قراءات سياسية » العنصرية الوحشية الاسرائيلية والواقع العربي

صوفيا ــ جورج حداد(*)

في 15 ايار/ مايو 1948 اعلنت اليهودية الصهيونية ولادة الكيان الغاصب "اسرائيل". وقد فعلت ذلك بدون التوصل الى تفاهم مع الجانب الفلسطيني والعربي حول مستقبل فلسطين بعد نهاية الانتداب البريطاني، بل تعمدت ان تكون ولادة الدولة الصهيونية بشكل واضح على ايدي الامبريالية العالمية، وأن يكون الاعلان بالتالي من طرف واحد، ضد ارادة الاكثرية الفلسطينية ــ العربية، بل وضد ارادة جزء مهما كان صغيرا من الرأي العام اليهودي ذاته حينذاك، الذي لم يكن يجد مبررا لمعاداة العرب بهذه الطريقة الفظة، التي تميز تصرفات الدول الاستعمارية فقط.

وتحتفل "اسرائيل" بهذا اليوم بوصفه "عيدا لاستقلالها". وقد القت الدول الاستعمارية الكبرى حينذاك، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بوزنها الى جانب توطيد الدولة الاسرائيلية الجديدة، كرد فعل "طبيعي" ضد حركة التحرر الوطني الفلسطينية خاصة والعربية عامة، التي كانت قد بدأت تفرض نفسها على الاستعمار التقليدي، وتجبره على الانكفاء والبدء في الانسحاب وإجلاء جيوشه من المنطقة العربية ذات الاهمية الستراتيجية الخاصة. وقد تكرس الدعم الاستعماري لـ"اسرائيل" في ما سمي "البيان الثلاثي" (الاميركي البريطاني الفرنسي)، الذي صدر سنة 1950، وأعلن حماية تلك الدول لـ"اسرائيل".

أما الفلسطينيون والعرب فهم "يحتفلون" بهذا اليوم ذاته، بوصفه يوما للنكبة التي حلت بفلسطين العربية وشعبها، ومن ثم بالامة العربية جمعاء. وإن أي "جردة حساب" لنتائج النكبة، المباشرة وغير المباشرة، المتمادية الى اليوم، تظهر بشكل صارخ أن هذا "اليوم" المشؤوم دشن بداية اكبر مأساة قومية للعرب في تاريخهم الحديث، فاقت في نتائجها وانعكاساتها السلبية كل ما سببته جميع اشكال الاستعمار الاخرى للمنطقة العربية.

في النتائج المباشرة للنكبة نقرأ:

ـــ ضرب الهوية العربية لفلسطين.

ـــ زرع دولة عنصرية ـ دينية غاصبة، كحصان طروادة امبريالي في قلب الوطن العربي.

ـــ تشريد ملايين الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين.

ـــ احتلال كامل الارض الفلسطينية وغيرها من الاراضي العربية.

ـــ سلسلة من الحروب العدوانية والاعتداءات، ومن العمليات العسكرية العربية العادلة، القائمة على حق الدفاع المشروع عن النفس، وهو ما أوقع ملايين الاصابات بين قتلى وجرحى ومشوهين في صفوف المقاتلين والمدنيين العرب، وتسبب بخسائر مباشرة تقدر بمئات وربما بألوف مليارات الدولارات.

وبالرغم من كل فداحة هذه النتائج، التي ـ وفي حال قيام "سلام عادل وشامل"، كما يسمى، مع "اسرائيل" ـ لن يمكن التئام جراحها لاجيال وأجيال، فإن النتائج غير المباشرة هي أخطر من ذلك بكثير. ذلك أن البلدان العربية كانت قد باشرت الخروج لتوها من تحت النير الاجنبي (العثماني فالغربي) الذي دام مئات السنين، واستنزف الطاقات المادية والروحية للأمة العربية بشكل متناهي الاستغلال والاستبداد والاذلال. وكانت هذه البلدان بحاجة ماسة الى الاستقرار والسلام، وحشد طاقاتها من جديد من اجل استعادة هويتها القومية الحضارية، وبناء كيانها الوطني اقتصاديا وثقافيا وسياسيا. ولكنها عوضا عن ذلك، وجدت نفسها مستدرجة الى اشتباك تاريخي جديد مع الجبهة المشتركة لليهودية العالمية المتوحشة والغرب الاستعماري، يفوق في خطورته الاشتباك مع الصليبية، ومع الاستبدادية "الاسلاموية" الكردية (الايوبية) والمماليكية والعثمانية، ومع الاستعمار الغربي التقليدي.

وبالرغم من كل الادعاءات "التوراتية" و"القومية" لليهودية الصهيونية، ونفوذها الدولي، وإعلامها الشيطاني، واموالها الهارونية، وتفوقها التسليحي والعسكري، وقنابلها الذرية، فإنها لم تكن الى اليوم، ولن تكون في أي وقت آخر، قادرة بقواها الخاصة على مواجهة الشعب الفلسطيني العربي، صاحب الحق والمشروعية التاريخية، بله الامة العربية.

واذا كان الصراع العربي ـ الصهيوني قد طال كل هذا الوقت، فلأنه في حقيقته ليس الا تجسيدا لاشتباك الامة العربية مع النظام الامبريالي العالمي، الذي تمثل اليهودية الصهيونية المعاصرة نواته الرئيسية، ولكنها في الحساب الاخير ليست سوى جزء عضوي منه، مهما كان من تميزه عن الاجزاء العضوية الاخرى. فالناب الصهيونية السامة توجد بوجود الافعى الامبريالية، وليس العكس. ولم تكن المسألة اليهودية يوما سوى ذريعة بيد الامبريالية والصهيونية، من اجل ايجاد مبرر لتضليل اليهود، ولمواجهة الامة العربية التي لم تكن قد تماسكت نفسها بعد، وإرباكها على كل الاصعدة، تمهيدا لشل ارادتها واعادة التسلط عليها من جديد، بأشكال مختلفة. ولم تكن اسرائيل سوى اداة تنفيذية لهذا المخطط الامبريالي العالمي. ولا يغير في هذا الواقع كونها اضطلعت بدور رئيسي فيه.

وإن كل تاريخ وجود "اسرائيل"، وصراعها مع العرب، حتى في ادق واصغر تفاصيله الاقتصادية والسياسية والعسكرية وحتى النفسية، يرتبط كلية ارتباط الشيء بذاته بالامبريالية العالمية، بحيث تظهر "اسرائيل" بدور الطرف الوكيل، والامبريالية بدور الطرف الاصيل، الذي تعود له الكلمة الاولى والاخيرة. وهذا ما تأكد في كل اشكال المواجهة العربية ـ الصهيونية. وها هو يتأكد اليوم بشكل صارخ في عملية  الاتفاقيات "السلمية" و"التطبيعية" مع "اسرائيل"، ووجهها الآخر:

حملة الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني المظلوم، وهي العملية التي يظهر فيها بوضوح ان الطرف الرئيسي الآخر المواجه للعرب هو الامبريالية، التي يعود لها في النهاية "تفصيل" التسويات العتيدة، بينما تظهر "اسرائيل" بأنها ليست اكثر من "قوة انكشارية" جديدة تخدم "الباب العالي" الامبريالي وتخضع له.
ونعرض فيما يلي لمحة عن النتائج غير المباشرة الخطيرة لنكبة قيام "اسرائيل":

اولا ـ الاستنزاف الهائل للطاقات البشرية والاقتصادية العربية، في حالة "السلم" قبله في حالة الحرب. وهو الاستنزاف المستمر منذ وقوع النكبة، والذي سيستمر طويلا بعد "السلام" الآتي باسم الغرب. وأحد اشكال هذا الاستنزاف هو سباق التسلح. فإن القسم الاعظم من ميزانيات الدول العربية، مأخوذة كمجموعة، كانت ولا تزال تذهب الى شؤون الدفاع والامن. وان ملايين من الشباب العرب قد وضعوا تحت السلاح. وعوضا ان يكون غالبية هؤلاء الشباب دعامة للتنمية والانتاج الوطني، اصبحوا هم انفسهم عبئا ثقيلا على الاقتصاد الوطني والعربي ككل، الذي توجب عليه ان يتحمل تكاليفهم ومعيشة قسم كبير من عائلات العسكريين.

ومن جهة اخرى، فان البلدان العربية كانت مضطرة على الدوام لتجديد الاسلحة الستراتيجية والتاكتيكية، التي يتقادم عهدها باستمرار، بدون حرب، بفعل عامل الزمن وحده. وهو ما يكلف الاقتصاد العربي برمته نفقات خيالية، لا لشيء، الا كضريبة باهظة يدفعها المجتمع العربي ثمنا لـ "ضيافة" "اسرائيل". وقد زاد في فداحة هذه الطامة الاقتصادية الكبرى، ان البلدان العربية حديثة العهد بالاستقلال، وذات الميل الطبيعي لتأكيد هذا الاستقلال، كدول، استدرجت الى اسلوب المواجهة الدولوية مع "اسرائيل"، أي الستراتيجية النظامية، بوصفها الاسلوب الرئيسي شبه الوحيد للمواجهة. وقد بدأ ذلك في قرار الدول العربية السبع بدخول الحرب بجيوشها فور اعلان قيام "اسرائيل"، ولما ينته في "تجييش" المقاومة الفلسطينية في اطار منظمة التحرير وجيش التحرير الفلسطيني. وبالتالي فان الدول العربية اختارت بالضبط اسلوب المواجهة باهظ التكاليف بالنسبة لها، والاكثر ملاءمة للامبريالية التي تقف مع "اسرائيل" وامامها وخلفها. وبذلك ربطت الدول العربية نفسها بقاعدة سباق التسلح، قبل اقامة العلاقات العسكرية مع المعسكر الاشتراكي، وبالاخص خلالها، وظلت تلهث خلف التوازن الموهوم حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ان النتيجة الاولى لهذا النهج هي جعل القرار الوطني مرهونا بسقف التوازن العسكري في النطاقين الدولي والاقليمي معا.

والنتيجة الثانية هي التكاليف الاسطورية غير المبررة. والعالم كله يعلم الان ان الاتحاد السوفياتي نفسه انما "سقط في الامتحان" لاسباب عديدة اخطرها ان قيادته وقعت في احبولة سباق التسلح التي استدرجه اليها الغرب الامبريالي. وانها لمأثرة عظمى للعرب ان يستطيعوا الصمود حتى الان، وعدم الانهيار كما انهار الاتحاد السوفياتي، بالرغم من سباق التسلح الذي انجروا اليه، والذي هو سباق مع اميركا والغرب، وليس سباقا مع اسرائيل وحسب.

ثانيا ـ ان حالة عدم الاستقرار التي وجدت فيها المنطقة، كانت ولا تزال تمثل السبب الرئيسي في اعاقة قيام تنمية حقيقية في مختلف البلدان العربية. وقد انعكس ذلك في حالات أمر واقع كثيرة اهمها:

أ ـ قطع طرق المواصلات البرية والبحرية والجوية في منتصفها، بين المشرق العربي ومغربه، تبعا للموقع الجغرافي لفلسطين المحتلة، وتحويل هذه المنطقة الى "منطقة معادية"، مما قلص بشكل حاد التفاعل الاقتصادي المباشر بين جناحي الوطن العربي.

ب ـ انقلاب سلم الاولويات لدى أنظمة الحكم القائمة، حيث اصبحت التنمية تأتي في درجة لاحقة، بصرف النظر عن رغبة نظام الحكم المعين.

ج ـ تخوف الرساميل العربية من الاستثمارات طويلة الامد داخل اقطارها، وفي البلدان العربية عامة. ويكفي ان نذكر هنا هجرة الوف مليارات الدولار العربية وايداعها في البنوك الغربية وتوطيفها في الخارج.

د ـ تخوف وتخويف الرساميل الاجنبية الخاصة، والمؤسسات الاقتصادية الكبرى والعالمية، والدول الصديقة والمحايدة، من المشاركة في بناء اقتصاد عربي نام، لصالح مختلف الاطراف، واقتصار تلك المشاركة بشكل عام، حيثما تحققت، على القطاعات الخدماتية والاستهلاكية، واستخراج وتسويق المواد الخام، مما جعل الاقتصاد العربي اقتصادا تابعا لا متوازنا ولا متكاملا. وكان ذلك ولا يزال يتم بموجب حصار غير معلن تمليه وتنفذه مراكز القرار الدولية الامبريالية ـ الصهيونية.

هـ ـ حينما امكن الافلات النسبي من هذا الحصار، خاصة خلال "الفترة الذهبية" للعلاقات العربية ـ السوفياتية، وبفضل التعديل النسبي لسياسة بعض الدول الاوروبية الغربية حيال العرب، تم تحقيق بعض الانجازات على الصعيد التنموي، التي كان ابرزها بناء السد العالي في مصر. ولكن هذه الامكانية تم ايضا تقليصها حتى الحد الادنى تحت ضغط العامل العسكري ايضا. اولا، لأن عنصر التعاون الاقتصادي مع الاطراف الدولية المعنية جرى استنزافه في الغالب في الجوانب التسليحية. وثانيا، بسبب التهديد العسكري المباشر لمشاريع التنمية العربية، وهو ما تجلى في تهديد "اسرائيل" مرارا بقصف السد العالي حتى بالسلاح الذري، ومن ثم قصف المنشآت مباشرة، كما جرى للمفاعل النووي السلمي في العراق، ومعمل الكيماويات في ليبيا، ومعمل الادوية في السودان، وأخيرا لا آخرا منشآت البنية التحتية في لبنان. وإن الحصار الاقتصادي المباشر الذي فرض في اوقات مختلفة على ليبيا والسودان والعراق واليمن وسوريا ولبنان، بمختلف الذرائع، انما يدخل تحت عنوان الصراع مع اسرائيل، ويهدف قبل كل شيء الى قطع الطريق على احتمالات التنمية العربية.

و ـ نظرا للهيمنة الرئيسية على اسواق النفط العالمية من قبل الدول الامبريالية، ذات العلاقات المميزة مع "اسرائيل"، فإن التهديد الستراتيجي للأمن القومي العربي، الذي جسدته "اسرائيل"، كان احد الاسباب الرئيسية لجعل الدول العربية النفطية، وخصوصا الصديقة التقليدية للغرب، أكثر خضوعا للنفوذ والارادة الغربية في ما يتعلق بشؤون النفط، وبالتالي أقل قدرة على استغلال هذه الثروة القومية والفوائض الكبيرة للعائدات، في اقامة علاقات اقتصادية متوازنة، تنطلق من حاجة الغرب الى الطاقة وحاجة العرب الى التنمية. وأصبحت القاعدة الاستهلاكية هي الاساس في استثمار النفط، أي بيعه كمادة استهلاكية، مقابل شراء خدمات وسلع وصناعات خفيفة استهلاكية، وكل ذلك حسب مقتضيات السوق الرأسمالية التي تتحكم بها الاحتكارات كما تشاء.

ثالثا ـ ان الامة العربية الحديثة تمثل محصلة تاريخية لاعنصرية، تمتاز بتنوع شديد من حيث المنشأ العرقي والاتني القديم، والاديان والمذاهب والايديولوجيات، والانتماءات المجموعاتية والاتنية الاقليمية والعشائرية المختلفة، الخ. ويمثل ذلك بحد ذاته غنى اجتماعيا ـ انسانيا متميزا، هو اكبر "ثروة" تمتلكها الامة العربية على المستوى الحضاري. وهذا ما كان ولا يزال يجعلها تتمتع باستعداد "فطري" اذا صح التعبير، للدمقراطية والتسامح وتقبل الاخر والرأي الاخر. وقد كانت هذه "الدمقراطية الفطرية" دائما في صلب نضال العرب ضد الاستعمار الاجنبي ذاته. ونجد الامثلة على ذلك في التواجد اليهودي في مختلف المناطق العربية وعلى مدى مئات السنين قبل اغتصاب فلسطين وقيام "اسرائيل"، وفي الموقف من الاتراك الذين بقوا يعيشون بسلام على الارض العربية بعد انهيار السلطنة العثمانية، وفي موقف الثورة الجزائرية من المستوطنين الفرنسيين بعد الحصول على الاستقلال، وغير ذلك كثير من الامثلة. وتتجلى هذه الميزة بشكل خاص في موقف المجتمع العربي من اليهود العرب، الذين حظوا بحماية هذا المجتمع حتى في احلك مرحلة أثناء الحكم الهتلري، وذلك بالرغم من الصهيونية وادعاءاتها ونشاطاتها المعادية للعرب.

ولكن اقامة "اسرائيل" بالقوة على اساس عنصري ـ ديني، وفي اتجاه مخالف لقوانين التكون التاريخي الحضاري للأمم والشعوب والدول الوطنية، وما شكلته ــ بوجودها بحد ذاته، وسياستها التوسعية ــ من نقض وتهديد للأساس الحضاري لوجود الامة العربية وتقاليدها الدمقراطية، ادى الى نتيجتين خطيرتين لا تزالان تفعلان سلبيا في المصائر العربية الى اليوم وهما:

1 ـ اضعاف روابط الوحدة القومية العربية، وتسعير اشكال التناقض والعداء العشائري والاتني والطائفي، وهو ما بدأ بزعزعة مبدأ التسامح، كرد فعل على الموقف الصهيوني ــ اليهودي، المعادي بدون سبب للعرب، ومن ثم "انقلاب" غالبية اليهود العرب على "مواطنيتهم" ــ اذا لم يكونوا يريدون ان نقول "قوميتهم" ــ العربية. وبعض مظاهر هذا الرد الفعل النزاع الطائفي في لبنان، ومذابح التكفيريين في الجزائر، والحرب الداعشية في العراق وسوريا، وغيرها كثير من ظاهرات التعصب والطائفية الاسلامية والمسيحية والاقليمية والعشائرية، التي لا تمت بصلة الى الاصالة العربية، وتستمد اوهامها السياسية، و "نخبويتها" الفئوية و"الدينية"، ولا سيما "اخلاقيتها"، التي تقوم على نفي الآخر و"تكفيره"، من "البؤرة الجرثومية" الاولى للتعصب والعنصرية، المتمثلة في اليهودية الصهيونية. وهذه الظاهرات ــ الردات الفعل الواعية واللاواعية على الصهيونية بمثلها، تستكمل ــ شاء اصحابها ذلك أم لم يشاؤوا ــ الفتك بالجسم العربي من داخله، حيث أنها "من اهل البيت"!

2 ـ ان حالة الحرب مع "اسرائيل"، وما فرضته من حالة طوارىء وتعبئة عسكرية مستمرة، ولا سيما فيما يتعلق بالدول ذات الانظمة الوطنية، ولدت نوعا من العسكرة السياسية والامنية للمجتمع العربي، لمدة عشرات السنين. وبفعل الترابط العضوي بين الدول الامبريالية و"اسرائيل"، وما كان ولا يزال ينتج عنه من التآمر والتدخل في الشؤون الداخلية العربية، تولد نوع من الخوف المستديم لدى انظمة الحكم العربية من الخطر الخارجي وامتداداته ومؤامراته الداخلية.

وباقتران هذين العاملين: العسكرة والخوف، جنحت معظم البلدان العربية بالتدريج نحو اقامة انظمة حكم دكتاتورية، تحت شعار توحيد الصفوف ضد العدو. وكان من الطبيعي ان تتفشى ظاهرة الفساد، التي تتبع عادة الدكتاتورية كالظل. وأدى ذلك الى تعطيل او تقليص، وفي كل الاحوال تشويه، مبادىء الحياة الدمقراطية في المجتمع العربي، مأخوذا بمجمله، في العلاقات فيما بين الدول العربية، وفيما بين السلطة والمجتمع المدني، من جهة، وفيما بين الاحزاب والقوى الدينية والاتنية الخ، من جهة ثانية، داخل كل بلد عربي على حدة. والمجتمع العربي لن يشفى طويلا من آثار التشوه الدكتاتوري الدخيل.

ولكن بالرغم من كل الآثار السلبية التي تركتها نكبة 15 ايار على الامة العربية، والاختلال، المؤقت تاريخيا، للتوازن العسكري الدولي والاقليمي لصالح الجبهة الامبريالية ــ الاسرائيلية، فإن "اسرائيل" لم تستطع القضاء على روح المقاومة لدى الفلسطينيين والعرب، التي تجسدت بمختلف اشكال الصمود، حتى في ظروف التوجه الى "السلام" و"التطبيع" مع اسرائيل، الذي بدأ مع اتفاقية "كامب دايفيد" الخيانية، و"اوسلو"، واخيرا الاتفاقيات "الابراهيمية" مع "اسرائيل". وقد برز ذلك بالاخص في الدور الذي اضطلعت به المقاومة الشعبية، الفلسطينية واللبنانية، التي حازت دعم وتأييد كل العرب، والتي أرغمت "اسرائيل" على التراجع مكرهة لأول مرة في تاريخها.

واذا كانت "اسرائيل" ستضطر لتقديم بعض التنازلات الهامة في عملية المفاوضات الجارية لاجل "وقف اطلاق النار" و"الانسحاب من الاراضي المحتلة" و"السلام"، فذلك لن يتم الا بالدرجة الاولى تحت ضغط وجود المقاومة، التي تحرص "اسرائيل" وحلفاؤها الاستراتيجيون على عدم "تعريبها"، ذلك أن اخشى ما يخشونه هو مواجه الجماهير الشعبية، حتى العزلاء و"المتسلحة" بالحجارة، فكيف اذا كان وبالصواريخ والمسيرات الطائرة، لأن مثل هذه المواجهة ستكون محسومة مسبقا لصالح الجماهير. ذلك ان مركز الثقل في التوازن الستراتيجي حينذاك ينتقل من الميزان العسكري الذي ترجح فيه كفة الاغتصاب والعدوان، الى الميزان الحضاري الذي ترجح فيه كفة اصحاب الحق والقضية العادلة.

والذين يظنون اليوم ان "السلام" سيضع حدا للنكبة، وأنه يمكن ان يغير طبيعة "اسرائيل" والصهيونية والامبريالية، هم واهمون، اذا لم نقل أكثر. فالجبهة المعادية تخطط اليوم لتحويل المنطقة العربية كلها، تحت جنح "السلام"، الى ما يشبه ما كانت عليه "جنوب افريقيا" قبل تحررها من الهيمنة الامبريالية ونظام الابارتيد العنصري، حيث يتلبس العرب دور الزنوج المنبوذين والمحقَّرين، و"اسرائيل" دور البيض المتميزين. والذي ينظر اليوم في شكل ومحتوى العلاقة بين اليهود، وبين العرب "الاسرائيليين" والفلسطينيين الذين يعملون في "اسرائيل"، وخصوصا المجازر التي ترتكب الان ضد الاطفال والنساء والمدنيين في غزة والضفة الغربية، بدعم اميركي وغربي كلي، يمكنه ان يأخذ صورة عن "المستقبل" العربي في المخططات الاسرائيلية ــ الامبريالية لمرحلة "السلام". وهذا ينطبق تماما ليس فقط على فقراء العرب، بل وايضا على اغنيائهم، الذين لا تنظر اليهم "النخبة" الصهيونية والامبريالية الا بوصفهم بقرات حلوب غبية ومصابين بعاهات نفسية. و"الانفتاح" الساذج على الصهيونية والامبريالية لا يعني شيئا آخر سوى سد الطريق على أي مستقبل عربي حقيقي، وتعريض البلدان العربية لمصير اشبه بمصير "النمور الآسيوية" بعد انفتاحها غير المشروط على الغرب.

واذا كانت العلامة المميزة للفترة الماضية بعد النكبة، كانت تتمثل في النضال ضد الاغتصاب الصهيوني لجزء من الارض العربية، والكيان المعادي الذي قام عليها، فإن العلامة المميزة لمرحلة ما بعد "السلام" ستتمثل في النضال لأجل عدم تحويل العرب، كل العرب، الى مواطنين درجة دنيا في كل الارض العربية، والى "غوييم" (اشباه بشر وحيوانات ناطقة) في خدمة "شعب الله المختار!" واباطرة الرأسمال في الدول الامبريالية الغربية.

فمركز الثقل الرئيسي في المواجهة المستمرة حتما مع الجبهة الامبريالية ــ الصهيونية سينتقل، بعد "السلام"، من الميدان السياسي ـ العسكري، الى الميدان السياسي ـ الاقتصادي. ولاستكمال التفوق التكنولوجي العسكري لـ"اسرائيل"، على كل البلدان العربية مجتمعة، وهو ما ضمنته لها الامبريالية العالمية، كشرط من شروط "السلام"، وستعمد الصهيونية العالمية الى تجنيد كل علاقاتها وامكاناتها الاقتصادية الدولية، في خدمة الهيمنة السياسية ــ الاقتصادية على ما يسمى "منطقة الشرق الاوسط"، التي يعتبر الوطن العربي جسمها الاساسي وعمودها الفقري معا. ولكن لهذه الغاية فإن الصهيونية تمتلك ايضا "طابورا خامسا" عربيا داخليا هو اخطر من كل امكاناتها الخاصة الاقليمية والدولية. وهذا الطابور يتمثل في آلية الفساد والبيروقراطية المتفشية في غالبية، اذا لم نقل جميع، الانظمة العربية، وهو الذي تأمل الصهيونية وتعمل لأن "تأخذ القلعة" بواسطته من داخلها. ولنذكر هنا انه لمثل هذا الطابور يعود "الفضل" الاول في انهيار النظام السوفياتي وتفكيك الدولة السوفياتية.

ولكن الامة العربية، التي صمدت طوال ثلاثة ارباع قرن، وتمكنت حتى الان ــ وإن بثمن بشري واقتصادي عالٍ جدا ــ ان تضع حدا لمشروع اقامة "اسرائيل" الكبرى، ولسياسة التوسع العدواني الاسرائيلي، وللاحتلال الاستعماري المباشر، والتي انجبت المقاومة الشعبية العربية، والتي تمتلك من القدرات الاقتصادية والبشرية الخاصة، ومن العلاقات السياسية ــ الاقتصادية الدولية، والأهم: تمتلك ارادة التحرر الوطني والقومي، هذه الامة لن تكون سهلة القياد، ولن تسقط ولن تتراجع امام كل الوحشية اليهودية ــ الامبريالية، وهي قادرة على افشال جميع مخططات الهيمنة الامبريالية ـ الصهيونية الجديدة، بالترابط مع اسقاط "الطابور الخامس" داخل كل ساحة عربية!
(*) كاتب لبناني مستقل

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية