(جورج حداد - كاتب مستقل)
التقسيم الزمني، والتقسيم الحضاري، للتاريخ:
ان التقسيم الزمني (الروزنامي) للتاريخ، المسمى "التقويم الميلادي" (الغربي)، والذي تعتمده الاسواق والبورصات العالمية، وتاليا مختلف البلدان، هو ظاهريا تقويم "ديني مسيحي غربي!" بريء!. وفي الواقع ليس في هذا التقويم اي شيء من "البراءة"، اذ انه ــ تحت الغطاء الديني المسيحي الغربي ــ يجسد التعبير عن "الهيمنة الغربية" على العالم، وان العالم يسير على وقع دقات ساعة التقويم "الغربي ــ الروماني" للزمن، اي "روما" ذاتها التي دمرت قرطاجة "الفينيقية"، وصلبت السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، الذي سمي "الناصري" لانه عاش في "الناصرة" الارامية ــ "الفينيقية"، في منطقة "الجليل" التابعة جغرافيا لـ"جبل عامل" ("اللبناني" حاليا)، والذي تكلم وبشر باللغة الارامية.
ـــ ومن زاوية نظر اخرى يقسم العلماء التاريخ الى العصور التالية:
ـــ العصر الحجري القديم
ـــ العصر الحجري "الحديث"
ـــ العصر البرونزي
ـــ العصر الحديدي وما بعده.
وهذا التقسيم هو اقرب لوصفه بأنه تقسيم "تكنولوجي ــ ادواتي"، ليس فيه اي دلالة مجتمعية.
ولكن من زاوية نظر "تاريخ الحضارة الانسانية"، وبكلمات اخرى من زاوية نظر اقتصادية ــ اجتماعية ــ فكرية وثقافية ــ سياسية ــ عسكرية، يمكن، حسب رأينا المتواضع، تقسيم التاريخ (غير المكتوب فالمكتوب) الى ثلاث مراحل تاريخية حضارية هي:
الاولى: المرحلة "ما ــ قبل ــ الرومانية" (نسبة الى الامبراطورية الرومانية القديمة، وتشمل مرحلة "التاريخ غير المكتوب" والجزء الاول من "التاريخ المكتوب").
الثانية: المرحلة "الرومانية" (والتي لا نزال نعيش فيها، وتقع كلها ضمن "التاريخ المكتوب").
والثالثة: المرحلة "ما ــ بعد ــ الرومانية" (او "اللارومانية" او "ضد الرومانية" او "نقيض الرومانية") وهي المرحلة التي لم تبدأ بعد، وستعقب "المرحلة الرومانية" الحالية التي اشرفت على نهايتها).
المرحلة التاريخية "ما ــ قبل ــ الرومانية"
(قبل ومع بداية "التاريخ المكتوب"):
ـــ في هذه المرحلة ظهرت اللغة (اللغات) والكتابة، وظهر تقسيم العمل بين مختلف المنتجين الجماعيين (عائلات، عشائر، قبائل الخ)، وزادت انتاجية العمل لكل منتَج بعينه بمقادير تزيد عن الحاجة الاستهلاكية لكل منتِج بعينه، ومن ثم ظهرت حاجة كل منتِج جماعي لمنتوجات المنتجين الاخرين.
ومع تراكم التجربة الانتاجية وتنوع "الذوق" والحاجات الاستهلاكية ظهر "تقسيم العمل والانتاج". وفي البدايةً كان ظهور هذا التقسيم، بموجب "الضرورة" الطبيعية، المفروضة من الطبيعة الجغرافية والمناخية. وبحكم "تقسيم العمل والانتاج"، ظهرت "الملكية الخاصة" لوسائل الانتاج وللمنتوجات. وفي البدايةً كان ظهور "الملكية الخاصة" بموجب "التقسيم الطبيعي" للعمل والانتاج. وكانت اولى اشكال "الملكية الخاصة" تعود لـ"ألعائلة الصغرى الفردية"، التي اخذت تتبلور على حساب تفكك "العائلات الكبرى" (العشائرية، القبائلية الخ، التي اخذت تتبلور في اشكال اخرى).
وبموجب هذا "التقسيم الطبيعي" ذاته للعمل والانتاج، ظهرت الحاجة الى تبادل المنتوجات المختلفة بين المنتجين المختلفين. وكانت اولى اشكال التبادل تتم بالمقايضة بين المنتجين الذين صار كل منهم يحتاج الى منتوجات المنتجين الاخرين، في الوقت ذاته الذي صار فيه كل منهم يحتاج الى منتوجه الخاص. ولكن لصعوبة ايجاد المنتِج الاخر الذي يحتاج المنتِج المعين لانتاجه، في الوقت المعين، فإن مختلف المنتجين توصلوا بالتدريج الى ايجاد سلعة انتاجية تضطلع بدور معادل عام مقبول لمبادلة اي سلعة اخرى في اي وقت. وتاريخيا استخدمت عدة سلع كمعادل عام للتبادل (الغنم، الملح، اللحم المقدد، السمك المملح الخ.). ولكن كل هذه السلع كانت عرضة للتلف والتناقص بسبب العوامل الطبيعية. واخيرا توصل المنتجون الى استخدام المعادن الثمينة (الذهب والفضة) كسلع تبادلية، وذلك لقيمتها العالية، وعدم تلفها بعوامل الطقس، وامكانية تقسيمها مما يسهل تبادلها مقابل مختلف السلع الاخرى.
ولمراحل زمنية طويلة ساد "الاقتصاد الطبيعي" حيث لم يكن هدف التبادل هو الاحتفاظ بالمُعادل الذي تم تبادله لاجل اجراء تبادل آخر، او الادخار، او الربح، او ما اشبه من آليات عمل الاقتصاد التبادلي؛ بل كان المنتجون يتبادلون مباشرة منتوجاتهم، ليستهلكونها بأنفسهم. ولكن بمرور الزمن، وتراكم التجارب التبادلية، وتطور ادوات الانتاج، وزيادة تقسيم العمل، وزيادة انتاجية العمل، تم الانتقال التدريجي من "الاقتصاد الطبيعي" الى "الاقتصاد السلعي" حيث تحولت المنتوجات (باستثناء الجزء الذي يستخدمه او يستهلكه المنتج شخصيا) الى "سلع"، تستبدل بالنقود (الشيئية واخيرا المعدنية فالورقية) المعادلة لها "بالقيمة"، والتي يتم استبدالها بدورها بمنتوجات (= سلع) اخرى في وقت اخر حسب رغبة وحاجة المنتِج البائع.
ـــ وبعد ان "سلّع" المنتجون منتوجاتهم (اي حولوها الى سلع)، بصرف النظر عن حاجاتهم الاستهلاكية الخاصة والآنية، وبعد ان "قيّموا" (= سعّروا!) كل منتوج على قاعدة "متوسط وقت العمل الضروري للانتاج" وعلى قاعدة "الحاجة" (المعبر عنها في: قانون العرض والطلب)، اكتشفوا بالتدريج ان المنتِج ــ اي الانسان ذاته بما له من قدرة انتاجية ــ يمكن ايضا "تسليعه" اي تحويله الى "سلعة" اي "اداة انتاج" للسلع: اي تحويل الناس انفسهم الى عبيد عمل يمكن بيعهم وشراؤهم، رجالا ونساء واولادا، للعمل العبودي، ونساء يافعات للتسلية والترفيه و"الخدمات الجنسية". وحتى المرأة (= الزوجة = الام والاخت) صارت تشترى، وتقتنى، وتعرض او تطلب للزواج، بالمال: المهور و"المقدم والمؤخر" و"الضوطة" وما اشبه، وذلك كـ"صفقة"، مثل اي صفقة تجارية، وتسمى "عقد نكاح" او "عقد زواج"، يتم تسجيله في المؤسسة الدينية او المؤسسة القضائية، وتصنف كزواج ديني او زواج مدني. وتعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة خارج هذا الاطار بمثابة "زنى" خاضع للعقاب دينيا وقضائيا. والمرأة التي تخالف هذه القاعدة تعاقب بالنبذ والتحقير والايذاء، ويمكن ان تتعرض للقتل.
ـــ وشكل "اكتشاف" امكانية استعباد الانسان لاخيه الانسان نقطة تحول جذري في تاريخ الوجود الانساني. وذلك في اتجاهين متناقضين:
الاول ــ ايجاد نظام اجتماعي انتاجي يقوم على الاستغلال الطبقي ــ العنصري المتوحش، هو النظام العبودي ــ العنصري، الذي يعود بالعلاقات بين البشر الى مرحلة الحيوانية المتوحشة، والذي يقسم البشر ــ انطلاقا من الاساس الطبقي ــ الى أسياد وعبيد، اي الى نوعين متميزين جوهريا (وحتى عرقيا وجينيا) بينهما وهما:
ـــ الاسياد، البشر الاعلون.
ـــ والعبيد، الذين يعتبرهم هذا النظام "اشباه بشر" و"حيوانات ناطقة".
وقد كرست الديانة اليهودية هذا التقسيم الطبقي ــ العنصري ــ في بنائها الايديولوجي الديني ــ السياسي ــ اللاأخلاقي، ولم تتورع عن اعطائه بعدا بيولوجيا ــ جينيا، وهو ما اقتدت به النازية الالمانية الهتلرية. ويقوم هذا التقسيم، المتسم دينيا باليهودية، على مفهومتي:
ـــ "شعب الله المختار"
ـــ و"الغوييم" (الاغيار).
وما يسمى "المسيحية الصهيونية" و"الماسونية" و"عبدة الشيطان" واشباهها من المذاهب، ما هي سوى "صيغ موسعة" وتنويعات، لليهودية، تقودها الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا، القابعة في نيويورك، بالمشاركة مع عدد مختار من كبار المليارديرية الاميركيين البروتستانت، الذين يزايدون بصهيونيتهم على اليهود انفسهم وحتى على قادة اسرائيل المتوحشين.
والاتجاه الثاني ــ هو تفوق انتاجية العمل في نظام الانتاج العبودي ــ العنصري (النمط الروماني) على ما سبقه من انظمة انتاج (كل تلاوين وانماط انظمة الانتاج العائدة للمشاعية البدائية، وانظمة "العبودية المنزلية" او "العائلية" التي سبقت "النظام العبودي ــ العنصري").
ـــ ان مختلف اشكال نظام الانتاج "المشاعي البدائي" كانت تدخل تحت عنوان "المنتجين الجماعيين الاحرار"، (العائلات، العشائر، القبائل الخ) الذين كانوا (كبارا وصغارا، رجالا ونساء، ضعفاء واقوياء، اولادا وآباءً وامهات) يتشاركون في الانتاج الجماعي، و"المائدة الجماعية"، بدون تمييز او تعيير او اكراه، وبحرية وتعاون تام كأفراد عائلة واحدة، وكل يعمل بقدر ما يستطيع بدون اكراه من احد. وكان اولئك المنتجين الجماعيين البدائيين يتشاركون في استهلاك ما ينتجونه بشكل متساوٍ حسب الحاجة الطبيعية لكل منهم، وبمقدار كمية المنتوج. وكانت كل جماعة منتجة تتكفل بمعيشة الاطفال القصّر، والمرضى، والمعاقين، والشيوخ العجزة، بوصفهم جزءا لا يتجزأ (متساوي الحقوق) من الجماعة المنتِجة (العائلة الواحدة، العشيرة الخ.)، بل ان القصّر والمرضى والعجزة كانوا يحظون برعاية خاصة، وفي الكثير من الاحيان تعطى لهم "حصة استهلاكية" تفوق الحصة الاستهلاكية للافراد الاخرين. وهذا "النظام البدائي" كان يتصف بالطابع الانساني الاخوي الحر للعلاقة بين المنتجين، ويجسد الفطرة الجوهرية الحقيقية للكائن البشري. وبصورة ما، يمكن وصف هذا النظام بـ"العصر الذهبي" للمجتمع البشري قبل تحوله الى مجتمع طبقي. ويمكن القول ان "آثار" هذا "النظام المشاعي البدائي" لا تزال الى اليوم موجودة في العلاقة بين افراد العائلة الصغيرة الواحدة ضمن المجتمع الحديث، كما في العلاقة بين افراد العشيرة او القبيلة البدوية العربية، وهو ما جذب اهتمام المفكر العربي اللبناني امين الريحاني (الذي كان يعيش في نيويورك ــ عاصمة الرأسمالية العالمية ــ التي اكتشف فيها ان "خلاص البشرية" انما يكمن في العودة الى الفطرة الانسانية "البدائية" (مجازا: البدوية!) وهو الذي طرح فكرة "البعث العربي" كرد تاريخي على النظام الرأسمالي ــ الامبريالي الذي غرّب الانسان عن جوهره الطبيعي وعن اخيه الانسان. وهذه الفكرة لامين الريحاني "التقطها" ميشال عفلق وسمى بها حزبه الذي ــ للاسف الشديد ــ مسخ فكرة امين الريحاني مسخا تاما حينما وصل الى السلطة، بالدعم الاميركي، في سوريا والعراق. (تقول المرويات ان صدام حسين حينما كان يزور القبائل العربية كانوا يجلسونه على مسطبة عالية، ويتقدم منه شيوخ القبيلة (الاكبر منه سنا ومقاما بالتقاليد العشائرية) للسلام عليه وهم مطأطئي الرؤوس، فيمد لهم يده "الكريمة!" ليقبلوها! ومن لا يأتي ويقبل يد صدام تكون في انتظاره جهنم مخابرات "حزب البعث العربي الاشتراكي"!) (رحمة الله على امين الريحاني!).
ـــ وفي المراحل المتأخرة من نظام المشاعية البدائية، وبعد تثبيت الملكية الخاصة وتقسيم العمل والانتاج والتبادل، ظهرت الاشكال الاولى للنظام العبودي. ويمكن ان يطلق على تلك الاشكل وصف "العبودية العائلية" او "العبودية المنزلية". وكانت هذه العبودية تتم بالحالات التالية:
ـــ حين يعجز احد المنتجين (فردا، او جماعة منتجة) عن سداد دين كبير عليه لمنتِج آخر، فإن المدين الفرد (او احد افراد العائلة المدينة) يتحول الى "عبد" للعمل لدى المنتِج الدائن، لمدة زمنية محددة او بشكل دائم، مقابل سداد الدين المعين.
ــــ واذا وجدت احدى الجماعات المنتجة (عائلة، عشيرة، الخ) ان انتاجها لم يعد يكفيها، لاسباب جغرافية او مناخية او طبيعية اخرى، او ان عدد افرادها زاد بشكل مؤثر حاجتها الاستهلاكية عن قدرتها الانتاجية، فإنها تعمد الى "بيع" فرد او اكثر من افراد العائلة، للعمل كعبد لدى عائلة اخرى، مقابل الحصول على "الثمن" الذي يتفق عليه. وبذلك تكسب العائلة "البائعة" ثمن من باعته من افرادها، وفي الوقت ذاته تكون قد "وفرت" ما كان يستهلكه.
ــــ وفي تلك الظروف، وخصوصا في فترات الجفاف او نقص موارد الانتاج والحياة، اخذ الكثير من الافراد، وبشكل متزايد، طردا مع الزيادة الطبيعية في عدد السكان، يبيعون انفسهم "كعبيد ــ مرتزقة" لسنوات محددة او "كعبيد دائمين" لدى عائلات غير عائلاتهم، وفي مناطق واقاليم غير مناطقهم واقاليمهم.
ـــ وبالطبع ان انتاجية العمل في ظروف العبودية العائلية او المنزلية، كانت اعلى منها في ظروف عمل المنتجين الاحرار في "المشاعية البدائية". ذلك ان "المنتِج ــ العبد المنزلي"، وبسبب وضعه العبودي، كان يتخلى عن الكثير من عادات التلهي والميل الى الاستراحة، وخصوصا في حالات التعب او المرض الخفيفة، كما كان يفعل في عائلته الاصلية. كما كان يؤدي ساعات عمل اكثر. ولكن في الوقت نفسه كان "العبد المنزلي" يحظى بالعناية كأحد افراد العائلة، لان "مالكه" كان يحرص عليه من المرض والموت، حتى لا يخسره، لان خسارته تعني خسارة "دينه" او "الثمن" الذي اشتراه به. وكان يحق للعبد المنزلي ان يتزوج ويكون له مسكنه الخاص وعائلته الخاصة، دون ان يسقط عنه وضعه العبودي. ولهذا فإن انتاجية العمل في نظام "العبودية العائلية او المنزلية" كانت اكثر ولكنها لم تكن تزيد كثيرا عنها في نظام المشاعية البدائية.
ـــ وفي هذه المرحلة، والتي استطالت عشرات الوف السنين، نشأ نظام اجتماعي ــ انتاجي ــ اقتصادي ــ سياسي هجين، يقوم على المزج بين عمل (انتاج) المنتجين الاحرار وعمل (انتاج) العبيد العائليين او المنزليين، الذين كانوا يعيشون في البيئة المجتمعية والعائلية المشتركة مع المنتجين الاحرار.
وهناك نقطة جوهرية تماما ينبغي عدم إغفالها وهي ان العلاقة بين المنتجين الاحرار و"العبيد المنزليين" او "العائليين" حافظت على طابعها الانساني، تماما كالعلاقة بين افراد وعائلات المنتجين الاحرار. ولم يكن ينظر الى العبد المنزلي بأنه "انسان دوني"، اتنيا او قوميا او عنصريا او دينيا، بل ينظر اليه بأنه انسان عادي مساوٍ في "الاعتبارية الانسانية" للمنتج الحر، وربما يكون اكثر "اعتبارية" منه في حال كونه اكبر سنا او اكثر علما او اكثر خبرة ومهارة مهنية.
في حين ان النظام العبودي ــ العنصري، الذي جاءت به روما فيما بعد، وكرسته اليهودية دينيا، فكان يقسم البشر الى قسمين متميزين عنصريا كأسياد وعبيد.
ـــ وفي مرحلة ذلك النظام الاجتماعي ــ الاقتصادي الهجين، زادت وتنوعت كمية الانتاج، بفعل عاملين:
الاول ــ الزيادة الطبيعية في عدد السكان واليد العاملة.
وثانيا ــ الزيادة الطفيفة المتدرجة صعودا في انتاجة العمل، تبعا لاكتشاف المعادن وتعلم استخدامها، وزيادة التجربة الانتاجية، و"الاختراعات" الجديدة، وزيادة المهن والحرف.
ــ وفي هذه المرحلة نشطت التجارة "الداخلية" و"الخارجية"، ونشأت "الاسواق" في كل تجمع سكاني: قرية، منطقة ريفية، بلدة، مدينة، اقليم، بلد. وصارت "السوق" مركزا لكل تجمع بشري. وهو ما اقتضى نشوء المدن ثم المدن ــ الدول، والدول الاقليمية ــ "القومية". ومن ثم نشأت شبكات "التجارة الخارجية". فظهرت "ضرورة" تنظيم العلاقات "الخارجية"، على قاعدة التبادل والتعاون، او المنافسة والنزاع، او التسلط وهيمنة الاقوى على الاضعف.
ـــ وفي هذه المرحلة طرح الفيلسوف الاغريقي افلاطون فكرة "الجمهورية الفاضلة"، وطرح تلميذه الفيلسوف ارسطوطاليس فكرة "الحكومة العالمية" التي تنظم العلاقات بين مختلف دول وشعوب العالم.
ـــ وفي هذه المرحلة اخذت تظهر الدول العظمى التي تتجاوزالاطار الاقليمي ـــ القومي، والامبراطوريات الكبرى العالمية، واهمها:
• "الامبراطورية الفارسية الكبرى الاخمينية" (550 ــ 330ق.م): والتي امتدت من ايران الى القوقاز واسيا الصغرى، والى مصر، على امتداد ثلاث قارات، وشملت 40% من سكان العالم حينذاك. وقد سقطت بسبب ضعفها نتيجة التوسع والبعد عن المركز. ونتيجة صدمة خارجية من قبل قوة اضعف منها وصغيرة جدا نسبيا بالمقارنة معها (حملة الاسكندر المقدوني).
• "امبراطورية" الاسكندر الاكبر: ورث الاسكندر الحكم بعد اغتيال والده فيليب الثاني ملك مقدونيا الاغريقية. وكان معلمه منذ الصغر ومستشاره الدائم الفيلسوف ارسطوطاليس، الذي كان يدعو الى اقامة "حكومة عالمية". وقد عمد الاسكندر اولا الى توحيد كافة الممالك والمدن ــ الدول الاغريقية في دولة يونانية واحدة. ثم جهز جيشا من 30 الف فارس يوناني، وبدأ حروبه "الخارجية"، فاصطدم اولا بالامبراطورية الفارسية الاخمينية، وانتصر على "الشاهنشاه" داريوش الثالث؛ ثم تابع حملاته ضد رؤساء القبائل وأمراء الحرب الواقعين في الامتدادات الشرقية ووصل الى البنجاب والهند. ولم يكن هدف الاسكندر "استعمار" ونهب البلدان التي فتحها، بل اقامة "دولة عالمية" موحدة تقوم على التعاون والتفاعل الحضاري بين مختلف الاقوام والشعوب. ويذكر انه بعد ان فر داريوش من ساحة المعركة، فإن احد مرافقيه قام باغتياله، طمعا في الحصول على مكافأة من الاغريق. ولكن حينما وقع القاتل في الاسر امر الاسكندر بإعدامه كخائن، إذ لم يكن الاسكندر يريد قتل داريوش، بل التفاهم معه. وحينما دخلت القوات اليونانية القصور الملكية الفارسية، عومل الامراء والاميرات بكل احترام، وأمر الاسكندر بإبقاء كل منهم في مكانه ومكانته، وطلب من قواد جيشه الزواج من الاميرات الفارسيات لتوطيد العلاقات الايجابية بين الشعبين. وقد شملت "امبراطورية" الاسكندر: القوقاز وشبه جزيرة البلقان، واسيا الصغرى، وبلاد فارس، واليمن، والعراق، وسوريا ولبنان وفلسطين وغزة، وسيناء، ومصر وشمالي افريقيا. وقد فتحت له غالبية المدن ابوابها سلما، وعامل بالحسنى سكان جميع المدن وحافظ على طقوسها وعاداتها وقدم القرابين لآلهتها. وحينما امتنعت عليه مدينة صور العظيمة، اقتحمها بالقوة، ولكنه صادق على عاداتها وتقاليدها وقدم القرابين لالهها ملقارت. وكان الاسكندر ينوي متابعة حملاته لتشمل جميع الاراضي المعروفة في العالم القديم، لاقامة "الحكومة العالمية". ولكنه مرض ومات سنة 323ق.م. وتقول بعض المرويات التاريخية انه مات مسموما على ايدي بعض قواده. وسواء كانت هذه الرواية صحيحة ام لا فمن الثابت ان أولئك القواد كانوا قد "تعبوا" ولم يعودوا راغبين في متابعة "المغامرة العالمية الارسطوية" للاسكندر. وسريعا بعد وفاته، توفي ايضا معلمه ومستشاره الفيلسوف ارسطوطاليس في سنة 322ق.م. ومباشرة بعد وفاة الاسكندر توطّن قواده، كل في المنطقة التي وجد فيها، وتماهوا مع اهاليها، واسسوا ممالك مستقلة ومتناحرة فيما بينها. ولكن بنتيجة التواصل والتفاعل الحر بين جميع الاقوام والشعوب التي شملتها "امبراطورية" الاسكندر، نشأت الحضارة العظيمة المعروفة تاريخيا باسم "الحضارة الهيلينستية"، الناتجة عن التمازج والتثاقف (حسب تعبير الشاعر سعيد عقل) بين الحضارتين اليونانية والفارسية وجميع حضارات الشعوب "العربية" القديمة: اليمنيين "الحِمَيِّريين" و"الليبيين" والشمال افريقيين والاقباط والفينيقيين والسريان والاشوريين. وحينما اجتاح الاستعمار الروماني المنطقة بعد تدمير قرطاجة في 146ق.م، كان الحكام يستخدمون اللغة الرومانية القديمة، في حين ان المثقفين في المنطقة "الرومانية" بأسرها كانوا يتخاطبون باللغة اليونانية في صيغتها الجديدة (حينذاك) التي تشكلت في عهد الاسكندر، واما عامة الشعب فكانوا يستخدمون اللغة الكنعانية الارامية، وهي اللغة التي تكلم وبشر بها السيد المسيح (عبراني المولد) وليس اللغة العبرية كما يدعي اليهود والمسيحيون المزيفون المتهودون.
• وبعد ان تواطأ اليهود والرومان لصلب السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية) فإن الحضارة الهيلينستية (وبالاخص أهم اعمدتها: الفلسفة الرواقية لزينون الفينيقي) أسست فلسفيا واخلاقيا لظهور المسيحية الحقيقية، المسيحية الشرقية، المعادية لنظام العبودية الروماني، خلافا للمسيحية الغربية التي انتحلتها روما، واتخذتها "دينا للدولة"، لاجل تكريس هيمنتها العالمية ونظامها العبودي ــ الاستعماري ــ العنصري، المنافي لجميع الاخلاقيات والمبادئ الانسانية والفطرة البشرية، والمعادي لجميع شعوب العالم وبالاخص الشعوب المسيحية الشرقية وشعوب الديانة الاسلامية التي انبثقت بالتلازم مع المسيحية الشرقية.
ـــ وفي هذه المرحلة ايضا قامت "امبراطورية" قرطاجة التي كانت على علاقة وثيقة بـ"المشرق" العربي ــ الكنعاني ــ الفينيقي. وقد اقامت قرطاجة "مستوطنات" (او: مدنا) تابعة لها ومتعاونة معها، في كل اصقاع "المغرب العربي" واجزاء من "افريقيا السمراء" وايطاليا واسبانيا وغيرهما من الاراضي والجزر الاوروبية. وتقول بعض المرويات التاريخية ان القرطاجيين وصلوا الى تراقيا في شبه جزيرة البلقان، والى الجزيرة البريطانية، واقاموا فيها "مستوطناتهم" بتفاهم وانسجام مع السكان الاصليين. ولا شك ان مدينة قرطاجة ــ الام في تونس بشمال افريقيا كانت تمثل "قلب" و"محور" هذه الشبكة "الامبراطورية" القرطاجية، التي شملت مئات المدن في افريقيا الشمالية وافريقيا السمراء واوروبا، وكانت على علاقة وثيقة بالمدينة ــ الام صور وغيرها من المدن ــ الدول الكنعانية ــ الفينيقية. ولم تكن تلك "الامبراطورية" القرطاجية دولة مركزية سياسيا وعسكريا واقتصاديا وقانونيا الخ، بل كانت اقرب الى ما يمكن تسميته "اتحادا كونفيديراليا" تجاريا، يتألف من مئات المدن، ويتمحور حول قرطاجة ــ الام، ولكن كل مدينة فيه كانت تتمتع باستقلاليتها الذاتية في جميع الشؤون، وتقيم علاقاتها مع "المحور" ومع كل مدينة "شقيقة" اخرى، بشكل حر ومتجدد، على اساس المصالح المشتركة والمتبادلة.
ـــ وفي هذه المرحلة ايضا أنشأت الصين ما سمي "طريق الحرير" التي امتدت من جنوبي الصين الى اطراف الهند، وغرب أسيا وشمال افريقيا (اي بلاد فارس وجميع البلدان والحضارات التي تشكل منها "العالم العربي") وصولا الى اوروبا الوسطى والجنوبية والغربية. وكانت "طريق الحرير" بمثابة سوق دولية متجددة ومتحركة ذهابا وايابا، من الصين الى اوروبا وبالعكس، تتعامل معها كل البلدان التي تمر فيها او بقربها، ليس فقط بالمنتوجات الصناعية والحرفية والزراعية، بل ايضا بالانجازات الحضارية والثقافية. وقد اسست "طريق الحرير" لمفهوم وحدة الانسانية والجنس البشري على اختلاف العناصر ولون البشرة والاقوام والاقاليم والانظمة السياسية والايديولوجيات والاديان. وامتد وجود "سوق الحرير" الصينية في المساحة الزمنية بين المرحلتين التاريخيتين: المرحلة "ما ــ قبل ــ الرومانية"، والمرحلة "الرومانية"، وتفككت وانهارت تحت تأثير تصاعد المد الاستعماري الغربي للبلدان الشرقية في القرون الوسطى. وقد استطاع المد الاستعماري الالتفاف حول سور الصين العظيم واختراقه بحروب الافيون والاساطيل الحربية والمدفعية الحديثة والسلع الرخيصة.
ـــ وفي اواخر هذه المرحلة ظهرت الامبراطورية الرومانية، التي حددت مصير العالم لاحقا في الـ 2200 سنة التالية بعد انتصار روما على قرطاجة في 146ق.م وتدميرها وابادة حوالى نصف عدد سكانها الـ700 الف واستعباد الاخرين.
وقد نشأت "روما" في البداية كدويلة صغيرة وضعيفة في شبه الجزيرة الايطالية. ولكنها في غضون قرنين او ثلاثة قرون استطاعت "ابتلاع" المساحة الايطالية وتحدي الامبراطورية القرطاجية ذاتها، الاكبر والاقوى والاغنى منها بكثير، واخيرا الانتصار عليها وتدميرها بالكامل في 146ق.م.
و"السر" التاريخي الرئيسي في هذا التفوق لروما على محيطها اولا، ثم على قرطاجة ذاتها، ثم تمكنها من صلب السيد المسيح ذاته (حسب الرواية المسيحية)، ثم اكتساح كل شمال افريقيا ومصر وفلسطين وكل ارجاء سوريا الطبيعية والعراق وبلاد فارس واسيا الصغرى والقوقاز واليونان ذاتها وشبه جزيرة البلقان وسواحل حوض البحر الاسود حتى اوكرانيا ورومانيا الحاليتين، ــ ان "السر" في ذلك كله ليس في اية اعجوبة "سماوية" وليس في امتلاك "روما" اية "قوة سحرية"، وليس في دهاء سياسييها وعبقرية جنرالاتها، بدون نكران دهائهم وعبقريتهم، بل لانها كانت تحمل، وتقاتل لاجل تسييد نظام اجتماعي ــ اقتصادي كان هو الاكثر انتاجية في عصره، وهو النظام العبودي ــ العنصري، الذي يفرز البشر الى:
ــــ اسياد، من عنصر او قوم او فئة او دين معين
ــــ وعبيد، من كل الفئات الاخرى، يعملون حتى الموت، لصالح الاسياد.
فقد كان هذا النظام هو الاكثر وحشية، مما يمكن تسميته "النظام الانتاجي القرطاجي" او "الاثيني" او "الاغريقي"، الا انه كان الاكثر انتاجية في زمانه، متفوقا على بقايا "النظام المشاعي البدائي" للمنتجين الاحرار و"النظام العبودي العائلي" الذي كان يعامل العبيد كأفراد من العائلة او القبيلة التي تستعبدهم.
وللاسف الشديد ان قطاعا واسعا من الجنس البشري، وفي الغالب: الاكثرية، كان ــ حتى قيام الثورة الاشتراكية في روسيا في 1917 ثم سلسلة ثورات التحرر الوطني والاجتماعي في العالم بعد الحرب العالمية الاولى ــ لا يزال يفضل الغني النهّاب الظالم على الفقير والمظلوم صاحب الحق المنهوب. (وليسمح لنا القارئ ان نذكر هنا مثال الدولة "النظيفة"، "اللطيفة"، "الراقية" و"الحيادية"، التي اسمها: سويسرا. فبالمقارنة مع القارة الافريقية (بأكملها)، فإن الإعجاب العام يتوجه طبعا نحو سويسرا، وليس نحو افريقيا المتخلفة و"الهمجية" وحتى "المتوحشة". ولكن في الواقع فإن سويسرا ــ برأيي المتواضع على الاقل ــ هي احط واحقر دولة على وجه الارض، واكثرها همجية ووحشية ("متمدنة" و"مهذبة" و"دمقراطية"). ففي بنوك هذه الدولة "المحايدة جدا" و"المتمدنة جدا" و"الدمقراطية جدا"، تتكدس الوف مليارات الدولارات التي تنضح بدماء ودموع وعرق مئات الملايين والمليارات من الضحايا من البشر، المستعبدين والمظلومين والمستلبين والمسحوقين، في افريقيا واسيا واميركا اللاتينية وكافة ارجاء المعمورة. ذلك ان غالبية اصحاب الودائع السرية في البنوك السويسرية هم رؤوس القتلة والمجرمين والمافياويين والدكتاتوريين وتجار الاسلحة ومزيفي العملات وتجار المخدرات وتجار البشر ومشعلي الحروب والفتن والمذابح واصحاب الحسابات السرية للمخابرات الاستعمارية واليهودية المخصصة لاجل العمليات "القذرة" وقواد "الثورات الملونة" وثورة "الربيع العربي" وغيره من "معارضات" و"ثورات" غيره من الربايع الداعشية والصليبية والصهيونازية المتجلببة بالدمقراطية وحقوق الانسان والاديان والامم. والصحافة ووسائل الاعلام ومراكز الابحاث والجمعيات الخيرية ومنظمة "هيومن رايتس ووتش" ولجنة العفو الدولية والاونيسكو وجميع هيئات الامم المتحدة "الانسانية" والصليب الاحمر الدولي والكنائس، كلها على الاطلاق، والمواطنون السويسريون، كلهم جميعا، يعلمون هذه الحقائق... ويصمتون! واذا تجرأ احد على ان يسأل عن منشا ودائع اي مودع في سويسرا، فلن يتحرك القضاء لمعرفة الحقيقة، بل ستتحرك الايادي السود لاخماد صوت ذلك السائل "الوقح" عن منشأ تلك الودائع).
هكذا انتصرت روما على قرطاجة، وسادت دول اوروبا الغربية واميركا الشمالية التي ورثتها على العالم (باستثناء روسيا) كل هذه القرون الـ22 الماضية.
وطبعا يجب دراسة "سر" انتصارات "روما"، خصوصا من قبل مدعي الانتساب الكاذب الى المسيحية والى الفينيقية، الذين يسيرون في ركاب الغرب الامبريالي واميركا واسرائيل، و"ينسون" ان هنيبعل كان فينيقيا، وان "قرطاجة" كانت اعظم صفحة في تاريخ العرب الاقدمين: الكنعانيين ــ الفينيقيين؛ و"ينسون" ان السيد المسيح، الذي حكمه اليهود والرومان بالموت، كان ــ هو ايضا! يا للعجب! ــ "مسيحيا" من "الجليل" تخلى عن العبرانية وتكلم وبشر باللغة الارامية (العربية القديمة) قبلهم بـ2024 سنة.
ـــ وهناك نقطة مهمة جدا ارى من الضروري التوقف عندها، وهي: علاقة التجار اليهود بالقرطاجيين، وبروما، وتاليا بالمنطقة العربية ــ الاسلامية، في تلك العهود:
بعد ان أسس الكنعانيون ــ بأليسا وبدونها ــ قرطاجة، وبدأوا في نشر محطاتهم التجارية، التي تحولت الى "مدن" و"تجمعات سكانية" في افريقيا الشمالية واوروبا الجنوبية والشرقية والغربية، بدأ التجار اليهود يتسللون تباعا الى قرطاجة و"شبكتها التجارية"، لممارسة"خدماتهم" التجارية الى جانب القرطاجيين وفي ظلالهم. وحينما استقر بهم المقام في اماكنهم الجديدة بظلال القرطاجيين، بدأوا يستقدمون "جمهورهم" او "شعبهم اليهودي"، من الاقرباء والحرفيين والخدم، ليعيشوا في "جوهم" و"بيئتهم". وهذه التجمعات شكلت النواة الاولى للجاليات اليهودية في المغرب العربي. ثم تسلل التجار اليهود ومعهم "بيئتهم" او "شعبهم" الى محطات الانتشار القرطاجي في اوروبا الجنوبية، ولا سيما في اسبانيا وايطاليا. ومنذ تلك الاوقات تشكلت الجاليات اليهودية الشرقية ــ السفارديم في تلك المناطق. وفي هذه المرحلة بالذات كانت روما قد بدأت حروبها التوسعية ــ الاستعبادية ــ العنصرية ــ الاستعمارية، اولا في المحيط الايطالي، ثم في ما تلاه، وصولا الى الاصطدام بـ"الامبراطورية" القرطاجية ذاتها. وكان التجار اليهود يرافقون الجيش الروماني في حملاته، لممارسة التجارة بين الاطراف المتحاربة، خلف الجبهات وخطوط النار، ولشراء ما يمكن شراؤه من المنهوبات لدى الجيش الروماني، وخصوصا الاسرى لتحويلهم الى عبيد وبيعهم.
وكان القادة العسكريون الرومان، بعد كل "انتصار"، يتوزعون في ما بينهم حاجتهم الفردية من الاسرى، رجالا ونساء وفتيانا، للعمل والخدمة في قصورهم ومزارعهم واسطبلاتهم وزرائبهم، وللترفيه و"الخدمات الجنسية" الخاصة، ثم يقتلون بقية الاسرى. وبحذاقتهم التجارية، استطاع التجار اليهود ان "يكتشفوا" اهمية التجارة بالعبيد. فصاروا يرافقون الجيش الروماني محملين بقدر كبير من الاموال والاغلال. وفي نهاية كل معركة اخذوا يقنعون القادة العسكريين الرومان بـ"شراء" الاسرى "الفائضين" عن حاجة اولئك القواد، بدل قتلهم. ثم يقودونهم مصفدين، ويحشرونهم في بعض الزرائب، ويعملون على تعذيبهم وتجويعهم واذلالهم، لاجل تحطيم كرامتهم الانسانية وترويضهم، ومن ثم تعليمهم "اصول وقواعد" العمل العبودي والخدماتي، و"الجنسي" بالنسبة للنساء اليافعات. ثم يشرعون في بيعهم فرادى لمن يرغب من النبلاء وعلية القوم من "السادة" الرومان و"سكان" روما من غير الرومان. وفي البدايات مارس التجار اليهود تجارة العبيد بسرية كبيرة، كي لا يطلع اي طرف اخر على "اكتشافهم" و"يزاحمهم في الكار". وفي هذا السياق فإن التحليل التاريخي المنطقي يقود الى الاستنتاج ان تجار العبيد (النخاسين) اليهود هم الذين كانوا في رفقة الجيش الروماني، حينما حاصر قرطاجة في 149ــ146ق.م. وارتكب جريمة الابادة الجماعية الاكبر حتى ذلك التاريخ ضد سكانها العظام، وكان تعدادهم حسب معظم المعطيات التاريخية 700 الف. وكان الجيش الروماني، بقيادة سيبيون، ينفذ قرار مجلس الشيوخ (السناتورات) الروماني بمحو قرطاجة عن الخريطة. وبناء لهذا القرار رفض القائد سيبيون طلب قيادة المقاومة القرطاجية بوقف المقاومة مقابل اخراج الاطفال والنساء وارسالهم الى مدينة صور. وحينما اقتحم الرومان المدينة اشعلوا النار في كل بيت من بيوتها، وابادوا 300 الف من اهاليها، واسروا الـ400 الف الباقين، ودمروها تدميرا كاملا حجرا حجرا، ثم رشوا ارضها بالملح حتى لا تعود صالحة للزراعة والعيش فيها. وتقاسم قادتهم حاجتهم من العبيد من الاسرى الـ400 الف، وباعوا البقية لتجار العبيد اليهود، وقبضوا الثمن وتقاسموه. وربما كانت هذه اكبر صفقة بيع ــ شراء عبيد حتى ذلك التاريخ. وقد جنى تجار البشر (النخاسون) اليهود من هذه الصفقة اموالا اسطورية، كانت بمثابة رأسمالهم الاولي الذي ساعدهم في الالفي سنة القادمة في نشاطهم الربوي ــ التجاري وفي بناء اكبر شبكة تجارية عالمية كانوا هم قادتها، امتدت بكل سلام وانسجام من الاندلس العربية الى مملكة الخزر على بحر قزوين. وقد اسهمت تلك الشبكة في تهويد الخزر الطورانيين وجعلهم اداة لصيد البشر من الروس والبلغار القدماء وبيعهم عبيدا لتجار العبيد اليهود (العرب = العبرانيين) الذين سيطروا على كل تجارة العبيد، وكانوا يشحنون مخادع القواد العرب بالجواري والمحظيات في "الخلافة العباسية" في بغداد و"الخلافة الفاطمية" في القاهرة و"الخلافات" (جمع خلافة) الاموية في الاندلس. وحينما دخل القائد البربري (الامازيغي) طارق بن زياد اسبانيا كان اليهود "الشرقيون" قد سبقوه بالف سنة، وقد استقبلوه بترحاب وبشاشة، ظنا منهم انه "ابن عم" عربي من يثرب، او اقرب. وحينما اكتشفوا انه غير عربي لم تفارقهم البشاشة طالما انه يقود رهطا من الامراء "المليئين" و"القادرين على الدفع". 000
المرحلة التاريخية "الرومانية
(التي لا زلنا فيها، واشرفت على نهايتها)
ـــ تتميز هذه المرحلة بالقضاء على التطور الطبيعي "الضروري" (بالمعنى الفلسفي)، المتوازن والمتكامل، للتجمعات البشرية في العالم القديم، حتى في حالات الصراع في ما بين بعضها والبعض الاخر في عهود قديمة متعددة.
فالميزة الاساسية والاكبر لهذه المرحلة هي في سيطرة النظام العبودي ــ العنصري ــ الاستعماري الغربي (النمط الروماني) على العالم القديم (باستثناء روسيا) حتى اليوم، وهي السيطرة التي بلغت اوجها اخيرا في الهيمنة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية على العالم (نكرر: باستثناء روسيا).
وخلال حوالى الـ2200 سنة الماضية من وجود هذه المرحلة جرت احداث تاريخية كبرى، انتقلت فيها البشرية من طور البدائية الى طور التقدم العلمي والنهضة الحضارية، وصولا الى الازمنة الحديثة، وتغير النظام الاجتماعي ــ الاقتصادي من العبودية ــ العنصرية، الى الاقطاعية ــ الأقنانية، الى الرأسمالية والامبريالية، الى ظهور مقدمات النظام الاشتراكي (النظام السوفياتي السابق)، وقامت دول وامبراطوريات كبرى وسقطت او غابت اخرى، وقطعت البشرية اشواطا رئيسية في استكشاف المساحة الجغرافية للكرة الارضية ومكنوناتها، وبدأ عصر استكشاف الفضاء، وظهرت وتطورت مختلف الاديان والفلسفات، ونشبت مئات الحروب الصغيرة والكبرى واخرها الحربان العالميتان في القرن العشرين، التي ذهب ضحيتها مئات ملايين البشر. وغير ذلك كثير من الاحداث الكبرى. ونحاول في ما يلي ان نقف عند بعضها، لفهم طبيعة وجوهر وتحولات هذه المرحلة التي تشرف الان على نهايتها، وتفتح الطريق لبزوغ فجر جديد في حياة البشرية:
ـــ ان المرحلة "ما ــ قبل ــ الرومانية"، التي دامت ملايين السنين، انتقل فيها "الكائن" المتحول الى "الانسان" من حالة "كينونة طبيعية" غير محددة وغير عاقلة، الى حالة "كينونة حيوانية ــ انسانية" "قطيعية" "اقليمية"، ملتصقة بالرقعة الجغرافية التي وجد فيها كل "قطيع".
في حين ان "الانسان" انتقل، في المرحلة "الرومانية"، من حالة القطيع الانساني "الاقليمي"، الى حالة الانسان "الكوكبي" (الكرة الارضية) = العالمي.
اما المرحلة "ما ــ بعد ــ الرومانية"،(التي لم تبدأ بعد، ولكننا نعيش ارهاصات ولادتها)، فتضع الكائن الانساني على عتبة التحرر من "حيوانية الانسان" (بالمعنى: السوسيولوجي والبيولوجي والتكنولوجي)، والانتقال من حالة "الانسان الارضي" (الكوكبي) الى حالة "الانسان الاثيري" (الفضائي) (الكوسموسي)، "الفكروي"، وبالتعبير الديني (الروحي = السماوي)، الذي تتماهى فيه "الفكرة" (الطاقة) مع "الذات المفكرة" (المادة)، وتتفاعلان جدليا، بحيث تتوالد احداهما من الاخرى، في خط ارتقائي، الى اللانهاية زمانيا ومكانيا.
ـــ واذا كانت بداية المرحلة "ما ــ قبل ــ الرومانية" تغيب في العهود السحيقة في بطون ما قبل "التاريخ" (غير المكتوب)، فإن المرحلة "الرومانية" قد ولدت، في "التاريخ" (المكتوب)، من رحم اثنين من اكبر الاحداث التراجيدية في تاريخ الوجود البشري، هما:
1 ـــ الاحراق والتدمير التام لقرطاجة، زهرة المجتمع الانساني حتى ذلك التاريخ (146ق.م)، وابادة حوالى نصف اهاليها وبيع النصف الاخر للنخاسين (تجار العبيد) اليهود، وتسييد روما واليهود على العالم القديم.
2 ـــ قيام هذه الروما و"يهودها" بمحاكمة السيد المسيح واعدامه على الصليب (حسب الرواية المسيحية) في السنة 33م. وكان السيد المسيح قد دعا الى اقامة المجتمع الانساني المبني على العدالة والرحمة والمحبة والتسامح والاخاء والسلام بين الشعوب، مما كان يتناقض تماما مع مفاهيم واخلاقيات النظام الاستعبادي ــ العنصري ــ الاستعماري لروما واليهودية. فجاء اعدامه للتأكيد على حقيقة فظة وفظيعة، وهي: استمرار تغلب "حيوانية" المجتمع البشري على "انسانيته"، وعدم استعداده بعد لتقبل هذه الرسالة "السماوية"، وانه ــ اي "المجتمع البشري" الذي كان قد تنظم في دول وامبراطوريات ــ لم يكن بعد قد "تأنسن" بما يكفي كي "يستأهل" (ويحقق) رسالة السيد المسيح، الذي كان قد استبق هذا الجحود "البشري اللاانساني" بقوله "مملكتي ليست من هذا العالم!". ولكن ما ان انزل جسد المسيح عن الصليب ووضع في غياهب قبر في ارض فلسطين، حتى بدأ الوعي الانساني "المسيحي" ينتشر، كالنار في الهشيم، في شعوب "شرقنا" المعتدى عليه والمظلوم، وظهرت "المسيحية الشرقية" بمواجهة الغرب العبودي الروماني (ومعه اليهود: خونة واعداء شعوب الشرق خاصة والانسانية عامة)، الذي فرض هيمنته على العالم القديم المعروف منذ ذلك التاريخ.
ــــ وبعد تدمير قرطاجة سيطرت روما على شمال افريقيا ومصر والتلة الاريترية واثيوبيا وسيناء وسوريا الطبيعية (التي تشمل حاليا فلسطين وسوريا ولبنان والاردن والعراق)، ثم صلبت السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، وسيطرت على اليمن وبعض مناطق شبه الجزيرة العربية وايران والقوقاز واسيا الصغرى (اليونانية ــ الارمنية تاريخيا، والتي اغتصبها الاتراك والاكراد فيما بعد، وهي الان تدخل في كيان الدولة التركية). وفي الوقت ذاته كانت قد سيطرت على جزر البحر الابيض المتوسط واليونان والبلقان؛ وسيطرت على محيط سواحل حوض البحر الاسود وبحر ازوف المتفرع منه وصولا الى اوكرانيا ورومانيا الحاليتين.
واخيرا انكسرت موجة التوسع الاستعماري الروماني على جدار المنطقة الشمالية الباردة التي صارت تعرف فيما بعد باسم "روسيا". وكان لهذا الانكسار سببان رئيسيان:
الاول ـــ الطبيعة الصقيعية الجدباء وواسعة النطاق لهذه المنطقة، والتي لم يكن يوجد فيها مقومات لاقامة وتدفئة وتغذية الجيش الروماني الجرار، مما كان يقتضي اقامة خطوط إمداد لوجستية تمتد الوف الكيلومترات، الامر الذي كان فائق الصعوبة، بل مستحيلا في ذلك الزمن.
والثاني ـــ وهو الاخطر: هو ان هذه المنطقة لم يكن فيها بعد دولة مركزية وجيش مركزي يمكن للجيش الروماني ان ينتصر عليه ويسيطر على دولته، بل كانت تقطن المنطقة مجموعات بشرية متفرقة (عائلات كبرى او عشائر او قبائل، لم تكن بعد قد "غادرت" "نظام المشاعية البدائية") تتميز بالقوة وشدة البأس، وتعيش مستقلة بعضها عن البعض الاخر، في اكواخ صغيرة مؤقتة تغطيها الثلوج في اغلب ايام السنة، وتكابد الجوع والبرد وشظف العيش بشكل دائم، ولكنها تعيش "حرة" في "نظام مشاعي بدائي" متوارث منذ الاف السنين، ولا تطيق بأية حال ان يحكمها اي "اجنبي" او "غريب" من خارج المجموعة. وتقول الابحاث التاريخية ان هذه المجموعات قد جاءت في الاصل من شمال اوروبا القريبة من القطب الشمالي، والتي صارت تعرف في ما بعد باسم منطقة سكندينافيا التي خرج منها "الفايكنغ" و"الوندال" (الذين تسمت الاندلس فيما بعد باسمهم)؛ وكانت تتكلم بلهجات "قبائلية" او "عشائرية" مختلفة، ولكنها جميعا تبنت في مرحلة تاريخية معينة اللغة "السلافية" القديمة التي كان يتكلم بها البلغار القدماء (بلغار الفولغا) الذين احتك بهم اولئك "الروس" البدائيين، واخذوا منهم اللغة "السلافية" وابجديتها المسماة "كيريليتسا"، التي سبق ان اخذها البلغار القدماء عن الابجدية اليونانية، المأخوذة بدورها عن الابجدية الكنعانية ــ الارامية التي سماها اليونانيون القدماء "فينيقية"؛ ولذلك اطلقت على "الروس" الاوائل تسمية "السلافيين" (Slavs) وتعني لغويا "الاماجد" او "اصحاب المجد"، قبل ان يتسموا فيما بعد باسم "فيليكوروس" (Velikorussians) اي: "الروس العظام" او مواطني او ابناء روسيا العظمى؛ واختصارا "روسيا" و"روس" (Russia & Russians).
وحينما بدأت طلائع الجيش الروماني تدخل تلك المنطقة الموحشة، كانت كل من تلك المجموعات "السلافية" البدائية تقوض اكواخها المؤقتة، وتبدأ في شن حرب عصابات "لصوصية" ضد اطراف الجيش الروماني، وتستولي على بعض الجياد لتقديد لحومها وأكلها فيما بعد، ثم تختفي كالاشباح في الغابات الثلجية. ولكن اذا صادف ان باغت الرومان "قرية!" (مجموعة اكواخ) احدى تلك الجماعات، فكانوا يفتكون بها بوحشية ويأسرون من يقع في ايديهم من رجال ونساء واولاد ليجعلوهم عبيدا.
ولكن في المحصلة فإن الامبراطورية الرومانية، بكل استكبارها وعجرفتها ووحشيتها، وجدت نفسها غارقة في حرب استنزاف هي غير مؤهلة لها، وهذا ما اجبرها على التخلي عن خطط التغلغل في الاراضي "الروسية" للالتفاف على اوروبا الشمالية من الخلف، ومحاصرة والانتصار على القبائل الجرمانية (الالمانية) الشمالية، المتخلفة، التي كانت هي ايضا لا تزال تعيش آخر اطوار "النظام المشاعي البدائي"، وتهاجم وتنهب الاراضي الرومانية "الغنية".
وصارت القوات الرومانية تكتفي بشن بعض الغارات على الاراضي "الروسية" لاسر الرجال والنساء والاولاد واخذهم عبيدا.
ومن وجهة نظر علم النفس الاجتماعي فإن "ثقافة" الازدراء والتحقير والعداء والحقد، الغربية، ضد روسيا والشعب الروسي، انما تعود بجذورها الى تلك الحقبة، التي تكسرت فيها قرون التيس الروماني (الاوروبي الغربي) لاول مرة على صخرة المقاومة الجلمودية والجليدية لـ"روسيا" و"الشعب الروسي".
ـــ وبعد انكسار موجة التوسع الروماني على الجدار الروسي، ومع ان مساحة القسم الاوروبي من روسيا يشكل 40% من كامل المساحة الجغرافية للقارة الاوروبية، فإن روسيا واوروبا (غير الروسية) سارتا في مسارين تاريخيين متوازيين، ولكن منفصلين، ولم يعد "التاريخ الروسي" ــ بصورة عامة ــ جزءا من "التاريخ الاوروبي"، بل جزءا خاصا من "التاريخي العالمي العام".
ـــ ولكن النزعة العدوانية التوسعية الاستعمارية الرومانية لم تتبدد، نتيجة انكسارها على الحدود الروسية، بل انها ــ وبحكم قوانين التفاعل والتطور "الطبيعية"و"الاجتماعية" ــ ارتدت الى الداخل الروماني. وبدأت مرحلة من الصراع على السلطة بين النبلاء والجنرالات والاباطرة الرومان، مما ادى الى تقسيم الامبراطورية الى قسمين:
أ ــــ قسم الامبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما،
ب ــــ وقسم الامبراطورية الرومانية الشرقية (التي عرفت فيما بعد باسم بيزنطة او بيزنطية) وعاصمتها القسطنطينية على البوسفور، التي تلتقي عندها القارتان الاسيوية والاوروبية.
وقد سقطت الامبراطورية الرومانية الغربية تحت هجمات قبائل الوندال (الفاندال) الجرمانية (الالمانية) الشمالية التي دخلت مدينة روما ذاتها وعاثت فيها نهبا وتخريبا. وهكذا فإن الامبراطورية الرومانية القديمة سقطت تاريخيا بين مطرقة القبائل الجرمانية في الغرب، وسندان القبائل الروسية في الشرق. ولكن هناك اختلافا جوهريا بين هاتين الفئتين القبائليتين "البدائيتين"، وهو: ان القبائل الجرمانية، بعد ان دخلت روما، "ترومنت" واصبحت جزءا لا يتجزأ من العالم الاوروبي الغربي الروماني. اما القبائل الروسية، فقد تطورت وتبلورت في "الشعب الروسي" المستقل، منذ القدم، الذي لم "يتلوث" بـ"الأوْرَبَة" الغربية وحافظ على "شرقيته"، والذي اصبح تاريخيا محور المجابهة الشرقية للعالم الغربي وريث "الامبراطورية الرومانية".
وبتأكيد محورية روسيا في مواجهة الغرب الاستعماري "الروماني" اكتسبت مفردات "شرق" و"غرب" و"شرقية" و"غربية" معانٍ جيوسياسية عالمية تتجاوز المعنى الجغرافي، وذلك منذ مئات السنين قبل ظهور "القطب الشرقي" (الاتحاد السوفياتي) في القرن العشرين.
ـــ وبعد انهيار الامبراطورية الرومانية (الغربية) في نهاية القرن الخامس، تشكلت على انقاضها مختلف الدول الاوروبية الغربية. وكانت كلها مصابة بسعار غزو واستعمار الشرق ("العربي" ــ "الاسلامي" خصوصا) ومعاداة روسيا والرغبة المَرَضية في اقتحامها. وفي نهاية القرن العاشر تأسست "الامبراطورية الرومانية المقدسة" التي كانت كناية عن اتحاد بين جرمانيا (المانيا) وايطاليا، وكان لهذا الاتحاد نفوذه الكبير على مجمل الدول الاوروبية الغربية الاخرى. واعطت هذه الامبراطورية دورا كبيرا للمؤسسة الاكليروسية الكاثوليكية وللبابا، خصوصا بعد الانشقاق التام للكنيسة المسيحية الى "شرقية" (اورثوذوكسية) و"غربية" (كاثوليكية) في سنة 1054. وبعد هذا الانشقاق، بدأت اوروبا الغربية، بقيادة البابا الكاثوليكي، بالتحضير للحروب الصليبية ضد الشرق "العربي ــ الاسلامي" من جهة، وضد روسيا من جهة اخرى، بحجة تخليص قبر السيد المسيح والاراضي المقدسة من ايدي "الكفار" (المسلمين) و"الهراطقة" (المسيحيين الشرقيين).
ـــ وقد سحق الروس سحقا تاما "الحملات الصليبية الشمالية" التي انطلقت من شمال جرمانيا وحوض البلطيق وسكندينافيا، وكان مخططا لها اختراق الاراضي الروسية للوصول الى الاراضي المقدسة "من الخلف"، ولكن رجلا واحدا من تلك الحملات (الصليبية الشمالية) لم يستطع الوصول الى الاراضي المقدسة، لسبب "بسيط جدا" هو ان الروس الفقراء ولكن الاباة، المدافعين باستماتة عن ارضهم، ابادوا الفرسان الصليبيين الشماليين الغزاة ابادة تامة حتى آخر واحد فيهم. وجدير بالذكر ان الكنيسة الاورثوذوكسية طوبت كقديس الامير ألكسندر نيفسكي الذي قاد المعركة الحاسمة بين الروس والصليبيين فوق جليد بحيرة لادوغا التي يتدفق منها نهر نيفا، في شتاء 1242، وانتصر فيها المقاتلون الروس شبه العراة، والمسلحون بالسيوف الخفيفة وبدون دروع، على خيرة الفرسان الاوروبيين المسلحين بالرماح الطويلة وأفتك السيوف، والمصفحين بالفولاذ من رؤوسهم حتى حوافر خيولهم. ومنذ تلك المعركة صارت كلمة "روسي" كالفزاعة تثير الهلع الى اليوم في قلوب جميع جنرالات الجيوش الاوروبية والغربية.
ـــ اما الحملات "الصليبية الشرقية" فقد عبرت بالقوة من اراضي بيزنطية المستضعفة، وتمكنت من الوصول الى القدس في 1099، بسبب التشرذم والصراعات بين الامارات والسلطنات التركية السلجوقية والزنكية وغيرها التي كانت تحكم الاراضي العربية، وتذبذب بعضها وميله الى مهادنة او التعاون مع الصليبيين من اجل الحفاظ على سلطته وتوسيعها. وتمكن الغزاة الصليبيون من اقتحام القدس في تموز 1099. ويذكر ان قسما من الموارنة كانوا قد استقبلوا الصليبيين لدى وصولهم الى طرابلس في ربيع سنة 1099، وتطوع 40 الفا منهم في صفوف الصليبيين، وشاركوا في حصار واقتحام القدس في حزيران ــ تموز من السنة ذاتها، ثم في الحصار الطويل ثم اقتحام مدينة طرابلس في 1102 ــ 1109. ويرى بعض المحللين التاريخيين ان "المارونية السياسية" التي مدت يدها الى الوكالة اليهودية العالمية واسرائيل في القرن العشرين، انما تعود بجذورها التاريخية الى بدايات العهد الصليبي الاسود.
ـــ وعلى قاعدة الانتماء الديني ــ فالسياسي الدولي، الواحد، لـ"المسيحية الشرقية" (الاورثوذوكسية)، اخذت القسطنطينية تميل وتعمل لكسر جدار العداء السابق الذي اوجدته الامبراطورية الرومانية الغربية القديمة، مع الشرق، ولاقامة علاقات ثقافية وانسانية وتجارية وسياسية بينها وبين روسيا، من جهة، ومع شعوب الشرق العربي ــ الاسلامي، من جهة اخرى. ونشأ احتمال كبير ان يتم تأسيس اتحاد بين بيزنطية وروسيا، مما يجعل روسيا تطل بشكل ثابت على البحر الابيض المتوسط ومياه البحر العالمي الدافئة، وتقيم علاقات مباشرة وثيقة بينها وبين شعوب اوروبا الشرقية، وشعوب العالم العربي ــ الاسلامي، العدو الاول القديم ــ والضحية الاولى ــ للامبراطورية الرومانية الغربية القديمة.
ـــ وكان هذا الاحتمال احد اهم الاسباب لدفع البابوية الكاثوليكية لتنفيذ "ضربة وقائية"، تمثلت بتوجيه الحملة الصليبية الرابعة ضد بيزنطية في 1202 ــ 1204م، حيث قام الصليبيون باقتحام ونهب القسطنطينية، وتدمير الكنائس والاديرة الاورثوذوكسية، واغتصاب وقتل الراهبات والرهبان الاورثوذوكس. واقام الصليبيون في القسطنطينية "مملكة لاتينية" كاثوليكية خاضعة لبابا روما مدة ستين سنة (1204 ــ 1264م).
ـــ وفي تلك الظروف الاليمة، فإن الجمهور الاكبر من البيزنطيين وعلى رأسهم النخبة السياسية والدينية والثقافية، فروا امام الغزاة الصليبيين، ولجأوا الى الامارة العربية الحمدانية في حلب، التي كانوا حتى الامس القريب يخوضون الحروب ضدها. وقد استقبل الحمدانيون العرب المسلمون (وكانوا من اصول تغلبية ــ مسيحية شرقية) خصوم الامس البيزنطيين اللاجئين اليهم، بكل ما تقتضيه الفروسية والشهامة والمناقبية العربية الاصيلة. وكانت فترة اقامة اللاجئين البيزنطيين الطويلة (حوالى 60 سنة) في امارة حلب، فرصة تاريخية لكسر وتجاوز جدار العداء القديم بين الطرفين، وللتأسيس لمرحلة جديدة من التفاهم والانفتاح المتبادل والتعاون بين العرب المسلمين وبين البيزنطيين والمسيحيين الشرقيين عامة، ليس على قاعدة لاهوتية اسلامية ــ مسيحية، او قاعدة مصالحية اقتصادية ــ تجارية، بل اولا، وبالاضافة الى ذلك، على قاعدة جيوسياسية ــ جيوستراتيجية عامة تقوم على الوقوف معا والتكاتف والتعاضد ضد العدو المشترك: الغزاة الاستعماريين الغربيين، الصليبيين "البابويين". ولقد كانت امارة حلب ومحيطها القاعدة التي ارتكز اليها البيزنطيون في صراعهم العام، وخصوصا الصراع المسلح، للقضاء على المملكة اللاتينية، واعادة تحرير القسطنطينية، والعودة اليها في 1264.
ـــ وحينما سقطت المملكة اللاتينية في 1264، فإن الامبراطورية البيزنطية العائدة كانت فاقدة لقوتها العسكرية السابقة. ولكن بعد ان استعادت العاصمة القسطنطينية شرقيتها المتجددة، المنفتحة على العالم العربي ــ الاسلامي، تحولت الى دُرَّة المدن المسيحية، وكانت على جانبٍ كبيرٍ من التنظيم والتنسيق والتطوُّر، بمقاييس زمانها، كما كانت أكبر مدن العالم، ومخزنًا للتماثيل المميزة وكنوز المخطوطات القديمة و"المعاصرة"، واضطلعت بدور مميز كحلقة وصل ثقافي وحضاري بين:
ـــ العالم المسيحي الشرقي (العربي، الاغريقي، البلغاري، الروسي والسلافي عموما)،
ـــ والعالم العربي ــ الاسلامي،
ـــ والعالم الاوروبي الغربي في وجهه الثقافي.
وكل ذلك أكسب القسطنطينية عداء مبطنا شديدا من قبل الغرب الصليبي الاستعماري واليهودية العالمية والاسلاموية الرجعية (العثمانية واضرابها). ولكنه في الوقت نفسه جعلها ــ اي القسطنطينية ــ الى جانب الاندلس العربية، اكبر منارتين حضاريتين توأمين في العصور الوسطى. وفي هذا السياق كان للقسطنطينية والاندلس معا دور اولي في نقل كنوز الفلسفة والاداب الكلاسيكية اليونانية القديمة، والاشورية والسريانية، والقبطية، والفارسية، الى اللغة العربية، ومنها الى اللغات العالمية الاخرى، وهو ما اسس للنهضة الاوروبية اللاحقة.
ــ وفي هذه الاثناء كانت روسيا قد سحقت "الحملات الصليبية الشمالية"، وتغلبت على الغزاة المغول ــ التتار، الذين كانوا متحالفين مع البابوية الكاثوليكية، وبدأت تبرز كدولة قوية اخذت تصف نفسها بانها "بيزنطية الجديدة"، وتتطلع الى التوسع الى القسطنطينية والمضائق والاراضي البيزنطية، اما بالتراضي مع الامبراطورية البيزنطية الضعيفة، او بالقوة.
وهذا التطلع الروسي ارعب البابوية، ومن ورائها الدول الاستعمارية الاوروبية الغربية. فعمدت البابوية الى تحريض السلطنة العثمانية، بقيادة المسمى "محمد الفاتح"، على محاصرة القسطنطينية والاستيلاء عليها وعثمنتها. وقُدمت لمحمد الفاتح المساعدة السياسية والعسكرية، بالاضافة الى التمويل الهائل من قبل اليهودية العالمية التي كانت قيادتها حتذاك تتمركز في الاندلس العربية وتهيمن على التجارة من الاندلس في اوروبا الى سور الصين في الشرق الاقصى. وتبدى الدعم المعروف الاوروبي الغربي ــ اليهودي لمحمد الخامس (الفاتح) في الوقائع التالية:
1 ـــ وقوف الدول الاوروبية الغربية (صاحبة الحملات الصليبية!!!) تتفرج على ذبح "المسيحيين الشرقيين" في القسطنطينية ــ درة المدن المسيحية في العالم في زمنها.
2 ـــ تقديم المدفعية، الاحدث في زمانها، للجيش العثماني.
3ـــ تقديم المشورة العسكرية في كل مجرى المعركة. فالقيادة الفعلية للجيش العثماني الغازي، كانت تتشكل من العسكريين الاوروبيين الغربيين (الصليبيين اصلا وفصلا) الذين كانوا يعرفون تماما الصغيرة والكبيرة عن القسطنطينية.
4 ـــ ارسال خبير مختص (مهندس مجري اسمه اوربان، حسب المصادر التاريخية) مع المعدات اللازمة لصناعة ما سمي "المدفع السلطاني" الضخم الذي يمكنه ان يطلق قذائف (كرات حديدية) كبيرة جدا قادرة على تحطيم الجدران السميكة لسور القسطنطينية وفتح الثغرات فيها.
5 ـــ اقتراح، وتمويل، وتنظيم والاشراف على تنفيذ خطة النقل البري ليلا لـ70 سفينة حربية عثمانية من مضيق البوسفور الى القرن الذهبي لمهاجمة المدينة بحرا من الخلف ايضا حيث لا توجد اسوار تحميها.
6 ـــ تمويل جيش عثماني جرار مؤلف من 260 الف جندي نظامي، بالاضافة الى 100 الف من الرعاع (الباشبوزوق) الذين كانوا ينضمون الى الجيوش التركية في كل معاركها من اجل السلب والنهب وسبي واغتصاب النساء.
7 ـــ التمويل الهائل والتجهيز الحديث، خصوصا بالمدفعية، لاسطول بحري ضخم مؤلف من 360 سفينة حربية "عثمانية!".
ويقول خبراء ستراتيجيون ان الدعم البابوي ــ الاوروبي الغربي ــ اليهودي هو العامل الاساسي الذي مكّن عصابات قطاع الطرق العثمانيين من "فتح!؟" القسطنطينية، تماما كما هو الامر بالنسبة للدعم الامبريالي الغربي ــ اليهودي العالمي لاسرائيل منذ انشائها الى اليوم.
ـــ و"الفتح؟!" العثماني للقسطنطينية في 1453 هو بالضبط الذي فتح الطريق لاحقا نحو إسقاط الاندلس في ايدي البابويين، في 1492، والاحتلال العثماني للبلدان العربية في 1516، وانتزاع الخلافة ذاتها من العرب، وهو الذي دق اسفينا بين الحليفين التاريخيين: "المجتمع الاسلامي" و"المسيحية الشرقية"، لصالح الكتلة الاستعمارية الغربية الصليبية ــ اليهودية.
وكان محمد الفاتح محاطا بحلقة من "المستشارين" اليهود. ويعود لهؤلاء "الفضل!" في انهم، بعد سقوط القسطنطينية وبدء المجزرة والمحرقة فيها، هم الذين نصحوا محمد الفاتح في ايقاف ذبح المسيحيين الشرقيين اليونانيين والبلغاريين والصربيين والارمن وغيرهم، عند حد معين، اذ قالوا له: انت اليوم انتصرت عسكريا، ولكنك غدا يجب ان تبني دولة. فهل لديك ما تحتاجه من المهندسين والخبراء والمتعلمين والعمال المهرة الخ، من بين الرعايا الاتراك والباشبوزوق؟ ان هؤلاء لن تجدهم بين العثمانيين، بل بين المسيحيين الذين يتم ذبحهم (تفكير نفعي "يهودي" سليم!!!). ويذكر انه في السنوات 1920 ــ 1924 اكمل الاتاتوركيون مهمة الاجهاز على من تبقى من اليونانيين والارمن والمسيحيين الشرقيين الاخرين في اسطنبول وازمير (سميرنا اليونانية) واسيا الصغرى، امام سمع وبصر الدول الاوروبية "المسيحية الغربية" المنتصرة في الحرب العالمية الاولى.
ـــ وفي سعيها لتطبيق مشروع "عثمنة" القسطنطينية، كانت البابوية الكاثوليكية تضع نصب عينيها تحقيق هدفين:
الاول ــ بناء حاجز "اسلامي"، بشخص السلطنة العثمانية مغتصبة "الخلافة"، بين روسيا والعالم العربي ــ الاسلامي، العدوين التاريخيين للغرب "الروماني" الاستعماري، من عهد قرطاجة وهملقار برقة وهنيبعل برقة، الى عهد روسيا الاتحادية بقيادة فلاديمير بوتين.
والثاني ــ هدم التوأم الحضاري الثاني للقسطنطينية: الاندلس العربية.
ـــ ومن الضروري، والمهم جدا، بالنسبة لجميع حركات التحرر الوطني والنهضة الحضارية في العالم العربي ــ الاسلامي، البحث بعمق وكشف الترابط بين إسقاط القسطنطينية بأيدي قطاع الطرق العثمانيين، وإسقاط الاندلس بأيدي مدعي الحضارة الاستعماريين البابويين الغربيين. ومن جهتنا نحاول في ما يلي مقاربة هذه التراجيديا التاريخية المزدوجة، التي لا تزال نتائجها وانعكاساتها سارية المفعول الى اليوم:
ــــ في القرون الوسطى كانت الامبراطورية الرومانية المقدسة والدول الاوروبية الغربية التي تستظل بها وتسير في ركابها، تتحفز بشكل مسعور للانقضاض الاستعماري (التقليدي) على الشرق العربي ــ الاسلامي خاصة، وعلى القارتين الافريقية والاسيوية عامة. وكانت البابوية واذنابها تحتاج الى مبرر جيوسياسي ــ جيوستراتيجي للقيام بهجمتها (هجماتها) الاستعمارية على "الشرق" بمعناه الواسع. وبعد فشل الحملات "الصليبية" الشرقية والشمالية، السابقة، لم يعد بامكان البابوية واذنابها استخدام "الشعار الصليبي" و"الانقاذ" المزعوم لقبر المسيح، لتبرير حملاتها الاستعمارية اللاحقة. فطرح شعار "التمدن" و"التمدين" لاجل تبرير تلك الحملات؛ تماما كما تطرح اليوم الكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية" شعار "الدمقراطية وحقوق الانسان الخ" و"التطور" و"التقدم" و"التمدن"!. ولكن وجود القسطنطينية "المسيحية الشرقية"، والاندلس"العربية ــ الاسلامية"، بوصفهما المنارتين الحضاريتين العالميتين الاكبر في تلك الحقبة، كانت تتعذر كليا، وتسقط مسبقا، امكانية استخدام شعارات "التمدن" و"التمدين" لغزو "الشرق العربي ــ الاسلامي" ومن ثم "الشرق" الاكبر بأسره.
وكان يتعذر تعبئة حملة صليبية اوروبية جديدة ضد القسطنطينية بسبب كونها "مسيحية". كما كان يتعذر تعبئة حملة ضد الاندلس بسبب رقيها وانفتاحها الحضاري على شعوب ودول اوروبا وعلى الكنيسة في روما ذاتها.
وفي تلك الاثناء كانت القيادة العالمية للطغمة المالية ــ الدينية اليهودية تتمركز في الاندلس، وتحظى بمركز ممتاز في "الخلافتين" الفاطمية والعباسية، وتطّلع بشكل دقيق على الاوضاع فيهما، وتمتلك علاقات وثيقة مع الامراء والولاة والسلاطين الاتراك: السلاجقة والزنكيين والعثمانيين وغيرهم. ومن المرجح، استنادا الى المعطيات التاريخية، ان "كبار اليهود" هم الذين "رشحوا" السلطنة العثمانية لاكتساح القسطنطينية، و"نصحوا" البابوية بدعم هذا "الخيار اليهودي"، الذي يقرّب اليهود خطوة كبيرة نحو "ارض ميعادهم".
ــــ وقد تقبلت البابوية "النصيحة" اليهودية، وقضي الامر.
وكانت قمة "الفتح؟!" الاسلامي ــ العثماني للقسطنطينية: مهاجمة الباشبوزوق للاديرة والكنائس، وذبح الرهبان، واغتصاب الراهبات، وتجميع الوف المدنيين في الكنائس واشعال النار فيها ليموتوا حرقا واختناقا، واذا نجح احدهم، طفلا او امرأة او رجلا، في الخروج من الاتون كانوا يمزقونه اربا.
ــــ وبمباركة بابا روما حولت كنيسة "آيا صوفيا" (وتعني: الحكمة المقدسة) الى "مسجد محمد الفاتح" (واسمه يدل على معناه).
ــــ وردا على هذه الفظائع التي كانت البابوية شريكا رئيسيا فيها، اخذت ــ اي البابوية ــ تدب الصوت، وتعبئ الرأي العام الاوروبي الغربي، وتجيّش الجيوش، اسميا لاجل نجدة "الاخوة المسيحيين" في القسطنطينية؛ وفعليا لاجل تسعير العداء ضد الاسلام والعرب، وليس لاستعادة القسطنطينية، بل لمهاجمة واسقاط: الاندلس(!!!)، اكبر المتضررين من سقوط توأمها: القسطنطينية العظيمة.
وفي عصرنا فإن الامبرياليين الاميركيين اوجدوا "القاعدة"، و"داعش"، ثم هاجموا واحتلوا ودمروا افغانستان والعراق وسوريا وليبيا بحجة محاربة "القاعدة" و"داعش". كما قامت اسرائيل منذ 15 شهرا بقتل عشرات الوف الاطفال والنساء والمدنيين في غزة والضفة الغربية ولبنان، بحجة محاربة "الارهاب".
والسؤال التاريخي الوجودي الكبير اليوم هو:
ـــ هل ستسمح الانسانية:
بأن تدمر قرطاجة مرة ثانية؟
وان يصلب السيد المسيح مرة ثانية؟
وان تسقط القسطنطينية الجديدة (بشخص روسيا) مرة ثانية؟
وان تسقط الاندلس (بشخص محور المقاومة العربية ــ الاسلامية) مرة ثانية؟
ان احتمال هزيمة المقاومة الروسية والعربية اليوم، بمواجهة اميركا والناتو واسرائيل، يعني وقوع الانسانية جمعاء، من جديد، في براثن العبودية الغربية لالوف السنين القادمة.
اما احتمال انتصار المقاومة فيعني انتقال الانسانية من مرحلة الضرورة الحيوانية والانسان الكوكبي ــ الارضي، الى مرحلة الحرية (فهم الضرورة ومحاكاتها وتكييفها والتكيف معها) والانسان الكوني ــ الاثيري ــ النوراني.
والشهداء الذين يرتقون في هذه المعركة التحررية المقدسة، من الفادة العظام والمقاتلين الابطال الى الاطفال الابرياء، انما يرسمون بارواحهم الطاهرة الطريق الى الحرية الانسانية.
وتبقى الكلمة الفصل للميدان، من اوكرانيا، الى تايوان، الى فلسطين ولبنان!