فهمي هويدي
ما لم يتحقق الوئام المدني في مصر، فإن أي إنجاز يحققه الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء ولايته سيظل منقوصاً.
(1)
لستُ صاحب مصطلح الوئام المدني، ولكنني استعرته من القاموس السياسي الجزائري. ذلك أنه كان العنوان الذي دخل به عبدالعزيز بوتفليقة إلى رئاسة الجمهورية في العام 1999. وبه حفر اسمه في التاريخ الجزائري الحديث. فقد كانت الجزائر قد عانت من العنف والإرهاب والشلل السياسي طوال عشر سنوات (من بداية التسعينيات إلى بداية الألفية الثانية) وهي الفترة التي باتت توصف حتى الآن بأنها العشرية السوداء، التي قتل فيها نحو 250 ألف جزائري، ومعروف أن شرارة العنف انطلقت عقب تدخل الجيش لإلغاء الانتخابات التشريعية التي جرت في العام 1991، وحققت فيها &laqascii117o;الجبهة الإسلامية للإنقاذ" تفوقاً ساحقاً. إزاء ذلك نزلت دبابات الجيش إلى الشوارع وشكلت قيادته ما سمي بالمجلس الأعلى للدولة، الذي أجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، باعتبار أنه هو الذي فتح الباب للتعددية السياسية وإجراء الانتخابات. وإزاء ذلك الانسداد لجأت الجماعات الإسلامية إلى العنف الذي أغرق البلاد في الدم للسنوات العشر اللاحقة.
لا قوة الجيش نجحت في القضاء على جماعات العنف، ولا استطاعت تلك الجماعات أن تكسر شوكة السلطة، وقد تعاقب على رئاسة الجمهورية خلال تلك الفترة ثلاثة رؤساء (محمد بوضياف ـ على كافي ـ اليمين زروال) لكنهم فشلوا في وقف شلال الدم المتدفق، إلى أن ظهر في الأفق عبدالعزيز بوتفليقة في العام 1999 رافعاً راية الوئام المدني، التي كانت بداية لإنهاء الصراع وطي صفحته. قال بوتفليقة إن مشروعه يرتكز على تحقيق الوفاق الأهلي، وقدم مشروعاً بذلك إلى مجلس الأمة الذي أيده بأغلبية كبيرة. ولم يكتف بذلك وإنما طرحه على الاستفتاء الشعبي العام وتجاوزت نسبة مؤيديه 98 في المئة، وكان تنفيذ قانون الوئام هو مفتاح الانفراج وعودة السلم الأهلي إلى البلاد. إذ بدأ التنفيذ فور صدوره القانون في العام 1999 الأمر الذي ترتب عليه وقف الصدام المسلح وعودة أغلب أعضاء الجماعات المسلحة من الجبال إلى بيوتهم بعد تسليم سلاحهم. ولأن القانون عالج أوضاع أعضاء الجماعات المسلحة التي باشرت العنف، فإن قانوناً آخر صدر في العام 2006 باسم &laqascii117o;ميثاق السلم والمصالحة الوطنية" ليكمل مهمة &laqascii117o;قانون الوئام"، وقد استفتى عليه الشعب أيضاً، به خطا بوتفليقة خطوة أخرى أبعد، في تنظيم العفو العام وتحقيق الوئام. ومن أهم ما عالجه الميثاق ما يلي:
العفو عن الإرهابيين الذين سلموا أسلحتهم، باستثناء المذنبين في جرائم القتل الجماعي والهجمات التفجيرية على المنشآت العامة والاغتصاب. وشمل العفو الأشخاص المحكوم عليهم غيابياً.
● التبرئة الضمنية للأجهزة الأمنية من تهمة &laqascii117o;اختفاء" أكثر من 7000 جزائري قسرياً.
تنظيم التعويضات المالية وغيرها لأسر القتلى والمختفين.
في القانونين تفاصيل كثيرة تهم أهل الاختصاص. لكن أهم ما فيهما أنهما عبّرا عن إرادة سياسية حقيقية لحل الأزمة. ثم إنهما أصدرا عفواً عن أعضاء الجماعات المسلحة، بمن فيهم الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن حضورياً أو غيابياً. ولم يستثن من العفو سوى من ثبت بحقهم الضلوع في القتل الجماعي أو الاغتصاب. في الوقت ذاته، فإنهما اعترفا بمسؤولية الأجهزة الأمنية عن جرائم الاختفاء القسري. وإذ شمل العفو تلك الأجهزة ــ مقابل العفو عن المحكومين من أعضاء الجماعات المسلحة ــ إلا أنها التزمت بدفع التعويضات والتسويات لأسر الضحايا.
(2)
أدري أن ثمة فروقاً كبيرة واختلافاً شديداً بين أزمة الجزائر التي استمرت عشر سنوات والأزمة المصرية التي تجاوزت عشرة أشهر في نيسان الماضي. ثم إنه لا وجه للمقارنة بين العنف الحاصل في الجزائر وذلك الذي شهدته مصر. بنفس القدر فلا وجه للمقارنة بين المجموعات التي شاركت في القتال هناك، وبين المجموعات المشتبكة مع السلطة في مصر. وإذا استثنينا العمليات الإرهابية التي وقعت في سيناء، وتفجيرات من العيار الثقيل لا تجاوز أصابع اليد الواحدة حدثت خارجها، فإن الحوادث التي شهدتها مصر خلال الفترة السابقة تعد أمراً متواضعاً للغاية إلى جانب ما عرفته الجزائر. ناهيك عن أن الإرهاب هناك مارسته مجموعات معروفة لدى الأجهزة الأمنية على الأقل، أما أعمال العنف التي وقعت في مصر فليس معروفاً على وجه الدقة من يقف وراءها. وحين نُسب بعضها إلى &laqascii117o;الإخوان" في تصريحات المسؤولين ووسائل الإعلام، فإن أطرافاً أخرى أعلنت مسؤوليتها عنها (كما حدث مع أنصار بيـت المقدس وأجناد مصر).
ما أريد أن أقوله إنه في التجربة الجزائرية بكل تعقيداتها وفظائعها وشلال الدماء الذي أراقته حتى أغرق البلاد طولا وعرضاً، في ظل تلك الأجواء، أمكن تحقيق الوئام المدني وتم تجاوز الأزمة حين توفر العنصر الأهم المتمثل في الإرادة السياسية. ساعد على ذلك أن طول أمد الصراع أقنع الطرفين بالحقيقة التي يدركها أي سياسي رشيد والمتمثلة في أن المتصارعين لا بد أن يجلسوا على الطاولة في نهاية المطاف، خصوصاً إذا لم ينجح أحدهما في سحق الآخر. بحيث يقصيه من الساحة ويلغيه من الوجود، وهو ما أثبتت تجربة الأشهر العشرة السابقة تعذره في الحالة المصرية. وأخشى أن تراهن المؤسسة الأمنية على تحقيق الإقصاء والإلغاء، الأمر الذي من شأنه إطاله أمد الصراع وتوسيع نطاقه فضلا عن ارتفاع تكلفته. وهي التكلفة التي سوف يتحمل الوطن ثمنها لا الطرف المهزوم وحده.
هذا العقل الرشيد الذي يرنو إلى التوافق والتصالح هو الذي مكن إيطاليا من التعامل مع عنف منظمة &laqascii117o;الألوية الحمراء"، ومكن الإسبان من التعامل مع ثوار &laqascii117o;الباسك"، والبريطانيين من حل مشكلتهم مع &laqascii117o;الجيش الجمهوري" في إيرلندا.
إن شئنا الدقة فلا مفر من الاعتراف بأن المشكلة لا تكمن في عقدة القرار السياسي وحده على أهميته، لأن ثمة موقفاً مشابهاً تبنته أغلب عناصر الطبقة السياسية وقطاعاً معتبراً من الرأي العام. وهذا الموقف الأخير يحتاج إلى مراجعة وتفكيك.
(3)
صحيح أن مصطلح الطبقة السياسية لا يخلو من مبالغة، لأن الفضاء المصري يزدحم بالعناوين واللافتات السياسية (لدينا نحو 84 حزباً)، إلا أن رافعيها أغلبهم يتحدثون في السياسة ولا يمارسونها. وقد وجدنا أن القوى السياسية لم تستطع أن تقدم رمزاً له وزنه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ورغم خفة وزنها وضعف تأثيرها فإن تلك الطبقة عالية الصوت، وقد سبق أن قلت إن وجودها في الفضاء الإعلامي أقوى بكثير من وجودها على الأرض.
هذه الطبقة التي تقف ضد الوئام وضد السلم الأهلي والمصالحة، بما يعني معارضتها لأي حل سياسي ومساندتها للحل الأمني والإقصائي، لذلك فإنها لم تعد تمانع في استمرار الاحتقان والمراهنة على الإجراءات التعسفية التي اتسع نطاقها بحيث طالت شباب الثورة، وقد أصبح المئات منهم رهن الاعتقال والسجن في الوقت الراهن. ولا بد أن يدهشنا أن ذلك المعسكر المؤيد للسياسة الأمنية يضم ليبراليين وقوميين ويساريين وناصريين وآخرين ممن ظننا أن المبادئ والقيم التي يتحدثون عنها تتناقض مع المواقف التي ينحازون إليها في الوقت الراهن. ولا أستطيع أن أسقط من دوافع موقفهم ذاك ما ذكره أحد قادة الاتجاه اليساري في مقالة نشرتها له جريدة &laqascii117o;الأهرام" من أن المجموعات سابقة الذكر لم يكن بوسعها أن تتحدى الجماعات الإسلامية وأن تشترك في السلطة إلا إذا تحالفت مع العسكر. وهو ما يقدم تفسيراً إضافياً لموقفهم الذي نتحدث عنه.
(4)
إن أهم حجة تساق في رفض فكرة الوئام المنشود هي أنه لا مصالحة مع الإرهاب والأيدي الملطخة بالدماء. ذلك أن أحداً لا يدافع عن الإرهاب أو الأيدي المطلخة بالدماء، شريطة أن يثبت ذلك بحق المحتجزين من خلال تحقيق نزيه ومحاكمة عادلة مستقلة. وإذا ما تم ذلك فينبغي أن توقع على الإرهابيين الحقيقيين ما يستحقونه من عقاب.
ثمة حجة أخرى تقول إن الشعب قرر كذا وإن المشكلة باتت مع الشعب وليست مع السلطة. وهو ادّعاء مردود عليه بأن رأي الشعب لا تقدره تظاهرة أياً كان عدد المشاركين فيها، ولا حناجر غاضبة أياً كانت قوتها ولا أبواق إعلامية مهما كان ضجيجها، ولكن قرار الشعب تصدره مؤسساته المنتخبة انتخاباً حراً، أو تقرره الاستفتاءات التي يُدعى الجميع للمشاركة فيها. وهو ما لجأ إليه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في قانوني الوئام والسلم والمصالحة.
اقتراحي المحدد هو ان يُستفتى الشعب المصري لكي يقول كلمته في مشروع الوئام.
لا أعرف عاقلا يتصور إمكانية استقرار الأوضاع في مصر وعودة الأمن ودوران ماكينة الاقتصاد قبل حل العقدة وإتمام الوئام والمصالحة. وما لم يحدث ذلك فإن الاحتقان سوف يستمر وأسباب النقمة سوف تتراكم في الأعماق منذرة بما هو أسوأ. وهو ما لن تجدي معه أسلحة القوة والقهر التي تتوافر لسلطة الداخل، ولا مليارات الدولارات التي يوفرها حلفاء الخارج، ذلك أننا نريد أن نحتضن أبناء مصر في الداخل قبل أن نمد أيدينا إلى أصدقاء مصر في الخارج.
المصدر: صحيفة السفير