أحمد رجببعد مرور ثلاث سنوات ونصف على اندلاع الثورات العربية، اضطرت دول تلك الثورات إلى اتباع سياسات تقشفية قاسية، في محاولة لاستعادة نسق توازنات المالية العامة، حيث أخذت هذه الإجراءات صورًا متنوعة بهدف زيادة الإيرادات وخفض النفقات العامة وفق ظروف كل دولة، رغم تشابه العوامل الدافعة للحكومات نحو تطبيق هذه التدابير، والتي يتوقف مدى نجاحها على تفاعل عدد من العوامل الحاكمة، التي تتعلق بتعويض المتضررين من هذه السياسات، واستعادة الثقة بين الشعوب والنخب الحاكمة، والتسويق الدعائي الجيد لهذه الإصلاحات. فيما يتوقع لها أن تعيد تشكيل خرائط مآلات الأمور في المستقبل، في ظل ارتفاع سقف التوقعات وزيادة الضغوط الشعبية لتحسين الأحوال المعيشية.
جذور متشعبةاتجاه دول الثورات العربية إلى تبني تلك السياسات يعود إلى اعتبارات عديدة تتمثل في:
1- تراجع معدلات النمو: تعاني دول الثورات العربية من تآكل حاد في معدلات النمو الاقتصادي، إذ يدور معدل النمو الحقيقي في فلك 3% في تونس، بينما لا يتعدى 2% في مصر، فيما يصل إلى حدود 4% في اليمن. ويعود هذا التدهور بشكل رئيسي إلى ضعف معدلات الاستثمار الكلية في هذه الدول بسبب الاضطرابات السياسية، في ضوء عجز القطاع الخاص عن تعويض تراجع دور قطاع الأعمال العام. ويؤدي هذا التراجع في معدلات النمو إلى تناقص متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، والذي وصل إلى 8442 دولار في تونس، كما بلغ 5795 دولار في مصر، في حين لم يتخط 2145 دولار في اليمن.
2- تصاعد العجز المالي: تواجه هذه الدول مشكلة بنيوية مزمنة تتصل بتصاعد العجز الكلي في الموازنات العامة، حيث بلغ هذا العجز أقصاه في مصر بنسبة 12% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما وصل إلى حدود 8.5% في تونس، فيما لم يتعد 6% في اليمن. ويرجع تزايد العجز بشكل أساسي إلى توسع الحكومات المتتالية بعد الثورات في الإنفاق الجاري على الدعم &qascii117ot;العيني&qascii117ot; والأجور وخدمة الدين، تلبية لمطالب العدالة الاجتماعية الملحة ولمواجهة زيادة تكاليف الغذاء والوقود والدين، وذلك بالتزامن مع تراجع الإيرادات العامة المعتمدة على ظروف الاستقرار السياسي بالأساس في ظل توقف تدفقات الاستثمار والسياحة والصادرات، وبما رفع بشدة من معدلات الاقتراض والتضخم.
3- ارتفاع نسب الدين: اضطرت الحكومات تحت وطأة تزايد عجز الموازنات العامة، إلى الاقتراض محليًا ودوليًا لتغطية الفارق المتزايد بين الإيرادات والمصروفات العامة، الأمر الذي دفع مستويات الدين العام بشقيه إلى التزايد بشكل غير مسبوق، حيث وصلت نسبة الدين المحلي من الناتج المحلي الإجمالي إلى 83.5% في مصر، بينما بلغت نحو 43.5% في تونس، فيما قاربت هذه النسبة على نحو 50% في اليمن، وهى نسب تفوق قدرة دول الثورات العربية على الاستمرار في تحملها، في ظل ما تمر به من حالات تباطؤ اقتصادي شديد، إضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة على هذه الديون، نتيجة التخفيضات المتتالية في تصنيفات الجدارة الائتمانية لهذه الدول.
4- اختلال موازين التجارة: تتسم بنية موازين التجارة في اقتصادات الثورات العربية بوجود خلل هيكلي متجذر، إذ تعجز عوائد الصادرات السلعية عن تغطية تكاليف الواردات السلعية، وذلك بسبب تراجع الأداء التصديرى للصناعة، مع تزايد اعتماد قاعدة الصناعات الوطنية على المدخلات المستوردة، نتيجة توقف عمليات التعميق الصناعى، وهو ما ساهم بدوره في استنزاف جانب مهم من حصيلة النقد الأجنبى المتاحة، الأمر الذي دفع هذه الدول إلى الاستدانة بصورة مستمرة لتغطية العجز في موازين التجارة، حيث بلغت نسبة عجز الميزان الجاري إلى الناتج المحلي نحو 8.2% في تونس، بينما وصلت إلى 2.7% في اليمن، فيما قاربت هذه النسبة على نحو 2.1% في مصر.
تداعيات متشابكة
في إطار سعى دول الثورات العربية للخروج من هذه الأزمات الاقتصادية الحادة، بعد موجة الاضطرابات السياسية منذ عام 2011، لجأت الحكومات إلى اتخاذ بعض الإجراءات التقشفية الهادفة لاستعادة التوازنات المالية، من أجل تخفيض عجوزات موازناتها العامة الكبيرة، ومن ثم السيطرة على مستويات الدين المضطردة، وذلك بتطبيق تدابير سريعة لزيادة الإيرادات العامة من جهة، تمثل أهمها في رفع معدلات الضرائب على الدخل والثروة والمكاسب الرأسمالية والجمارك، مع تفعيل تدابير لخفض النفقات العامة من جهة أخرى، انحصر أغلبها في الحد من المصروفات الجارية بخلاف فوائد الدين، مثل تخفيض الدعم الموجه لمنتجات الوقود والكهرباء، مع وضع ضوابط للحد من فاتورة الأجور الحكومية المتزايدة.
وينظر البعض لهذه الإجراءات القاسية كخطوة أولى في إطار برنامج حكومي أشمل لإعادة ترسيم شكل الاقتصاد الكلي، يهدف إلى كسر دورة ركود الإنتاج والتشغيل والدخل، عن طريق ضخ حزم تحفيزية عامة تعمل على تنشيط معدلات الطلب الكلي الخاملة، وبما يعمل على تدوير عجلة الإنتاج المحلية، وبشكل يعيد ثقة المستثمرين المحليين والأجانب في الاقتصاد الوطني على المدى المتوسط، الأمر الذي يزيد من مستويات الإنتاجية الكلية فى الاقتصاد، ومن ثم يرفع من معدلات تنافسية الاقتصاد المحلي على الساحة العالمية، وبصورة تقلل من الخلل البنيوي المزمن في الميزان التجاري، وبما يحقق نموًا اقتصاديًا أشمل يعود بالنفع على جميع شرائح المجتمع على المدى البعيد.
غير أن اتخاذ إجراءات تقشفية من أجل تخفيض العجز المزمن فى المالية العامة، قد يسفر عن ظهور آثار سلبية على النمو الاقتصادي في الأجل القصير، فعلى سبيل المثال، تتسبب تدابير رفع الدعم عن منتجات الطاقة في ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية التي تستخدم هذه المنتجات، ومن ثم ترفع من المستوى العام للأسعار، الأمر الذي ينعكس بالسلب على القوة الشرائية لمحدودي الدخل، في ظل ضعف أداء منظومة الرقابة الحكومية لضبط الأسعار، وبما يبرز أهمية التساؤل حول التدابير التى يتعين على الحكومات اتخاذها لاستعادة التوازنات المالية، لكن مع ضمان الحد من الآثار السلبية لهذه التدابير على النمو الاقتصادي والفئات الأكثر هشاشة.
لذا، فإن الأولوية القصوى أمام دول الثورات العربية يجب أن تنصب على تحسين كفاءة شبكات الأمان الاجتماعي، لضمان تعويض الفئات المتضررة جراء تطبيق الإجراءات التقشقية، إضافة إلى ضرورة تخصيص الحكومات لجزء من الوفورات المتأتية من الإصلاحات لزيادة الإنفاق الاجتماعي الموجه للطبقات الهشة، كالإنفاق على التعليم والصحة والبنية الأساسية، مع التركيز على تنمية الفئات والمناطق والقطاعات الأكثر حرمانًا. وهناك طرق كثيرة لتقديم الدعم للفئات المحرومة، إما بدعم السلع التي يستهلكونها أكثر، أو باستهداف المناطق التي يعيشون فيها، أو بتحديد تعريفات تمييزية تتيح لهم الحد الأدنى اللازم من خدمات المرافق العامة، أو بإمدادهم بتحويلات نقدية مشروطة/غير مشروطة بحسب القدرات الإدارية لكل حكومة.
خطوة للمستقبلخلاصة القول، إنه ومع التسليم بصعوبة مسألة إصلاح نظم المالية العامة المترهلة في دول الثورات العربية، يبقى الاستمرار في هذه الإصلاحات مهمة لا غنى عنها لاسترداد نسق توازنات الاقتصاد الكلية على المدى المتوسط، ولكن بعد تضمين هذه الإصلاحات المالية المنفردة في إطار خطة إصلاح أشمل لإعادة هيكلة الاقتصاد، وليس فقط لعلاج الاختلالات المالية المرهقة على المدى القصير، وبما يتطلب وجود تصورات متناسقة لدى صانعي السياسات في هذه الدول حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه السياسات، والتي من المتوقع أن تعيد تشكيل خريطة العلاقة بين الدولة والنظام الاقتصادي من ناحية أولى، وبين الدولة وشرائح المجتمع من ناحية ثانية، وبين الدولة والعالم الخارجي من ناحية ثالثة.
المصدر: المركز الاقليمي للدراسات الاسترايجية