بريان مايكل جنكينز
أدت ثورات الربيع العربي إلى صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في معظم دولها، ويأتي على رأسها مصر وتونس؛ وهو ما يمثل عهدًا جديدًا على مستوى الشرق الأوسط بأكمله وعلى السياسات الخارجية لهذه الدول التي شهدت تنافسًا شديدًا ما بين الأحزاب الليبرالية والإسلامية على الوصول للحكم بها، وأدى إلى نجاح الثانية في السيطرة على مقاليد الأمور، وتحول الإسلاميين من المواجهة ويترتب على تزايد نفوذ الإسلاميين ووصولهم إلى سدة الحكم في هذه الدول إجبار واشنطن على إعادة تقييم المعتقدات السائدة منذ عقود بشأن من هو صديق ومن هو عدو الولايات المتحدة؛ وخاصة مع تزايد حالة التخوف والترقب لدى الأمريكيين من أن تزايد نفوذ الإسلاميين قد يؤدي إلى فتح الطريق أمام الحركات المتطرفة الإسلامية والجهادية، ويُعد أخطرها على الإطلاق هو تنظيم القاعدة الذي يبسط نفوذه على أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية والعراق.
وهو ما ينبغي معه تقديم تقييم أكثر دقة عن تأثير الحركات الإسلامية على سياسات دولها تجاه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة. وهو ما يُثير حقيقةً مَفادها "ليس كل الإسلاميين حلفاء لتنظيم القاعدة"؛ وبالتالي يجب على الولايات المتحدة محاولة دراسة الوضع بتأنٍّ وبنظرة استشرافية لمستقبل علاقاتها الخارجية مع دول الربيع العربي، وكذلك مع الأنظمة الداعمة للتنظيم.
ومن هنا تنبعُ أهمية الدراسة المقدمة من مؤسسة راند عن تنظيم القاعدة في العقد الثالث، والتي ينبغي قراءتها بشكلٍ جيد للوقوف على حقيقة تقييم قدرات تنظيم القاعدة في الوقت الحالي، وفي ظل سيطرة الإسلاميين على مقاليد الأمور في دولهم؛ وما قد يستتبعه من زيادة نفوذ الجماعات الإرهابية المتطرفة من عدمه؛ وبخاصة في ظل الأحداث المرتبكة على الساحة السياسية الحالية في دول الربيع العربي من تزايد الاحتجاجات في تونس والمواجهات مع الجماعات الإسلامية المتشددة هناك؛ مرورا بالأوضاع الأمنية المتردية في سيناء على الحدود مع إسرائيل وقطاع غزة وتزايد نفوذ الإسلاميين في هذه المنطقة الحيوية لأمن الدولة المصرية؛ إلى تزايد العنف والمواجهات ما بين قوات النظام السوري وقوات الجيش السوري الحر.
تنظيم القاعدة والولايات المتحدة الأمريكية
تأسس تنظيم القاعدة رسميًّا في بيشاور بباكستان في عام 1988؛ وبشكل أكثر تحديدًا في أغسطس 1988. وهي منظمة وحركة متعددة الجنسيات سنية إسلامية أصولية، تدعو إلى الجهاد الدولي. وقد هاجمت القاعدة أهدافًا مدنية وعسكرية في مختلف الدول، وتم الإعلان عن وجود صلة لها بالهجمات على القوات الأمريكية في الصومال، وكذا في المملكة العربية السعودية في أوائل التسعينيات من القرن المُنصرم. ولكن التنظيم أعلن الحرب رسميًّا على الولايات المتحدة الأمريكية في 1996؛ وأطلق حملته الجادة في 1998.
وفي الحادى عشر من سبتمبر 2001 كانت هجمات سبتمبر التي مثلت ذروة الصراع بين التنظيم والولايات المتحدة ليدخل الصراع بذلك عقده الثاني. وقد تبع هذه الهجمات إعلان الحكومة الأمريكية الحرب على الإرهاب. هذا وتشمل التقنيات التي تستخدمها القاعدة الهجمات الانتحارية والتفجيرات المتزامنة في أهداف مختلفة، والتي يقوم بها أحد أعضاء التنظيم الذين تعهّدوا بالولاء لأسامة بن لادن أو بعض الأفراد الذين خضعوا للتدريب في أحد المخيمات في أفغانستان أو السودان.
ولا يزال تنظيم القاعدة وهجماته يحتل المرتبة الأولى في الأهمية لدى المواطن الأمريكي العادي؛ وكذا معظم المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة، فحالة الحرب المستمرة تستنفر كل الجهود. هذا ويريد معظم الأمريكيين معرفة بداية ونهاية هذه الحرب؛ ويريدون إجابات مُحددة لعددٍ من الأسئلة منها: أين موقع الولايات المتحدة في هذه المواجهة مع تنظيم القاعدة؟ من الفائز؟ وما هي النتيجة؟ متي ستنتهي أطول حرب في تاريخ أمريكا رسميًّا؟.
وتتزامن هذه الأسئلة مع عدم وجود توافق في الآراء بين تقديرات المُحللين لحالة تنظيم القاعدة الحالية سوى اتفاقهم على أمر واحد فقط مفاده: أنه يجب النظر إلى حقيقة تنظيم القاعدة باعتباره قضية متشابكة ومحورية يجب تحليلها على مختلف الأصعدة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال طرح كل القضايا للمناقشة، ومنها: هل ربحت أمريكا القضايا العملية وخسرت في المقابل القضايا الأيديولوجية؟ وهل يشكل انسحاب القوات الأمريكية من العراق خطرًا على الولايات المتحدة؟ وهل الحفاظ على القوات الأمريكية في أفغانستان أمر ضروري؟
وتحاول الورقة البحثية الإجابة على القضايا سابقة الطرح في ضوء التطورات الأخيرة من وفاة أسامة بن لادن؛ مرورا بالربيع العربي؛ وانتهاءً بالانسحاب الأمريكي من العراق؛ ليؤكد بريان أن هذه الورقة البحثية لا تعبر في النهاية إلا عن وجهة النظر الشخصية له.
تنظيم القاعدة ما بين التواري وتشكيل تهديد قائم
تُشير الدراسةُ إلى تعدد تقديرات المحللين لوضع التنظيم وقدرته الحالية، لكنها تركز على وجهتي النظر الطاغيتين على التحليلات، وهما:
الأولى: التنظيم أضعف مما كان عليه إبان هجمات 11 سبتمبر، ويتفق مع هذه المقولة المحللون المسئولون في واشنطن الذين يؤكدون قدرة الولايات المتحدة على القضاء على التنظيم؛ وخاصة مع تأكيدهم أنه سوف يُستنزف اقتصاديًّا في نهاية المطاف.
الثانية: التنظيم لا يزال يُشكل تهديدًا خطيرًا؛ وربما يكون أكثر خطورة مما كان عليه إبان هجمات 11 سبتمبر، ومرجعيتهم في ذلك أن التنظيم يعتمد على اللا مركزية في تنفيذ هجماته، بالإضافة إلى أن محيطه ما زال قويًّا، ويستمد قوته من حلفائه على مستوى العالم، والذين ينتهجون نفس الأيديولوجية في النضال العالمي.
وجديرٌ بالذكر أن المخاوف الأساسية من قدرة التنظيم حاليًّا تتمثل في قدرته على امتلاك قنبلة نووية من عدمه. ففي الوقت الذي تؤكد فيه بعض التحليلات أن التنظيم قادر على امتلاك الأسلحة النووية؛ تذهب التحليلات الأخرى إلى قدرته على امتلاك السلاح البيولوجي، ومن ثم قدرته على شن هجوم بيولوجي وهو الاحتمال الأقوى، والذي يلقي قبولا لدى المحللين السياسيين والعسكريين على حد سواء. ويعضد من هذا الاحتمال ظهور مادتي (البوتولينوم والريسين) السامتين في عدة هجمات إرهابية في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر؛ هذا وتدفع بعض التحليلات باستخدام التنظيم مجموعة بكتيريا الجمرة الخبيثة.
هذا وتؤكد التحليلات أن الخطر الأكبر للتنظيم حاليًّا يأتي من شبه الجزيرة العربية بعد أن تم إضعاف التنظيم في باكستان؛ في حين أن الفروعَ الإقليمية له في العراق وشمال إفريقيا -ولا سيما اليمن- ما زالت في أوج قوتها وبخاصة في العراق؛ حيث تواصل القاعدة حملتها الإرهابية ضد مسئولي الحكومة العراقية، وزعماء القبائل السنية، وأعضاء الطائفة الشيعية في محاولة لإثارة حرب أهلية طائفية بين المسلمين السنة والطائفة الشيعية.
هذا ويسترشد بريان بالعديد من التقارير الأمريكية التي تُشير إلى أن قادة أساسيين من التنظيم ما زالوا على قيد الحياة ويتنقلون ما بين الصومال واليمن والعراق، وهو ما يؤكد قدرة الجهاديين على التنقل بين البلدان الثلاثة؛ وكذا مسئوليتهم عن العديد من المحاولات الإرهابية الأخيرة في الغرب وكذا في إفريقيا.
ويُنهي بريان تحليله لقوة التنظيم حاليًّا بالتأكيد على أن القاعدة لديها العزم على مواصلة حملاتها الإرهابية على الغرب وعلى دول أخرى مثل العراق؛ إضافة إلى توسيع نفوذها في إفريقيا، وهو ما قد يصعب معه مُستقبلًا تمييزُ الجماعات الإرهابية المحلية عن فروع التنظيم بالاستناد إلى أن التنظيم اليوم أصبح يعتمد على اللا مركزية أكثر مما كان عليه الوضع قبل عشر سنوات.
ومع زيادة حلفائها فقد انتقلت القاعدة من توجيه الضربات الإرهابية الإستراتيجية الموجهة مركزيًّا والتي بلغت ذروتها في هجمات 11 سبتمبر نحو الجهادية الفردية والمؤامرات التي غالبا ما يصعب الكشف عنها.
"التنظيم" ما بين اغتيال بن لادن والربيع العربي
مَثَّل اغتيال أسامة بن لادن في أوائل مايو من العام الماضي ضربة قوية للتنظيم كادت أن تضعفه؛ في وقت تعصف فيه الثورات بالعالم العربي ليختلف هدف هذه الثورات مع الأهداف التي يسعي لها التنظيم. ففي الوقت الذي يسعي فيه إلى شن حرب لا تنتهي على الغرب واستعادة الخلافة الإسلامية؛ طالبت الثورات العربية بقدر أكبر من الحرية السياسية والاقتصادية؛ وإن كانت الاضطرابات الناجمة عن هذه الثورات في المنطقة أعطت للتنظيم الفرصة في القدرة على توجيه ضربات تكتيكية.
ويؤكد بريان على أن وفاة أسامة بن لادن لا تعد بأي حال من الأحوال نهاية الحملة الإرهابية للقاعدة، وإن كانت ذات تأثير عميق على مستقبل المشروع الجهادي، نظرا لقيامه بتوفير التوجيه الإستراتيجي للتنظيم؛ وكذا تقديم المشورة التنظيمية على مستوى العمليات.
ومن ثمَّ فإن وفاته كانت بمثابة ضربة نفسية لأعضاء المنظمة بصفته القيادة الأساسية، وكذا بمثابة إضعاف لمصادر المنظمة المالية؛ فليس من المؤكد أن مؤيدي التنظيم من الأثرياء سوف يواصلون الإسهام في التمويل في مرحلة ما بعد بن لادن.
هذا وقد كان بن لادن القائد بلا منازع للتنظيم؛ حتى إن الجهاديين أنفسهم اعتبروا أيمن الظواهري أكثر ملاءمة للعب دور المفوض السياسي بدلًا من القائد الفارس، إضافة إلى أنه يتم التعامل معه من قِبل أعضاء التنظيم كمواطن مصري؛ على العكس من بن لادن الذي تخطى هويته كمواطن سعودي، وتعدى تحديد الأشخاص بالرجوع للهوية الوطنية؛ حيث علت إستراتيجية بن لادن على الانتماءات الوطنية من خلال الإنجازات البطولية التي استطاع تحقيقها. ويستشهد بعض المحللين بأن مرور كل هذا الوقت بعد وفاة بن لادن دون حدوث أي حادث جلل في الغرب يؤكد ضعف القاعدة التشغيلية للتنظيم.
لينتقل بريان بعد ذلك إلى استعراض تأثير الربيع العربي على الساحة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ مُشيرًا إلى أنه لم يستبين حتى الآن كيف ستؤثر ثورات الربيع العربي على التنظيم وكذا على جهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.
وأكد بريان أن كل التقييمات الحالية ما هي إلا تقييمات مؤقتة، فما زالت الأمور لم تتضح بعد بالشكل الكافي للوصول إلى نتائج وتقييمات بشأن الأوضاع الحالية؛ فهناك بعض الاضطرابات السياسية التي بدأت في مصر وتونس، واشتعال القتال بين الميليشيات المحلية التي نجحت في هزيمة قوات القذافي في ليبيا، وتواصل الاحتجاجات في سوريا، وكذا عدم وضوح الرؤية الخاصة بمستقبل اليمن في أعقاب تخلي علي عبد الله صالح عن السلطة، واستمرار الانقسام ما بين السنة والشيعة في العراق، واستمرار التوترات الطائفية والاحتجاجات السياسية في البحرين.
ويرى بريان أن الحقائق المؤكدة بالفعل على أرض الواقع في هذه الدول هي: مواجهة قوات الأمن في هذه الدول لمزيد من التحديات وأعمال الشغب والعنف الطائفي واستمرار الصراع القبلي، واستمرار الأعمال التخريبية من المؤيدين للنظم القديمة، وهو ما يمثل بيئة صالحة في تحليل بريان لاستغلاله من جانب الإرهابيين لإدخال المنطقة في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار لعدة سنوات قادمة.
وقياسًا على ما سبق فإن هذه الثورات وما صاحبها من احتجاجات وانتفاضات أثبتت تراجع شعبية تنظيم القاعدة مع ما أنتجته من توقعات لدى مواطنيها ذات أسقف عالية من التقدم السياسي والاقتصادي لهذه الدول. ولكن الانتقال من الأنظمة الاستبدادية المصحوبة بضيق مشاركة المواطنين إلى الديمقراطيات التي تتيح مساحة أكبر للمشاركة سوف تمر بطريق طويل وصعب، وسوف يصاحب ذلك حالة من الإحباطات ما بين الفينة والأخرى؛ وهو ما سوف يستغله التنظيم لصالحه في محاولة منه لإعادة نشر فكر الخلافة الإسلامية، ومحاولة تقويض إرادة الشعوب، وتجنيد العديد من الأفراد لصالحه.
قادة التنظيم: النصر بات وشيكًا
"انتصار تنظيم القاعدة بات وشيكًا".. يؤكد هذه المقولةَ منظرو تنظيم القاعدة الذين يقفون على الجانب المقابل للمنظرين الغربيين المدافعين عن ضعف التنظيم وقرب انتهاء قوته. فمن وجهة نظر الفريق الأول أن التنظيم في حالة صراع دائم بدأ منذ عقود وسوف يستمر إلى ما بعد حياة قادة التنظيم الحاليين لإيمانهم بأنه واجب ديني؛ وأن المشاركة في النضال سوف يُنقذهم من الضلال.
ويعضد أصحاب هذه النظرية بالعديد من الأمثلة الحية والظروف الراهنة، فبعد أن عانت أمريكا من هجمات 11 سبتمبر تخبطت في قدرتها على تحديد الهدف وهو ما أدى بها إلى التورط في العراق وأفغانستان؛ إضافة إلى فقدانها حلفاءها من الأنظمة السلطوية بعد سقوطها في أعقاب قيام ثورات الربيع العربي، ومن ثم فإن ما يحتاجه التنظيم في الوقت الحالي هو توجيه ضربات صغيرة تؤدي إلى سيادة حالة من الذعر بين المواطنين الأمريكيين، ومن ثم إضعاف عزيمتهم.
ويؤكدون كذلك على أن "القاعدة" ترى نفسها تخوض غمار صراع وجودي مع الكفار الغربيين الذين يريدون هدم الإسلام؛ على النقيض من ذلك الأمريكيون الذين يرون أنفسهم يخوضون حربًا محدودة بوقت.
هذا ويعترف زعماء القاعدة بالتفاوت العسكري الهائل بين قواتهم والقوات العسكرية للعالم الغربي وعلى رأسه أمريكا، ومع ذلك يؤكدون أن التزامهم الروحي والإيماني سوف يُحقق لهم التفوق في نهاية المطاف فهم "يقاتلون في سبيل الله"، في حين أن الأمريكيين يقاتلون دون عقيدة.
بالإضافة إلى أن أفراد القاعدة لا يقاتلون في سبيل الحصول على مكافآت مادية أو غيرها، وإنما يقاتلون في سبيل الحصول على الجنة، فالموت بالنسبة لهم (إنجاز) لنصرة الإسلام ونيل الجنة وبهدف توحيد العالم العربي والإسلامي بأكمله تحت راية واحدة (الأمة الإسلامية)، فالوحدة أمرٌ ضروري ولازم لتحقيق وجود هذه الأمة، أما الانقسام فلن يجلب سوى الضعف في مواجهة أعداء الإسلام من الغرب.
ويؤكدون انتصارهم الوشيك في ظل التكلفة المادية والبشرية التي تتكبدها الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب؛ في الوقت الذي تعاني فيه من العديد من الأزمات الاقتصادية، إضافة إلى زيادة الأصوات الرافضة للحرب وبدء سحب القوات الأمريكية من أماكن عديدة للتوترات، وهو ما يؤكد قوة التنظيم وقرب انتصاره.
عرض: نسرين جاويش ـ باحثة في العلوم السياسية.
المصدر: المركز الاقليمي للاستراتيجية