اقترنت دراسة موجة الربيع العربي، من حيث الأسباب والتداعيات، إلى حد بعيد، بدراسة صعود الإسلاميين إلى الحكم، ومحاولة تفسير ذلك في ضوء تاريخ الحركات الإسلامية في المنطقة العربية. وجاء سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر ليسطّر مرحلةً جديدةً في تاريخ الحركات الإسلامية، وهو الأمر الذي تطلب مزيدًا من الجهد الأكاديمي لتحليل مفردات هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة العربية.
وفي هذا الإطار، يأتي كتاب 'شادي حميد'، الباحث في مركز بروكينجز المتخصص في الحركات الإسلامية والعلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي، ليقدم أطروحة جديدة حول ديناميكية عمل الحركات الإسلامية عبر التاريخ، محاولا طرح أفكار مفتاحية يُمكن من خلالها فهم تاريخ هذه الحركات، واستشراف مستقبلها، وذلك بناء على مئات المقابلات الشخصية التي أجراها مع قادة ونشطاء سياسيين من مختلف أنحاء المنطقة العربية.
ديناميكية عمل الإسلاميين قبل الربيع العربييتناول حميد في هذا الجزء تحليل أسلوب عمل الحركات الإسلامية، بدايةً من تسعينيات القرن الماضي حتى انطلاق موجة الربيع العربي، ويزعم أنها استطاعت التكيف مع معطيات هذه الفترة من خلال تبديل التكتيك المُستخدم دون التنازل عن المعتقدات الأساسية بشكل نهائي، وهو ما تأكد في أعقاب موجة الربيع العربي، وعودة الإسلاميين للتمسك بهذه المعتقدات والأفكار.
فيُقر حميد بأن الإسلاميين تعرضوا للكثير من القمع والاضطهاد الأمني من جانب الأنظمة السياسية العربية، إلى جانب حظر نشاطهم السياسي. ولكن في الوقت ذاته تم التغاضي عن تلك المنظمات الدينية الدعوية التابعة لهم، وكذلك عن الخدمات الاجتماعية التي قدمتها تلك المؤسسات لشريحة كبيرة من الطبقات ذات الدخول المتدنية والمستوى الاجتماعي المتدهور.
وهو الأمر الذي دفعهم دفعًا نحو الاعتدال في طرحهم للأفكار السياسية والدينية، كما أن شبكة المساعدات الاجتماعية التي أسسها الإسلاميون خلقت لهم قاعدة اجتماعية كبيرة في مختلف المدن والقرى، وهو ما عزز مواقعهم السياسية، وجعلها أكثر نضجًا. حتى أضحت قوى الإسلام السياسي معارضة قوية ومنظمة، قادرة على الاستفادة في أي لحظة من سقوط الأنظمة السلطوية الحاكمة.
ويمضي حميد بشكل أكثر عمقًا في قراءة الظروف التي دفعت القوى الإسلامية في المنطقة العربية إلى إبداء مزيدٍ من الاعتدال، متبعين بذلك تكتيكًا جديدًا يُلائم معطيات المرحلة. حيث يُشير حميد إلى مجموعة النكسات التي مر بها الإسلاميون في عقد التسعينيات من القرن الماضي، بدايةً بتجربة الإسلاميين في الجزائر، وتدخل الجيش للحيلولة دون وصول جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم بعد أن فازت بالفعل في الانتخابات، مرورًا بوأد التجربة الديمقراطية في الأردن، ووصولا إلى تشديد الخناق على جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وهو الأمر الذي أثّر بشدة على القوى الإسلامية العربية، ودفعها إلى مراجعة ديناميكية عملها.
ثم يطرح حميد أبرز ملامح التكتيك الجديد الذي اتبعه الإسلاميون في المنطقة العربية، في مواجهة تعاظم قمع الأنظمة الحاكمة لهم؛ حيث عمل الإسلاميون على تلميع صورتهم ورسالتهم الاجتماعية والسياسية أمام المجتمعات العربية، وذلك من خلال عدة خطوات:
أولا: عملت الأحزاب الإسلامية السائدة حينذاك على إعادة ترتيب أولوياتها بشكل جذري.
ثانيًا: التراجع عن التشدد فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية في المتجمعات العربية.
ثالثًا: بدأت القوى الإسلامية في الحديث عن إيمانها وسعيها لتعزيز قيم الديمقراطية، والتعددية، والاهتمام بحقوق المرأة والأقليات.
رابعًا: تشكيل دائرة جديدة من التحالفات تشمل مختلف الأطياف والأيديولوجيات السياسية.
خامسًا: إضفاء الديمقراطية على هياكلها التنظيمية.
وقد أدت هذه الخطواتُ في مجملها إلى تعزيز قوة الإسلاميين على الساحة السياسية. وفي سبيل حرصهم على عدم فقدان تلك القوة، كانوا حذرين في تعاملهم مع الأنظمة السياسية القائمة. ففي حين كانوا قادرين على خوض غمار المنافسة في الانتخابات وبقوة، كانوا حريصين على عدم إظهار قوتهم السياسية الحقيقية، وعدم تأكيد قدرتهم على السيطرة على المشهد الانتخابي، وكل ما كانوا يهدفون إليه هو التأكد من أنهم سيحلون محل الأنظمة السياسية القائمة إذا ما انهارت يومًا ما.
وقد تعزز هذا الاتجاه الاعتدالي في سلوك الإسلاميين عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، والتي قدمت ذخيرة جديدة للحكومات لاتخاذ إجراءات صارمة ضد الإسلاميين، سواء المتطرفة أو المعتدلة، مما وضع المنظمات الإسلامية كجماعة الإخوان في موقف دفاعي. ففي عام 2004، على سبيل المثال، أطلقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر مبادرة تحت عنوان 'مبادرة جماعة الإخوان المسلمين للإصلاح الداخلي في مصر' سعوا من خلالها إلى بلورة رؤية حول تعزيز قضية الديمقراطية في مصر.
الإسلاميون والتحول الراديكالي بعد الربيع العربييذهب حميد إلى أن المرحلة التي أعقبت موجة الربيع العربي هي المرحلة الثانية لتاريخ الحركات الإسلامية، والتي أطلق عليها مرحلة 'الانفتاح الديمقراطي'. ويشير حميد إلى أن الجماعات الإسلامية في هذه المرحلة تخلت عن تكتيكها السابق، وعادت إلى التمسك بسابق معتقداتها، أي أنها أصبحت أكثر راديكالية.
ففي مواجهة الانفتاح الديمقراطي؛ بدا الإسلاميون أكثر تمسكًا بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي قوّض الأطروحات الحديثة التي مفادها أنه كلما تم السماح للجماعات الإسلامية بالانخراط في العملية الديمقراطية، كلما مالت معتقداتهم وممارساتهم لتصبح أكثر ليبرالية. وهو ما ثبت خطؤه تمامًا.
ويُحلل حميد هذا التحول في سلوك الإسلاميين في مرحلة الانفتاح الديمقراطي، ويقول إن هناك عاملين أساسيين يقفان خلف هذا التحول، وهما:
أولا: في المجتمعات المحافظة، مثل مصر والأردن، تدعم المشاعر الشعبية تطبيق أنظمة قانونية أكثر تقليدية. فعلى سبيل المثال، في عام 2011 أشار استطلاع أجراه معهد 'جالوب'، إلى أن 65% من المصريين يعتقدون أن القيادات الدينية يجب أن تلعب دورًا محوريًّا في تقديم المشورة إلى أولئك القائمين على صياغة التشريعات الوطنية. وفي مارس 2012، أظهر استطلاع رأي أجرته شركةYoascii117Govأن 18% فقط من المصريينيدعمون فكرة ترشح 'امرأة' لمنصب رئيس الجمهورية. وبالتالي فمن المنطقي أن تستجيب الأحزاب السياسية ـ خاصة الإسلامية منهات ـ لتلك المشاعر الشعبية المحافظة، حتى تتمكن من جذب معظم شرائح المجتمع لتبني برنامجها السياسي.
ثانيًا:يتأسس العامل الثاني على حقيقة بسيطة ـ وفقًا لحميد ـ مفادها أن الإسلاميين ملتزمون ـ بعمق وبصدق ـ بنظرة مميزة لمعظم قضايا المجتمع، ترتكن في الأساس إلى 'القيم غير الليبرالية'. فالتزام الإسلاميين بقواعد الممارسة الديمقراطية قائم على رغبتهم في العبور بالمجتمع إلى ما يُسمى بـ'النهايات غير الليبرالية'.
وفي هذا الصدد، يُشير حميد إلى اختلاف مفهوم 'الديمقراطية الليبرالية' عن مفهوم 'الإسلاموية'؛ إذ إن الأخير يرتكز على 'الديمقراطية غير الليبرالية'، أو على أقل تقدير، يسعى إلى بناء مجتمع يختلف تمامًا عن تصورات العلمانيين والليبراليين. فعلى سبيل المثال، تُعتبر بعض الحقوق والحريات ـ من المنظور الليبرالي ـ غير قابلة للتفاوض، بينما من وجهة نظر الإسلاميين، تلعب القيادات الحكومية والدينية دورًا محوريًّا في الحياة الخاصة للمواطنين.
وفيما يتعلق بفشل الإسلاميين في مصر، يقول حميد إن سقوط مبارك مثّل فرصة تاريخية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر كي ترتقي إلى الحكم، ولكن في الوقت ذاته مثّل تهديدًا لتلك الجماعة التي اعتمدت لسنوات على قمع النظام لها في توحيد جبهتها، وجذب تعاطف شرائح مختلفة من الشعب المصري لها.
ويُقر حميد بأن هناك مجموعة من العوامل ساهمت في فشل تجربة الإسلاميين في الحكم؛ حيث بدا سلوكهم أقل انضباطًا، كما تبددت سمة 'الاعتدال' في خطاباتهم التي انحرفت نحو اتجاه يميني راديكالي، وعادت التوجهات المعادية لليبرالية إلى السطح مجددًا، وقد عزز هذه التوجهات تحالف جماعة الإخوان المسلمين مع السلفيين الأكثر تزمتًا، والذين تمكنوا من تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات التشريعية.
وجاءت قرارات الرئيس الإسلامي محمد مرسي وتحركاته السياسية لتقوّض أي مساعٍ لتجسير الفجوة التي نمت بين جماعة الإخوان المسلمين ومختلف القوى السياسية؛ حيث أصدر محمد مرسي في 2012 إعلانًا دستوريًّا، منحه مزيدًا من الصلاحيات الواسعة، في مواجهة السلطة القضائية التي بدت أكثر تحفزًا تجاه القوى الإسلامية في مصر.
وختامًا، يمكن القول إن مصير حركة الإسلام السياسي مرتبط إلى حد بعيد باستمرار المعركة حول دور الدين في الحياة العامة. وما دامت هذه المعركة مستمرة، فإن الأحزاب الدينية في المنطقة العربية ستظل قوة هامة ومحورية في مجتمعاتها، سواء من خلال تواجدها في صفوف المعارضة، أو في ردهات الحكم.
عرض: محمد محمود السيد ـ باحث متخصص في الشئون العربيةالمصدر: المركز الأقليمي للدراسات الاستراتيجية