محمد عبدالله يونس
تصاعدت حدة تهديدات الأمن الفكري في دول الإقليم، خاصة عقب تصدع حكم التيارات الإسلامية في بعض تلك الدول، بالتوازي مع صعود التنظيمات القاعدية المسلحة، في خضم الصراع الأهلي المحتدم في سوريا، وامتداد شبكاتها إلى دول الجوار وعلى رأسها العراق والأردن، واتساع نطاق النشاط الإقليمي للتنظيمات الجهادية والإرهابية في اليمن ودول المغرب العربي، في مقابل تبني تيارات أخرى اتجاهات متطرفة تحكمها محاكاة الظواهر السلبية في المجتمعات الغربية، بما أدى إلى تآكل الوسطية والاعتدال الفكري، التي حفظت تماسك واستقرار المجتمعات، وهو ما يعني أن اهتمام دول الإقليم بسياسات الأمن الفكري لم ينجح في تحقيق غاياته في احتواء التوجهات المتطرفة.
تصدعات فكرية:
لم تكن تهديدات الأمن الفكري في دول الإقليم أحد مستجدات الثورات العربية، حيث إن الصدام بين التيارات الفكرية الحدية يرتبط بجدليات الهوية وأزمات الاغتراب في ظل الاستعمار الأجنبي منذ عقود، في حين أدت تلك الثورات إلى تعميق تهديدات الأمن الفكري نتيجة حالة الضعف التي أصابت بعض دول الإقليم، واتساع نطاق الصراعات الأهلية، وصعود الانتماءات الأولية والاتجاهات الانفصالية في مقابل انزواء الانتماء الوطني، ويمكن تناول أهم الأنماط الصاعدة للتهديدات الفكرية فيما يلي:
1- التوجهات التكفيرية: اكتسبت الأفكار المتطرفة القائمة على تكفير الدولة والمجتمع زخمًا متصاعدًا عقب الثوارت العربية، ففي مصر أدى سقوط حكم جماعة 'الإخوان المسلمين' إلى تصاعد نشاط بعض التنظيمات الإرهابية مثل جماعة 'أنصار بيت المقدس' ودعوتها لتبني توجهات تكفير مؤسسات الدولة، فضلا عن تكون خلايا إرهابية تقوم عقيدتها على تكفير القوات المسلحة والشرطة وتنفيذ التفجيرات والاغتيالات لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوفها، على غرار جماعة 'أجناد مصر' التي أعلنت مسئوليتها عن تفجيرات جامعة القاهرة ومنطقتي الدقي وفيصل، منذ مطلع أبريل 2014. والأمر ذاته ينطبق على تنظيمات مثل 'جبهة النصرة' و'تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام' (داعش) في سوريا، التي يتبنى المنتمون إليها عقائد تسعى لـ'أسلمة' المجال العام، وتطبيق القواعد الشرعية على المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها، فضلا عن تجريم بعض الممارسات المجتمعية بدعوى عدم اتساقها مع الضوابط الشرعية، ويبدو أن تدفق المتطوعين من التيارات السلفية في مختلف الدول تحت اسم 'الجهاد في سوريا' سوف يزيد من احتمالات انتشار تلك التوجهات إقليميًّا في المدى المنظور.
2- النزعات الطائفية: ارتبطت الثورات العربية بتفجر صدامات طائفية على امتداد المنطقة العربية، ففي العراق، تتصاعد حدة الصراع بين التيارات السنية الممثلة في 'القائمة العراقية' وائتلاف 'دولة القانون' الذي يقوده رئيس الوزراء نوري المالكي، خاصة في محافظات الأنبار والرمادي وصلاح الدين، لا سيما في ظل انتشار عناصر منتمية لتنظيم 'داعش' في تلك المحافظات. وفي اليمن، لم تنقضِ الصدامات بين الحوثيين والقبائل السنية وحزب 'الإصلاح' التابع لـ'الإخوان المسلمين'، خاصة في محافظات الجوف وصنعاء وعمران. أما في سوريا، فتنتشر جرائم التطهير الطائفي والعرقي، خاصة في مناطق تمركز الأقليات العلوية والمسيحية في اللاذقية وريف حمص، وعمليات التهجير القسري والاضطهاد الديني للأقليات خاصة في المناطق التي تسيطر عليها 'جبهة النصرة' وتنظيم 'داعش'.
3- تدنيس المقدسات: شهد الصراع الأهلي في سوريا تدمير عشرات الكنائس والمساجد الأثرية بصورة متعمدة، فضلا عن نبش بعض الأضرحة الشيعية وتخريبها، مثل تدمير مرقد حجر بن عدي بالقرب من دمشق، وهو ما أدى إلى تفجر عمليات انتقام طائفي بين التيارات السنية والشيعية عبر الاستهداف المتبادل للمساجد. وفي السياق ذاته، قام مجهولون في موريتانيا بتدنيس المصحف الشريف في أحد مساجد العاصمة نواكشوط، في مارس 2014، مما أثار عاصفة احتجاجات قادتها التيارات الدينية وخاصة جماعة 'الإخوان المسلمين'، وهو ما يتزامن مع أعمال تخريبية سابقة استهدفت بعض المساجد التونسية من جانب بعض المتطرفين العلمانيين، مثل تدنيس المصاحف، ورشق الجامع الكبير بالعاصمة التونسية بالحجارة، في مارس 2012، في خضم التظاهرات ضد حركة 'النهضة'.
4- التوجهات الإلحادية: ارتبط تصاعد التطرف الديني بظهور مفاجئ لـ'الملحدين'، الذين أعلنوا عن توجهاتهم، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة صفحات 'ملحد وأفتخر' و'ملحدو الجزائر' و'ملحدو سوريا' و'ملحدون بلا حدود'، أو من خلال الظهور ببعض البرامج التليفزيونية والترويج للأفكار الإلحادية.
5- التفكك القيمي: بدأت بعض الناشطات العربيات في تبني توجهات منظمة 'فيمن' الدولية التي تستخدم الجسد كأداة للاحتجاج، حيث قامت كل من الناشطة التونسية أمينة تايلر والمصرية علياء المهدي بالتعري للاحتجاج على القيم الذكورية السائدة في المجتمعات العربية، وفق رؤيتهن، بما أثار عاصفة استنكار عامة، كما تظاهر أعضاء 'فيمن' العرب مع نظرائهم الغربيين في باريس في اليوم العالمي للمرأة قبيل نهاية مارس 2014، للتنديد باضطهاد المرأة، وهو ما يرتبط بقيم العنف والتفكك المجتمعي والانحراف الخلقي التي باتت تبثها بعض الأفلام السينمائية في عدد من الدول العربية، فضلا عن انتشار حوادث مثل القتل الجماعي واغتصاب الأطفال التي باتت تهدد سلامة المجتمعات.
سياسات التحصين:
تصاعد اهتمام الدول العربية بقضية الأمن الفكري كآلية لاجتثاث التطرف بكافة أنماطه من مجتمعاتها، حيث أعلن خلال اجتماع مجلس وزراء الداخلية العرب، الذي عقد بالرباط في 13 مارس 2014، عن تأسيس المكتب العربي للأمن الفكري التابع لجامعة الدول العربية، وتم التأكيد على ضرورة التعاون والتنسيق لتحقيق الأمن الفكري للدول العربية، والتصدي لاتجاهات التطرف والإرهاب التي باتت تجتاح المنطقة.
وتعد المملكة العربية السعودية واحدة من الدول التي تولي اهتمامًا خاصًّا بالأمن الفكري، حيث شهدت تصاعدًا في الفعاليات الهادفة لتعزيز الأمن الفكري، والتي شملت عقد دورات تدريبية لأعضاء هيئة 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر' ولطلاب مرحلة التعليم العالي في منتصف أبريل 2014، وقد سبق ذلك عقد 'الملتقى العلمي لتقويم جهود المناصحة وتطوير أعمالها' الذي نظمته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالتعاون مع مركز 'محمد بن نايف للمناصحة والرعاية'، والإدارة العامة للأمن الفكري بوزارة الداخلية السعودية في يناير 2014.
وفي السياق ذاته، تم توقيع برتوكول تعاون بين مشيخة الأزهر ووزارتي الأوقاف والشباب في مصر، بهدف تحقيق الأمن الفكري بين طلاب جامعة الأزهر، والتصدي للأفكار المتطرفة من خلال دمج طلاب الأزهر في فعاليات وزارة الشباب التثقيفية، وتواكب ذلك مع إعلان صبرة القاسمي المنسق العام للجبهة الوسطية عن إعداد الجبهة لمشروع مراجعات فقهية لأفكار التيارات المتطرفة، ومن بينها جماعة 'الإخوان المسلمين'، و'الجماعة الإسلامية'، و'الجهاد'، و'التبليغ والدعوة'، بالتعاون مع مؤسسة الأزهر الشريف في فبراير 2014، بهدف دحض التوجهات المتطرفة ونوازع العنف لدى شباب تلك الحركات.
ولا ينفصل ذلك عن دور بعثات الأزهر الشريف في الدول المختلفة، خاصة أفغانستان وباكستان، في تجفيف منابع الفكر المتطرف، حيث كشف الدكتور زغلول السيد عطية البحيري مدير بعثة الأزهر الشريف في أفغانستان، في أبريل 2014، عن حيوية الدور الدعوي والتنويري للأزهر في أفغانستان، وجهوده لتأهيل قيادات أفغانية على المستوى السياسي والمجتمعي، إلى درجة أن عبد الله عبد الله أحد مرشحي الرئاسة في أفغانستان طالب بأن ترسل مشيخة الأزهر مزيدًا من العلماء لأفغانستان لنشر الفكر الوسطي المعتدل، وتواكب ذلك مع تصاعد أنشطة التوعية التي ينظمها 'المركز العالمي للوسطية' في الكويت في مواجهة دعم 'الإخوان المسلمين' للجهاد في سوريا والتيارات المتطرفة في مصر، وتحذيرات رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة من تصاعد مخاطر التطرف والإرهاب نتيجة للصراع الدائر في سوريا.
إشكاليات الفاعلية:
تواجه المجتمعات العربية تهديدات التفكك المجتمعي في ظل التناحر بين التطرف الديني الذي يقوم على تكفير الدولة والمجتمع وتوظيف العنف لتطويعهما، ونقيضه المتمثل في التطرف التغريبي العلماني الصادم للقيم والتقاليد المجتمعية الذي ينطوي على نشر ممارسات لا أخلاقية هدامة في ظل عجز مؤسسات التنشئة عن توسيع مساحة الوسطية بين النقيضين.
وفي هذا الصدد، تكشف مراجعة أنشطة تعزيز الأمن الفكري في دول الإقليم عن الافتقاد لاستراتيجية متكاملة لمواجهة التهديدات الفكرية المتصاعدة وغير التقليدية؛ إذ تقتصر التجارب الرائدة في هذا الصدد على برنامج 'المناصحة' في المملكة العربية السعودية بهدف تقويم معتنقي الأفكار المتطرفة من خلال محاضرات مكثفة تشرف عليها لجنة من علماء الدين بهدف تأهيل متلقيها لإعادة دمجه في المجتمع، إلى جانب المراجعات الفكرية التي أعلنتها 'الجماعة الإسلامية' وتنظيم 'الجهاد' في مصر في تسعينيات القرن الماضي لإعلان نبذ العنف والكف عن تكفير المجتمع، وهي المراجعات التي لم تنجح في اجتثاث الإرهاب من جذوره، بما أدى لتجدده في مرحلة لاحقة عقب تداعي حكم جماعة 'الإخوان المسلمين'.
وعلى الرغم من اعتبار الأزهر الشريف مركزًا للوسطية في الإقليم، إلا أن دوره قد شهد انحسارًا متصاعدًا في ظل حالة الضعف التي أصابت مؤسساته، وتراجع تمويل أنشطته في الآونة الأخيرة، فضلا عن اختراق جماعة 'الإخوان المسلمين' والتيارات الجهادية لصفوف الدارسين وأعضاء هيئة التدريس به، وهو ما يرتبط بتصاعد أعمال العنف داخل جامعة الأزهر من جانب الطلاب واشتباكهم مع قوات الأمن وقيامهم بتخريب بعض المنشآت الجامعية، بما أثر سلبًا على أداء المؤسسة لوظائفها في التوعية بخطورة التطرف ونشر الفكر الوسطي.
وفي السياق ذاته، أشار الشيخ طلعت صفا تاج الدين، مفتي روسيا، خلال مؤتمر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، قبيل نهاية فبراير 2014، إلى أن روسيا منعت إرسال البعثات إلى الأزهر عقب استقطاب الجماعات الدينية المتطرفة للطلاب، مما أدى إلى تراجع ثقة روسيا في الأزهر ووقف البعثات، وهو ما يعني أن مراجعة وتجديد الخطاب الديني للمؤسسة أصبح حتميًّا للحفاظ على مكانتها العالمية.
وختامًا يمكن القول إن التصدي لموجة التطرف الصاعدة وتهديدات الأمن الفكري سالفة الذكر يرتبط بتجاوز مراكز الفكر الديني المعتدل، مثل مركز 'الوسطية العالمي' في الكويت، ومركز 'محمد بن نايف للمناصحة والرعاية' بالسعودية، لنطاقات دورها النخبوي، والتوسع في توعية المواطنين، خاصة الشباب، عبر أنشطة مجتمعية تجتذب قطاعات واسعة منهم، وتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي في الوصول للشباب، فضلا عن تأسيس قنوات إعلامية واسعة الانتشار لترويج الفكر الديني والأخلاقي الوسطي، والتصدي للتطرف والتغريب والاختراق الفكري للمجتمعات
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية