د. عزمي خليفة
جاء تحرك تنظيم 'الدولة الإسلامية في العراق والشام' المعروف اختصارًا بتنظيم 'داعش' في كلٍّ من سوريا والعراق ليعكس تحولا استراتيجيًّا هامًّا في العقيدة العسكرية للتنظيم، وهذا في حد ذاته مؤشر على احتمالات عالية لحدوث تغييرات في البيئة الاستراتيجية، ليس لسوريا والعراق فقط ولا لمنطقة الشام فقط، وإنما لمجمل منطقة الشرق الأوسط، بدأ بالشام ثم بدول الخليج العربية. إذ أن العقيدة العسكرية لأي تنظيم تتلخص في التوجه العام الحاكم لرؤية هذا التنظيم لطبيعة التهديدات التي تواجهه ومصادر انتشارها، ومن ثم فإنها تحدد حجم القوات اللازمة لهذا التنظيم، ومستوى تسليحها، وأماكن تمركزها، كما تحدد نمط القيادة والسيطرة، والأهداف التي يتوخى التنظيم تحقيقها.
من هذا المنطلق (تغيير العقيدة العسكرية) تقدمت قوات داعش في سوريا إلى الرقة، وقامت باحتلالها أولا، وسعت للاعتراف بها كعاصمة مؤقتة للخلافة الإسلامية، وبالرغم من خطورة هذا التحرك فإن سوريا تكتمت الأمر إعلاميًّا، وربما يمكن تفهم ذلك في ضوء انعكاساته السلبية عليها كدولة وكنظام، لكن الغريب في الأمر تكتم الولايات المتحدة للأمر بالرغم من مخاطره على مصالحها في ظل ترتيبات الأمن الأمريكية الحالية في المنطقة.
ثم قام 'داعش' باحتلال المناطق السنية في العراق، والتحرك صوب الموصل ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد التي هددت باقتحامها بعد ذلك، ليهدد لأول مرة وبصورة مباشرة وحدة الأراضي العراقية، خاصة أن الأكراد في الشمال استغلوا هذا التطور، وسيطروا على كامل مدينة كركوك الاستراتيجية الغنية بالإنتاج النفطي لأول مرة، وأشاروا في مباحثاتهم مع وزير الخارجية الأمريكي كيري إلى أن هذا التطور قد وفر واقعًا جديدًا في العراق يسمح باستقلال الدولة الكردية، وهو ما لم يعلق عليه كيري، وإن كانت إشارات قد خرجت من مصادر أمريكية -فيما بعد- تُفيد بأن هذا الاستقلال يحتاج إلى التنسيق مع تركيا، وهو ما يُفيد ضمنًا قبولا أمريكيًّا بفكرة تقسيم العراق واقعيًّا وفعليًّا بعد أن نجحت أمريكا في وضع بذور هذا التقسيم في الدستور الذي صدر تحت حمايتها خلال احتلالها للعراق.
هذه التحركات المتزامنة من 'داعش' في سوريا والعراق ستؤدي إلى ثلاث نتائج هامة، أولها التوجه إلى تقسيم سوريا والعراق على أسس طائفية، وهو هدف استراتيجي سعت إليه واشنطن من خلال مشروع الشرق الأوسط الموسع الذي استهدف نزع العروبة عن المنطقة العربية من خلال إذابتها في كيان جغرافي أوسع يتسم بالتعدد الثقافي والمذهبي أولا، ثم تقسيم دول هذه المنطقة العربية على أسس مذهبية وإثنية ثانيًا بدعوى وجود صراعات داخلية، والمطالبة بإعطاء مختلف الأقليات والجماعات حرية الاستقلال وتقرير المصير، وهو ما عبرت عنه صراحة كوندوليزا رايس حينما ذكرت أن 'الحرب الأهلية في سوريا هي الفصل الأخير في قصة تفكك الشرق الأوسط كما نعرفه، فإمكانية الحفاظ على وحدة المنطقة وإعادة بنائها على أساس من التسامح والحرية والوصول بها إلى الاستقرار الديمقراطي بدأت تتسرب من بين أيدينا، وتبتعد عن قبضتنا، ومن ثم تفكيك الإقليم. وإعادة بنائه معناه التخلي عن حدود سايكس بيكو التي تم التوصل إليها في أعقاب الحرب العالمية الأولى نتيجة انهيار الخلافة العثمانية، أما التقييم بأن الفرصة بدأت تتسرب من بين الأيدي الأمريكية وتبتعد عن قبضتها، فهو تقييم ارتبط باستمرار الأسد على رأس السلطة في سوريا الموحدة داخل حدود سايكس بيكو، وهو نفس ما عبر عنه بصورة أكثر وضوحًا بايدن -نائب الرئيس الأمريكي ـ الذي أبدى استعداد بلاده للاعتراف بالدويلات الناتجة عن تقسيم العراق وسوريا.
أما النتيجة الثانية المترتبة على تغير العقيدة العسكرية لداعش والتحركات التي ترتبت عليها فهي توقع صعود دور تيارات الإسلام الجهادي في مواجهة الإسلام السلفي والإسلام الاجتماعي الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية المرتبطة بها والداعمة لها، فالنجاح -حتى وان اعتبرناه نسبيًّا ومؤقتًا- الذي حققه داعش والقوى السنية والبعثية المتحالفة معه سيتحول إلى مصدر إلهام لمختلف التنظيمات الجهادية السنية والشيعية على السواء، خاصة أن تجربة سبتمبر 2001 قد رسخت لدى الإدراك الأمريكي إشكالية التعامل مع الإسلام السني الذي لا يخضع لقيادة موحدة بعكس الإسلام الشيعي الذي له مرجعياته الدينية التي يمكنها السيطرة على تحركاته في الشارع، وهو الإدراك الذي جسده سلوك السفير الأمريكي بالبحرين خلال أزمة 14 فبراير، والذي أيد المعارضة الشيعية بغض النظر عن الدور الإيراني لدعم هذه المعارضة، مما دفع مجلس النواب البحريني إلى اتخاذ قرارٍ بطرد السفير من البحرين، وهو سلوك أشبه بسلوك السفيرة الأمريكية بالقاهرة آن باترسون التي أيدت مواقف الإخوان، وجعلت الاتصالات بقيادات الجماعة لها أولوية على الاتصالات بالحكومة المصرية، وانتهى الأمر بمغادرة السفيرة للقاهرة أمام الاحتجاجات الشعبية.
أما النتيجةُ الثالثة فهي اختلاف الثقل النسبي للتنظيمات المختلفة للإسلام الجهادي في الشرق الأوسط ككل، فإذا كان تنظيم القاعدة هو التنظيم الأم للإسلام الجهادي ومن ثم كانت كافة التنظيمات الجهادية تدين له بالولاء، فمن المؤكد أن انتصارات داعش على الأرض في سوريا والعراق ستمنح الأخير ثقلا نسبيًّا أكبر على حساب القاعدة، وهو ما وضح بالفعل من تصريحات أيمن الظواهري -قائد تنظيم القاعدة- فور إعلان البغدادي زعيم داعش بأنه خليفة المسلمين، فإذا بأيمن الظواهري يُعلن أنه الخليفة، وينبغي على البغدادي مبايعته، وهو ما رفضه الأخير.
هذه النتائج الثلاث المترتبة على تغيير العقيدة العسكرية لداعش: التخلي عن الحدود الحالية، وزيادة أهمية الإسلام الجهادي، واختلاف الثقل النسبي للتنظيمات الجهادية - تتواكب مع سياسة أمريكية جديدة يمكن تحديد أهم ملامحها في تصريحات أمريكية بإعلان نيتها الانسحاب من الخليج لارتفاع أولوية تواجدها في آسيا لاعتبارات عديدة، وعدم إمكانية الحفاظ على الحدود الحالية في الشرق الأوسط، والانفتاح على الإسلام الجهادي، وإعادة النظر في نمط تحالفها مع أوروبا التي ينبغي عليها تحمل بعض المسئوليات الدفاعية عن نفسها، خاصة في ظل تصاعد أهمية الفيل الصيني من جانب، وأهمية البحث عن صيغة جديدة للتفاهم مع روسيا من جانب آخر.
ولكن الأخطر بالنسبة للسياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط أن أهمية إسرائيل بالنسبة للسياسة الجديدة للولايات المتحدة ستنخفض، كما أن إسرائيل ستُحاط بقواعد الإسلام الجهادي في سوريا والعراق ومصر وربما غزة، في مقابل ارتفاع أولوية إيران، وهو ما عبرت عنه القيادة الأمريكية بأنها تسعى لإعادة صياغة توجهات إيران الخارجية، أي المحافظة على وحدة إيران كدولة رئيسية في الشرق الأوسط الجديد بدلا من إخضاعها بالقوة من خلال إسقاط الأسد في سوريا الذي نجح في تعزيز وجوده بالانتخابات، وتخليه عن السلاح الكيماوي، بل واحتمالات استعداده لتولي رئاسة دويلة علوية في الشرق الأوسط الجديد.
إذن نمط التحالفات الحالي الذي طرحته الحدود الحالية (سايكس بيكو) لم يعد صالحًا، وقواعده لم تعد صالحة، والنخب العربية الحاكمة حاليًّا لم تعد صالحة (أحد أسباب التخلي عن مبارك في 25 يناير 2011)، والاتجاه الأكثر ترجيحًا للسياسة الأمريكية في المنطقة سيكون تقسيم كلٍّ من سوريا والعراق إلى ثلاث دول ولبنان قد يبقى وفق الصيغة السياسية الحالية، أو انقسامه إلى ثلاث دول، والانتقال إلى الخليج لتنقسم السعودية إلى ثلاث دول أيضًا، وضم الكويت لدولة شيعة العراق بحكم التركيبة السكانية ذات الأغلبية الشيعية، مع وضع ترتيبات لانتقال سلطة اتخاذ القرار في البحرين إلى الشيعة.
ولكن هذه الأوضاع الجديدة في المنطقة تطرح تساؤلين:
التساؤل الأول: هل سيصمد التحالف السني مع داعش ذي العشرة آلاف مقاتل في سوريا والعراق، أخذًا في الاعتبار افتقاده للحشد الجماهيري؟.
التساؤل الثاني: ماذا نحن فاعلون؟ وأقصد بنحن مصر ودول الخليج الأربع (السعودية والإمارات والكويت والبحرين)؟.
إجابة السؤال الأول أن المهم في هذا المقام الدعم الدولي الذي ستوفره واشنطن للخريطة الجديدة، ومدى تماسك الموقف الدولي لاستقرار التقسيم في ظل وجود سوابق لمثل هذا الحل في منطقة البلقان وإفريقيا بل وآسيا.
وإجابة السؤال الثاني تتوقف على مدى الإدراك بالمخاطر المحدقة بالخليج من ناحية، ومدى الرغبة في القيام بدورٍ فاعلٍ للمحافظة على الحدود الحالية، وذلك لن يتحقق إلا بتغيير الدول الخليجية الأربعة لمواقفها في عددٍ من القضايا، يأتي في مقدمتها الأزمة السورية لتتحول إلى دول داعمة للأسد حتى يمكنه مواجهة الدعم الذي قررت واشنطن تقديمه إلى بعض التنظيمات الإسلامية 'المعتدلة في سوريا' دون تسميتها، فهل هم مستعدون؟!.
(*)المستشار الأكاديمي للمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية