سعيد عكاشة
رغم إعلان إسرائيل استدعاء مزيدٍ من قوات الاحتياط تحسبًا لتوسيع العمليات الجارية في غزة ضد حركة حماس وعددٍ من التنظيمات الفلسطينية الأخرى؛ فإن المحاولات لا تنقطع من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للبحث عن مخرجٍ من هذه الحرب التي كلفت بلاده أكثر من ستين قتيلا ومئات الجرحى حتى الآن.
يواجه نتانياهو في الوقت الراهن ضغوطًا عنيفة من جبهتين متضادتين، الأولى يقودها اليمين الإسرائيلي المتطرف وفي القلب منه عناصر بارزة من حزب الليكود نفسه، وتطالب هذه الجبهة بتعميق القتال في غزة لتحقيق أحد هدفين: إما تدمير كامل لبنية حماس والجهاد الإسلامي ودمار واسع وقتلى بالآلاف لسكان القطاع حتى يتحقق ردع طويل الأمد يمنع المنظمات الفلسطينية ومؤيديها في الداخل من المغامرة مرة أخرى بدخول صراع مماثل، وإما بإسقاط حكم حماس وتسليم القطاع مرة أخرى للسلطة الفلسطينية.
أما الجبهة الثانية فقوة ضغوطها لا تأتي من جانب اليسار الإسرائيلي أو من الرأي العام في الداخل، بل من الضغوطات الدولية والإقليمية بسبب ازدياد أعداد الضحايا المدنيين في غزة ـ خاصة بين النساء والأطفال ـ مع استمرار عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق الأهداف التي وضعتها حكومة نتانياهو وهي: وقف إطلاق الصواريخ ضد المدن الإسرائيلية، وتدمير الأنفاق التي أقامها الفلسطينيون على الحدود بين غزة وإسرائيل.
الحرب وإسقاط نتانياهو
بدون التقليل من الهدف المطلق للأحزاب اليمينية المتطرفة مثل الليكود (رغم كونه حزب رئيس الحكومة)، والبيت اليهودي، وإسرائيل بيتينو، وهو تصفية الفلسطينيين شعبًا وقضية، فإن هجوم هذه الأحزاب على نتانياهو يحتوي على جانب سياسي يتعلق بتنافس هذه الأحزاب على الجمهور المتطرف الذي يُولي قضايا الأمن أهمية كبرى على حساب القضايا الاجتماعية الاقتصادية.
ومن ثم يبقى مفهومًا لماذا أقدم أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية وزعيم حزب إسرائيل بيتينو على قرار فك الارتباط الذي أُقيم بينهما وبين حزب الليكود عشية الانتخابات البرلمانية السابقة، حيث رأى ليبرمان أن الفرصة أصبحت مواتية أمامه للتقدم خطوة نحو استقطاب العناصر الأكثر 'صقورية' في الليكود لضمهم إلى حزبه كخطوة تمهيدية لمنافسة نتانياهو على مقعد رئيس الحكومة في الانتخابات القادمة.
ويعتقد ليبرمان أن تردد نتانياهو في تبني هدف إسقاط حكم حماس كهدف للعمليات الحربية الجارية حاليًّا في القطاع مع استمرار ارتفاع الخسائر البشرية الإسرائيلية سيؤدي حتمًا إلى تقويض ثقة الناخبين المتطرفين (التي تتزايد نسبتهم في الرأي العام الإسرائيلي منذ سنوات) في نتانياهو، ومن ثم تسهل إزاحته، خاصة مع مطالبة بعض أصوات اليمين المتطرف في الإعلام الإسرائيلي بتشكيل لجنة للتحقيق في الإدارة السياسية للحرب في غزة، والتي يتوقع في حالة تشكيلها أن تُدين نتانياهو، خاصةً مع التسريبات التي تخرج من بعض القيادات العسكرية مؤخرًا والتي تتهم نتانياهو بتقييد الجيش، ومنعه من الانتصار على حماس، بدعوى الخوف من نزع الشرعية الدولية لإسرائيل.
على الجانب الآخر يُدرك نتانياهو أن استجابته لضغوط اليمين قد تقود إلى تصاعد وتيرة القتلى في صفوف الجيش بشكل أكبر عما يمكن أن يتحمله الرأي العام، مما يسهل بعده قلبه في الاتجاه المضاد، وبدلا من تعزيز الثقة في رئيس الحكومة ينقلب إلى رفض بقائه في الحكم، وهو ما حدث مع سلفه السابق إيهود أولمرت عقب اتهامه بالتقصير في حرب عام ٢٠٠٦ مع حزب الله.
بالإضافة إلى ذلك يعرف نتانياهو جيدًا أن إسقاط حكم حماس بالقوة العسكرية مستحيل إلا لو عادت إسرائيل إلى احتلال القطاع بالكامل مرةً أخرى، وهو ما يشكل في حد ذاته كارثة للجيش الإسرائيلي، كما أن الرأي العام هناك لن يقبل -تحت أي عنوان- العودة إلى احتلال القطاع بسبب خوفه من نزيف الخسائر البشرية.
نتانياهو والضغوط الخارجية
يتحسس نتانياهو خطواته لعدم خلق مواجهة جديدة مع إدارة الرئيس أوباما التي تعتقد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية قد تعمد إفشال الجهود الأمريكية لاستئناف مفاوضات السلام بعد تعطلها بسبب السياسة الاستيطانية لنتانياهو وحكومته. من هنا لا يريد نتانياهو أن يرفض علانية الضغوط التي تمارسها واشنطن لإيقاف الحرب في غزة، بل يسعى إلى تخفيف هذه الضغوط إما بتقييد حركة الجيش وتحديد أهداف أقل مما تطمح إليه قياداته (خاصة وزير الدفاع موشيه يعلون)، أو بالقبول بهُدَن إنسانية قصيرة الأمد لتقليل معاناة سكان القطاع.
لقد جاءت رسالةُ الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي طالب فيها نتانياهو بالوقف الفوري لإطلاق النار مع الترتيب لبحث كافة القضايا المعلقة بين الفلسطينيين (وليس حماس وحدها) وبين إسرائيل، لتثير مخاوف نتانياهو من أن يكون ثمن وقف إطلاق النار هو العودة إلى مائدة التفاوض مع أبو مازن للحديث عن عودة إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧، والكف عن بناء المستوطنات، ومناقشة مستقبل القدس الشرقية، والدولة الفلسطينية المنتظرة، وغيرها من القضايا.
إن العودة إلى مائدة المفاوضات مع أبو مازن، وجعل قضية تجريد حماس والمنظمات الجهادية الفلسطينية من أسلحتها، جزء من صفقة التسوية النهائية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي ستعتبر هزيمة مريرة لنتانياهو واليمين الإسرائيلي ذاته، حتى لو لم توافق حماس على هذه الصفقة، مما سيؤدي حتمًا إلى إنهاء حياته السياسية للأبد.
خيارات إنهاء الحرب
يمكن القول إن حصيلة الضغوط التي تُمارسها الجبهتان المتضادتان على نتانياهو ستجعله يتحرك في إطار ثلاثي الأبعاد:
البعد الأول: لن يتورط نتانياهو في اجتياح القطاع بالكامل وإسقاط حكم حماس كما يطالب اليمين المتطرف، نظرًا لاستحالة تحقيق هذا الهدف عمليًّا مع توقعات بانقلاب الرأي العام الإسرائيلي ضد هذه السياسة بسبب الاحتمال المؤكد بارتفاع التكلفة البشرية الإسرائيلية إلى حدود لا يمكن احتمالها.
البُعد الثاني: عدم المراهنة على التوصل إلى اتفاق تهدئة مع حماس والاستعداد لحرب استنزاف يومية وممتدة زمنيًّا، مع تعميق عمليات إلحاق دمار شامل بالبنية التحتية والسكانية في غزة، والقضاء على أغلب مخزون السلاح الموجود في يد حماس والجهاد، لاستعادة الردع عبر تخويف القوى الاجتماعية المؤيدة لحماس من تكرار مغامرة خطف مواطنين إسرائيليين، أو إطلاق صواريخ نحو المدن الإسرائيلية، ويحقق هذا الخيار إرضاء جزئيًّا لجمهور اليمين المتطرف، وإن كان لن يقلل من الإدانة الدولية لإسرائيل.
البعد الثالث: منع الربط بين الخروج من الحرب الحالية في غزة وبين استئناف عملية التسوية مع الفلسطينيين، مع الإصرار على أنه في حالة التوصل إلى اتفاق لرفع القيود المفروضة على قطاع غزة، سواء من جانب إسرائيل أو مصر، فإن ذلك سيكون مقابل نزع سلاح حماس والجهاد قبل البدء في رفع هذه القيود أو بالتزامن معها في أسوأ التقديرات، مع وضع ضوابط للرقابة الدولية الصارمة على الحدود بين غزة وكلٍّ من مصر وإسرائيل لضمان عدم تسليح القطاع محددًا.
(*) باحث في الشئون الإسرائيلية
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية