باسم راشد(*)
دفعت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، حركةَ المقاومة الإسلامية 'حماس' إلى ضرورة إعادة صياغة طبيعة علاقاتها مع الجماعات المسلحة في القطاع، فبعد أن كان التوتر الدائم هو السائد في العلاقات بينهما؛ بدا الآن واضحًا أن التقارب والتنسيق بات أمرًا ملحًّا في المرحلة المقبلة تجنبًا لمزيدٍ من الشقاق من ناحية بين الطرفين، وتجنبًا لتصعيد إسرائيل الحرب والغارات على القطاع، وما لذلك من تبعات على أهالي غزة من ناحية أخرى.
فعملية اختطاف الجنود الإسرائيليين الأخيرة كانت من أهم الذرائع التي استندت إليها إسرائيل لتبرير هجومها الغاشم على قطاع غزة، فيما عرف بعملية 'الجرف الصامد'، وبرغم ترجيح رئيس الوزراء الإسرائيلي 'بنيامين نتنياهو' أن الخاطف هو تنظيم حماس، فإنه لم يقدم أدلة على ذلك، وفي الوقت ذاته لم تعلن حماس شيئًا، والتزمت الصمت، وكذلك فعلت الجماعات المسلحة في القطاع؛ إلا أن جانبًا من التكهنات ذهب إلى ترجيح احتمال وقوف جماعة 'الجهاد الإسلامي' وراء عملية الخطف هذه، والتي كانت الشرارة الأولى للتصعيد الإسرائيلي، وشنها حربًا على قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس منذ منتصف عام 2007.
حماس ليست القوة الوحيدة بالقطاع
رغم ما حققته المقاومة الفلسطينية هذه المرة من خسائر في الجانب الإسرائيلي، فإنها بالطبع لا تُقارن بحجم الأضرار التي لحقت بقطاع غزة، ولا بعدد المدنيين الذين استشهدوا وأصيبوا نتيجة الغارات الإسرائيلية المتكررة؛ إذ تجاوزت أعداد المصابين والشهداء الآلاف حتى الآن، وما زالت في تزايد مع استمرار التصعيد بين الجانبين. وقد ألزم ذلك الأمر حركة حماس، بصفتها المسيطرة على قطاع غزة منذ عام 2007، بضرورة إحداث نوع من التهدئة والتقارب مع الجماعات المسلحة داخل القطاع بدلا من استمرار التوتر بينهما تجنبًا لحدوث مزيد من التحرش بإسرائيل، خصوصًا مع امتلاك تلك الجماعات صواريخ تمكنها من مهاجمة إسرائيل في أي وقت، بما يزيد من خطورة الأوضاع مستقبلا داخل القطاع، وبالتحديد على حركة حماس لأن إسرائيل تستهدف في المقام الأول المواقع العسكرية للحركة، وتوسِّع دائرة الاغتيالات لقادتها السياسيين.
ومع أن حماس، التي تأسست عام 1987، تعد أقوى التنظيمات الفلسطينية المسلحة على الإطلاق، وأكثرها عددًا وتسليحًا نوعيًّا؛ إلا أن هناك فصائل فلسطينية أخرى مسلحة عسكريًّا تنشط بشكل كبير في قطاع غزة مثل 'سرايا القدس' التي تمثل الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي التي يتزعمها رمضان عبد الله شلح، والتي تأتي في المرتبة الثانية من حيث القوة والتسليح والعدد بعد كتائب القسام، وتمتلك صواريخ وأسلحة مضادة للدروع. وكذلك لجان المقاومة الشعبية وغيرها من الفصائل التي تمتلك قوة عسكرية لا يُستهان بها داخل القطاع.
تنقسم الجماعات الإسلامية الفاعلة داخل القطاع إلى مجموعتين؛ الأولى 'دعوية' وتلك تتعامل معها حركة حماس بنوع من 'غض الطرف' طالما لا تهدد وجودها وطالما ظل نشاطها مقصورًا على الدعوة فقط. أما المجموعة الثانية فـ'جهادية مسلحة' ومنها جماعات (جيش الإسلام)، و(جيش الأمة)، و(مجلس شورى المجاهدين)، و(أنصار التوحيد والجهاد)، والتي تميزت دومًا علاقة حركة حماس بها بنوعٍ من التوتر شبه الدائم.
وقد وصل ذلك التوترُ أقصاه في 15 أغسطس 2009، والذي يمثل تطورًا مفصليًّا في العلاقة بين حركة حماس وحكومتها، وبين الجماعات الجهادية والدعوية التي تعاظم نشاطها بشكل كبير في السنوات العشر الأخيرة، وأصبحت تلعب دورًا هامًّا في الأحداث.
وقد زاد توتر العلاقات بين حماس والجماعات المسلحة الأخرى داخل القطاع بعد أن هاجمت الأجهزة الأمنية التابعة لحماس مسجد ابن تيمية الواقع في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والذي كان يُسيطر عليه حينذاك حزب 'جند أنصار الله' السلفي الجهادي بقيادة الشيخ عبد اللطيف موسى، مما أدى إلى مقتله ومعه العشرات من أنصاره المتحصنين في المسجد.
ومن الناحية الأخرى، كانت هناك بعض المحاولات من تلك الجماعات خلال السنوات الماضية لتطبيق الحدود الشرعية في قطاع غزة، وقام بعض أفرادها بالاعتداء على عدد من الممتلكات الخاصة وتفجيرها، سواء كانت لمسلمين أو مسيحيين، وأيضًا الممتلكات العامة، واستهداف بعض المقرات الحكومية، الأمر الذي يزيد من خطورة تلك الجماعات، حيث لم يعد يتوقف على التحرش بإسرائيل فقط، بل إنه أصبح يهدد الداخل الغزَّاوي ذاته.
استراتيجية حماس.. سلاحا القوة والأيديولوجية
ومع انتشار وتنامي دور الجماعات الإسلامية، وخاصة ذات الانتماء السلفي داخل القطاع بما له من تبعات على الوجود الحمساوي داخل القطاع من ناحية، ومدى سيطرته عليه، وعلى تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من ناحية أخرى، اتَّبعت حركة حماس استراتيجية للتعامل مع تلك الجماعات ترتكز على محورين أساسيين؛ يتمثل المحور الأول في الملاحقة الأمنية لتلك الجماعات من خلال جهاز الأمن الداخلي لحركة حماس، وبالفعل تم اعتقال أعداد من السلفيين، وتجريدهم من أسلحتهم، بعد قصف عدد من المستوطنات الإسرائيلية، بالإضافة إلى التضييق على أنشطتهم السياسية، وعرقلة محاولات تأسيس حزب خاص بهم. أما المحور الثاني فهو محور فكري أيديولوجي؛ حيث سعت الحركة من خلال علمائها الدينيين إلى إقناع العديد من السلفيين بخطأ طريقهم، ومحاولة ثنيهم عن الاستمرار فيه. وقد نجحت حماس في تحقيق هذا المسعى بشكل كبير في الفترة الأخيرة، إلا أنه لا تزال هناك حالات تستعصي على الإقناع، والانضواء تحت راية حماس.
وبرغم نجاح الشق الفكري والأيديولوجي في استراتيجية حماس إلى حدٍّ كبير في التأثير على عقول بعض شباب التيار السلفي، فإن حدود التأثير في النهاية ما زالت قاصرة عن وضع حد لذلك التوتر في العلاقات بين حركة حماس وبين الجماعات الجهادية في قطاع غزة. وقد ساهم استمرار الغارات الإسرائيلية على غزة من ناحية، وتغير النظام السياسي في مصر من ناحية أخرى، من نظام يدعم حماس بقوة (الإخوان المسلمون) إلى نظام لا يدعمها بنفس القوة - في إجبار حماس على ضرورة مراجعة موقفها واستراتيجيتها في التعامل مع التيار السلفي في غزة، بما دفع في اتجاه إحداث نوع من 'تحقيق لمصالح الطرفين' كما جاء على لسان المسئول السلفي محمد أبو جامع؛ فقد توقفت عمليات اعتقال السلفيّين وملاحقتهم خلال الفترة الماضية بشكل شبه كامل، وتم الإفراج عن 42 من عناصرهم المعتقلين، بينما توقّف السلفيّون عن إصدار بيانات ضدّ 'حماس'.
احتواء الخلافات
مع احتدام التوتر بين حركة حماس والجماعات المسلحة الأخرى داخل القطاع بما يؤثر على مكانة ونفوذ الحركة داخل قطاع غزة بدأت حركة حماس في احتواء الخلافات بينها وبين الجماعات المسلحة الأخرى داخل القطاع، كما عملت على تأكيد حقوق تلك الجماعات في مواجهة إسرائيل، مؤازرة تلك الجماعات، وتعزيز مواقفها في مواجهة من يدعونها لتسليم أسلحتها، وقد برز ذلك في تصريحات محمود الزهّار، أحد المسئولين الكبار في حركة حماس قبل الغزو الإسرائيلي الأخير؛ حيث أكد أن 'توقيع اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، لن يعطي لهذه الحكومة القوة أو السلطة لإجبار الجماعات المسلحة في غزة على شيء'. مشيرًا إلى أنه 'لن يُمس أحد من الجماعات المسلحة سواء من حماس أو منظمات أخرى'.
كذلك أُثير في الآونة الأخيرة بعض الأخبار عن وجود مبادرة للصلح بين حركة حماس والجماعات المسلحة الأخرى داخل القطاع بهدف نبذ الخلافات والتنازع فيما بينهما، والاستفادة من الخبرات السياسية والعسكرية لدى حماس، والتوقف عن حرب التشهير بين الجبهتين.
وتتضمن المبادرة التي ساهم في صياغتها شخصيات عربية وإسلامية، 8 بنود أساسية لإنهاء سنوات من الصدام الدامي بين الطرفين؛ ومن أبرز تلك البنود: منح السلفيّين حريّة العمل السياسي والعسكري والدعوي والاجتماعي وتنظيم الفعاليات المختلفة، ووقف كافة عمليات الاعتقال والملاحقة، وتشكيل هيئة مشتركة مع 'حماس' لمتابعة أي مشكلات قد تقع وتتسبّب في إحداث أزمات جديدة.
في مقابل ذلك، شدَّدت حركة حماس على السلفيين في تلك المبادرة ضرورة الالتزام بما أسمته 'التوافق الوطني' حول التصعيد أو التهدئة مع إسرائيل، والتأكيد على عدم إطلاق أي صواريخ أو قذائف بصورة انفراديّة، لأن من شأن ذلك استدراجها إلى حرب مستعجلة ضدّ غزّة لا يبدو أن أحد الفصائل مستعد لها أو متأهب لتبعاتها في الوقت الحالي.
ويبدو، من خلال تلك المبادرة أن الالتزام بها يصُّب في مصلحة الطرفين، فلم تكن الجماعات المسلحة داخل القطاع تأمل في أكثر من ذلك، وما يؤكد ترجيح التزامها ببنود المبادرة وقبولها لها هو عدم تطرقها للنقاط الخلافية المعتادة، وبالتحديد ما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية، والذي دائمًا ما تتخذه الجماعات السلفية ذريعة لاتهام حماس بالتساهل في تطبيق بعض مظاهر الدين. وعلى الجانب الآخر من مصلحة حماس أن يتم تطبيق تلك المبادرة حتى يتم تنسيق الجهود مع تلك الجماعات فيما يتعلق بكيفية وتوقيت مواجهة إسرائيل وآليات التصعيد ضده، مع الاحتفاظ بالقوة والسيطرة الأكبر داخل القطاع.
(*) باحث في العلوم السياسية.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستارتيجية