحزب الديمقراطي الكردستاني' و'الاتحاد الوطني الكردستاني'.
ومما ساهم في شد عضد هذهِ القوات الدعمُ الشعبي الكردي لها، والطبيعة الجبلية لمنطقة شمال العراق التي كانت تحتمي بها، وتلجأ إليها. وتزعَّمها الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البارزاني والد رئيس إقليم كردستان الحالي مسعود البارزاني.
وخاضت قوات البشمركة مواجهات عديدة ضد الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق، وأحيانًا تكون المواجهات بين أجنحة قوات البشمركة كنوع من الصراع على المصالح ومناطق النفوذ. ويُشكل عام 1961 تاريخًا مهمًّا في مراحل المواجهة بين الأكراد وقوات البشمركة من جهة والقوات الحكومية من جهة أخرى، حينما حدثت مواجهات عسكرية بين الطرفين، كانت نتائجها لصالح القوات الحكومية التي سيطرت على الأوضاع، وأدت بعناصر البشمركة إلى اللجوء للجبال بشمال العراق أو في دول الجوار.
واحتدمت المواجهة مرة أخرى عام 1974 لتنتهي باتفاقية الجزائر عام 1975 بين العراق وإيران التي أنهت بموجبها دعم إيران للأكراد وقوات البشمركة، الأمر الذي مكَّن الجيش العراقي حينها من إعادة السيطرة على المنطقة الشمالية، ولجوء عناصر البشمركة مرةً أخرى إلى إيران وتركيا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما عادت إيران لاستغلال المعارضة الكردية دون أن يستفيدوا من درس تخلي إيران عنهم في معاهدة الجزائر، فكان هناك تنسيقٌ بينهم في الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) لمواجهة القوات العراقية، لينتهي هذا الدعم مرةً أخرى باتفاق إيقاف الحرب بين العراق وإيران، وتُضحي إيران بالأكراد مرةً أخرى.
المرحلة الأكثر أهمية في تطور قوات البشمركة ومواجهتها للقوات الحكومية كانت بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما حصلت عملية عسكرية كردية عقب وقف إطلاق النار في هذهِ الحرب تمكنت فيها القوات الكردية من السيطرة على المحافظات الشمالية عدة أيام، أنهاها الجيش العراقي حينها، وأعاد السيطرة على كافة المدن في شمال العراق، رافقتها موجة نزوج لمئات الآلاف من الأكراد باتجاه الحدود التركية والإيرانية، فجاء التدخل الأمريكي وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 في 15 أبريل عام 1991 ليفرض حظرًا للطيران على شمال وجنوب العراق، وكان عام 1992 بدايةً لحصول محافظات (السليمانية، أربيل، دهوك) على نوعٍ من شبه الاستقلال عندما سحبت الحكومة المركزية في بغداد موظفيها وقواتها من هذهِ المحافظات، وكانت قوات البشمركة في هذهِ المرحلة قد تحملت مسئولية حفظ الأمن في هذهِ المحافظات، وانحسرت مواجهتها للقوات الحكومية، ولكن لم تكن قوة موحدة بل مقسمة بين حزبي 'الاتحاد الوطني الكردستاني' و'الحزب الديمقراطي الكردستاني'، ودخلت في صراعات فيما بينها لعدة سنوات في عقد التسعينيات من القرن الماضي انتهت بعد المصالحة بين الزعيمين الكرديين مسعود البارزاني وجلال الطالباني، وبضغط أمريكي على الطرفين.
والانتقالُ الأكثر أهمية لقوات البشمركة وتطورها حصل في عام 2003 وتحديدًا خلال مرحلة الغزو الأمريكي للعراق في 20 مارس 2003 التي أعقبها إسقاط النظام، وإعلان الاحتلال الأمريكي للعراق في 9 أبريل من العام نفسه، وهي المرحلة التي ساهمت فيها قوات البشمركة بتقديم الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية في شمال العراق، وبدأت تأخذ الطابع الرسمي في عملها بعد تشكيل إقليم كردستان بشكه الحالي. وتتشكل قوات البشمركة في الوقت الحاضر من (200) ألف عنصر، يتوزعون بين إمرة وزارة البشمركة، وإمرة المكاتب السياسية للأحزاب الكردية في إقليم كردستان، على شكل مجاميع تقليدية.
أما الأسلحةُ التي تمتلكها عناصر قوات البشمركة على مختلف انتماءاتهم، فإنها تتوزع بين الأسلحة التقليدية الخفيفة مثل بنادق الكلاشنكوف وقاذفات (RPG-7)، وهذه الأسلحة بقيت لسنوات طويلة تمثل قدرات هذه القوات، ولم تتمكن من تطويرها إلا في مرحلة ما بعد عام 2003، عندما سمحت لهم القوات الأمريكية بالاستيلاء على معسكرات ومعدات الجيش العراقي السابق بعد انهياره، وحينها صارت قوات البشمركة تمتلك العديد من الدبابات والمدرعات والمدافع، ولكن تبقى هذه الأسلحة قديمة، وتحتاج إلى صيانة وتطوير مستمرين.
الإشكالية القانونية لوضع قوات البشمركة
على الرغم من حصول قوات البشمركة على الاعتراف الرسمي لوجودها وعملها من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، فإن وضعها القانوني ومهامها وعدد عناصرها محل نقاش، وتعاني إشكالية قانونية في وجودها، ولا يزال النقاش قائمًا في مسألة: هل تُعد ميليشيات معترفًا بها، أم هي قوات نظامية؟ فإذا كانت الحكومة الاتحادية قد اعترفت بحجم قوات البشمركة على ألا يتجاوز (70) ألف عنصر، باعتبارهم حرّاسًا للإقليم، وضرورة خضوعهم للجيش النظامي الوطني؛ فما هو وضع باقي المجاميع التي تخضع لإمرة المكاتب السياسية للأحزاب الكردية التي تعاني نقصًا في التمويل والتسليح. هذا الأمر لا يزال يُشكل عقبة أمام وجود ومكانة وعمل قوات البشمركة في إقليم كردستان، لا سيما في ظل وجود خلافات مستمرة بين المركز والإقليم، وعلى أقل تقدير إلى نهاية مرحلة حكومة نوري المالكي المنتهية صلاحيتها.
بعد الأزمة الأمنية الأخيرة التي شهدتها المحافظات السنية الممتدة من شمال العراق إلى وسطه، وأحداث 10 يونيو التي انهارت فيها المنظومة الأمنية أمام هجمات الجماعات المسلحة المعارضة لحكومة نوري المالكي؛ كان لسلطات إقليم كردستان تحرك سريع، واستغلال لهذهِ الأحداث، كون المحافظات التي شهدت الأزمة الأمنية هي محافظات محاذية للإقليم، وفيها مناطق متنازع عليها، وخاضعة لمعالجة المادة 140 (من الدستور العراقي)، ولم تحل مشكلتها إلى الآن، ومنها مدن: كركوك، ومخمور، وسنجار، وجلولاء، وغيرها، وأغلبها مناطق غنية بحقول البترول، فما كان من حكومة إقليم كردستان إلا تحريك قوات البشمركة للسيطرة على المناطق المتنازع عليها كافة بعد انهيار الجيش والقوات الأمنية التابعة للحكومة المركزية، وأعلن الأكراد إنهاء العمل بالمادة 140 من الدستور، لانتهاء الأمر الذي شرعت لمعالجته بعد إتمام سيطرتهم عليها.
وذكر نيجرفان البارزاني ـ رئيس حكومة الإقليم ـ أن قوات البشمركة الكردية لم تتحرك لاحتلال أي منطقة، وإنما 'تحرك قوات البشمركة جاء نتيجة حدوث فراغ أمني بعد الانسحاب الكامل لقوات الجيش العراقي من تلك المناطق، وأن وظيفة القوات الأمنية في كردستان بحسب الدستور حماية إقليم كردستان'، على أساس أن المناطق المتنازع عليها قد حسم أمرها، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الإقليم. وأشار الفريق جبار ياور، أمين وزارة البشمركة في إقليم كردستان، إلى أنه حينما انسحبت القوات العراقية عند بدء هجوم المسلحين الكاسح في محافظة نينوى تقدمت قوات البشمركة لتملأ الفراغ، مبينًا أنه 'عندما غادروا قواعدهم، تركوا ثغرة، وكان علينا إرسال قوات إضافية لسد هذهِ الثغرة'.
ولم يتوقف الأمرُ عند هذا الحد، وإنما تحركت قوات البشمركة لتُحْكِمَ سيطرتها على حقول النفط في 'كركوك' و'باي حسن'، وتسلمت إدارة العمليات فيها من شركة النفط المملوكة للدولة، وهو التصرف الذي أثار استياء الحكومة الاتحادية التي رفضت هذا العمل، ودعت حكومة الإقليم إلى التخلي عما قامت بهِ من أعمال.
الدخول إلى خط المواجهة
بدا للوهلة الأولى أن قوات البشمركة بما تملكه من قوات مدربة، وأسلحة تقليدية، وتجربة في القتال لسنوات طويلة ضد القوات العراقية في مرحلة ما قبل عام 2003، ومن ثم تجربة فرض الأمن، وتحقيق الاستقرار في إقليم كردستان في المرحلة التي أعقبتها - أنها أكثر قدرة على مواجهة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المسلحة المتحالفة معها في المناطق التي سيطرت عليها بعد هزيمة القوات الأمنية الحكومية في المحافظات العراقية السنية، وصارت القيادات الكردية تتفاخر بقوات البشمركة، وتُراهن على قدراتها القتالية، وتوجه الانتقاد للقوات الحكومية التي لم تستطع الصمود سوى أيام أمام هجمات الجماعات المسلحة. وظهرت تصريحات كردية تُطالب بالانفصال، وإعلان الاستقلال عن العراق، كونهم لا يمكنهم البقاء، أو ليسوا طرفًا في الصراع الدائر بين حكومة المالكي الطائفية والجهات السنية المسلحة.
وبالرغم من كل ذلك، لم يكن بالاستطاعة أن يبقى إقليم كردستان بعيدًا عن دائرة التأثر بالأحداث والتطورات التي تشهدها الساحة العراقية. فهنالك العديد من الأسباب التي تدفع الأكراد إلى أتون الأزمة، ويأتي في مقدمتها: المخاطر الأمنية التي أنتجتها تطورات الأحداث، وبشكل خاص التسرع الكردي بالاستيلاء على المناطق المتنازع عليها التي تعالجها المادة 140، فالمناطق هذهِ فيها حقول نفطية، وتركيبة سكانية مختلفة من عرب وأكراد وتركمان، وهم ربما يدفعهم رفضهم للسيطرة الكردية إلى طلب العون أو التحالف مع تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المسلحة الأخرى، الأمر الذي يزيد من احتمالات المواجهة.
هذهِ الأوضاع أنتجت حدودًا لإقليم كردستان مع تنظيم الدولة الإسلامية التي لا تعترف بالحدود 'المصطنعة' أصلا. وهناك رغبة ودفع أمريكي وإيراني لِزَجِّ قوات البشمركة إلى خط المواجهة مع الجماعات المسلحة، نتيجة تصور أن هذه القوات أكثر قدرة من غيرها على دحر مقاتلي الدولة الإسلامية، لا سيما أن هنالك تجربة لهم في محاربة عناصر تنظيم أنصار الإسلام في إقليم كردستان منذ عام 2003. وأشارت المواجهات المتقطعة بين البشمركة والجماعات المسلحة في بعض مناطق محافظتي ديالى وكركوك إلى إمكانية التصعيد في جبهات أوسع بين الطرفين.
كان عدم إدراك حقيقة خطورة المواجهة مع الجماعات المسلحة والتضييق عليهم في بعض المناطق، واستفزازهم في المناطق التي سيطروا عليها، والاعتقاد بسهولة هزيمهم؛ كان سببًا آخر في الدخول على خط المواجهة معهم.هذه التطورات رافقها حشد مسلح في إقليم كردستان، ودعوة المتقاعدين من عناصر البشمركة إلى الالتحاق بقواتهم، وفتح باب التطوع لعناصر جدد، وكذلك نشر قوات إضافية لهم على طول حدودهم مع المحافظات الأخرى، بالمراهنة على قوتهم وقواتهم التي كانوا يعتقدون قدرتها على هزيمة الجماعات المسلحة، وفي مقدمتهم تنظيم الدولة الإسلامية.
كل ما سبق جر الأكراد وقوات البشمركة إلى الوقوع في فخ المواجهة، طامحين في استغلال الظروف، وتحقيق المزيد من المكاسب على حساب جميع الأطراف الأخرى بالرغم من الإعلان عن وقوفهم على الحياد بين طرفي الصراع (حكومة المالكي والجماعات المسلحة)، وحصلت مواجهات كبيرة بين قوات البشمركة من جهة وتنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المسلحة من جهة أخرى. وعلى جبهات متعددة ابتدأت من:
ـ قضاء سنجار الواقع إلى غربي مدينة الموصل والمحاذي لجنوب دهوك المحافظة الثالثة في كردستان، وأهمية هذا القضاء تتمثل في كونه الحد الفاصل بين مدينة الموصل والحدود العراقية السورية، واستطاع مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية السيطرةَ عليه بطريقة مذهلة يوم 6 أغسطس.
ـ بالتزامن مع اشتباك سريع آخر في ناحية زمار في المنطقة ذاتها والقريبة من مطار تلعفر العسكري لتحسم لصالح تنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على آليات لواء مدرع بالكامل تم زجه في المعركة على أمل دحر مقاتلي التنظيم.
ـ منطقة المواجهة الثالثة فتحت عند منطقة كوك جلي شرق الموصل وغرب أربيل عاصمة إقليم كردستان، وهي منطقة محورية، وتشكل طريقًا سهلا إلى أربيل حسمت المواجهة فيها لصالح الجماعات المسلحة.
ـ قضاء الحمدانية الذي يقع شمال شرق الموصل، محور مواجهة أخرى سيطر خلالها عليه مقاتلو الدولة الإسلامية، وانسحبت أمامهم قوات البشمركة لتتمركز في الأطراف الجنوبية للقضاء.
ـ قضاء تلكيف شمال الموصل تمت السيطرة عليه من قبل عناصر التنظيم بعد انسحاب مفاجئ لقوات البشمركة دون وقوع اشتباكات.
ـ قضاء مخمور هو الآخر شهد اشتباكات عنيفة بين الجماعات المسلحة وقوات البشمركة التي كانت قد سيطرت عليه باعتباره من المناطق المتنازع عليها المهمة، انتهى هو الآخر بسيطرة عناصر الجماعات المسلحة عليه.
ـ ناحية الكوير هي الأخرى حُسمت لصالح سيطرة مقاتلي الجماعات المسلحة، وانسحاب قوات البشمركة منها.
ـ قضاء جلولاء من المناطق المتنازع عليها، وكانت تحت سيطرة قوات البشمركة التي شهدت مواجهات عديدة حُسمت لصالح الجماعات المسلحة يوم 11 أغسطس لتعلن سيطرتها عليها.
ـ وهنالك مواجهات عديدة بين الجماعات المسلحة وقوات البشمركة المختلفة، أهمها طوز خورماتو في صلاح الدين، وتلكيف وربيعة في نينوى، ومناطق متعددة في ديالى وكركوك.
موقف الحكومة الاتحادية
على الرغم من الخلافات القائمة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان بسبب ملفات عديدة، أهمها: الاختلاف على قانون النفط والغاز، والموازنة المالية، والسيطرة الكردية على المناطق المتنازع عليها، دون التوصل إلى حلول بشأنها - فإن دخول الأكراد على خط الأزمة، وخسارة قوات البشمركة في المناطق التي سيطرت عليها بعد انسحاب القوات العراقية منها، وفرار عناصر البشمركة أمام هجمات الجماعات المسلحة التي وصلت إلى مشارف إقليم كردستان؛ حدا بالحكومة الاتحادية إلى الإسراع بإصدار أوامر للقوات الجوية لدعم القوات الكردية لأول مرة، بُغية الحد من تقدم مقاتلي الجماعات المسلحة نحو إقليم كردستان لا سيما بعد أن أصبحوا على بعد 40 كم من مدينة أربيل عاصمة الإقليم، وأعلن جبار ياور استئناف التعاون العسكري بين بغداد وأربيل في محاولة لمواجهة المسلحين. وبالفعل بدأت الطائرات العسكرية تؤمن غطاءً جويًّا لقوات البشمركة أثناء صدها هجمات الجماعات المسلحة.
ولكن يبقى هذا التعاون في إطار الاستعانة بالقوة الجوية لتأمين حماية البشمركة دون الموافقة على تسليح هذهِ القوات بأسلحة حديثة ومتطورة، وهناك جانب آخر من التعاون أخذ طابعًا مختلفًا تضمن استقدام ميليشيات شيعية في منطقة طوز خورماتو لمساندة قوات البشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده جلال الطالباني رئيس الجمهورية السابق.
اللجوء إلى المساعدة الأمريكية
منذ بداية الأزمة الأمنية، حاول الأكرادُ طرحَ ملف 'مواجهة الإرهاب' للحصول على أسلحة متطورة من المصادر الخارجية بعد أن امتنعت حكومةُ المركز عن تسليحهم، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية الحليف المهم لهم؛ توالت الطلبات الكردية للحصول على الأسلحة والمساعدة والتدخل الأمريكي للمساندة في هذه الأزمة الحرجة، ولم تجد الإدارةُ الأمريكية بُدًّا من التدخل لإنقاذ القوات الكردية من الانهيار أمام ضربات الجماعات المسلحة. وهنا جاء القرار الأمريكي بتوجيه ضربات جوية لمواقع المسلحين القريبة من كردستان، وكذلك تقديم المساعدات والمواد الغذائية للنازحين في جبال سنجار من الأقلية اليزيدية وغيرها، وبالفعل ساهمت هذه الضربات في تقليل مخاطر هجمات الجماعات المسلحة التي اكتفت بالتوقف عند حدود الإقليم بمحافظاته الثلاث دون المناطق المتنازع عليها.
تداعيات المواجهة
أدت هذه الأزمة التي شكلت محورًا أساسيًّا في الأزمة الشاملة التي يمر بها العراق منذ عدة أشهر إلى تداعيات طالت وضع إقليم كردستان وقوات البشمركة التي كانت التوقعات تدور حول بقاء الإقليم بعيدًا عن تأثيراتها، وإمكانية الاعتماد على هذه القوات في مواجهة الجماعات المسلحة. ولكن أتت التطورات بتداعيات خارج الحسبان، لعل أهمها أن شكلت هذهِ المواجهات انتكاسات كبيرة وصادمة للمراهنين على قوة قوات البشمركة الكردية عندما مُنيت بخسائر كبيرة أفقدتها ما كانت تتباهى به من إمكانية القدرة على مواجهة الصعوبات والمخاطر، واتضح أنها لم تكن أفضل حالا من قوات الجيش والشرطة الاتحادية وقوات 'سوات' الحكومية التي انهزمت أمام ضربات وهجمات الجماعات المسلحة في أحداث العاشر من يوينو.
بالإضافة الى خسارة إقليم كردستان العديد من المناطق المتنازع عليها التي كانت قد سيطرت عليها القوات الكردية بعد عام 2003 وبعد أحداث العاشر من يونيو الأخيرة. وأصبحت حدود إقليم كردستان تواجه تحديات ومخاطر أمنية بعد أن أصبحت تجاور المحافظات التي يُسيطر عليها مقاتلو الدولة الإسلامية والجماعات المتحالفة معها.
كما خروجت العديد من المناطق البترولية عن سيطرة إقليم كردستان بعد أن استولت عليها الجماعات المسلحة، وبدأت بتشغيلها واستغلال مواردها. أثبتت هذه الأزمة أن إقليم كردستان لا يزال بحاجة كبيرة إلى دعم الحكومة الاتحادية، ولا يمكن الاستغناء عنها.
ويُشير كل ذلك إلى أن مواجهة الأزمات والمخاطر التي يتعرض لها العراق تتطلب التخلي عن السعي إلى تحقيق المصالح الطائفية والعرقية التي لا تجدي نفعًا لأي مكون في هذا البلد، وضرورة التمسك بالمصلحة الوطنية للعراق من أجل تجاوز هذهِ المرحلة العسيرة التي تمر بها البلاد من أجل الوصول بالعراق إلى بر الأمان، وهو الحلم الذي أصبح بعيد المنال لكل العراقيين الأصلاء.
(*) أكاديمي عراقي
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستارتيجية