طلال سلمان
لكأنها عودة بالتاريخ قرناً كاملاً إلى الخلف: بالمناداة بالخلافة لتوحيد العرب في ظلالها الوارفة وبالاستناد إلى الحليف الغربي، البريطاني أساساً والفرنسي بالاضطرار، بديلاً من السلطان العثماني وورثته من 'العلمانيين' الأتراك الذين خرجوا من الدين وعليه.
وإذا كان الشريف حسين بن علي، أمير مكة وسلطان الحجاز قد فشل في استعادة الخلافة، لأنه كان مرتهن القرار، ولا يملك القوة اللازمة آنذاك، سنة 1915، فهاهو تنظيم 'داعش' ـ الدولة الإسلامية في العراق والشام - حر في قراره السياسي، يبني قوته المتصاعدة بسلاح أعدائه ـ أعداء الدين الحق - الذين يفرون من مواجهة مجاهدية مذعورين، وقد تركوا أسلحتهم، ثقيلها والخفيف، للقادر على أخذها، كما حصل في الموصل، قبل أيام.
ثم إن الشريف حسين لم يكن صاحب المشروع، بل ولم يكن مؤهلاً للتفكير به... وإنما جاءه 'البريطانيون الخبثاء' الذين كانوا يحتاجون غطاءً إسلامياً لقتالهم ضد ما كانته 'السلطنة العثمانية'، فأغروه بالسلطة في دولة عربية كبرى، ووعدوه بالسلاح والرجال ليعززوا ـ بالقوة - نسبه الشريف المؤكد عروبته: أليس يتحدر من سلالة النبي العربي؟ إن هذا النسب يبطل مفعول الصراع المفترض بين السُنة (وهم أهل الحكم والجاه والمال) والشيعة وهم رعايا منبوذون ومضطهدون، لأنه يرجع بصاحبه إلى ما قبل الانشقاق الخطير في صفوف أتباع الدين الحنيف والذي تشظى بعد ذلك مذاهب وطوائف شتى، ابتعد بعضها عن الأصل حتى خرج عليه، وأمكن لبعضها الآن أن تعتمد 'التقية' ضماناً لسلامتها مع اختلافها في تطبيق التفسيرات المتباينة للنص الواحد.
أما 'داعش' الراهنة فليس أتباعها من 'الخوارج' الذين انقضّوا بسيوفهم على أولياء الأمر الذين رأوا في خلافاتهم أسباباً للفتنة، وافترضوا أن القضاء عليهم يمكنهم من تصحيح مسار الدعوة.. بل إنهم هم القيمون الآن على الدين كما أخذوه عن مراجعهم الأصولية... ولا بأس إن أطلقت عليهم تهمة 'السلفية' أو اتهموا بالتشدد إلى حد إعمال السيف (أو المدافع أو الصواريخ) في الخارجين على الملة، وليس على الدين بأصوله، كما حددها 'السلف الصالح'.
الميدان مفتوح، فقهياً، أمام &laqascii117o;داعش".. فكل طائفة من المسلمين تتهم الأخرى بالخروج على الدين والتواطؤ على صحيحه. فلنصدق الجميع ولنحاسب الجميع، كل بحسب تقديرنا لقربه أو بعده عن أصول الدين: ثمة كفرة لا تجوز الرحمة بهم، وثمة ضالون لا بد من عرض إسلامنا كما نراه وكما نمارسه عليهم فإن قبلوه عفونا عنهم، وإن رفضوه فالسيف متعطش إلى دماء الزنادقة والمتسترين بالمظاهر بعيداً عن الدين الحق.
قبل قرن من الزمان، ومع انفجار الحرب العالمية الأولى، وجد العرب ـ الذين لم يكن لهم دول، أقله في المشرق - احتمالاً بتوفر الفرصة لخروجهم، أخيراً وبعد أربعمئة سنة من هيمنة العثمانيين، بالخلافة ثم السلاطين الأتراك ـ ودائماً باسم الإسلام - على المنطقة العربية عموماً.
أفاد العرب من التناقضات بين السلطنة والقوى الاستعمارية (الأوروبية عموماً) التي كانت تستعد لوراثتها بتقاسم مستعمراتها، فظهرت في المشرق خصوصاً (بلاد الشام) دعوات لتوكيد أصولهم القومية والمناداة بالاستقلال، تارة عبر القول بالخلافة العربية، وغالباً بالمناداة بالعروبة هوية جامعة وبالوحدة أو الاتحاد بين أقطارهم.
ولقد أفاد البريطانيون خاصة والفرنسيون من هذا التوجه وشجعوه لإضعاف السلطنة، التي كانت قد تآكل نفوذها وخرج عليها الكثير من الشعوب التي أخضعت لسيفها طوال قرون...
وهكذا وفي حين كان العرب، يتصدرهم كاريكاتورياً الشريف حسين، وفكرياً عبر كتابهم والمستنيرين من علمائهم يحلمون بوحدة تجمع شعوبهم في دولة واحدة، قوية ومنيعة ـ كان البريطانيون والفرنسيون يعقدون معاهدة سايكس - بيكو (1916) التي وزعت أقطار المشرق (فلسطين وسوريا ولبنان ـ والأردن الذي ابتدع للتو ـ والعراق) في ما بين المستعمريْن الجديديْن.
على قاعدة هذا الاتفاق تم التمهيد لإقامة دولة إسرائيل على ارض فلسطين، وتم تقطيع أوصال المشرق العربي:
1- ابتدعت 'دولة' في بادية الشام هي إمارة شرقي الأردن، أعطيت كجائزة ترضية للأمير عبد الله ابن الشريف حسين.
2- أعطيت سوريا لفرنسا التي حاولت تقطيع أوصالها في أربع 'دول' ثم أعادت توحيدها في كيانها السياسي الحالي.
3- وتم توسيع الكيان اللبناني الذي كانت السلطنة قد اضطرت إلى إعلانه 'متصرفية' شبه مستقلة عن السلطنة، تحت الحماية الغربية، وإن ظل المتصرف من رعايا السلطان، فصار الدولة التي نعرفها الآن، بعد ضم ما يسمى الأقضية الأربعة إلى المتصرفية التي أصلا أقيمت في جبل لبنان (أي الجنوب والشمال والبقاع وولاية بيروت).
4- وأقيمت مملكة في العراق أعطيت للأمير فيصل ابن الشريف حسين، الذي كان قد نودي به ملكاً على سوريا، فلما طرده الفرنسيون تلقفه البريطانيون فنصبوه على العراق.
هكذا أعدَّ المشرق لقيام دولة إسرائيل لاحقاً، على ارض فلسطين، بينما أهلها الأقربون، لا سيما في سوريا التي كانت فلسطين جزءاً لا يتجزأ منها سواء عبر التاريخ أو بحقائق الجغرافيا، قد توزعوا دولا شتى...
على أن هذه الوقائع السياسية التي فرضت على الأرض بالأمر الاستعماري، بريطانياً وفرنسياً، تطبيقاً لمعاهدة &laqascii117o;سايكس - بيكو"، بين البريطانيين والفرنسيين، لم تمنع العرب من أن يستغرقوا في حلمهم 'بالدولة الواحدة للأمة الواحدة'... وكان مفكروهم وكتابهم قد انتبهوا إلى حقيقة أن ثمة رابطاً قومياً يجمع شتاتهم هو: العروبة... وهكذا طفق بعضهم يبشر بالعروبة مع بداية القرن العشرين، داعياً إلى وحدة سياسية بين أقطار المشرق العربي التي مزقها الاستعمار 'دولا' لا تملك مقومات الحياة.
وبين الوقائع الدالة أن 'العرب' جميعاً قد اعتبروا تنصيب فيصل ابن الشريف حسين ملكاً على سوريا بداية تحقيق الحلم، فالتف من حوله دعاة الوحدة، من السوريين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين فضلاً عن الأردنيين الذين استولدوا من خاصرة النواة الصلبة لدولتهم الموحدة.
وطبيعي أن هذا الحلم لم يعش إلا شهوراً قليلة، حيث خلع الفرنسيون الملك مع احتلالهم دمشق، فأخذه البريطانيون لينصبوه على عرش العراق... بينما كانت شبه الجزيرة العربية قد أقطعت لسيف عبد العزيز آل سعود، بدعم من البريطانيين ومعهم الأميركيون اثر اكتشاف منابع النفط الغزيرة في بعض أنحاء تلك الأرض المقدسة والتي غدت الآن مملكة آل سعود.
..وها هو تنظيم 'داعش' يعلن بين أهدافه تحطيم حدود سايكس -بيكو ودولهما.
ظلت الدعوة إلى الوحدة قائمة، اقله على المستوى الفكري والعمل السياسي. ونشأت أحزاب وجمعيات عديدة تنادي بالعروبة، سواء على مستوى سوريا الطبيعية (التي تضم سوريا ومعها لبنان وفلسطين والعراق وصولاً إلى الكويت ومعها قبرص ـ كما قال الحزب السوري القومي الاجتماعي بزعامة انطون سعاده في منتصف الثلاثينيات..) أو بوحدة عربية شاملة تجمع المشرق والمغرب من أدنى الجزيرة العربية إلى أقصى المغرب الغربي (كما دعا حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تم تأسيسه في دمشق على يد ميشال عفلق ورفاق له في منتصف الأربعينيات، ثم حركة القوميين العرب التي أنشأها مجموعة من المناضلين الفلسطينيين بعد نكبة فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش وانضم إليها وحدويون من سوريا ولبنان والأردن والكويت وشبه الجزيرة العربية وبعض أنحاء المغرب..).
تنامت قدرات الأحزاب القومية، البعث وحركة القوميين العرب، بعد نكبة فلسطين، في حين تراجع زخم القول بدولة الخلافة الإسلامية (أو حتى العربية)، بعد استقلال 'الدول' وانفتاح أبواب الصراع على المناصب والمنافع..، وإن برز تنظيم &laqascii117o;الإخوان المسلمين" الذي كان قد تأسس في مصر أواخر العشرينيات، مستقطباً مناصرين في مختلف أقطار المشرق خصوصاً.
ولقد أمكن لحزب &laqascii117o;البعث" أن يصل إلى السلطة في سوريا، أساساً، ثم في العراق، بالاتكاء على الجيش.. لكن تجربته في الحكم قد انتهت إلى نتائج مأساوية على مستوى العمل القومي، خصوصاً وأن الحزب سرعان ما ذاب في 'الزعيم' الذي حملته الصراعات التي لم تتوقف داخله بين التيارات اليسارية واليمينية فأخليت الساحة للقيادات المتحدرة من الجيش، والتي غالباً ما كانت من طائفة واحدة... وكان على الشعارات المبشرة بالوحدة والحرية والاشتراكية أن تغطي 'القائد التاريخي' وحكم الأقلية المستندة إلى العسكر، وهذا ما وسع مجال الحركة أمام الإسلاميين ورفع صوتهم بتظلم الأكثرية المقصاة عن السلطة.
من باب الذكر، تجدر الإشارة إلى تجربة لم تعمر طويلاً في 'دولة جنوب اليمن' التي حصلت على الاستقلال في أواخر الستينيات، وتولى الحكم فيها متحدرون من حركة &laqascii117o;القوميين العرب" الذين سرعان ما استقطبتهم التيارات اليسارية فصار الحكم في هذه الدولة الصغرى للشيوعيين، بدعم مفتوح من الاتحاد السوفياتي.. وهي تجربة انتهت بحرب أهلية وحروب مع الشمال أفضت إلى عودة الجنوب إلى الدولة - الأم - مع استمرار التيارات الانفصالية في العمل، ما أفسح في المجال لتنظيمات الإسلام السياسي المتطرف بالتحرك في الشمال والجنوب... والساحة مفتوحة هناك الآن لحرب عصابات تدمر بعض منجزات العمران، قديمه والجديد.
باختصار: التهمت السلطة المتهمة دائماً بالفئوية في بلاد الشام، سوريا والعراق، الأحزاب العلمانية والحكم المتستر بشعاراتها... ولم يكن قد تبقى في البلاد من وجود فاعل للحركات القومية رافعة شعار الوحدة. وحدها التنظيمات الإسلامية التي كانت قد اختفت 'تحت الأرض' عادت إلى السطح وقد اندفعت إلى أقصى التطرف، مطالبة بإقامة 'الدولة الإسلامية'، مستعيدة تاريخ الشقاق السني - الشيعي في أبشع صوره سواء في الشعار أو في السلوك أو في الممارسة العملية الآخذة إلى الفتنة.. فالسلطة تظل، غالباً، أغلى من الدين، وكثيراً ما استخدم الدين لتغطية السبق إلى السلطة حتى إذا ما استتب الأمر لصاحب الأمر انصرف إلى الدنيا تاركاً الدين لله.
وها نحن نعيش الفصل الأول من فصول الصراع السياسي الجديد بأدبياته الطائفية البشعة في صراحتها، وبممارساته الدموية لاغية السياسة والدين.
ويبدو أن هذا الفصل سيكون مكلفاً جداً، في الدم والرجال والثروات، في الاستقرار كما في الاقتراب من حلم الدولة العادلة والقادرة والعصرية.. عربياً.
تنشر بالتزامن مع جريدة 'الشروق' المصرية
المصدر: صحيفة السفير