قراءات سياسية » الدولة اليهودية ودولة المارونية السياسية الى مزبال التاريخ

صوفيا ــ جورج حداد(*)

ترفع أبواق الطابور الخامس اللبناني، الناطقة بلسان المارونية السياسية، شعار "الحياد" وضرورة "تحييد" لبنان عن الصراعات الاقليمية، وهي تتهم المقاومة بقيادة حزب الله بأنه "يجرّ!" لبنان الى الحرب ضد "اسرائيل"، بدون موافقة الدولة اللبنانية، وبدون موافقة المكونات الاهلية (الطائفية) غير الشيعية للكيان اللبناني، وبالاخص موافقة "المسيحيين!" الذين تدعي المارونية السياسية تمثيلهم والنطق باسمهم.

وتدعي أبواق المارونية السياسية ان حزب الله يطبق أجندة "غير لبنانية" و"غير عربية"، وانه ليس أكثر من "ذراع ايرانية" ويطبق الاجندة الاقليمية لايران، الهادفة الى تأمين مصالحها وتقاسم النفوذ الاقليمي بينها وبين اميركا ومن ورائها "اسرائيل". وتتهم أبواق المارونية السياسية حزب الله بأنه هو "المعتدي" الذي "يستفز!" "اسرائيل" ويستدعي ردها بموجب "حقها المشروع في الدفاع عن نفسها!"، ومن ثم قيامها "الطبيعي" بتدمير لبنان، وهو ما يتحمل مسؤوليته في هذه الحالة حزب الله وايران. وهذه التهمة ذاتها توجهها أبواق المارونية السياسية ضد "حماس" لقيامها بمغامرة "الاعتداء!" على "اسرائيل" في 7 تشرين الاول/ اكتوبر 2023، وقتل "المدنيين الاسرائيليين المسالمين وهم يقيمون حفلة موسيقية"، مما ادى الى قيام "اسرائيل" بمجزرة الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني المظلوم في غزة؛ وهو ما تتحمل مسؤوليته "حماس" بالذات، حسب مزاعم أبواق المارونية السياسية، لان "اسرائيل" لا تفعل سوى تطبيق "حقها المشروع في الدفاع عن نفسها!".

ان كل هذه الاطروحات للمارونية السياسية لا علاقة فعلية لها بالحياد المزعوم، بل تدخل ضمن خط الولاء لاميركا و"اسرائيل"، وهي جميعها تدخل تحت عنوان "الخيانة الوطنية" بموجب قوانين "الدولة اللبنانية" ذاتها التي تدعي المارونية السياسية الدفاع عنها ضد حزب الله.

وان اطروحة "حياد لبنان" و"تحييد لبنان" هي من الاساس مشبوهة، مغلوطة ومزيفة، وتتناقض على خط مستقيم مع وجود لبنان، جغرافيا وديموغرافيا وتاريخيا وحضاريا وقوميا، ومن ثم "وطنيا ــ قطريا".

ولكن السؤال الذي ينبغي على كل مواطن لبناني، وعربي وطني، ان يجد الجواب عليه هو:

ـــ ما هي ظاهرة "المارونية السياسية"؟ وهل هي حقا "حيادية" او "محايدة"؟  

للاجابة على هذا السؤال نطرح النقاط التالية:

ــ1ــ النقطة الرئيسية الأولى والأهم هي التأكيد على ان "المارونية السياسية" لا تمثل لا المسيحيين عموما، ولا الطائفة المارونية اللبنانية خصوصا، للاسباب الجوهرية التالية:

ــ آ ــ ان معيار تعريف مفهوم "المسيحية" (او اي ديانة اخرى ما عدا اليهودية) هو معيار معرفي ــ فلسفي ــ ايماني ــ ديني، لفهم وجود الكون والانسان والمجتمع البشري. وهذا ما لا ينطبق البتة على المارونية السياسية، مثلما لا ينطبق على اليهودية.

ــ ب ــ وان معيار تعريف مفهوم "الطائفة المارونية" هو معيار ديني مذهبي ــ فئوي يشمل المساحة السكانية لجميع ــ بدون استثناء ــ من ولدوا في عائلة "مارونية"، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وآرائهم وميولهم وعاداتهم وتقاليدهم، السياسية والثقافية والاجتماعية.

ــ ج ــ اما معيار تعريف "المارونية السياسية" فهو معيار تعريف لنهج جيوسياسي، ينطلق من المساحة السكانية ــ الزمانية ــ المكانية للطائفة المارونية، الا انه لا يتطابق معها، بل ويتعارض معها جزئيا او كليا، اقلويا او اكثريا، تبعا لتبدل الظروف في كل مرحلة تاريخية. واذا كانت العصابات الاجرامية لبشير الجميل قامت في وقت ما بارتكاب المجازر والاغتيالات لفرض ما سمي "وحدة البندقية" المسيحية، وكانت تغتال او على الاقل تطرد كل مسيحي وطني وتقدمي، عروبي او شيوعي او قومي سوري او مؤيد للقضية العادلة للشعب الفلسطيني المظلوم او معادٍ للطائفية، وحتى منع دفن ميت مسيحي له اي من هذه الصفات في "مقبرة مسيحية"، فهذا لا يعني ابدا ان المارونية السياسية وزعرانها ولصوصها ومجرميها وكل السفلة فيها، اي كل من يدخل تحت عباءتها، عن وعي او هبل، كبارا وصغارا، "مدنيين" و"دينيين"، كانوا ــ او هم الان ــ يمثلون الطائفة المارونية الكريمة خصوصا، والمسيحيين عموما. بل العكس هو الصحيح: ان المارونية السياسية لم تكن يوما وهي  الان اكثر من اي وقت مضى ليست سوى فصيل عميل لاميركا واسرائيل والسعودية وقوة احتلالية للبنان، مثلها مثل اي عصابة من عصابات الجيش الاسرائيلي.

وأخيرًا ينبغي القول ان الأطروحات والممارسات السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية الخ، للمارونية السياسية، تتجاوز الطائفة المارونية، لتشمل اطرافا غير مارونية، طائفية اخرى او حتى "علمانية" و"لادينية".

ــ2ــ  آ ــ  واذا كان ظهورالديانة المسيحية يرتبط بسردية ميلاد السيد المسيح وحياته وصلبه (حسب الرواية المسيحية)، والصراع الفكري والفلسفي والديني والسياسي والاخلاقي والوجودي الانساني بين الشعوب الشرقية التي غزتها الجيوش الرومانية القديمة، وبين الامبراطورية الرومانية القديمة الغازية الاستعبادية وحلفائها اليهود، نخبة و"شعبا!"، الخونة التاريخيين لشعوب الشرق.

ــ ب ــ واذا كان وجود "الطائفة المارونية" يرتبط بسردية ظهور الراهب الناسك السرياني الاورثوذوكسي، القديس مار مارون، وحياته في شمال شرق سوريا في النصف الثاني من القرن الرابع، والاضطهاد الذي تعرض له الرهبان المؤيدون له، ونزوح قسم كبير من المؤمنين المشايعين له ولجوءهم الى جبال لبنان القفراء والوعرة، للاحتماء من ملاحقة وتنكيل البيزنطيين "المترومنين".

ــ ج ــ فإن بواكير ظاهرتيْ "اليهودية الصهيونية" و"المارونية السياسية" ترتبط بمرحلة الاستعمار الصليبي لفلسطين واجزاء من الشرق العربي، واقامة الامارات والممالك والدوقيات الصليبية على الاراضي العربية المغتصبة، لحوالى 250 سنة متتالية. فوجود تلك "الدول" او "الدويلات" الصليبية أوجد وكرّس فكرة تحويل "الطائفة" او "المذهب"، الدينييْن، من المفهوم الوجداني ــ الخـُلقي ــ الفكري ــ الفلسفي ــ الايماني ــ اللاهوتي ــ الديني، الى المفهوم الاتني ــ القومي ــ العنصري. وهذا هو الاساس المعرفي الذي تنبني عليه:

ــ اولا: اليهودية الصهيونية، التي تعتبر ان اليهود هم "شعب" او "قومية" لها دينها الخاص، وان "اسرائيل" (من النهر الى البحر \او\ من النيل الى الفرات) هي "وطن قومي لليهود"، وتاليا ان "الفلسطينيين" هم "مغتصبون" و"دخلاء" على "فلسطين"، والعرب مسلمون ومسيحيون هم ايضا "مغتصبون" و"دخلاء" على مصر والاردن وسوريا ولبنان والعراق.

ـــ وثانيا: المارونية السياسية اللبنانية، التي تعتبر ان الطائفة المارونية اللبنانية ومن يماشيها ويسير خلفها من المسيحيين المضللين الاخرين، هم "شعب مسيحي قائم بذاته"، و"قومية مسيحية" خاصة، وان الارض التي يعيشون عليها (لبنان الصغير = جبل لبنان \او\ لبنان الكبير = لبنان الجنرال غورو = لبنان الـ10452 كلم2) هو "وطن قومي مسيحي"، وتاليا ان المسلمين عموما، والشيعة خصوصا، هم "دخلاء" على "لبنان!"، ذي الاكثرية المارونية والاقلية الدرزية، كما تتخيله المارونية السياسية.

ونظرا للدور الخياني المكشوف، العميل لاميركا خصوصا وللامبريالية الغربية عموما، والحليف الكلي التاريخي والدائم للصهيونية واخيرا لاسرائيل، الذي تضطلع به ابواق واحزاب المارونية السياسية، قد يكون من الاصح تسميتها لا المارونية السياسية، بل المارونية الصليبية.

ــ3ــ ان اي بحث "مادي تاريخي" او علمي موضوعي، اجتماعي ــ اقتصادي ــ فكري ــ ديني ــ سياسي ــ عسكري الخ ــ من شأنه ان يكشف ويسلط الضوء على الحقائق التاريخية التالية:

ــ آ ــ ان اليهود (وعلى رأسهم التجار والمرابون بالاشتراك مع القيادة الدينية) انتقلوا من المشرق العربي الى افريقيا الشمالية، ومنها الى اوروبا، بمعية وبحماية وفي كنف الفينيقيين ــ الكنعانيين، الذين اسسوا قرطاجة التي وصلت علاقاتها، التجارية والسياسية والثقافية، وتواجد جالياتها، الى اوروبا. وفي اوروبا تعرف اليهود الى الامبراطورية الرومانية منذ بدايات نشوئها، واخذ التجار اليهود يواكبون الحملات العسكرية للجيش الروماني لشراء الاسرى منه وتحويلهم الى عبيد وجني الارباح من بيعهم الى النبلاء الرومان.

وحينما اندلعت الحروب البونية بين روما وقرطاجة في 264ق.م وانتهت في 146ق.م بتدمير قرطاجة، كان التجار والمرابون اليهود يتعاونون سرا مع روما ضد قرطاجة، ولكنهم بعد تدمير قرطاجة كشفوا تماما عن وجوههم، وخانوا كليا ونهائيا اصولهم الشرقية، وساروا في ركاب الاستعمار الروماني ضد شعوب الشرق قاطبة. وبعد ان اباد الرومان نصف سكان قرطاجة (كما يبيد اليهود اليوم سكان غزة المظلومين) فإن   النخاسين (تجار العبيد) اليهود هم الذين "اشتروا" من الجيش الروماني النصف الاخر من القرطاجيين الذين وقعوا في الاسر، ليس ليحرروهم ويسلمونهم (ويقبضوا الثمن!) لصور ويرها من المدن الفينيقية في الساحل الفلسطيني ــ اللبناني ــ السوري؛ بل ليحولوهم الى عبيد ارقاء وجوارٍ، والعجزة منهم الى لحوم كطعام للوحوش المفترسة، ويبيعونهم "للنبلاء" الرومان.

ــ ب ــ وقد تعزز التحالف الروماني ــ اليهودي بشكل وثيق في اشتراك الطرفين، كل لدواعيه وحساباته ومصالحه، في القبض على السيد المسيح، وتعذيبه، واهانته، وصلبه (حسب الرواية المسيحية).

ــ ج ــ وبعد ان تحطمت موجة التوسع الروماني على جدار المنطقة التي سميت فيما بعد باسم "فيليكو روسيا" و"فيليكو روس" (= روسيا العظمى \ الروس العظام)، وفشلها في القضاء على المسيحية التي انتشرت بقوة في صفوف الجماهير الشعبية كما في صفوف الانتليغانتسيا والعسكريتاريا وحتى النبلاء الرومان والمترومنين (الى درجة ان القديس جيوارجيوس ــ الفلسطيني من اللد بلد القائد التاريخي جورج حبش ــ كان ضابطا في الحرس القيصري، واعتقل واتهم بالتحضير لاغتيال القيصر،  وعذب واعدم، كما ان القيصر الروماني الاغريقي الاصل قسطنطين الكبير اكتشف ذات يوم ان امه ذاتها ــ القديسة هيلانة بانية كنيسة القيامة ــ كانت قد تحولت الى المسيحية، ضد ابنها القيصر الروماني الوثني)، فاضطرت الامبراطورية الرومانية لتبني الديانة المسيحية لدواعٍ انتهازية سياسية، وحولتها الى ديانة رسمية للدولة الرومانية. وعلى خلفية تقسيم الامبراطورية الرومانية القديمة الى امبراطوريتين: شرقية (بيزنطية ــ اغريقية) وغربية (رومانية ــ لاتينية)، ظهرت الديانة "الكاثوليكية" (اي "الشمولية")، الممسوخة عن المسيحية الشرقية، ووضعوا على رأسها "بابا روما"، الذي لم يكن بالامكان تأليهه (كما كان القياصرة الرومان)، ولكنه بدلا عن التأليه أعطي البابا منزلة "فوق بشرية" هي منزلة "المعصومية من الخطأ والخطيئة". وصار الولاء للبابا والبابوية الرومانية شرطا لـ"الايمان الحقيقي!" بالمسيح، و"الانتماء الحقيقي" للمسيحية، تبعا لما تفرضه الديانة الجديدة "الكاثوليكية البابوية"، والامبراطورية  الرومانية الغربية الملتصقة بها، والتيارات السياسية والسلطات الموالية لها. وهكذا نشأ مقران مركزيان مسيحيان:

ـــ مركز "البطريركية المسكونية" القديم، ومقره في القسطنطينية البيزنطية؛ وكانت تتبع له (على قاعدة: مقدم بين متساوين) جميع الكنائس الوطنية المسيحية الشرقية القديمة، ومنها الكنيسة السريانية التي كان الموارنة جزءا لا يتجزأ منها.

ـــ ومركز "باباوية روما" الكاثوليكية، وكانت تتبع له في البداية الكنيسة المسيحية الوطنية "الايطالية اللاتينية" فقط. ولكن هذا المركز ــ مدعوما من الامبراطورية الرومانية الغربية ــ اخذ يعمل بشكل حثيث على شق صفوف المسيحية على النطاق العالمي، عن طريق استمالة رجال الاكليروس الفرديين، ومختلف الابرشيات الفردية، من جميع الكنائس المسيحية الوطنية الاخرى، والعمل لشق الكنائس الوطنية،  وتتبيع المنشقين لباباوية روما الكاثوليكية، من وراء ظهر كنائسهم الاصلية، واستمالة كنائس وطنية كاملة حينما يمكن ذلك. ولهذه الغاية اتُّبِعت جميع اساليب الضغط والاغراء والترهيب والترغيب.

ــ د ــ يقول بعض المحللين التاريخيين انه نظرا للقمع الذي تعرض له الرهبان المؤيدون لتعاليم ومواعظ القديس مار مارون وقتل 350 منهم وتدمير اديرتهم، ثم ملاحقة واضطهاد جمهور انصار القديس مار مارون الذين عرفوا لاحقا باسم "الموارنة"، على ايدي البيزنطيين المترومنين، وردا على هذه المظالم التي حلت بأولئك السريان "الموارنة"، وامام صمت "البطريرك المسكوني" في القسطنطينية، فإن قسما كبيرا نافذا، وربما الاكثر نفوذا، من الهيكلية الاكليروسية "المارونية"، قرر الاتصال ببابوية روما الكاثوليكية اللاتينية، مسجلا بداية الابتعاد عن البطريركية المسكونية في القسطنطينية، وعن الاصول المسيحية الشرقية الاورثوذوكسية لـ"السريانية المارونية".

ــ هـ ــ ويعيد بعض الكتاب الموارنة في العصور الحديثة علاقة الكنيسة المارونية ببابوية روما الى نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس. في حين يرى كتاب موارنة آخرون ان علاقة الموارنة مع بابوية روما تزامنت مع وصول الصليبيين في ربيع 1099م الى مدينة طرابلس الشام، حين استقبلهم حاكمها الفاطمي ابن عمار وقدم لهم الهدايا والمؤن. ويدخل استقبال ابن عمار للصليبيين تحت عنوان "الاستسلام"، خصوصا بعد ان خذله الولاة السلاجقة والخليفة العباسي وتخلفوا عن نجدته. اما اتصال الموارنة بالصليبيين، فتم على خلفية العلاقة مع بابوية روما، وكان اتصال"صديق بصديق". وتقول بعض المرويات ان عدد الموارنة الذين تجندوا في صفوف الصليبيين بلغ 40 الفا. ومنذ ذلك الحين توطدت علاقة  الصليبيين بالقسم النافذ من الاكليروس الماروني. ثم شملت هذه العلاقة الهيكلية الاكليروسية المارونية ككل. ومع ان تقليد انتخاب البطريرك الماروني، ككنيسة مستقلة مثلها مثل جميع الكنائس الوطنية الشرقية، ظل ساريا الى اليوم، الا ان  البطريرك الماروني اصبح يتمتع بمرتبة كاردينال في الهيكلية الاكليروسية لبابوية روما. ومع احتفاظ الكنيسة المارونية ببعض الطقوس الليتورجية السريانية، الدالة على اصولها، في القداديس المارونية، الا انها ــ اي الكنيسة المارونية ــ انفصلت كليا عن اصولها السريانية الاورثوذوكسية "السورية" (الانطاكية)، وتحولت الى كنيسة "لبنانية" تابعة كليا لروما، وتعتبر الكيان اللبناني الذي اصطنعه المستعمرون الفرنسيون والانكليز ويدعمه اليوم الاميركيون، هو "المركز الوطني" للكنيسة المارونية، وصارت عبارة "بطريرك انطاكية وسائر المشرق" عمليا بدون اي معنى واقعي.

*****

واليوم تخوض اليهودية العالمية والحركة الصهيونية ودولة "اسرائيل" معركة وجودية لفرض شعار "يهودية الدولة" الاسرائيلية. ولكن هذه المعركة، وبوجود وصمود المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ومعسكر المقاومة العربية ــ الاسلامية بقيادة النظام الاسلامي الثوري الايراني، و"المحور الشرقي الجديد" الروسي ــ الصيني ــ الايراني، المعادي للامبريالية الغربية واليهودية العالمية، ــ كل ذلك يجعل من المستحيل ان تؤدي هذه المعركة الى طرد وابادة ملايين الفلسطينيين ومئات ملايين العرب المسلمين والمسيحيين، بل هي ستؤدي حتما، عاجلا او آجلا، الى هزيمة اسرائيل وسقوطها،  والقضاء على وجودها  كدولة عنصرية ــ شوفينية (قومية) ــ وطائفية (يهودية)، وسيسقط معها كل الفكر "العلماني" و"المدني" الصهيوني وكل الفكر التوراتي "الديني" اليهودي.

اما "المارونية السياسية" التي سلمها الجنرال هنري غورو السلطة في 1920، فانها ــ حتى 1952 (تاريخ انتخاب كميل شمعون رئيسا) نجحت تماما في  تحويل "لبنان الكبير" (الذي كان قد باركه البطريرك الياس الحويك) الى "مزرعة" للعائلات الاقطاعية من كل الطوائف ولــ"خواجات" العائلات المسيحية الغنية.
ومنذ 1952 وحتى 1990 (التاريخ التقريبي لهبوط الشيخ رفيق الحريري رحمه الله بالباراشوت السعودي وانقضاضه على لبنان) فإن "المارونية السياسية" سنت قانون سرية المصارف، ونجحت في تحويل لبنان الى "مغارة علي بابا والاربعين حرامي واكثر"، والى "مخباية" للاموال العربية واللبنانية المسروقة والمنهوبة والنفطية لجميع الانظمة العربية العميلة والدكتاتورية، ولجميع الحكام والسياسيين وحواشيهم الفاسدين والقذرين، وجميع مافيات العالم، والى كازينو قمار، والى مكاتب سمسرة لاستيراد العاهرات وتصديرهن الى المشيخات والامارات والممالك العربية النفطية، والى مركز عالمي لشبكات المخدرات وتزوير العملات لجميع البلدان، ولتصريف المسروقات الثمينة من جميع البلدان، والى مغسلة لغسيل الاموال القذرة والمشبوهة من كل انحاء العالم، والى مركز لجميع مخابرات العالم؛ وكل ذلك تحت عنوان "سويسرا الشرق" التي صار يطالب بها اليوم لا سمير جعجع وسامي الجميل وفؤاد السنيورة فقط، بل حتى "شيوعيون" مزيفون و"مسيحيون" اكثر زيفا امثال رافي مادويان والياس عطالله.

وطبعا  جرت في هذه الـ"سويسرا الشرق" مذابح الحرب "اللبنانية"، التي جرّت الويلات على اللبنانيين عموما وعلى المسيحيين خصوصا، باسم الدفاع عنهم. وكان آخر هذه الويلات الطرد المأساوي للمسيحيين من الجبل الذي جرى تحت سمع وبصر زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي "الرفيق" وليد جنبلاط.
وخلال هذه المرحلة السوداء في تاريخ لبنان، قامت المارونية السياسية باستدعاء "قوات الردع العربية"، وعلى رأسها قوات ومخابرات النظام السوري بقيادة امثال رفعت الاسد وحكمت الشهابي وعبدالحليم خدام وغازي كنعان، للقدوم الى لبنان لكي  تفك بالقوة عرى التلاحم الكفاحي الوطني اللبناني ــ الفلسطيني، ولإسقاط المخيمات الفلسطينية والاحياء الاسلامية ــ الوطنية داخل "المنطقة الشرقية ــ المسيحية". وفي 1976 دخلت تلك القوات العربية الى لبنان وتولت قصف مخيم تل الزعتر واسقاطه بيد فرنكشتانات المارونية السياسية، واسقاط مخيمي جسر الباشا والضبية، وأحياء النبعة وبرج حمود والمسلخ والكرنتينا وحاجين وشرشبوك وخليل البدوي ووادي كرم الزيتون، وتسليمها كلها يدا بيد لعصابات حزب الكتائب والمنظمات الاخرى للمارونية السياسية، حيث ارتكبت المجازر والفظائع اللااخلاقية بمنتهى السادية، ولكن بمباركة وصلوات بعض الاكليروس الماروني، ونشرت صحف العالم صور اكداس جثث الضحايا من المدنيين وقد أشعلت فيها النار و"محاربو" الكتائب بالبستهم الحزبية الرسمية يعزفون على القيثار ويغنون ويرقصون (مبرهنين على تشرّبهم لـ"ثقافة الحياة" التي تتشدق بها اليوم ابواق المارونية السياسية). وتولت قوات الردع العربية(جدا عربية!) ضرب قوات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وتحت سمعها وبصرها تم اغتيال القائد الوطني كمال جنبلاط وتغييب الامام السيد موسى الصدر.

ولكن كل ذلك لم يؤد الى انتصار المارونية السياسية وفرض سيطرتها المطلقة على لبنان، بل على العكس تماما. إذ ان غالبية الاراضي اللبنانية (بعض الدراسات تقول حوالى 80%) ظلت خارج هيمنة المارونية السياسية والاجهزة العسكرية والامنية للدولة اللبنانية العميلة. وامام هذه "المعضلة الوجودية" قامت المارونية السياسية، بالتفاهم التام مع اميركا والدول الامبريالية الاوروبية والانظمة العربية العميلة، باستدعاء دولة اسرائيل لمهاجمة لبنان وانجاز مهمة تحطيم المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، اي المهمة التي عجزت "قوات الردع العربية" عن انجازها حتى النهاية. وهكذا كان الاجتياح الاسرائيلي لما سمي الشريط الحدودي في 1978، ثم العدوان الاسرائيلي الشامل على لبنان في 1982. وحينما كانت القوات الاسرائيلية تتقدم في عمق الاراضي اللبنانية، كان "مقاتلو" الكتائب والاحزاب الاخرى للمارونية السياسية يسيرون ككلاب الصيد في ركاب اسيادهم الغزاة الاسرائيليين، وذلك طبعا حرصا على "السيادة اللبنانية". وحينما طوق الجيش الاسرائيلي بيروت "الغربية" وحاصرها وقصفها برا وبحرا وجوا ليلا ونهارا اكثر من 80 يوما، فإن قوات المارونية السياسية شاركت في الحصار ومنع الغذاء والدواء والكهرباء وحتى الماء عن بيروت "الغربية". وذهب بشير الجميل شخصيا الى منشآت مؤسستي الكهرباء والمياه، ليشرف على تنفيذ قرارات قطع الماء والكهرباء عن بيروت "الغربية"، طبعا من اجل "تحريرها" من "الاحتلال الفلسطيني"!

ولكن بعد طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، نبتت المقاومة الشعبية الوطنية ــ الاسلامية المسلحة ضد المحتلين الاسرائيليين وحليفتهم التاريخية: المارونية السياسية. وهذه المقاومة هي "بنت البلد" ولا يمكن طردها وشحنها بالبواخر الى خارج لبنان كما جرى لقوات منظمة التحرير الفلسطينية. وقد اجبرت المقاومة الوطنية ــ الاسلامية، ولا سيما بقيادة "حزب الله"، الجيش الاسرائيلي على الانسحاب من بيروت، ثم من الجبل، ثم من منطقة صيدا وجزين، واخيرا تم التحرير الكامل لاراضي الجنوب اللبناني المحتل والهروب المزري للمحتلين وعملائهم في ايار 2000.  

ولكن المارونية السياسية لم "تيأس" ولم تتخلَّ عن خطها الخياني التاريخي، فعمدت، بالمشاركة مع"السنية السياسية" هذه المرة، الى استدعاء اسرائيل لشن عدوان وحشي جديد على لبنان لسحق المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله سحقا تاما، وهكذا كان العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006 الذي جرى التحضير له لعدة سنوات، واتخذت عملية اسر الجنديين الاسرائيليين (لاجل اجراء تبادل للاسرى) كذريعة لتحقيق ذلك العدوان. ولكن الجيش الاسرائيلي فشل تماما في تلك الحرب الضارية التي دامت 33 يوما، وتحطمت الى الابد اسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر، وولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات كما قال سيد المقاومة، القائد الوطني العربي الحقيقي الوحيد في الاكثر من الـ100 سنة الماضية، السيد حسن نصرالله.

ومنذ 1990 وحتى الان، وبالمشاركة مع السنية السياسية، وبالدعم الامبريالي الغربي المكثف، والدعم والتعاون المالي والعسكري والمخابراتي "العربي جدا!"، وبالتدخل المباشر للجيش الاسرائيلي بكل قوته، عجزت المارونية السياسية عن "لبننة" لبنان "الـ10452 كلم مربع" بمفهوم بشير الجميل لـ"لبنان"، اي اجبار المسلمين اللبنانيين، وبالاخص الشيعة، على الرضوخ لنهج تحويل لبنان اما الى "محمية اسرائيلية" واما الى "اسرائيل ثانية لبنانية" والا.... فالمذبحة لهم (اي للمسلمين وخصوصا الشيعة) على طريقة المذبحة للفلسطينيين في غزة اليوم.

ولكن "المارونية السياسية" خسرت كل مشاريعها، وكل رهاناتها. وذهب بشير الجميل الى رحمة الله. ودفنت معه كل مشاريع "دولة المارونية السياسية" على الطريقة الصهيونية.

والدولة اللبنانية اليوم ليست اكثر من جثة ميت، "تعيش" على جهاز التنفس الاصطناعي ليس اكثر، بانتظار دفنها ولو بشيء من "احترام الميت". اما المسلمون الشيعة (ومعهم غالبية المسلمين السنة والدروز والوطنيين المسيحيين) الذين اراد الرئيس اميل ادة في 1932 طردهم الى العراق وضم جبل عامل الى فلسطين (اليهودية في المستقبل)، فإنه لم يعد بامكان لا "القوات اللبنانية" لاصحابها: "المارونية السياسية" والسفارتين الاميركية والسعودية، ولا الجيش الاسرائيلي، ولا اميركا ذاتها، ولا كل حلف الناتو و"حلفاؤه" من الدول العربية، ــ لم يعد بامكانهم جميعا اقتلاع الشيعة  وطردهم او ذبحهم.

واذا كنتم لا تصدقون... فالميدان مفتوح امامكم... جربوا!

ان التاريخ لا يرحم. وبدلا عن سحق المقاومة بقيادة حزب الله، صار من الاسهل بكثير انجاز "واجب" الدفن السياسي لـ"المارونية السياسية" وشريكها الجناح العميل في "السنية السياسية"، والدفن النهائي لـ"الدولة اللبنانية العميلة".

ولكن صبراً! "كل شي بوقتو حلو!".

ان الدماء الزكية لشهداء المقاومة الباسلة والوطنية اللاطائفية بدأت ترسم ملامح تأسيس "لبنان جديد: شعبي ــ وطني ــ عربي ــ تحرري ــ مقاوم ــ تقدمي" يكون نموذجا لـ"وطن عربي كبير موحد جديد"، معاديا للامبريالية والرأسمالية، وركنا اساسيا لنظام عالمي جديد، يقوم على مبادئ العدالة والحرية والاخاء والمساواة لجميع شعوب العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل             

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد البشري


موقع الخدمات البحثية