قراءات سياسية » شرعية المقاومة الوطنية وشرعية الدولة اللبنانية

جورج حداد  (كاتب لبناني مستقل )

بعد فراغ رئاسي لاكثر من عامين، وبعد مخاض عسير جدا، تم في مطلع هذه السنة انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية، واعقبه فورا انتخاب القاضي الدولي نواف سلام رئيسا للوزراء، وتم تشكيل الحكومة الجديدة للعهد الجديد بسهولة وسرعة لا مثيل لهما منذ عشرين سنة، وبالتحديد منذ خروج ما يسمى "الاحتلال السوري" من لبنان. وبسرعة ايضا حصلت الحكومة الجديدة على ثقة المجلس النيابي.

وحدثت كل هذه العملية "الدستورية النظيفة" بطريقة عجائبية لا تكاد تصدق، ونالت على الفور دعم وتأييد ومباركة "المجتمع الدولي والعربي" الصديق والشقيق، المعترف به من قبل "الشرعية اللبنانية".

وبعد ان هدأ صخب الطبل والزمر حول انجاز العملية الانتخابية الشرعية، الرئاسية والحكومية، جاء دور النظر في المهمات التي تواجه الدولة اللبنانية. ومن بين كل القضايا الشائكة في لبنان، وعلى رأسها قضية الاحتلال الاسرائيلي والخطر الدائم لوجود اسرائيل على لبنان، بدون اية ضمانات وامكانيات ردع سوى امكانيات المقاومة الشعبية المتمثلة بسلاح حزب الله وتأييد البيئة الشعبية والوطنية الداعمة له؛ ــ نقول: من بين كل القضايا المصيرية المطروحة، فإن جوقة المارونية السياسية وانصار "شرعية الدولة" و"المجتمع الدولي والعربي" الاميركي، الاوروبي و"التطبيعي" العربي، يضجون بالصراخ والزعيق والنعيق حول قضية واحدة هي: ضرورة نزع، او تسليم، سلاح حزب الله، بوصفه سلاحا "غير شرعي"، وحصر السلاح على الارض اللبنانية بيد المؤسسات "الشرعية" اي الجيش والقوى الامنية.

وسنتجاوز جدلا مسألة ضرورة وجود السلاح بيد حزب الله والمقاومة، طالما ان الاحتلال والخطر الاسرائيلي موجودان، ونطرح السؤال المفصلي حول: شرعية الدولة وشرعية المقاومة.

فما هي شرعية الدولة وما هي شرعية المقاومة في لبنان؟

ــ1ــ ان "الشرعية"، السياسية والدستورية والقانونية والسلطوية، تكون بالوطنية والالتزام بالخط الوطني، فلا شرعية بدون وطنية.

ــ2ــ لقد تأسست الدولة اللبنانية ليس كدولة وطنية نشأت بفعل الكفاح التحرري الشعبي ضد الاستعمار الفرنسي والغربي، بل على العكس تماما تأسست (بموجب اتفاقية سايكس ــ بيكو) بفعل ارادة الدول الاستعمارية الغربية، ضد ارادة التحرر الوطني لجماهير الشعب "اللبناني". وبالرغم من كل تبدلات الظروف منذ سنة 1920 (سنة تأسيس دولة لبنان الكبير) حتى اليوم، لا تزال السفارات والبعثات الغربية، ولا سيما الاميركية، تحكم الدولة اللبنانية على المكشوف، حتى بواسطة "صبية كرنفال" حلوة لا تتورع عن استخدام القصر الجمهوري ذاته كمنصة لها.

 وطبعا يجري استخدام "اللعبة الفولكلورية الدمقراطية الشكلية" ليس لانتخاب الممثلين الحقيقيين للشعب "اللبناني"، بل "لانتخاب" "الممثلين" الاكثر ارتباطا وتبعية واذعانا وملاءمة للدول الاستعمارية الغربية (واليوم حتى لاسرائيل).

ــ3ــ واذا قرّبنا التاريخ، ونظرنا في تاريخ الدولة اللبنانية، بكل شرعيتها، منذ تأسيس اسرائيل في 1948ـ1949 حتى اليوم، ماذا نجد؟

ـــ نجد ان الدولة اللبنانية تبنت شعار شيخ عشيرة الخيانة الوطنية في لبنان، الشيخ بيار الجميل ــ الجد: "لبنان قوته في ضعفه!". وان الدولة اللبنانية اعلنت منطقة "الجنوب" كمنطقة عسكرية، ليس لاجل تحضيره للدفاع ضد العدوان الاسرائيلي المرتقب، بل لاجل ملاحقة واعتقال وتعذيب واهانة الوطنيين من اي حزب كان، وخنق اي محاولة تأسيس مقاومة ضد اسرائيل في مهدها.

وكل ذلك كان يتم باسم: "الوفاق الوطني" و"الميثاقية" و"التعايش المسيحي ــ الاسلامي" والقانون والدستور والشرعية، وكل القاذورات الاخرى لـ"الصيغة اللبنانية" الفريدة.

ــ4ــ بعد ظهور المقاومة الفلسطينية في 1965، اخذ ينضم اليها مقاتلون ومناضلون وطنيون لبنانيون، وبدأت تلتف حولها وتدافع عنها الاحزاب والقوى الوطنية اللبنانية من كل الايديولوجيات والاتجاهات السياسية، خارج دائرة نفوذ الدولة اللبنانية التابعة للامبريالية وضدها. 

ــ5ــ ولكن بعد العدوان الاسرائيلي واسع النطاق على لبنان في 5 حزيران 1982، ومحاصرة الجيش الاسرائيلي، بمشاركة "القوات اللبنانية" لبيروت الغربية، وقصقها برا وبحرا وجوا، ليلا ونهارا، وقطع الماء والغذاء والكهرباء والدواء عنها مدة 82 يوما ثم اجتياحها، وصعود ارييل شارون الى القصر الجمهوري في بعبدا واخذ صورة تذكارية شخصية له فيه، وانتشار الجيش الاسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي والجبل وبيروت، وتحويل "المجلس الحربي" الكتائبي في الصيفي، الى مقر قيادة مشتركة اسرائيلية ــ "لبنانية"، ومقر رئيسي للموساد الاسرائيلي، ــ بعد كل هذا ظهرت المقاومة الشعبية الوطنية اللبنانية، بشخص "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي ضمت عدة احزاب يسارية وقومية لبنانية، وبشخص "المقاومة الاسلامية" بقيادة حزب الله وبمشاركة حركة "امل". اي ان المقاومة الشعبية الوطنية اللبنانية ظهرت بعد سقوط وانحسار الدولة اللبنانية. اي ان المقاومة نشأت بدون الدولة اللبنانية، التي دخلت في تحالف وثيق مع "القوات اللبنانية" المتحالفة مع اسرائيل. وهذا يعني ان المقاومة نشأت فعليا ليس فقط ضد اسرائيل، بل ــ بالتلازم ــ ضد "القوات اللبنانية" وضد الدولة اللبنانية ذاتها؛ وذلك حرفيا وعمليا، اذ ان العميل "اللواء!؟" انطوان لحد والضباط والجنود (من الجيش النظامي اللبناني) الذين كانوا في عداد "جيش لبنان الجنوبي" العميل، كانوا مفروزين من قبل قيادة للجيش وكانوا يقبضون رواتبهم بانتظام على لوائح جيش الدولة اللبنانية.

ـــ وبطبيعة الحال ان المقاومة لم تأخذ "ترخيصا قانونيا" سخيفا من الدولة اللبنانية التي كانت في تحالف واقعي مع اسرائيل. بل ان المقاومة اخذت وتأخذ الان شرعيتها من كينونتها بذاتها كمقاومة وطنية شعبية، يعود لها هي بالذات ان تعطي او لا تعطي صفة "الشرعية" (الوطنية) للدولة اللبنانية ولاي حزب او قوة سياسية في لبنان.

ــ6ــ ان المقاومة الفعلية، اي المسلحة، هي ليست مقياس لـ"الشرعية" فقط، بل هي مقياس لـ"الوطنية" الحقيقية ايضا. وهذه القاعدة الجيوسياسية ــ الجيوستراتيجية الاساسية تنطبق ليس على لبنان فقط، بل على جميع الدول المحيطة باسرائيل، وجميع الدول المحتلة والمعرضة للاحتلال عموما. ولنأخذ على سبيل المثال سوريا الاسد ومصر عبدالناصر: كان النظامان الاسدي والناصري يوصفان شكليا وإعلاميا بـ"الوطنية". ولكن اذا اجرينا مقارنة بين هذين النظامين وبين بلدة الخيام اللبنانية، نجد ان بلدة الخيام الصغيرة وببضع عشرات او مئات من المقاومين الابطال صمدت اكثر من شهرين بوجه اكثر من 70 الف جندي اسرائيلي. وهذه هي الوطنية فعليا. في حين ان 70 الف جندي وضابط سوري كانوا محصنين في الجولان ويقودهم حينذاك مباشرة وزير الدفاع البعثي حافظ الاسد، لم يصمدوا بضع ساعات، بل جاءهم الامر بـ"الانسحاب الكيفي" تاركين الجيش الاسرائيلي يحتل الجولان في 5 حزيران 1967. ذلك ان نظام البعث الاسدي كان "وطنيا" بالحكي، ولم يكن يهمه ان يبني جيشا مقاوما، بل جيشا للدفاع عن النظام، وجاء يوم (في 8 كانون الاول 2024) ولم يعد ذلك الجيش المستغَل والمفقَر يريد الدفاع عن النظام، ففر الاسد كالارنب. اما النظام الناصري فقد عمد في 5 حزيران 1967 الى تكديس الجيش المصري في الخيام في سيناء كمظاهرة سياسية، بدون لا خطة دفاع ولا خطة هجوم، كما كان الطيران المصري غير مستنفر، وهذا ما سهل على الطيران الاسرائيلي ان يحطم الطائرات المصرية وهي رابضة في مطاراتها، وان يفتك بالجنود والضباط المصرين الشرفاء، الذين تم رميهم وتجميعهم كالمواشي في الخيام في سيناء، واخيرا ان يعلن عبدالناصر القبول بوقف اطلاق النار بعد احتلال الجيش الاسرائيلي لسيناء حتى الضفة الشرقية لقناة السويس، وقد برر ذلك بحجة ان "الطريق الى القاهرة كانت مفتوحة". اي ان النظام الناصري ايضا كان نظاما وطنيا بالحكي، ولم يكن نظاما مقاوما يهمه النضال لاجل الانتصار على اسرائيل، بل كل ما كان يهمه هو المحافظة على النظام، وإن كان ذلك عن طريق استرضاء اميركا والتضحية بالجيش المصري وبأرض مصرية، ناهيك عن فلسطين والقضية الفلسطينية، والتعويض عن هذا الاستسلام القريب من الخيانة الوطنية، بالجعجعة الاعلامية "الوطنية" الناصرية الفارغة التي لم يكن لها اي جدوى  ولم يكن لها اي هدف سوى تخدير وتضليل الجماهير؛ و"ارفع رأسك يا أخي"... كي تقطعه اسرائيل بسهولة.

ـــ نخلص من ذلك الى القول: ان الوطنية الحقيقية تعني المقاومة، ولا وطنية بدون مقاومة، والوطنية هي المقاومة، والمقاومة هي الوطنية.

ــ7ــ ان المقاومة، كمؤسسة عسكرية ــ سياسية ــ اجتماعية ــ ثقافية ــ اعلامية، التي يقودها الان حزب الله، هي "الشرعية" الاساسية في لبنان، بالمدلول الشعبي ــ الوطني، وبالمدلول الحقوقي ــ الانساني، الحضاري والتاريخي. اما الدولة اللبنانية فيوجد فيها طبعا كثير من الجنود والضباط والموظفين والقضاة والنواب وحتى الوزراء، الوطنيين، ولكن كأشخاص وبصفتهم الفردية. اما الدولة كمؤسسة عامة، وما يتفرع منها من مؤسسات تنفيذية، فهي مؤسسة "لاوطنية" معادية للجماهير الشعبية الوطنية اللبنانية. وبالتالي فهي مؤسسة "لاشرعية". وكل ما تتستر به هذه الدولة ومؤسساتها من دستور وقوانين واعراف وما يسمى "ميثاقية" و"دمقراطية توافقية" ليست اكثر من ورقة تين تستر بها عورتها الخيانية المتجذرة منذ نشأتها. وتتأكد هذه الواقعة الدراما-كوميكية السوداء من المفارقة التالية:

ـــ في الوقت الذي تحتل فيه اسرائيل اراض لبنانية وتواصل اعتداءاتها على لبنان يوميا وتقصف وتدمر وتغتال المواطنين في البيوت والطرقات، فإن الدولة اللبنانية التي تدعي الحرص على "السيادة اللبنانية" لا تطلق رصاصة واحدة على اسرائيل، ولو كتسجيل موقف، بل تكتفي احيانا باصدار بيان شجب روتيني خجول، لاجل ذر الرماد في عيون المواطنين المخدوعين.

ـــ وفي المقابل تضطلع الدولة اللبنانية والمارونية السياسية وانصار "السيادة اللبنانية" الموالية للامبريالية والصهيونية، بدور طابور خامس اسرائيلي في لبنان. فكل اجهزة "المخابرات "اللبنانية" والعناصر التجسسية لـ"القوات اللبنانية" والتكفيريين "الدواعش" واضرابهم، تعمل في خدمة المخابرات الاميركية والاسرائيلية، في الارشاد الى مواقع وعناصر المقاومة، وحتى تحركات المهجرين من القرى والاحياء التي تقصفها اسرائيل، لمطاردتهم وقصفهم في الاماكن التي كانوا يأوون اليها. ولكن في الوقت ذاته تقرع جميع الطبول وتزعق كل الزمامير وتطلق كل الابواق، الرسمية وغير الرسمية، لتحميل المقاومة، بطريقة وقحة ومعهرة، مسؤولية الجرائم التي ترتكبها اسرائيل ضد لبنان، والمطالبة بنزع او تسليم سلاح المقاومة، والا فإن الاعتداءات الاسرائيلية ستستمر وتشتد وتتوسع. اي ان اسرائيل والدولة اللبنانية تعملان بتنسيق كامل وللهدف نفسه وهو: تجريد المقاومة من السلاح وتحطيمها او تدجينها وتحويلها الى "حزب سياسي"، ولكن بطريقتين مختلفتين: اسرائيل عن طريق القوة الغاشمة؛ والدولة اللبنانية وزعانفها وابواقها عن طريق "الدبلوماسية" والسياسة الناعمة.           

ان المقاومة بقيادة حزب الله اعطت الدولة اللبنانية، في "عهدها الجديد"، الوقت اكثر من الكافي كي تثبت "لبنانيتها"، وكي تحصل على صفة "الشرعية" من المقاومة.

ولكن يبدو ان هذه الدولة الخيانية، التي ولدت من رحم الهيمنة الاستعمارية الغربية، لا تستطيع، بطبيعتها ذاتها، ان تكون لا "شرعية" ولا "لبنانية".

ولله في خلقه شؤون... وشجون!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية