محمد عبدالله يونس(*)
لم يَعُدْ سيناريو تفتت الدولة العراقية إلى دويلات طائفية مجرد رؤية افتراضية؛ إذ إن انهيار الجيش العراقي في مواجهة تحالف بعض الميليشيات بقيادة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، وفقدانه السيطرة على الموصل ونينوى وصلاح الدين والفلوجة، وتمدد البشمركة الكردية للسيطرة على مدينة كركوك المتنازع عليها، وتدفق المقاتلين الشيعة لحماية الأماكن المقدسة في النجف وكربلاء، يكشف مقدارَ التصدع الذي أصاب بنية الدولة العراقية، مما يجعلُ تشكل ثلاثة كيانات من أشباه الدولQuasi States على أسس طائفية، هو المسار الأكثر ترجيحًا، على الرغم مما يكتنفه من تداعيات معقدة على الأمن والاستقرار ليس في العراق فحسب، وإنما في دول الجوار أيضًا.
تحولات إقليمية
يتمثل التحول الأهم في الصراع الأهلي الدائر في العراق، في أن الفواعل المسلحة من غير الدول باتت قادرة على اقتطاع دويلات من صلب الدول القائمة في الإقليم، والسيطرة عليها، وتقديم ذاتها كبديل للدولة القومية من خلال الإحلال محل الدولة في أداء وظيفة الاستخدام الإكراهي للقوة، وتنظيم التفاعلات المجتمعية.
وفي هذا الصدد، لا يمكن اعتبار تمدد "داعش" في المحافظات السنية في العراق السابقة الأولى لسيطرة التنظيمات الجهادية على أقاليم بعض الدول؛ حيث شهدت مدينة درنة في ليبيا إعلان جماعة "مجلس شورى شباب الإسلام" تأسيس إمارة إسلامية تطبق الحدود الشرعية في إبريل 2014، وسبقها تأسيس إمارات مماثلة في محافظات لحج والرقة وريف حلب في سوريا في المناطق التي سيطر عليها تنظيم "داعش" والتنظيمات التابعة لـ"القاعدة"، كما سيطر تنظيم "أنصار الشريعة" و"الحركة الوطنية لتحرير أزواد" الممثلة للطوارق على شمال مالي، وحكم تنظيم "شباب المجاهدين" الصومال قبل تدخل الولايات المتحدة وإثيوبيا عسكريًّا.
بيد أن الحالة العراقية تقدم نموذجًا استثنائيًّا، بالنظر إلى التعقيدات النابعة من إرث الاحتلال الأمريكي، وتقويض دعائم الدولة العراقية، والصراع الطائفي الممتد الذي بلغ أوجه بين عامي 2005 و2007، ووضعية الحكم الذاتي التي حازها إقليم كردستان في الدستور العراقي، والتي منحت الإقليم أغلب مقومات الدولة، مما أجج الاحتقان الطائفي والمذهبي بين مختلف الأقاليم.
ولا ينفصل هذا الصراعُ عن النزعة الطائفية لحكم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وقمع الاحتجاجات في المناطق ذات الأغلبية السنية في محافظات الرمادي وصلاح الدين والموصل وكركوك وديالي، والتي طالبت بالإفراج عن المعتقلين، ووقف النهج الطائفي للحكومة، وتأسيس إقليم سني، وإسقاط الحكومة ذات الأغلبية الشيعية، ووقف التدخل الإيراني في العراق، ثم ما لبث أن تصاعدت حدة الصراع السياسي بفض قوات الأمن العراقية لاعتصام الأنبار بالقوة.
الدويلات الثلاث
أدى انهيار الجيش العراقي إلى إعادة تشكيل خريطة الدولة العراقية مع تماهي الحدود الفاصلة بين الصراع الأهلي الدائر في سوريا ونظيره في العراق، بحيث تصاعد احتمال تفكك الدولة العراقية إلى ثلاثة كيانات تتمتع بأغلب مقومات الدول، خاصة التكوينات المجتمعية المتجانسة، والموارد الاقتصادية، والقدرات العسكرية، ولا ينقصها سوى الاعتراف الدولي، وتتمثل أهم مقومات تلك الدويلات الافتراضية فيما يلي:
1- إقليم كردستان: لم يستفد أيٌّ من التكوينات المجتمعية والسياسية العراقية من التحولات الراهنة في الصراع الطائفي بقدر استفادة إقليم كردستان الواقع شمال شرق العراق، والمكون من محافظات داهوك وأربيل والسليمانية؛ حيث أشار نجيرفان بارزاني رئيس وزراء كردستان، في 17 يونيو 2014، إلى أن العراق قد لا يبقى موحدًا، وقد يكون الحل هو تأسيس ثلاثة أقاليم متجانسة تراعي التكوينات الرئيسية للمجتمع العراقي، بينما حذر رئيس الإقليم مسعود بارزاني من أن استمرار رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في منصبه قد يدفع إقليم كردستان إلى إعادة النظر في العلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد، وتوازى ذلك مع زيادة تصدير الإقليم للنفط الخام عبر الأنابيب النفطية الواصلة لتركيا ليصل إلى حوالي 400 ألف برميل يوميًّا بنهاية العام الجاري، وسعي الإقليم للاستحواذ على حوالي 25% من الميزانية العراقية في ظل عدم التزام حكومة المالكي بالاتفاق حول تخصيص 17% من الموازنة المركزية لصالح الإقليم.
وتُعد قوات "البشمركة" الكردية الميليشيات الأكثر تدريبًا وتسليحًا في الساحة العراقية، كونها تُضاهي الجيوش النظامية في قدراتها؛ حيث يتراوح عددها -وفق مختلف التقديرات- بين 75 ألف مقاتل و190 ألف مقاتل اكتسبوا خبراتهم من تدريبات نظمتها القوات الأمريكية منذ غزو العراق عام 2003، ويمتلكون أسلحة نوعية تكفل لهم التصدي للجيوش النظامية، وفي هذا الصدد يستند الإقليم لدعم الولايات المتحدة التي تعتبره نموذجًا للتعايش الطائفي، فضلا عن علاقات شراكة استراتيجية واقتصادية مع تركيا التي تسعى للضغط على تنظيم "حزب العمال الكردستاني"، واحتواء تمدده في جنوب تركيا عبر تعزيز علاقاتها مع كردستان العراق.
وعقب انهيار الجيش العراقي تمكنت قوات "البشمركة" من التمدد والسيطرة على المناطق المتنازع عليها بين الإقليم والحكومة العراقية المركزية، خاصةً كركوك الغنية بالنفط ومناطق خانقين وجلولاء والسعدية، مما يرجح نشوب صراع على الحدود بين الأقاليم العراقية، عقب تسوية سيطرة "داعش" على الأقاليم العراقية السنية، واتضاح خريطة التمثيل السياسي للطوائف العراقية المختلفة.
2- الإقليم السني: على نقيض حالة التماسك السياسي والاتساق الاقتصادي التي يتمتع بها إقليم كردستان، لم تتشكل الهياكل السياسية والاقتصادية الحاكمة للأقاليم السنية، على الرغم من اتصالها الجغرافي، وامتدادها من محافظة ديالي في الشرق مرورًا بالموصل وصلاح الدين وانتهاء بالأنبار في الغرب.
ورغم تمكن التحالف العسكري الممثل للفصائل السنية من طرد القوات النظامية العراقية التابعة لحكومة المالكي؛ إلا أن تلك الفصائل تفتقد للتوافق حول مستقبل الدولة العراقية؛ حيث يسعى تنظيم "داعش" إلى تشكيل دولة إسلامية تمتد لتشمل العراق وسوريا والكويت والأردن ولبنان وفلسطين تكون نواتها المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا؛ ويتوافق معه في الأيديولوجيا "جيش أنصار السنة"، و"جيش المجاهدين"، و"الجيش الإسلامي"، والتي تكونت عقب الاحتلال الأمريكي للعراق من كوادر جيش نظام الرئيس الأسبق صدام حسين والمنتمين لحزب البعث والعشائر السنية.
في المقابل، تسعى تنظيمات "المجلس السياسي العام لثوار العراق" الممثل للسنة، إلى مقاومة التوجهات الطائفية لحكومة المالكي، ومنح المحافظات السنية في العراق حكمًا ذاتيًّا على غرار إقليم كردستان دون تفتيت وحدة الدولة العراقية، وتشمل هذه الفصائل كلا من "كتائب ثورة العشرين" بقيادة الشيخ حارث الضاري، و"رجال الطريقة النقشبندية" بقيادة نائب الرئيس الأسبق عزت إبراهيم الدوري، وقيادات حزب البعث، وجيش نظام صدام، والمجلس العسكري لثوار العشائر الممثل للقبائل السنية.
لكن انفراد هذه التنظيمات بالسيطرة على إحدى المناطق دون تنسيق ربما يزيد من احتمالات اندلاع صراع وشيك فيما بينها؛ حيث سيطر تنظيم "داعش" على قطاع واسع من مدينة الموصل باستثناء أحياء الوحدة والسكر والبلديات التي تقع بيد لجان العشائر، و"رجال الطريقة النقشبندية". بينما تقع منطقة الحويجة تحت سيطرة "الجيش الإسلامي" بقيادة الشيخ حمد العيسى. وتسيطر جماعة "أنصار السنة" على يثرب وعزيز، في مقابل انتشار جماعة الشيخ أبو منار العلمي العشائرية في مدن العلم والحجاج والبوعجيل، وسيطرة "جيش المجاهدين" على منطقة الإسحاقي، وقد تتدخل أطراف إقليمية لترجيح ثقل أحد الفصائل لحسم الصراع، وإدارة حرب بالوكالة مع إيران، أو تقوم بالوساطة لتقوية دعائم التحالف فيما بينها في مواجهة نظام المالكي إلى أن يتم حسم الصراع المذهبي.
على مستوى آخر، بدأ الصراع على الموارد مبكرًا باحتدام المواجهات العسكرية بين تنظيم "داعش" وجيش المالكي للسيطرة على مصفاة بيجي النفطية، وهي الأكبر من حيث الإنتاج في العراق، حيث كانت تنتج ما يقارب 170 ألف برميل يوميًّا، بينما وقعت المنشآت النفطية في محافظات صلاح الدين ونينوى تحت سيطرة الفصائل السنية، بيد أن التنظيم نجح في السيطرة على موارد مالية تقدر بحوالي 350 مليون يورو و425 مليون دولار عقب السطو على البنوك والمؤسسات الحكومية في الموصل، مما يؤهله لتجنيد وإعداد كوادر للصراع الممتد مع الفصائل العراقية السنية عقب انتهاء التحالف المصلحي، إلى جانب الصراع الممتد مع الميليشيات الشيعية.
3- الإقليم الشيعي: على الرغم من تمسك حكومة نوري المالكي بالسيطرة على كامل أراضي الدولة العراقية، إلا أن قواعدها المجتمعية تتركز في جنوب العراق في محافظات البصرة والعمارة وذي قار والديوانية والكوت والشامية والحلة، خاصة حول المزارات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية، ولعل انسحاب قوات الجيش العراقي من المحافظات السنية تحت وطأة هجمات "داعش" وتمترسها في المحافظات الشيعية يكشف عن التكوين المذهبي للقوات المسلحة والشرطة.
وعلى نقيض الفصائل السنية، يتسم التكوين الشيعي بوجود مركز وخطوط واضحة للقيادة نابعة من خصوصية المعتقدات الدينية، وهو ما جعل دعوة المرجع الشيعي الأعلى بالعراق علي السيستاني للاصطفاف ومقاتلة "داعش" تلقى استجابة واسعة النطاق من المواطنين الشيعة والفصائل الشيعية المختلفة؛ حيث عادت الفصائل المنتمية لميليشيات "عصائب أهل الحق" من ساحة القتال إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد في سوريا بتنسيق مع إيران للدفاع عن المناطق الشيعية، ونظمت ميليشيات "جيش المهدي" الموالية للزعيم الشيعي مقتدى الصدر مسيرات عسكرية لاستعراض قوتها في 21 يونيو 2014، ناهيك عن تدفق ما يقرب من مليوني متطوع من الشيعة لإعادة إحياء الفصائل المسلحة للدفاع عن المناطق الشيعية، مثل "فيلق بدر"، و"جيش المختار" التابع لـ"حزب الله" العراقي بقيادة واثق البطاط، و"سرايا عاشوراء" التابعة لـ"المجلس الأعلى الإسلامي".
ويستند الإقليم الشيعي إلى عدة مقومات، أهمها سيطرة القوات الأمنية التابعة له على العاصمة ومؤسساتها وخاصة المؤسسة العسكرية، وهيمنتها على المنابع النفطية في المحافظات الجنوبية، خاصة الحقول النفطية العشر الأهم في البصرة وحقول ميسان وذي قار، حيث تحتوي حقول المنطقة الجنوبية على ما يقرب من 71% من إجمالي الاحتياطي الافتراضي للعراق، كما يستند إلى تحالف صلب قوامه التوافق المذهبي مع إيران و"حزب الله" اللبناني، ما يجعل تحقيقه للتماسك السياسي مرجحًا مقارنة بالإقليم السني.
صراع ممتد
من المرجح أن يؤدي انفصام الترابط بين الدولة والمجتمع في العراق، وتفكك روابط المواطنة، وتعزيز سطوة الجماعات القبلية والمذهبية؛ إلى تحول "الدويلات الافتراضية" سالفة الذكر إلى بؤر للاحتقان المجتمعي، في ظل انتشار ظواهر التطهير المذهبي، والقتل على الهوية، واغتيال القيادات، وعمليات التهجير المتبادل، وإعادة إنتاج نموذج الحرب الأهلية العراقية، مما يؤدي إلى تكون "جيتوهات" مغلقة على امتداد الدولة، فضلا عن المواجهة العسكرية المحتملة بين الفصائل العسكرية الممثلة للسنة نتيجة التنافر الأيديولوجي بين مكوناتها، خاصةً بين تنظيم "داعش" والمقاتلين الأجانب المنضوين تحت لوائه من جانب، والفصائل القبلية والبعثيين وبقايا جيش نظام صدام حسين من جانب آخر.
على مستوى آخر، فإن الصراع بين "الدويلات الافتراضية" في العراق سوف يكون حتميًّا نتيجة التداخل بين النطاقات الجغرافية لتمركز الطوائف المختلفة؛ حيث تحتدم المواجهات الطائفية في حدود التماس بين الأقاليم ذات الانتماءات المذهبية والطائفية والقبلية المختلفة، ويتوازى ذلك مع الصراع على السيطرة على المناطق الغنية بالموارد، لا سيما النفط والموارد المائية؛ إذ يبدو أن عمليات التوسع التي يقودها تنظيم "داعش" قد أدركت مبكرًا بوادر هذا الصراع فعمدت للسيطرة على مسارات المياه العذبة في سوريا والعراق، كما في محافظتي الرقة ودير الزور السوريتين اللتين تلتقيان بمحافظة الأنبار العراقية عبر نهر الفرات، إلى جانب الاستماتة في محاولة السيطرة على الحقول النفطية في دير الزور بسوريا وصلاح الدين والموصل وبيجي في العراق.
وفي غياب سلطة الدولة الضابطة ستكون "الدويلات الافتراضية" مؤهلة لتصبح بيئة حاضنة للإرهاب، وعصابات الجريمة المنظمة والتهريب، مما سيمتد أثره إلى دول الجوار، وسيدفعها للتدخل لإنهاء الفوضى السياسية والأمنية العراقية، أو على الأقل احتوائها عبر حواجز حدودية وإجراءات أمنية مشددة.
وفي المجمل، سوف يحفز تفكك الدولة العراقية معادلات الانتشار الإقليمي من خلال سعى ذوي الانتماءات الأولية المتقاربة للاتصال جغرافيًّا بنظرائهم، خاصةً في ظل سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا على مناطق تمركزهم، لا سيما مدن كوباني وديريك وعفرين، وتدريب "البشمركة" الكردية للميليشيات الكردية السورية لحماية مناطق تمركزهم والحقول النفطية بتلك المناطق، ربما تمهيدًا لتمديد حدود إقليم كردستان نحو سوريا مستقبلا، كما تزيد سيطرة تنظيم "داعش" على مساحة جغرافية قابلة للاتصال عبر الحدود السورية العراقية من احتمالات تصاعد نشاط التنظيم لتحقيق رؤيته الإقليمية، كما وردت في الخريطة التي أعلنها، مما يهدد الأمن والاستقرار على امتداد الإقليم.
(*) مدرس مساعد قسم العلوم السياسية ـ جامعة القاهرة
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية