ربيع بركات
لم تعمر جمهورية 'ماهاباد' الكردية التي أعلنت انفصالها عن إيران مطلع العام 1946 أكثر من سنة. فقد فاوض السوفيات على الإقليم الذي حظي باستقلاله برعايتهم، لكنه عاد إلى كنف الدولة الإيرانية أواخر العام نفسه. انسحب الجيش السوفياتي من الدولة الوليدة التي كان قد تعهد بحمايتها، وفضل معظم زعماء القبائل الكردية الإيرانية النأي بأنفسهم عن المعركة مع طهران. هكذا، قـُصم ظهر الحركة القومية الكردية بزعامة قاضي محمد في مهدها، واختفت أول جمهورية كردية بعد الحربين العالميتين عن خريطة الشرق الأوسط.
ولم تكن تلك محاولة الأكراد الوحيدة لإعلان الاستقلال في المنطقة، حيث توزع وجودهم على كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا. فقد أقرت 'معاهدة سيفر' قبل ذلك (1920) بالحقوق القومية للشعب الكردي إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، مانحة إياهم الحق في تقرير المصير. بيد أن الإنجاز العسكري الذي حققته قوات مصطفى كمال أتاتورك بإحكام قبضتها على مجمل الأراضي التركية، فرض على دول الحلفاء إعادة النظر في تعهداتهم السابقة، فحلت 'اتفاقية لوزان' (1923) التي أغفلت ذكر التنوع القومي في تركيا مكان سابقتها، واستعادت أنقرة كردستان الشمالية كاملة بعدما كانت الأخيرة تتمتع بإدارة ذاتية. كذلك كان الأمر في العراق، حيث أخمد البريطانيون أول انتفاضة كردية في البلاد العام 1919، ثم تلتها انتفاضة ثانية بعد ثلاث سنوات، أعلن إثرها استقلال وجيز لمملكة كردية عاصمتها السليمانية (كردستان الجنوبية)، قبل أن يعاد ابتلاعها وضمها إلى حكومة بغداد المركزية إثر دخول القوات البريطانية إليها العام 1924.
منذ التشكل الحديث لمنطقة الشرق الأوسط وفصول 'القضية الكردية' تتوالى تباعاً على كل من الدول التي يتوزعون فيها. تركيا والعراق شكلا نواة هذه الأزمة، فيما ظلت كل من إيران وسوريا على هوامشها نسبياً، قبل أن يتغير الحال في الأخيرة بعيد تحول احتجاجاتها إلى حرب أهلية دموية. ومن أسباب ذلك أن الأكراد يشكلون نحو 15 في المئة من مجمل سكان كل من تركيا والعراق، فيما لا يزيدون عن 10 في المئة في سوريا و7 في المئة في إيران. كما أن تعامل السلطات المتعاقبة في كل من هذه الدول مع الحالة الكردية أنتج ردود فعل متباينة.
وقد شهدت تركيا، في هذا الإطار، نحو 36 تمرداً كردياً، تناوبت عليها حركات إسلامية وأخرى يسارية، وزعماء أكراد بعضهم من السنة وبعضهم الآخر من العلويين، دشن آخرها 'حزب العمال الكردستاني' بزعامة عبد الله أوجلان العام 1984. فيما تراوحت العلاقة بين قادة الأكراد في العراق والسلطة المركزية بين تعاون وتنافر، مع توالي الانقلابات العسكرية في بغداد، فقاد الإقطاع الكردي ممثلاً بالملا البرزاني ثورة العام 1961 ثم تحرك العام 1974 بدعم من شاه إيران، قبل أن تثبّت الحركة الكردية الحكم الذاتي لإقليم كردستان بعيد حرب الخليج العام 1991. وعلى النقيض من ذلك، امتازت علاقة الأكراد الإيرانيين بطهران بعد فشل تجربة 'ماهاباد' بهدوء نسبي، برغم الاحتجاج على استبعاد قادتهم البارزين من صياغة دستور الجمهورية الإسلامية العام 1979. بينما كان أكراد سوريا الأكثر ارتباطاً بنسيج المجتمع برغم حرمان قسم منهم من حقوق المواطنة بدعوى التسلل من دول الجوار (تركيا)، حيث أن عدداً من رؤساء البلاد السابقين كانوا من أصول كردية (حسني الزعيم وفوزي السلو وأديب الشيشكلي).
كان 'الحلم الكردي' موزعاً على ثلاث قوميات، حالَ كلٌ منها دون تحققه. وكانت الحركة الاستقلالية الكردية ذات مشارب ومواقف وأهداف متنوعة. منها ما كان يطمح إلى الاستقلال، ومنها من يكتفي بطلب حكم ذاتي. وبينها من كان قومياً يسارياً يرتبط بعلاقات مع حركات تحرر عالمية ('العمال الكردستاني' مثلاً)، فيما كان بعضها الآخر إقطاعياً يعمد إلى بناء علاقات سرية مع دول استعمارية (البارزاني وعلاقته بإسرائيل مثلاً).
اليوم، تجد الحركة الكردية نفسها أمام واقع لم تألفه في السابق. على تخوم أقاليمها الجنوبية، ثمة حروب أهلية بين مكونات طائفية لإحدى هذه القوميات الثلاث. ومن رحم هذه الحرب الأهلية، برز وحش جاهلي بمسمى 'الدولة الإسلامية في العراق والشام'، وأخذ يتمدد حتى صاغ للأكراد حدودهم الجغرافية موضوعياً. ففي سوريا، يدافع هؤلاء عن الحسكة وبعض مناطق ريف حلب دفاعاً وجودياً، وقد بادر حزبهم الأنشط ('الاتحاد الديموقراطي' المرتبط بـ'العمال الكردستاني') بطلب قيام إقليم كردي مستقل في إطار سوري فدرالي قبيل محادثات 'جنيف 2' الأخيرة. بينما تقدمت قوات &laqascii117o;البيشمركة" إلى كركوك المتنازع عليها مع الدولة العراقية منذ أن كانت، وبطلب من الحكومة العراقية بالذات، وذلك لدفع قوات 'داعش' عنها، كما دخلت إلى محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى، وهي جميعاً محل نزاع مع بغداد.
لقد أحيت 'داعش' الحلم الكردي بشكل غير مباشر. رسمت خطوط تماسٍ جديدة تفصل سائر شعوب المنطقة عن بعض الدولة الكردية المتخيلة منذ مئة عام، يوم بدأ العالم القديم انهياره مع شرارة الحرب العالمية الأولى. قامت بتثبيت فواصل أولية بين بلاد الكرد من جهة، وبين رعاعها الآتين من شتى بقاع الأرض وعرب المشرق المشغولين بحروب هوياتهم البدائية من جهة أخرى. بينما ظلت حدود 'الحلم الكردي' مفتوحة ناحية الجماعتين القوميتين الأخريين اللتين ابتلع كل منهما حصته من أقاليم الكرد سابقاً: الفرس شرقاً والأتراك شمالاً.
يعيش الأكراد اليوم ذروة يقظتهم القومية منذ أن كانت. وهم يجاورون أكبر انحطاط قومي يشهده العرب منذ يقظتهم. تلك واحدة من مفارقات التشكل الراهن. بيد أن المفارقة تلك تعطي تفسيراً شافياً لما آلت إليه الأمور: لم يكن للـ'حلم الكردي' أن يتحقق جزئياً من دون تقهقر واحد من الأطراف التي أغفلت هذا الحلم وظلمته طويلاً. وقد تبرع العرب بالانهيار المطلوب، بنجاح منقطع النظير.
على أن المسألة تنطوي على بعد آخر يتصل بواقع المشرق المتداعي. إذ ثمة ما يوحي بأن العرب في العراق والشام يتبادلون الأدوار مع الكرد شيئاً فشيئاً. وما يزيد راهنهم بؤساً تلك الأفكار القاحلة الآتية من الصحراء، والتي لا تسمح بقضم كياناتهم الجمعية تدريجياً فحسب، بل تحرمهم من إعادة إنتاج أحلام يصبون إلى تحقيقها، شأنهم شأن سائر الشعوب.
المصدر: صحيفة السفير