أندرو ج. تابلر ـ الشئون الخارجية ( Foreign Affairs)
تموز/ آب 2013
ينبغي لواشنطن اتباع مسار مدروس إنما حازم مع سوريا، لأنه كلما استمر الصراع ، كلما زاد التهديد الذي يمثله.
سوريا تذوب وتنهار. إن محاولة النظام الحاكم وضع تصور للخروج من أكبر ثورة يواجهها على الاطلاق أدت إلى مقتل أكثر من 80000 شخص وتشريد ما يقرب من نصف سكان سوريا البالغ عددهم 22 مليون نسمة. فإذا استمر هذا عدد الضحاياالشهري الحالي هذا والبالغ حوالي 6000 بالسقوط، فإن سوريا بحلول شهر آب/أغسطس ستكون قد ضربت رقماً قياسياً قاتماً: مقتل 100000 شخص ، وهو الرقم الذي استغرق الوصول اليه ضعف هذه المدة في البوسنة في أوائل التسعينات. يحصل هذا بعد مرور سنتين كاملتين على إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن هناك ضرورة ' لتنحي' الرئيس السوري بشار الأسد جانباً.
في كل الأحوال، إن المقارنات مع البلقان لا تكفي لوصف الأزمة في سوريا. فالخطر الحقيقي هو أن البلد قد ينتهي به الأمر قريباً ليصبح كالصومال، حيث مزقت حرب أهلية دموية استمرت مدة عشر سنوات دامية الدولة وخلقت ملاذا للمجرمين والارهابيين. لقد تقسمت سوريا أساساً، وعلى نحو فعال، إلى ثلاث مناطق متجاورة بالكاد. وفي كل من منطقة من هذه المناطق، هناك منظمات إرهابية كانت قد سمتها الولايات المتحدة على لائحتها وهي الآن في حالة صعود. أما النظام فلا يزال يمارس سطوته في غرب سوريا، وهو جزء من البلاد تهيمن عليه الأقلية العلوية، التي تنتمي إليها عائلة الأسد، ومقاتلين من حزب الله، وهي جماعة اسلامية شيعية مدعومة من إيران، تعبر بانتظام الحدود اللبنانية التي لم يعد هناك، وعلى نحو متزايد، من معنى لها وذلك للانضمام لقوات الأسد الموجودة هناك. وفي الوقت نفسه، أصبحت منطقة الشمال ـ الوسط ذات الاغلبية السنية ـ العربية ، وبشكل كبير، تحت سيطرة تشكيلة متنوعة من جماعات المعارضة المسلحة. وتشمل هذه الجماعات جبهة النصرة ، التابعة لتنظيم القاعدة، التي رفعت مؤخراً علمها الأسود على أكبر سد في سوريا على نهر الفرات. أما في الشمال الكردي، فهناك فرع محلي لحزب العمال الكردستاني المتشدد ، أو حزب العمال الكردستاني، الذي خاض حرب عصابات طويلة ضد الحكومة التركية، يعمل بحرية.
نظرة فاحصة أقرب، والصورة تزداد سوءاً. فالصراع، الذي يعتبر فيه عدد القتلى الآن أعلى من ذاك الذي كان في ذروة حرب العراق، في عام 2007، ينتشر بسرعة إلى الدول المجاورة. لقد أصبح مخيم الزعتري في الأردن رابع أكبر مدينة في البلاد (عدد سكانه: 180000 نسمة )، ما يجعل موارد المملكة الأردنية تمتد ويهدد استقرار المحافظات الشمالية. أما سنة وشيعة لبنان، الذين ليسوا بغرباء عن التوترات المذهبية، فيقاتل بعضهم بعضا عبر سهل البقاع في سوريا، كما تندلع المشاحنات المتصلة بسوريا من وقت لآخر داخل لبنان. إن الواقع بأن لبنان، بلد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فيه مرادف للبؤس والتشدد، يفكر حتى في بناء مخيمات للاجئين السوريين هو في حد ذاته علامة على مدى سوء الأمور . ولئلا يكون من غير الواضح كيفية تأثير هذا الأمر على الولايات المتحدة، فإن تنظيم القاعدة في العراق، وهي منظمة إرهابية ضحت واشنطن بمقدارهائل من الدم والمال في محاولة لهزيمتها، قد وجدت نفسها موضع ترحيب في سوريا، وأعلنت في نيسان/ أبريل عن توحيد القوى مع جبهة النصرة لتشكيل الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام.
إن حقيقة أن نظام الأسد غارق، بحسب ما قيل، في مخزونه من الأسلحة الكيميائية ـ الأكبر في المنطقة ـ أدى إلى نقل الأزمة ورفعها إلى مستويات أعلى في قائمة مشاكل البيت الأبيض الملحة. على الرغم من أن استطلاعات الرأي العام تشير إلى أن الأمريكيين يشعرون بالقلق من التدخل، فإن تجنب المشكلة يبدو أمراً أقل جدوى أكثر فأكثر، حيث أن الوضع في سوريا يتحول من كونه كارثة إنسانية تم احتوائها في الغالب إلى كارثة استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. إن بلداَ في منطقة تعتبرموطناً لـ 65 في المئة من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم و 40 في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي على وشك أن تصبح ملاذاً للارهابيين ينعدم فيه القانون وحيث الأسلحة الخطيرة سائبة.
شئنا أم أبينا، فإن السؤال الذي يواجه إدارة أوباما الآن ليس ما إذا كان يجب بذل المزيد من الجهد للمساعدة في حل النزاع ولكن متى، وكيف، وبأي ثمن. فقواعد لاس فيغاس لا تنطبق على سوريا: ما يحدث هناك لن يبقى هناك. إن أزمة اللاجئين الضخمة والتهديد المتمثل بإمكانية وقوع الاسلحة الخطيرة في أيدي الإرهابيين ـ الجهاديين والانفصاليين الأكراد على حد سواء ـ يهدد أمن حلفاء واشنطن في العراق، إسرائيل، الأردن، وتركيا مباشرة. إن انهيار الدولة السورية وتمكين الجماعات الإرهابية قد يمنحهم في النهاية حرية التخطيط لهجمات دولية، كفوضى تنظيم القاعدة في أفغانستان في التسعينات. وحيث أن الأزمة السورية قد اصبحت على هذا القدر من التعقيد، هناك أمر واحد واضح: كلما طالت الأزمة كلما زاد التهديد الذي تشكله وكلما ازدادت صعوبة القيام بأي شيء حيالها بالنسبة للولايات المتحدة.
ولوقف انهيار سوريا واحتواء التهديدات المتنامية، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى سلوك نهج جديد، يبدأ أحدها بتدخل عسكري جزئي يهدف إلى دفع جميع الأطراف إلى طاولة المفاوضات. أما الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها لواشنطن حل الازمة فهي من خلال العمل مع الشعب ' داخل سورية'، حيث ترجع إدارة أوباما إلى المعارضة الداخلية، بدلا من عدم ذكرها، ما يعني في مجلس الأمن الدولي.
كلفة التراخي
كانت مقاربة البيت الأبيض للأزمة السورية حتى الآن من أعلى إلى أسفل، بالاعتماد على الدبلوماسية للحصول لازاحة الأسد من الطريق وتهيئة المجال لانتقال سلمي إلى الديمقراطية. إلا أن دفع الجانبين، وببساطة، للتوصل الى تسوية سياسية قابلة للحياة أصبحت أمراً احتمالات النجاح فيه تقل أكثر فأكثر. فقد فشلت الوساطة الدبلوماسية الدولية في الغالب، بسبب خلافات واشنطن وموسكو حول شكل المرحلة الانتقالية . ففي حين يطالب الأميركيون برحيل الأسد ورفاقه عن سوريا، تصر روسيا على بقائهم، أو على الأقل بقاء النظام. وتحقيقاً لهذه الغاية، اعترضت موسكو على ثلاث قرارات صادرة مجلس الأمن بشأن سوريا برعاية الولايات المتحدة أو حلفائها كما قامت بالتخفيف أو باحباط قرارات لا تحصى أخرى. وعلى الرغم من أن البلدين كانا قد أعلنا مؤخراً عن خطط لعقد مؤتمر دولي للتعامل مع الأزمة، فإن الاحتمالات بأن تثمر شيئاً تزداد انخفاضاً نظراً للغموض بشأن الحصيلة النهائية لأية مفاوضات بين الأفرقاء المتحاربين، وعدم استعجال النظام والمعارضة التوصل إلى اتفاق حول تقاسم السلطة الاتفاق، وعجز كل من موسكو وواشنطن عن جلب الطرفين الى طاولة المفاوضات.
في غضون ذلك، سعت واشنطن إلى فرض العزلة الدبلوماسية على دمشق ؛ وفرضت مجموعة من العقوبات النفطية والتجارية والمالية التي تستهدف النظام؛ ساعدت في تنظيم عدد من جماعات المعارضة السياسية المنقسمة والميؤوس منها في المنفى وذلك ضمن 'الائتلاف الوطني للقوى الثورية والمعارضة السورية '؛ تواصلت مع الناشطين المدنيين في سوريا، وقدمت مبلغ 760 مليون دولار في شكل مساعدات إنسانية للمدنيين السوريين. وخوفاً من إمكانية أن تجد الأسلحة الأمريكية طريقها إلى أيدي المتطرفين، تجاهلت الولايات المتحدة بشكل أو بآخر المعارضة المسلحة، التي حلت ، وبشكل فعال، محل الناشطين المدنيين وأصبحت في طليعة الجهود الرامية إلى إسقاط الأسد قبل أكثر من عام ونصف تقريبا وهي تسيطر بالفعل على مساحات واسعة من الأراضي داخل البلاد. وقد أدى تردد واشنطن بالعديد من الجماعات المسلحة إلى الحصول على الدعم من أي مكان آخر - بما في ذلك من ممولين سلفيين وجهاديين من القطاع الخاص وخاصة في الكويت، ليبيا، قطر، والمملكة العربية السعودية.
لقد أرسلت إدارة أوباما مساعدات ضئيلة غير قاتلة، كالأدوية ووجبات الطعام الجاهزة للأكل، والتي اقتربت مدة انتهاء صلاحيتها، إلى المجلس العسكري الأعلى للمتمردين، وهو شريك مسلح في الائتلاف الوطني. لكن هذه المساعدات التافهة لن تجبر النظام على السقوط ولا هي ستكسب واشنطن ولاء المعارضة. على الرغم من أن البيت الأبيض قد أعلن في نيسان/ أبريل، وسط ضجة كبيرة، أنه سيرسل سترات واقية من الرصاص ونظارات للرؤية الليلية لبعض الجماعات المسلحة المدقق بشأنها، فإن هذا يبدو قليلاً ومتأخراً جداً لكسب معظم هؤلاء الذين يقاتلون للاطاحة الأسد . ففي كل أسبوع، يقوم المتظاهرون في مناطق معينة ، وبانتظام، بتعنيف الولايات المتحدة، وأوباما على وجه الخصوص، لعدم فعله شيئاً يذكر للسوريين في ساعتهم الحرجة. وظهرت في احدى هذه التظاهرات، في كفر نابل في نيسان/ أبريل الماضي، لافتة احتجاج تسأل أوباما ما إذا كان بحاجة إلى فترة ولاية ثالثة ليقرر ما يجب القيام به حيال سوريا، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لن يجد عندها من السوريين من لا يزال على قيد الحياة. وبما أن أولئك الذين يصوبون الطلقات على النظام الآن سرعان ما سيوقفون طلقاتهم حيث تفسح قوات النظام المجال لهم بذلك، فإنه ينبغي على واشنطن أن تأخذ استيائهم المتزايد على محمل الجد.
إن الشيء الوحيد الذي كان أوباما قد أشار إليه بأنه قد يقود الولايات المتحدة إلى التدخل عسكرياً، بطبيعة الحال، هو استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية. ولكن حتى هنا ترددت واشنطن، لتفضح بذلك وجود نفورعميق لديها من التورط في سوريا. وتحول الخط الأحمر لأوباما بشأن الأسلحة الكيميائية بمرور الوقت. ففي البداية، تضمن هذا الخط الأحمر أية 'حركة أو استخدام' لهذه الأسلحة. ثم، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ضاق هذا الخط ليشمل فقط استخدامها، بعد كشف الاستخبارات الأمريكية عن أن النظام قد حمل القنابل بغاز السارين. ثم، وفي أواخر نيسان، بدت إدارة أوباما وكأنها توحي بأنها ستعمل فقط على وقف 'الاستخدام المنهجي' للأسلحة الكيميائية وفقط عندما يمكن التحقق من استخدامها بما لا يدع مجالا للشك بذلك، (وهو أمر مضن، بالنظر إلى أن واشنطن لا تستطيع أن تجمع بنفسها ومباشرة جميع العينات اللازمة لتأكيد هذا الأمر).
تقول الحكومة الامريكية انها تريد إجبار الأسد على الخروج من السلطة وأن تدقق بصعود المتطرفين في المعارضة. ولكن نهجها هذا لا يعزز أياً من الهدفين. فاذا ما واصلت واشنطن سعيها لتسوية بوساطة الامم المتحدة مع روسيا بينما تسمح للصراع بالتدهور، فإن موسكو سوف تفقد قدرتها على جلب النظام الى طاولة المفاوضات لإجراء محادثات حول انتقال حقيقي للسلطة. ومع استمرار الحرب الطائفية المريرة، سوف يكون لدى أنصار النظام والعلويين مزيداً من الأسباب للخوف من يوم يعيشون فيه بظل حكم السنة وسيعتبرون أن صياغة دولة مصغرة ( دولة ـ ميني) أمر أفضل بالنسبة لهم من حصول تسوية سياسية ـ وبالتالي مقاومة أية مفاوضات. في هذه الأثناء، ستكون الولايات المتحدة قد فقدت كل نفوذها الدبلوماسي الذي كان لها يوما ما ربما لدى قوى المعارضة، الذين يشعرون ،على نحو متزايد، بأن الأمريكيين قد تخلوا عنهم وقت الحاجة.
طريقة أمامية أفضل
لا يريد الرأي العام الأمريكي الذي أنهكته الحرب ولا المعارضة السورية أن يشهدا غزواً برياً أميركياً واسع النطاق للاطاحة بالأسد وتنصيب حكومة مدعومة من الولايات المتحدة، ويتخوف كلا الفريقين من التدخل الكبير الذي من شأنه أن يعني تكراراً لحرب العراق. لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة تفتقر إلى الخيارات. إذ ينبغي على واشنطن اتباع مسار مدروس إنما حازم، مسار يهدف إلى منع الأسد من استخدام أسلحته الأكثر فتكاً بحرية، وإقامة مناطق آمنة للمدنيين على الحدود السورية، ودعم عناصر مدقق بها من المعارضة المسلحة والمدنية بالأسلحة، والاستخبارات، والمساعدات الإنسانية، والمساعدة في عملية إعادة الإعمار. ينبغي أن يكون الهدف النهائي (بدلا من نقطة البداية، كما تفضل إدارة أوباما الآن) المفاوضات، بقيادة الأمم المتحدة أو طرف آخر، وأن تؤدي هذه المفاوضات إلى رحيل الأسد وحاشيته وإعادة توحيد البلاد. فإذا ما أرادت الولايات المتحدة سوريا موحدة ومستقرة، وأكثر ديمقراطية في نهاية المطاف ـ وربما غير متحالفة مع إيران بعد ذلك ـ فإن هذا هو الطريق الأقل سوءاً للوصول إلى هناك.
يجب على الولايات المتحدة البدء بردع النظام عن استخدام أدواته الأكثر تدميراً، وهي صواريخ أرض ـ أرض والأسلحة الكيميائية. وسوف يتطلب هذه الردع اخراج القنابل المملوءة بغاز السارين التي وضعت العام الماضي ' على مقربة من' القواعد الجوية السورية ' أو فيها'، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز. إن تدمير تلك القنابل سيتيح لواشنطن إرسال إشارة إلى الأسد بأن استعداده لاستخدام أسلحته المتقدمة له ثمن. وهذا من شأنه، على الأرجح، التقليل من عدد القتلى وإعطاء المدنيين السوريين المحاصرين في القتال أسباباً أقل للهروب من منازلهم، مما يساعد على كبح أزمة اللاجئين. مع ذلك، وإذا ما قرر الأسد أن يزيد في مطالبه، فيجب على واشنطن شن ضربات جوية، صاروخية أو، ربما، ضربات من طائرات بدون طيار لتدمير أو إبطال عمل مخزوناته المتبقية من الأسلحة الكيماوية والصواريخ التي بامكانه إطلاقها. ( بطبيعة الحال، سيكون على الجيش الامريكي اتخاذ المزيد من الحيطة والحذر لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين مع وجود المتفجرات الكيميائية عن قرب). وإذا ما فشل الجيش الامريكي بتحديد مكان أسلحة الأسد الأكثر خطراً أو اعتبار المحاولة بذلك مخاطرة كبيرة جداً، فإن بإمكانه، بدلا من ذلك ، ضرب منشآت القيادة والتحكم السورية.
ثانياً، لحماية السوريين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من هجمات صواريخ سكود وطائرات النظام الحربية ، ينبغي على الولايات المتحدة انشاء مناطق آمنة بطول 50 ـ 80 ميلا في سوريا على طول حدودها مع الأردن وتركيا. وغالبا ما يقدم منتقدو التدخل فكرة إنشاء منطقة حظر الطيران في سوريا بصفتها فكرة تنطوي على مخاطر كبيرة جداً بالنسبة للطيارين والطائرات الأميركية التي ستشارك. إلا أن مقاربة محدودة تركز على المناطق الحدودية ستكون مخاطرها أقل، بما أن بالإمكان اسقاط طائرات وصواريخ النظام باستخدام بطاريات صواريخ باتريوت الموجودة في الأردن وتركيا أو بواسطة الطائرات التي تحلق هناك. فالمناطق الآمنة من شأنها السماح للمدنيين بالاحتماء من هجمات الأسد، ومنع اللاجئين من التدفق إلى الدول المجاورة، وتمكين المجتمع الدولي من توجيه المساعدات الإنسانية على نطاق لا يمكن فيه للمنظمات غير الحكومية المحلية مجاراته فيه.
إن اقتطاع هذه المناطق الآمنة يستلزم أيضاً توجيه ضربات جوية أو صاروخية أميركية ضد سلاح المدفعية القريب ـ أداة الأسد وخياره لقتل المدنيين وأسلوب ممكن لاطلاق أسلحة كيميائية ـ إضافة إلى توجيه ضربات لمنظومات سلاح الجو. لكن هذه، أيضاَ، يمكن إدارتها عبر الحدود.
بالتأكيد، لا يمكن للولايات المتحدة حماية المناطق الآمنة من الهجمات البرية من قبل قوات الأسد. لكن عن طريق القضاء على خطر التهديد بالموت من علٍّ، ، سواء من الصواريخ أو الطائرات، يمكن لمنطقة حظر الطيران عن بعد إعطاء المتمردين في هذه المناطق فرصة للقتال وكذلك المساحة التي يحتاجونها لحماية المدنيين على الأرض. وبالمثل، فإن هذا النهج عبر الحدود لن يكون فعالاً في الوقاية من الإصابات في صفوف المدنيين كما بإرسال طائرات أميركية فوق سوريا، لكنه ينطوي على مخاطر أقل بشكل ملموس بما يتعلق باسقاط الطائرات الاميركية بواسطة البطاريات السورية المضادة للطائرات. إذا ساء الصراع بشكل ملحوظ أو بدأ النظام باستخدام أسلحته الكيميائية بالجملة ضد المعارضة، فإن واشنطن ستكون قادرة على توسيع المناطق الآمنة باتجاه وسط البلاد وإنشاء منطقة حظر الطيران أكبر أيضاً. ولكن كلا الخيارين محدودين، فالخيار البعيد ومنطقة حظر الطيران الموسع قد يكونا مقيدين بسبب إدخال منظومات صواريخ S-300 الروسية المتطورة المضادة للطائرات، التي، بحسب ما يقال، يمكن أن تكون قيد التشغيل في سوريا في أوائل أغسطس/ آب ـ وهذا تذكير آخر بثمن الانتظار .
ثالثاً، إن واشنطن بحاجة الى العمل مباشرة مع قوى المعارضة على الأرض في سوريا ( بصفتهم على عكس اولئك الذين في الخارج تماماً) لابعاد قوات الحكومة، وتقديم المساعدات الإنسانية، والأهم، التحقق من تنامي نفوذ المتطرفين الاسلاميين. ينبغي أن يشمل ذلك توفير الأسلحة للجماعات المسلحة المدقق بشأنها على أساس التجربة والخطأ، مع مراقبة واشنطن لكيفية استخدام الكتائب للمعلومات الاستخبارية، الامدادات، والأسلحة التي تتلقاها. ينبغي تحويل المساعدات الأولية من خلال شخصيات غير سلفية في المجلس العسكري الأعلى، مثل العقيد عبد الجبار العكيدي، رئيس المجلس العسكري الثوري في حلب، ولجنة تسلح الجبهة الشمالية للمجلس العسكري الأعلى. ( فمن خلال العكيدي وجهت الولايات المتحدة مؤخراً مساعداتها غير القاتلة، بما في ذلك السترات الواقية من الرصاص). وفي الوقت نفسه، ينبغي على واشنطن تشجيع أعضاء الائتلاف الوطني للدخول إلى المناطق المحررة والعمل جنباً إلى جنب مع الجماعات المسلحة والمجالس المحلية لبناء قيادة سياسية جديدة قابلة للحياة على الأرض على أساس الانتخابات المحلية.
لا يتطلب أياً من هذا العمل وجود ' بوط ' الجندي الأميركي على الأرض بصفة هجومية، لكن يمكن أن يشتمل على أميركيين ينتعلون أنواعاً أخرى من الأحذية. يجب على الولايات المتحدة أن تنشئ، وعلى الفور، مكاتب آمنة في جنوب تركيا وشمال الأردن كمراكز مخصصة للعمل مع المعارضة السورية، إضافة إلى المناقشات التي تجري حاليا بين واشنطن وبعض المتمردين عبر الـ Skype ومن خلال الزيارات الدورية لمسؤولين اميركيين إلى الحدود . وحالما يمكن التأكد من سلامتهم جيداً وبشكل معقول، ينبغي إرسال دبلوماسيين وضباط مخابرات اميركيين إلى المناطق الآمنة التي أنشأتها الولايات المتحدة في سوريا، مع حماية، للالتقاء مباشرة مع أفراد مدنيين وأعضاء المعارضة المسلحة والنشطاء والعاملين في مجال الإغاثة. إن إقامة علاقات وثيقة مع لاعبين في سوريا سيحرر الولايات المتحدة من اضطرارها إلى العمل من خلال قطر، المملكة العربية السعودية، وتركيا، وهي الدول التي قامت بارسال وتوجيه المساعدات الماضية ووضعتها في الأيدي الخطأ؛ فعلى سبيل المثال، شوهدت الأسلحة الكرواتية التي اشترتها السعودية في وقت سابق من هذا العام في حوزة جبهة النصرة. إن من شأن اتباع نهج مباشر أكثر، وباعتراف الجميع، تعريض حياة بعض الأمريكيين للخطر، لذلك سوف يكون هناك حاجة إلى اتخاذ كل الاحتياطات الأمنية الممكنة لتجنب حصول هجوم على غرار الهجوم عام 2012 في بنغازي الذي قتل فيه كريستوفر ستيفنز، سفير الولايات المتحدة في ليبيا.
مع ذلك، إن تثبيت وجود على أرض الواقع أمر يستحق المخاطرة، إذ يسمح للولايات المتحدة بالعمل مباشرة مع الجماعات المسلحة السورية لاحتواء نظام الأسد والتأثير، في نهاية المطاف، على طابع المعارضة. أما إحدى الطرق لممارسة مثل هذا التأثير فيكون باشتراط المساعدات بالتوجهات السياسية للجماعات المعارضة واحترامها للقيادة المدنية وحقوق الإنسان. يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تحاول التأثير على السياسة السورية على المستوى المحلي لمنع الانهيار التام للحكم في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون. فما أن تحرر المعارضة ، وبالكامل، منطقة ما، فإنه ينبغي على واشنطن أن تطلب اجراء انتخابات لاختيار قيادة مدنية. ومن شأن هذه العملية أن تساعد في تجنب الفوضى ما أن ينهار النظام ويكشف المواقف والتعاطف المحلي، مما يسمح للمسؤولين أمريكيين بتقييم تأثير الجماعات المتطرفة المختلفة.
يميل أولئك الذين يعارضون زيادة المساعدات الأمريكية إلى المعارضة للإشارة إلى عناصرها الأشد قبحاً، وبخاصة إلى المقاتلين التابعين لتنظيم القاعدة. ولكن فقط عن طريق المشاركة يمكن للولايات المتحدة أن تعمل على تشكيل المعارضة ودعم قواها المعتدلة. على الرغم من العداء المتزايد لأميركا في صفوف الثوار، فلا يزال هناك متسع من الوقت لوضع استراتيجية من القاعدة الى القمة لاستعادة ثقتهم. ويمكن تحقيق ذلك من خلال دعم الكتائب الأكثر ليبرالية وعلمانية، وقومية، وعزل تلك القوى المتطرفة التي ترفض قبول السلطة المدنية خلال الفترة الانتقالية ـ وربما شن غارات بطائرات بدون طيار ضد.
وبمساعدة الولايات المتحدة، هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن المعتدلين داخل المعارضة يمكنهم الهيمنة. ففي جوهرها، الثورة السورية ثورة وطنية. فمن أصل التيارات الثلاثة الرئيسة في المعارضة ـ العلمانيين والإسلاميين المعتدلين (بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين)، والسلفيين ـ التيار الأول هو الأكثر وطنية في توجهه؛ أهدافه سياسية أكثر منها دينية، وأجنداته لا تمتد إلى خارج سوريا. أما العديد من السلفيين والجماعات المتطرفة، مثل جبهة النصرة، فلديهم أهداف عابرة للوطن، كإنشاء دولة إسلامية أو خلافة إسلامية خارج حدود سوريا الحالية. إن السبب الرئيس الذي جعل هذه الجماعات تلعب مثل هذا الدور الكبير في المعارضة هو أن القوى المناهضة للأسد اضطرت إلى اللجوء إلى دول الخليج بحثا عن السلاح والمال ـ وقد فضلت المصادر هناك تقديمها للسلفيين، الذين وفقاً لبعض التقديرات يشكلون ربع مقاتلي المعارضة. يمكن للولايات المتحدة كسب النفوذ الذي تسعى إليه من خلال تقديم المعلومات الاستخباراتية، التدريب العسكري، وأسلحة خاصة بها.
ومن العوامل الأخرى التي من المرجح أن تكبح نفوذ المتطرفين في المعارضة هو تنوع المجتمع السني في سوريا والتسامح التاريخي في البلاد تجاه الأقليات. فلطالما عرَّف السنة في سوريا، الذين يشكلون الغالبية العظمى من المعارضة، عن انتمائهم بالمنطقة أو القبيلة بدلا من التعريف بدينهم. وفي حين كان السلفيون قادرين على الفوز ببعض التأييد في شمال غرب سوريا المتشددة دينيا، فقد كان سنة دمشق أكثر اعتدالا، وذلك تماشياً مع الثقافة التجارية لمدينتهم. أما في الجنوب والشرق، فالانتماءات للعائلات والقبائل الكبيرة، وحتى تلك التي تمتد إلى العراق، ذات شأن أكبر. ما يعنيه هذا هو أن الفظائع المرتكبة بدوافع دينية ضد الأقليات في جميع أنحاء سوريا ليست أمراً حتمياً، وبأن السنة سيكونوا بحاجة لتعلم كيفية العمل مع بعضهم البعض بقدر ما عليهم تعلم العمل مع غير أهل السنة. مما لا شك فيه أن الدور البارز للعلويين في حملة النظام يمكن أن يؤدي إلى عمليات انتقام في المناطق التي تتراجع فيها قوات الأسد.
لكن حتى الآن، لم يكن هناك سوى عدد قليل بشكل لافت من القضايا المتعلقة بقيام قوى المعارضة بعمليات قتل جماعية لمدنيين من الأقليات. ويمكن للولايات المتحدة الأكثر نشاطا أن تساعد على بقاء الأمور على هذا النحو، بما في ذلك الإصرار على المعارضة اتباع قواعد معينة للسلوك من أجل الحصول على المساعدات الأميركية.
أخيراً، وبعد تكثيف مشاركتها، يجب على واشنطن السعي لإجراء محادثات بين النظام وقوى المعارضة المعتدلة، إما برعاية الأمم المتحدة وإما برعاية طرف آخر، نظرا لسجل الأمم المتحدة المتواضع بذلك، مثل سويسرا أو النرويج. إن توقيت مثل هذه المحادثات، الذي ينبغي أن يأتي في أعقاب وقف لإطلاق النار، سيعتمد إلى حد كبير على مسار الحرب وعلى الوقت الذي يمكن فيه لروسيا والولايات المتحدة التوصل إلى رؤية مشتركة للمرحلة الانتقالية وإلى تفاهم حول كيفية الوصول إلى تلك المرحلة. وفقط من خلال رفع ثمن التعنت الدبلوماسي لكل من الحكومة السورية وروسيا، وذلك بعرض واضح لدعم الولايات المتحدة للمعارضة، سيكون من المرجح إقناع الكرملين بلعب دور بناء في المرحلة النهائية للصراع. وبترجيح كفة التوازن على الأرض تجاه المعارضة، يمكن لواشنطن إقناع النظام ـ أو على الأقل رعاته في موسكو ـ أن الصراع لن ينتهي بالقوة وحدها. أكثر من ذلك، إن مثل هذا الدعم الأميركي المتزايد للمعارضة يعطي الأميركيين مزيداً من النفوذ لجلب المتمردين إلى طاولة المفاوضات.
في البداية، إن اي محادثات ستجري يجب أن تركز على تنحي الأسد ورؤساء أجهزته الأمنية، وكبار جنرالاته ومغادرة البلاد. إن الهدف النهائي هو إعادة توحيد البلاد ضمن هيكلية ديمقراطية واللامركزية تعترف بالاختلافات المناطقية. من الناحية المثالية، سوف يتم الإبقاء على تقسيم سوريا الحالية إلى 14 محافظة. لكن في مناطق من البلاد تعتبر أقل تجانساً من الناحية العرقية، كمحافظة حمص، قد يكون من الواجب تقسيم المحافظات إلى مناطق أو نواحي (بلدات). على الرغم من هذه التغييرات، فإن الحفاظ على المحافظات بصفتها لبنات لبناء نظام ديمقراطي سيؤكد على الإقليمية على حساب الهويات الطائفية، مما سيشجع جميع السوريين على العمل معاً نحو المصالحة المناطقية الاقليمية، وفي نهاية المطاف، المصالحة الوطنية.
وقف النزيف
ان اتخاذ هذه الخطوات يساعد واشنطن على تقييد سلوك الأسد، وعلى الانكباب على معالجة الأزمة الإنسانية الملحة، تشكيل المعارضة السورية المنقسمة، ومنع الصراع من الامتداد إلى خارج حدود سورية. كما أنه سيمنح الولايات المتحدة فرصة أيضاً لمنع أن يصبح تقسيم سوريا واقعاً دائماً ـ الحتمي على المدى القصير. إن الحفاظ على سوريا ككل من التقسيم ضروري لمنع أي تأثير لأسلحتها الخطيرة ومشاكلها، المستمرة بما لا يقبل الشك لبعض الوقت، على البلدان المجاورة. إذ أن وجود مخاطر حرب أهلية طائفية مطولة سوف يتحول ليصبح معركة أوسع بالوكالة بين إيران والقوى السنية، وهي حرب من شأنها أن تدمر المنطقة ككل.
قد لا يسير قسم كبير من تصورات واشنطن حول سوريا وفقاً للخطة. فالرصاص الأميركي يمكن أن يجد طريقه إلى بنادق كلاشنيكوف السلفيين، ويمكن لأجهزة الراديو الأميركية أن تقع في أيدي أولئك الذين يبشرون بالحقد والكراهية. إن أعمال العنف والمجازر قد تؤخر أو تمنع الانتخابات في بعض المناطق. ويمكن للصراع أن يظل في حالة من الجمود لسنوات قادمة، مع عدم وجود فريق يمتلك اليد العليا الحاسمة. إن التزام الولايات المتحدة بأي وجه من أوجه هذه الخطة لا ينبغي أن يكون بلا نهاية، وستكون واشنطن بحاجة إلى تقييم مستمر لمدى تلبية هذه الخطة لأهدافها.
على الرغم من المخاطر العديدة، من المهم أن تستمر الولايات المتحدة بمساعدتها لأقسام من المعارضة السورية على الأرض للحصول على السلطة ـ وألا تحاول إعطاء سلطة لأولئك المعارضين الموجودين في المنفى الذين يعِدُون كثيراً لكنهم لا يفعلون إلا القليل في الواقع. ونظراً إلى درجة انهيار سوريا والأهمية الاستراتيجية للبلاد، فإن الوقوف مكتوفي الأيدي هو الخيار الأسوأ. إن إقامة علاقات أقوى مع المعارضة هو ما سيسمح للولايات المتحدة بتشكيل نتيجة ما أفضل بين الأطراف المتحاربة تناسب مصالحها ومصالح حلفائها وتوفر مستقبلاً أفضل للشعب السوري.
(*) ترجمة: إيمان سويد ـ خاص موقع مجموعة الخدمات البحثية