كيرين يارهي ميلو ـ International Security ـ صيف 2013
كيف يمكن لصناع القرار التوصل لاستنتاج حول النوايا السياسية على المدى الطويل لخصوم دولهم؟ إن هذا السؤال له أهمية نظرية ، تاريخية، وسياسية كبيرة. فلو أن صناع القرار البريطايين فهموا مدى نوايا ألمانيا النازية بالنسبة لأوروبا خلال الثلاثينات، فإن القرن العشرين كان ليبدو مختلفاً جداً. وفي الآونة الأخيرة، يشير تقرير معهد بروكينغز إلى أن " مسألة انعدام الثقة المتبادل النوايا على المدى الطويل. . . أصبح الشغل الشاغل في العلاقات الأميركية- الصينية ". وتؤكد تصريحات المسؤولين الصينيين والأميركيين هذا الشك. فقد أشار السفير الأمريكي لدى الصين غاري لوك إلى وجود " قلق، وعلامة استفهام، من قبل الناس والحكومات في جميع أنحاء العالم والحكومات في جميع أنحاء العالم عن ماهية نوايا الصين. "كما أشار المسؤولون الصينيون، وبالمثل، إلى أن بكين تعتبر سياسات الولايات المتحدة مؤخرا بمثابة "مؤامرة متطورة لإحباط النمو في الصين ".
إن التقييمات الحالية للتهديد الذي يشكله صعود الصين - أو بالنسبة لأهمية إيران المسلحة نووياً ربما، أو انبعاث روسيا - تعتمد على ماهية المؤشرات التي يستخدمها المراقبون لاستخلاص التوقعات حول نوايا العدو المحتملة . مع ذلك، ومما يثير الدهشة، هو أن هناك القليل من الأبحاث لتحديد ماهية المؤشرات التي يستخدمها قادة وأجهزة الاستخبارات الأميركية المكلفين تقدير التهديدات لتقييم نوايا العدو. على سبيل المثال، لقد هيمنت النزاعات بين المحللين الأميركيين حول القدرات العسكرية للاتحاد السوفياتي على المناقشات المتعلقة بالتهديد السوفياتي خلال الحرب الباردة، مع ذلك لم يكن هناك دراسة كبيرة للمدى الذي تشكله وتعكسه مثل هذه الحسابات لتقييمات صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة للنوايا السوفياتية. إن تحليل كيفية تحديد الإشارات و تفسيرها من قبل صناع القرار في الدولة وأجهزة مخابراتها يمكن أن يؤدي إلى فهم أفضل لأنواع الإشارات المائلة لتحفيز التغييرات في العلاقات مع الخصوم، فضلا عن المساعدة بتطوير نصائح مفيدة لصانعي السياسات حول كيفية ردع أو طمأنة عدو وعلى نحو أكثر فعالية.
في هذه المادة، أجري مقارنة بين مقاربتين منطقيتين بارزتين في العلاقات الدولية حول الكيفية التي يمكن بها التوقع استنتاج المراقبين لنوايا الخصوم السياسية، مع مقاربة ثالثة أقوم بتطويرها وأطلق عليها مصطلح " فرضية الانتباه الانتقائي." أولا، إن فرضية السلوك تؤكد بأن المراقبين يرجعون لبعض الاجراءات المستندة إلى عدم قدرة معينة- مثل قرار الخصم بالانسحاب من تدخل عسكري أجنبي أو الانضمام إلى منظمات دولية ملزمة لاستخلاص استنتاجات بشأن نوايا العدو . ويركز هذا النهج على دور الإعلام المكلف في التأثير على سلوك الدولة. وتعتبر الإجراءات قيِّمة إذا كانت تتطلب من الدولة إنفاق موارد كبيرة غير قابلة للاسترداد أو إذا كانت تعوق بشدة صنع القرار مستقبلاً. إن الأمر البديهي الأساسي وراء هذا النهج هو أن عملاً لا يكلف شيئاً يمكن أن تتناوله الجهات الفاعلة بنوايا حميدة أو خبيثة، على نحو متساو، وبالتالي فإنه لا يقدم أي معلومات ذات مصداقية حول خطط الفاعل المرجحة. ولذلك ينبغي للمراقبين تجاهل "الكلام الرخيص". ثانيا، إن فرضية القدرات، المعتمدة على رؤى من الواقعية وكذلك من إشارات قيِّمة، تؤكد على وجوب أن تنظر الدول إلى القدرات العسكرية للعدو عند تقييمها لنواياه. أما الأمر الذي سيكون له الأهمية الخاصة فهو التغييرات الكبيرة والهامة في سياسات التسلح ، مثل التخفيض الأحادي في القدرات العسكرية. إن تغييرات مثل هذه تكشف عن معلومات ذات مصداقية حول قدرة عدو ما على الانخراط في الحرب وبالتالي عزمه على القيام بذلك.
بالاعتماد على رؤى من علم النفس، وعلم الأعصاب، والنظرية التنظيمية، أقوم بتطوير نهج ثالث، "فرضية الانتباه الانتقائي". وتطرح هذه الفرضية تأثير الانحياز الإدراكي الفردي والاهتمامات والممارسات التنظيمية على أنواع المؤشرات التي يعتبرها المراقبون إشارات ذات مصداقية لنوايا العدو . وبالتالي، تتكهن الفرضية بالاختلافات الموجودة بين قادة الدولة السياسيين ومجتمع الاستخبارات في اختيارهم للإشارات التي ينبغي التركيز عليها وكيفية تفسيرها. إن صناع القرار، على وجه الخصوص، غالباً ما يستندون في تفسيراتهم على نظرياتهم وتوقعاتهم، واحتياجاتهم الخاصة، متجاهلين أحياناً إشارات قيمة مع إيلاء مزيد من الاهتمام إلى معلومات أكثر وضوحاً، رغم أنها أقل قيمة ( أي، اشتمالها على معلومات شخصية وعاطفية ). تعرض الفرضية أيضاً إلى أن الانتماءات والأدوار التنظيمية مسألة هامة: تعتمد منظمات الاستخبارات ، وهذا متوقع، على مؤشرات مختلفة عن تلك التي لصناع القرار المدنيين لتحديد نوايا عدو ما. ففي المنظمات الاستخبارية، تنال مسألة جمع وتحليل البيانات حول الجردة العسكرية للعدو الأولوية عادة. بمرور الوقت، تطور المنظمات الاستخبارية معرفة أساسية وكبيرة عن هذه المؤشرات المادية التي تستخدمها لاحقاً لصنع تكهنات حول نوايا العدو.
لاختبار الفرضيات المتنافسة، قمت بدرس ثلاث حالات: التقييمات الأميركية للنوايا السوفياتية بظل إدارة الرئيس جيمي كارتر (الفترة التي انهارت فيها سياسة الانفراج)؛ التقييمات الأميركية للنوايا السوفياتية في السنوات التي أدت إلى نهاية الحرب الباردة أثناء الإدارة الثانية للرئيس رونالد ريغان، والتقييمات البريطانية لنوايا ألمانيا النازية في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية. إن استنتاجاتي تستند إلى مراجعة لأكثر من 30000 وثيقة مؤرشفة وتقرير استخباراتي، وكذلك إلى مقابلات مع صناع القرار السابقين ومسؤولي الاستخبارات . وأسفرت الحالات عن نتائج تنسجم مع فرضية الاهتمام الانتقائي أكثر من أي فرضية سلوك أو فرضية قدرات، كما شرحت في الخاتمة.
قبل المتابعة، من المهم الاشارة إلى ما يقع خارج نطاق هذه الدراسة. أولاً، أنا أشعر بالقلق في المقام الأول من التصورات لنوايا العدو السياسية على المدى الطويل وذلك لأنها هذه النوايا هي الأكثر احتمالا لجهة التأثير على السياسة الخارجية للدولة السياسة وخياراتها الاستراتيجية. ثانياً، أنا لست بصدد معالجة ما إذا كان المراقبون قد حددوا بشكل صحيح نوايا خصومهم أم لا . إن معالجة هذه المسألة ستتطلب منا أولا تثبيت ما درسناه هنا عن الفترة التي كان يعتقد انها نوايا قادة ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي في ذلك الحين. ثالثاً، وفي مكان آخر ، أقوم بمعالجة آثار النوايا المتصورة على السياسات الجماعية للدول. بل إن التركيز في هذه المقالة هو على المؤشرات التي يميل القادة والمنظمات الاستخبارية إلى منحها الامتياز أو تجاهلها في تقييماتهم لنوايا العدو السياسية .
يصف المقطع التالي من هذه المادة المتغيَّر المعتمد - النوايا السياسية المتصورة- ويضع الفرضيات الثلاث. ويبين القسم التالي تصميم البحث. ثم، تقدم ثلاث حالات اختبارات عملية للتفسيرات النظرية. ويناقش القسم الأخير الآثار المترتبة على النتائج التي خرجت بها بالنسبة للعلاقات الدولية ، النظرية والعملية.
نظريات النوايا ومشكلة الاهتمام
تقدم الفرضيات الثلاث التي أتناولها أدناه تفسيرات مختلفة لكيفية توصل المراقبين إلى تقييمات حول نوايا العدو السياسية. ويشير مصطلح "النوايا السياسية" إلى المعتقدات حول خطط السياسة الخارجية للخصم بما يتعلق بالوضع القائم. كما أقسم تقييمات النوايا السياسية إلى ثلاث فئات بسيطة: التوسعية، الانتهازية، أو الوضع القائم. يظهر الأعداء التوسعيون تصميماً قوياً لتوسيع سلطتهم والتأثير خارج حدودهم الإقليمية. وترغب الدول الانتهازية في إحداث تغيير إيجابي في توزيع السلطة إما بنطاق جغرافي محدود أو غير محدود، ولكنها لا تسعى للتغيير بقوة. قد يكون لديها خططاً مشروطة لاغتنام الفرص بغرض تحقيق هذا الهدف، لكنها لن تواصل أهدافها الرجعية المعدلة عند ظهور تكلفة عالية لتحقيقها. أما قوى الوضع القائم فتريد فقط الحفاظ على موقع قوتها النسبية.
فرضية الاهتمام الانتقائي
يمكن للمعلومات حول النوايا أن تكون معقدة، غامضة، ويحتمل أن تكون خادعة، وبالتالي تتطلب الكثير من العمل التفسيري . وتعيق الممارسة المعرفية، العاطفية، والتنظيمية قدرة الأفراد على معالجة هذه المعلومات. وللتمييز بين الإشارت والضجة، يستخدم الأفراد مجموعة متنوعة من استراتيجيات الاستدلال المساعدة على كشف مجريات الأمور. في كل الأحوال، هذه نماذج مبسطة عن الواقع، يمكن أن يكون لها أثر غير مقصود لجهة تركيز الاهتمام المفرط على بعض أجزاء المعلومات وبعيدا عن الأجزاء الأخرى. وتسلم فرضية الاهتمام الانتقائي بأن صانعي القرار الأفراد والمنظمات البيروقراطية ، كمجتمع الاستخبارات، يعالجون المعلومات بشكل مختلف. وينتج عن هذه الفرضية طرحين: طرح المصداقية الذاتية ( الشخصية) ويفسر عملية الاستدلال لصناع القرار، وطرح الخبرات التنظيمية ويصف تلك التي للمنظمات الاستخبارية.
طرح المصداقية الذاتية ( الشخصية). يتكهن طرح المصداقية الذاتية ( الشخصية) بعدك تقصي او تفسير صانعو القرار، بالضرورة، أعمالا قيمة بصفتها إشارات اخبارية. هذه النظرية القائمة على علم النفس تفترض بأن درجة المصداقية المعطاة لكل من الدليل وتفسير الدليل المعتبر ذي مصداقية، سيعتمد على توقعات صانع القرار بشأن الروابط بين سلوك العدو وخصائصه الأساسية؛ نظرياته الخاصة، أو نظرياتها، حول أي من الإشارات تعتبر دالة ومؤشراً على نوع الخصم ؛ وحيويه المعلومات.
أولا، إن الاهتمام المعطى للإجراءات المكلفة يتوقف على توقعات المراقبين حول العدو. ومن المرجح أن يختلف المراقبون من حيث درجة عدم الثقة تجاه عدو ومدى اعتقادهم بعدائية نواياه . هذا الاختلاف في معتقدات وتوقعات صناع القرار يؤثر على اختيارهم وقراءتهم للإشارات بطرق يمكن التنبؤ بها. ونظراً لآليات الاستيعاب المعرفي وميل الإنسان إلى محاولة الحفاظ على الانسجام المعرفي، فإن صناع القرار الذين يحملون بالفعل وجهات نظر أكثر تشددا نسبياً حول نوايا العدو عندما توليهم السلطة هم أقل عرضة لتصور وتصنيف الإجراءات المطمئنة القيمة حتى كإشارات ذات مصداقية عن نوايا حميدة. فمن المرجح، على سبيل المثال، أن يعللوا إجراءات العدو بأنها تهدف إلى خداع المراقبين كي يعتقدوا بأنه لا يبيت نوايا خبيثة. أو أنهم قد يعتقدون أن إشارات العدو المطمئنة تعكس مصالحه السياسية أو الاقتصادية المحلية المجردة، وبالتالي لا ينبغي النظر إليها كما لو أنها تشير إلى أهداف أكثر اعتدالا في السياسة الخارجية. في المقابل، إن أولئك الذين لديهم آراء أقل تشددا نسبياً عن نوايا العدو هم أكثر عرضة لتفسير إشارات مطمئنة باعتبارها تتطابق مع معتقداتهم الحالية، وبالتالي هم أكثر عرضة لرؤية هذه الإشارات حميدة. ومن المرجح أن يركز الصقورعلى الإجراءات المكلفة التي تشير إلى النوايا الخبيثة، وذلك لأن مثل هذه الأفعال تنسجم مع معتقداتهم القائمة حول نوايا العدو.
ثانياً، إن تفسيرات صناع القرار توجهها نظرياتهم حول العلاقة بين سلوك عدو وخصائصه الأساسية. وكما يشير روبرت جيرفيس، فإن المراقبين المختلفين سوف يفسرون حتى السلوك القيم بشكل مختلف، "لأن بعضهم رأى وجود علاقة سببية معينة في حين أن آخرين إما لم يروا شيئاً وإما كانوا يعتقدون بأن العلاقة مختلفة تماماً ". إذا، وعلى سبيل المثال، إن صانع القرارالذي يعتقد بمنطق الحرب التضليلية، من المرجح أن يولي هو، أو هي، اهتماما إلى مؤشرات الاضطرابات الاجتماعية المحلية لعدو الدولة ويعتبرونها دليلا على أن قيادتها على وشك الشروع بسياسة خارجية رجعية . بالتالي، إن الاضطرابات الاجتماعية بمثابة مؤشر للنية، مؤشر يقول بأن من غير المرجح أن يقوم العدو بالتلاعب لنشر صورة خاطئة. إن أولئك الذين هم داخل الإدارة والذين لا يتشاركون نظرية الحرب التضليلية هذه سوف يعتبرون الاضطرابات الاجتماعية بمثابة مؤشر موثوق عن نوايا مستقبلية.
ثالثاً، يتوقع طرح المصداقية الذاتية ( الشخصية) من صناع القرار التركيز على المعلومات التي وإن كانت غير قيِّمة، فإنها حيوية. تشير الحيويه إلى " فائدة المعلومات العاطفية، واقعية وإمكانية تصور المعلومات، القرب الحسي، المكاني، والزماني للمعلومات ". أما إحدى المؤشرات "الحيوية" والتي تعتبر مؤشراً بارزاً خاصة بالنسبة لقضايا تم درسها في هذه المقالة فتتكون من انطباعات صانع القرار من التفاعلات الشخصية مع أعضاء قيادة العدو . وقد أظهر العمل الأخير في علم النفس والسياسية بأن ردودنا العاطفية في الاجتماعات وجها لوجه تشكل حقيقة معتقداتنا وأفضلياتنا بالنسبة لبعض الخيارات. وكما حاجج كل من يوجين بورغيدا وريتشارد نيسبت ، "قد يكون هناك نوع من مبدأ "شاهد عيان" لوزن الأدلة، حيث أن معطيات الانطباع والإحساس المباشر ، وعن كثب، تعين وجود صحة وشرعية أكبر على الدليل". بناء على ذلك، من الأرجح تذكر المعلومات حول النوايا باعتبارها حيوية، شخصية، وتنطوي على عاطفة ، وبالتالي أن تكون متاحة على نحو غير متناسب للتأثير على الاستدلالات. بالمقابل، سوف يكون صناع القرار مترددين بالاعتماد على دليل مجرد، عديم اللون، موضوعي، أو أقل حسية- مثل احتساب موجودات سلاح العدو أو محتويات كتيِّباته العقائدية- حتى ولو كان من الممكن اعتبار مثل هذه الأدلة موثوقاً بها جداَ. هذا النوع من المعلومات لا يكاد يقارب سحر التجاوب الشخصي الحيوي ، البارز، والمثقل غالباً بالعاطفة الذي يأخذها القادة من الاجتماع مع خصومهم.
هناك عدد قليل من التوضيحات المرتبة ترتيباً سليماً حول " فرضية الاهتمام الانتقائي". أولا، إن أهمية المعتقدات السابقة في استيعاب المعلومات الجديدة أمر أساسي للمقاربات النفسية وبعض المقاربات العقلانية، على حد سواء. في نماذج تعلم النظرية الافتراضية (Bayesian)، لا يفترض بالمراقبين الذين يقيِّمون أدلة جديدة أن يمتلكوا معتقدات سابقة متطابقة. فالتكهن الذي يميز النماذج النظرية الافتراضية عن نماذج تعلم متحيزة يتعلق بما إذا كان المراقبون ذوي معتقدات سابقة متطابقة ومستوى من الريبة والشك سوف يتأثرون بشكل مماثل بمعلومات جديدة تكشفها إشارات قيمة. في المقابل، يزعم طرح المصداقية الذاتية ( الشخصية) بأن عملية التحديث قد لا تحصل حتى في مواجهة اشارات قيمة، وبأنه يمكن أيضا النظر إلى إجراءات حيوية ليست قيمة على أنها إخبارية. فضلاً عن ذلك، إن مفهوم تحديث النظرية الافتراضية يشير إلى أن المعطيات غير المثبتة سوف تؤدي دائما إلى تغيير ما بالمعتقد، أو على الأقل تدني الثقة. مع ذلك، إن "طرح المصداقية الذاتية" يسلم بعدم مراجعة بعض صناع القرار لمعتقداتهم حتى عند مواجهتهم لمعلومات قيمة ومكلفة وذلك للأسباب المذكورة أعلاه، كوجود تحيز مؤكد قوي، طبيعة شاحبة للمعلومات، أو تعارض مع نظريات صانع القرار. تطرح هذه الدراسة أيضا مجموعة من الأسئلة حول أهمية الإجراءات القيمة التي تميل نماذج النظرية الإفتراضية إلى تجاهلها: ما يعني، هل يختار المراقبون المختلفون أنواعاً مختلفة من المؤشرات الخارجية لتحديث معتقداتهم؟
طرح الخبرة التنظيمية. إن السياق البيروقراطي التنظيمي الذي يعمل فيه المحللون الاستخباراتيون له آثار محددة لا تنطبق على صناع القرار السياسي. وباعتبارها منظمات استخباراتية جماعية فإنها تميل إلى تحليل نوايا الأعداء من خلال منظور خبراتها النسبية. إذ تميل المنظمات الاستخباراتية إلى تكريس معظم مواردها لجمع وإنتاج وتحليل المعلومات حول المخزون العسكري للعدو، الأمر الذي يمكن معرفته وتعقبه بمرور الوقت. وكما يقول مارك لوينثال، "الانتظام والدقة اللذان يحكمان جيش البلاد يجعلانه عرضة لجمع المعلومات الاستخبارية ". بالإمكان أيضاً تقديم المخزونات النوعية وعرضها بطريقة شبه علمية لصناع القرار.
بمرور الوقت، يخلق الرصد الواسع لمخزون العدو العسكري نوعاً من ضيق الأفق مما يؤثر على عملية الاستدلال. ونستفيد هنا من استعارة لأشعيا برلين، الرصد الواسع يخلق القنافذ: "إن القنافذ العدوانية فكريا كانت تعرف شيئا واحداً كبيراً، وقد سعت، تحت شعار منظور التقتير، إلى توسيع القوة التفسيرية لذلك الشيء الكبير "لتغطية" حالات جديدة ". هذا لا يعني بأن المنظمات الاستخباراتية لا تعرف سوى كيفية احتساب صواريخ العدو وفرقه العسكرية. بل يعني أن طرح الخبرة التنظيمية يفترض أن يكون لدى أجهزة الدولة حوافز قوية لاستخدام الخبرات النسبية الموجودة لديها، والذي يؤكد التحليل العملي الدقيق للقدرات العسكرية، لأن تحليل النوايا قضية مركزية مكلفة بها المنظمات الاستخباراتية صراحة، وبسبب عدم وجود وسيلة مباشرة أو سهلة للتنبؤ بنوايا العدو . وعلى عكس فرضية القدرات، يعتبر طرح الخبرات التنظيمية منطق الاعتماد على القدرات بأنه منطق ناجم عن أسباب بيروقراطية وعملية محددة بالنسبة لأجهزة الاستخبارات.
فرضية القدرات
تفترض فرضية القدرات بأن على المراقبين الاستدلال على نوايا العدو بناء على قوائم قوته العسكرية. وتعتمد هذه الفرضية على نظريات واقعية عدة تشير إلى أن نوايا الدولة تكشف قدراتها العسكرية، أو هي مقيدة بها على الأقل. هناك مساران يربطان القوة العسكرية بالنوايا المتصورة. المسار الأول، ووفقاً لنظرية جون ميرشايمر عن الواقعية الهجومية، ينبغي لصناع القرار في النظام الدولي الفوضوي " أن يفترضوا الأسوأ " بخصوص نوايا الأعداء. فمدى العدوانية التي يمكن أن تكون عليها دولة (أو سوف تكون ) أمر تابع لقوتها. ويعتمد المسار الثاني على منطق الأعمال القيمة، وفقاً لحجم الزيادة الإضافية أو النقصان في القدرات العسكرية للخصم، إلى جانب مدى القوة التي سيكون عليها بحيب ما يرى البلد المراقب، وبأن هذه القدرات يمكن أن تكون بمثابة إشارة ذات مصداقية لنوايا عدوانية أو حميدة.
اعتماداً على هذه الأفكار، تتوقع فرضية القدرات بأن يعمد المراقبون في بلد ما على الاستدلال على نوايا العدو من التوجهات الملحوظة في مستوى قدرات هذا العدو العسكرية مقارنة مع قدرات جيشه. في ظل ظروف من الشك والريبة بشأن نوايا الدول، من المرجح النظر إلى التصورات حول تخصيص العدو المزيد من الموارد لدعم قدرات جيشه باعتباره إشارة مكلفة عن نوايا عدوانية . وكما يقول تشارلز جلاسر، " بإمكان التعزيزات العسكرية لدولة أن تغير في معتقدات الخصم حول دوافع الدولة، لتقنع الخصم بأن الدولة بطبيعتها أكثر خطورة مما كان يعتقد سابقا. وبشكل أكثر تحديدا، إن اشتداد قوة الدولة يمكن أن يزيد تقييم الخصم لمدى الرغبة التي تدفعه إلى التوسع لأسباب أخرى عدا الأسباب الأمنية ".
في المقابل، من المرجح النظر إلى تصور يتعلق بتجميد أو خفض في القدرات العسكرية للعدو أو استثماره فيهما باعتباره إشارة قيمة ومطمئنة عن نوايا حميدة أكثر. في الوقت نفسه، لطالما أكد الواقعيون بأن تصور الدولة للأمن أو التهديد أمر يعتمد على كيفية مقارنة قوة هذه الدولة العسكرية مع قوة العدو، ما يعني، المقارنة وفق ميزان القوى العسكرية. وبالتالي، وفي عملية تمييز النوايا، من المرجح أيضاً أن تؤثر تقييمات توازن القدرات العسكرية على التفسيرات للنوايا الحميدة أو العدوانية. على سبيل المثال، إذا كان العدو يتمتع بالفعل بالتفوق العسكري على البلد المراقب، عندها على المراقبين أن ينظروا إلى الزيادة في القدرات العسكرية للعدو كدليل واضح على نوايا عدوانية.
فرضية السلوك
تفترض فرضية السلوك أن هناك أنواعاً معينة من الإجراءات المستندة إلى عدم القدرة المفيدة أيضاً في الكشف عن معلومات حول النوايا السياسية، لأن الشروع بذلك يتطلب من العدو إما تخفيضاً في التكاليف وإما إلزام نفسه بمصداقية بوسطة تقييد يديه. وإني أجري هنا تقييماً للدور السببي المحتمل لثلاثة أنواع من هذه الإجراءات "المكلفة". النوع الأول هو قرار الدولة بالانضمام أو الانسحاب من مؤسسات دولية ملزمة. يمكن لبعض المؤسسات فرض تكاليف هامة على الدول، وبالتالي فهي مفيدة في السماح لدول أخرى أن تستشف ما إذا كان لدى الدولة نوايا حميدة أو خبيثة. إن الترجمة البنيوية للسلام الديمقراطي، على سبيل المثال، تفترض أن إنشاء المؤسسات الديمقراطية المحلية - لما لها من آثار تقييدية، إضافة إلى الشفافية، والقدرة على انتاج تكلفة الأتباع - تجعل من السهل على الآخرين إدراك النوايا الحميدة لدولة ديمقراطية.
تنطوي الإشارة الثانية المكلفة على التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول الضعيفة، أو الانسحاب من مثل هذه التدخلات. إن قرار الدولة بسفك الدم وبذل المال في محاولة لتغيير الوضع القائم، على سبيل المثال، من المحتمل أن ينظر إليه على أنه إشارة قيمة، وبالتالي ذات مصداقية، لنوايا عدوانية.
هناك نوع ثالث للإشارة السلوكية ينطوي على اتفاقيات الحد من التسلح. فقد أشار باحثون إلى أنه عندما يكون بالإمكان تمييز الأسلحة الهجومية والدفاعية، فإن اتفاقيات الحد من التسلح - خاصة تلك التي تحد من الانتشار الهجومي وتفرض تحققاً فعالاً منها - تقدم إشارة مهمة ومطمئنة للنوايا حميدة. إن الغش والخداع أو التراجع عن اتفاقيات الحد من التسلح من شأنه أن يدفع الآخرين إلى التشكيك في نوايا تلك الدولة. من المهم أن نفرق بين المؤشرات مثل توقيع اتفاقيات الحد من التسلح باعتبارها إشارة سلوكية للنوايا عن المؤشرات المرتبطة بفرضية القدرات. على الرغم من أن كلا الطرحين يتعاملان في نهاية المطاف مع العلاقة بين السياسة العسكرية للدولة وتقييم الآخرين لنواياها، فإن لهما توقعات مختلفة. فإذا كانت فرضية القدرات هي الصحيحة، فإن التغيير في النوايا المتصورة ينبغي أن يحدث فقط عندما يؤدي تنفيذ الاتفاق إلى خفض فعلي في قدرات العدو . يجب على صانعي السياسة الرجوع إلى التغيير الفعلي في القدرات كسبب لحدوث تغيير في تصوراتهم لنوايا العدو . وإذا كانت فرضية السلوك هي الصحيحة، فينبغي أن تتحول تصورات النوايا عند توقيع اتفاق الحد من التسلح، ويجب على صانعي السياسة الرجوع إلى فعل التوقيع على الاتفاق بصفته عامل حاسم. إن الأدلة التي تشير إلى أن التغييرات في تقييمات النوايا تحدث في زمن التوقيع على المعاهدة رداً على توقعات بتحولات مستقبلية في القدرات، أو التفكير الذي يشير سواء إلى القيمة الرمزية والقيمة الفعلية لمعاهدة ما، تؤكد على الطرحين على حد سواء.
ملخص التكهنات
يبرز الجدول رقم 1 أهم الاختلافات في الآثار التي يمكن ملاحظتها لفرضيات الاهتمام الانتقائي، القدرات، والسلوك. إن كل سؤال من الأسئلة الأربعة في الجدول يتناول كيفية اختبار تكهنات النظريات الثلاث في مقابل الأدلة العملية (التجريبية).
تصميم البحث
لتقييم فرضيات الاهتمام الانتقائي، القدرات، والسلوك، أجري أولاً، درساً لتصورات صناع القرار الرئيسيين ومستشاريهم المقربين الكبار في السياسة الخارجية لعدو معين، وثانيا، أجري درساً للتقييمات المنسقة لمجتمع الاستخبارات. بالإضافة إلى الاختلاف حول المتغيِّر المعتمد - تصورات النوايا السياسية – تعرض الحالات أيضاً اختلافاً مفيداً حول المتغيرات التفسيرية.
الجدول رقم 1. ملخص التكهنات | |||
الفرضيات | فرضية الاهتمام الانتقائي | فرضية القدرات | فرضية السلوك |
هل يختلف المراقبون في كيفية تقييم نوايا العدو السياسية؟ | نعم، سوف يعتمد صناع القرار ومجتمع الاستخبارات على مؤشرات مختلفة. | ليس بالضرورة | ليس بالضرورة |
ما هي مجموعة المتغيرات الأساسية التي توجه تقييمات المراقبين للنوايا السياسية؟ | سوف يركز صناع القرار على معلومات حيوية تعالج ما يحكمون عليه بموضوعية بأنها اخبارية. سوف يعطي مجتمع الاستخبارات الأولوية للمعلومات التي لديه خبرة أفضل فيها، والتي ستكون متعلقة بمعظم الحالات بالقدرات العسكرية للعدو. | المتغيرات المؤثرة هي التغييرات في مقدار القدرات العسكرية للعدو. | المتغيرات المؤثرة هي الأعمال القائمة على عدم القدرات من جانب العدو. |
متى تتغير التقييمات بشأن النوايا السياسية؟ | سوف يقوم صناع القرار بالتحديث رداً على المعلومات الحيوية والقراءة الموضوعية لمؤشرات ذات مصداقية. | تتغير التقييمات رداً على التغييرات المكطلفة في المقدار المتصور للقدرات العسكرية للعدو. | تتغير التقييمات عندما يشرع العدو بأعمال مكلفة معينة. |
كيف يفسر المراقبون تقييماتهم للنوايا السياسية؟ | يعلل صناع القرار تقييماتهم بالرجوع إلى المعلومات التي يعتبرونها حيوية او يتصورونها، وبموضوعية، بأنها ذات مصداقية. يعلل مجتمع الاستخبارات تقييماتهم بالرجوع إلى المعلومات التي لديهم خبرة كبيرة فيها، ما يتعلق عادة بالقدرات العسكرية للعدو. | يعلل المراقبون تقييماتهم بالرجوع إلى مقدار القدرات العسكرية للعدو. | يعلل المراقبون تقييماتهم بالرجوع إلى السلوك المكلف للعدو. |