أحمد زكريا الباسوسي
تعد ظاهرة 'استنساخ النماذج' إحدى أبرز الأعراض التي صاحبت موجة الثورات العربية، ليس فقط في انتقال المد الثوري، بل أيضًا في التعثر الانتقالي والإخفاق الديمقراطي، حيث تزايد الأثر الانتشاري لنمط 'الدول الفاشلة' في المنطقة العربية. ويقصد بالاستنساخ انتقال أحد النماذج التي تحققت في دولة ما إلى دولة أخرى، علمًا بأن عمليات الاستنساخ نسبية، ففي حالات يكون الانتقال شبه تام، وفي حالات أخرى يبدو جزئيًّا وأقل حدة، وفي حالات ثالثة يكون مشوهًا.
وفي هذا السياق، تشهد دول المنطقة عدة نماذج للاستنساخ، أبرزها النموذج الأفغاني في سوريا، والنموذج الصومالي في اليمن، والنموذج السوري في العراق، والنموذج الجزائري في مصر. إذ تلعب عدة أطراف دورًا محوريًّا في عملية استنساخ النماذج، وذلك بهدف ضمان مصالحها، وعلى رأسها التنظيمات الجهادية التكفيرية، وبعض القوى الإقليمية والدولية، وجماعات المصالح الاقتصادية، وسماسرة الحروب الأهلية، علاوة على بعض الدعاة والوعاظ.
نماذج متعددة:
تعج المنطقة العربية بمحاولات عديدة لاستنساخ نماذج الدول الفاشلة، مع الحفاظ، بطبيعة الحال، على خصوصية كل حالة وفقًا لظروفها. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز تلك النماذج، على النحو التالي:
1- النموذج الأفغاني في سوريا: تُثار تخوفات عديدة حول إمكانية تحول سوريا إلى 'النموذج الأفغاني' أو ما يعرف باسم 'أفغنة سوريا'، وذلك عبر متغيرين: أولهما، استمرارية الصراع وفشل الدولة بشكل تام. وثانيهما، تحول سوريا إلى بؤرة لتصدير عناصر الجماعات التكفيرية التي تحارب فيها إلى دول الجوار بعد انتهاء الصراع مع نظام الرئيس بشار الأسد، لا سيما مع تزايد أعداد المقاتلين الأجانب بها، الذين ربما يعود بعضهم إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب الأهلية.
فعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة لعدد المقاتلين الأجانب، إلا أن هناك تقديرات غير رسمية تشير إلى ما يقرب من 60 ألف مقاتل أجنبي في سوريا، موزعين على 29 جنسية غالبيتهم من تونس وليبيا والمغرب وبعض الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا. وقد باتت عودة المقاتلين الأجانب تشكل أحد أبرز التهديدات التي تواجه دول الإرسال، مما يجعل سوريا أشبه بحالة أفغانستان التي مثل المجاهدون فيها أزمة حقيقية للدول العربية.
وربما يكون هناك استنساخ للنموذج الصومالي في الساحة السورية، وهو ما انعكس في تصريح المبعوث الأممي والعربي السابق إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي، في 8 يونيو 2014، والذي أعرب فيه عن تخوفه من تحول سوريا إلى دولة فاشلة على غرار الصومال التي يديرها زعماء للميليشيات، وهو ما سيشكل خطرًا جسيمًا على مستقبل منطقة الشرق الأوسط برمتها.
2- النموذج السوري في العراق: ظهرت ملامح لاستنساخ النموذج السوري في العراق، وذلك منذ بداية عام 2014، وبالتحديد عقب تصاعد أزمة الأنبار وظهور تنظيم 'الدولة الإسلامية في العراق والشام' (داعش) كلاعب رئيسي في المشهد العراقي على غرار النموذج السوري.
3- النموذج الصومالي في اليمن: فعلى الرغم من انتهاء الحوار الوطني الذي من المفترض أنه قد رسم ملامح مستقبل الدولة اليمنية، إلا أنه يبدو أن مؤشرات فشل الدولة لا تزال حاضرة بقوة، مما يثير تخوفات بشأن ما يطلق عليه 'صوملة اليمن'. إذ إن الوضع في اليمن يمثل بيئة قاعدية تجعل التوجه نحو النموذج الصومالي احتمالا قائمًا، حيث يخضع شمال اليمن وحتى الوسط بالقرب من صنعاء لسيطرة شبه تامة من قبل جماعة الحوثيين، كما تنتشر التنظيمات القاعدية، خاصة 'أنصار الشريعة' في محافظات الجنوب، فضلا عن أن القبائل تحظى بنفوذ واسع داخل النظام السياسي، وهو ما يتزامن مع الانحسار الواضح للوجود الأمني الرسمي، واستمرار التوجهات الانفصالية للجنوب.
4- النموذج الجزائري في مصر، إذ تسعى بعض الجماعات الدينية في مصر، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، إلى استنساخ نموذج جزائري في مصر، يقوم على فرض حالة من التوتر والعنف بين الأجهزة الأمنية وبعض الجماعات الجهادية، لا سيما 'أنصار بيت المقدس' و'أجناد مصر' في المناطق الطرفية والحدودية، خاصة في سيناء، بحيث تخرج تلك المناطق نسبيًا عن سيطرة الدولة. لكن عدم توافر البيئة القاعدية الحاضنة والمقومات الرئيسية لهذا النموذج في الحالة المصرية يحول دون استنساخه رغم الجهود التي تبذلها تلك الجماعات في هذا السياق.
أطراف داعمة:
لم يأتِ انتشار تلك الظاهرة من فراغ، وإنما عبر وجود عمليات تحفيز دائمة من خلال عدة جهات، إذ تعددت الأطراف الداعمة لعمليات استنساخ النماذج الفاشلة، منها ما يرتبط بجماعات جهادية عابرة للحدود، ومنها ما يتعلق بأطراف إقليمية ومصلحية. إذ تلعب الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم 'القاعدة' دورًا محوريًّا في هذا السياق، لا سيما تنظيم 'الدولة الإسلامية في العراق والشام' (داعش) في كل من سوريا والعراق، و'جبهة النصرة' في سوريا، و'أنصار الشريعة' في كل من ليبيا واليمن وتونس، علاوة على تنظيم 'القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي'، وجماعة 'التوحيد والجهاد'.
وعلى الصعيد الخارجي، يمثل دعم بعض الأنظمة السياسية للجماعات المتصارعة عاملا مؤثرًا في تصعيد حالة عدم الاستقرار، ومن ثمَّ انتشار عملية استنساخ النماذج الفاشلة. ويُمثل الدعم الذي تقدمه كلٌّ من تركيا وإيران للأطراف المتصارعة في سوريا مثالا حيًّا على ذلك. إذ تدعم تركيا 'الجيش السوري الحر'، سواء ماديًّا أو لوجستيًّا، إلى درجة فتح معسكرات تدريب لقواته داخل الأراضي التركية، في حين تقدم إيران مساعدات مستمرة لنظام الرئيس بشار الأسد، وهو ما أدى إلى تكريس حالة من التوازن العسكري أدت إلى استمرار الصراع المسلح حتى الآن دون الوصول إلى تسوية.
كما ساهمت بعضُ جماعات المصالح الاقتصادية في انتشار ظاهرة النماذج المستنسخة، خاصةً شبكات وسماسرة تجارة الأسلحة في دول المنطقة، والتي انتشرت بشكل مكثف بعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، وتصاعد حدة الصراع في سوريا، حيث اتسع نطاقها في تركيا، على سبيل المثال، في إطار الاستفادة من 'اقتصاديات الحرب' كاستمرار تدفق السلع المهربة، وتوريد وتسفير من يُطلق عليهم اسم 'المجاهدين' للمشاركة في الصراع السوري مقابل الحصول على أموال.
مناخ مواتٍ:
يبدو أن تلك الأطراف قد وجدت بيئة قاعدية خصبة حاضنة تمكن وتسهل من عملية نقل واستنساخ النماذج الفاشلة في المنطقة العربية، والتي تتمثل أبرز ملامحها في:
1- فشل الدولة: تعتبر مسألة الحكم على فشل الدول في المنطقة نسبية إلى حد بعيد، حيث تتراوح بين حالات فاشلة مثل اليمن وليبيا وسوريا، التي أصبحت فيها الدولة غير قادرة على توفير الحاجات الأساسية للمواطن، ووصل الأمر إلى حد خروج مناطق واسعة من إقليمها عن سيطرتها، على غرار منطقة شرق ليبيا التي تُسيطر عليها الميليشيات المسلحة، والمحافظات الجنوبية في اليمن التي تخضع لسيطرة جزئية لتنظيم 'القاعدة'، والمناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة المسلحة في سوريا، وبين دول أخرى تعاني فشلا جزئيًّا في السيطرة على بعض المناطق، لا سيما في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم 'داعش' في العراق مثل محافظة الموصل.
2- تصدع المجتمع: تُعاني أغلب المجتمعات في المنطقة العربية من نزاعات طائفية ومذهبية وعرقية، لا سيما في سوريا والعراق، في الوقت الذي أصبحت فيه الانتماءات الأولية السابقة على تكوين الدولة الوطنية هى الحاكمة، حيث باتت القبائل والعشائر تسيطر على المشهدين اليمني والليبي، بشكل أصبح معه منطق القوة هو الأساس في إدارة العلاقات الاجتماعية بين الفصائل والعشائر المتباينة، دون الاعتداد بالأطر القانونية الرسمية.
كما أن العلاقة بين الدولة والمجتمع في بعض دول المنطقة يبدو أنها تعيش حالة من الانسداد الذي يقود إلى نفق مظلم، خاصة مع عدم قدرة كافة الأطر القانونية والسياسية والدستورية على وضع رؤية شاملة لإدارة هذه العلاقة، وهو ما أدى في النهاية إلى زيادة معدلات العنف المتبادل، الذي ساهم في توفير بيئة خصبة لانتقال الفشل، واستنساخه من دولة إلى أخرى.
المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية