عبير بسّام
ما بين مساحات الأنقاض التي تملئ الشوارع والازقة في غزة هناك مساحات واسعة كبيرة من الإنتصارات تملئ الفراغات ما بين أكوام الإسمنت وقضبان الحديد المتساقط من الأبنية، التي كانت عامرة بأهلها، وباتت اليوم تبدو قفارا، لا يملئها إلا المقاومون، الذين ابتدعوا قتال المسافة صفر مع عدو غادر، وأبدعوا فيها. أبدعوا فيه لأن عدوهم كالضباع يسير ضمن قطعان تضرب غدراً وتخاف المواجهة، وبينما هم يصطادون في الغابة والسهوب كما الفهود. وإن عملوا جماعات كانوا كالذئاب في الشراسة والتناغم والوفاء لبعضهم البعض. هكذا يمكننا أن نصف المقاتلين في صفوف المقاومة الفلسطينية أيّاً يكن الفصيل الذي ينتمون إليه. فمستوى التنسيق ما بين الفصائل تنحي له الهامات وترفع له القبعات، حتى باتت ثلاثيات حماس شعاراً يرفع: وقف المعركة، وعلى الصهيوني أن يقر بالهزيمة، إن لم نقل أنه سيخضع.
بهذه الكلمات وأكثر يمكننا أن نصف أبطال ما بعد طوفان الأقصى الذي ابتدأ في السادسة صباحاً من السابع من تشرين الأول/ اكتوبر، هذا الشهر العظيم في تاريخ أمتنا العربية، وانتهت في مساء اليوم نفسه بنصر محقق عند السادسة مساء، أحرزت فيه كتائب القسام نصراً مؤيداً لا لبس فيه، في حين أن ما جرى بعد ذلك لم يكن سوى جنون صهيوني يريد نصراً يسجل على نصر القسام ولكن لا أمل فيه، ونقطة على السطر. لننظر حدد رئيس وزراء الكيان ثلاثة أهداف اراد تحقيقها من حربه على غزة وهي: استرداد أسراه بالقوة، القضاء على حماس وعلى الأنفاق، وابعادهم مسافة 7 كم عن مستوطنات الغلاف. وأما ما أرادته حماس من عملية طوفان الأقصى فهو وبكل بساطة تصفير السجون من الأسرى والمعتقلين، وإخراج الأسرى وخاصة كبار السن والنساء والأطفال، ووقف انتهاكات المسجد الأقصى. واليوم، نحن نعد اليوم كذا وأربعين بعد المئة، ولم يستطع العدو الصهيوني حتى الساعة تحقيق أي من أهدافه، سوى الإيغال بالمجازر والقتل وإبادة الأطفال والنساء في غزة. ولم يحقق حتى اليوم أي من ثلاثيته.
فيما ثبتت المقاومة على ثلاثية المراحل الثلاث ومدة كل منها 45 يوماً، يتم خلالها مبادلات الأسرى الصهاينة غير العسكريين بأسرى فلسطينيين، إعادة بناء المستشفيات ومخيمات اللجوء وخروج القوات الصهيونية البرية من المناطق السكنية، و تبادل أسرى وجثث ورفات الشهداء، وتتخللها محادثات غير مباشرة، وأهم الشروط أن الشعب هو من يختار قيادته ولن تفرض عليه فرضاً. فيما يتراكض السفهاء، الذين فضحهم الطوفان، كل من بلده وموقعه يحاولون رسم قيادة لفلسطين، وهذا ما لن يحدث أبداً، بصراحة لقد أخرج طوفان غزة فلسطين كلها من اتفاقية أوسلو وباتت فلسطين على سكة جديدة، وأهمها ما تحدث عنه القيادي في حماس في لبنان، علي بركة، عن أن عدم توقف الحرب في غزة سيمدد الطوفان إلى الضفة الغربية وهذا ما سيشكل حالة رعب حقيقي لدولة الكيان، التي لن نتحدث فيها عن نازحين صهاينة من غلاف غزة ومن شمال لبنان فقط بل سنتحدث فيها عن النازحين الصهاينة من الضفة الغربية، ولربما من الجليل قريباً. فيما أهل غزة وإن تنقلوا من مكان إلى آخر في داخل القطاع إلا أنهم مازالوا في داخله ولم ولن يغادروه.
لم تعتقد المقاومة يوماً أن العدو سيستهتر بأرواح مواطنيه ولم يعتقد الصهاينة حجم الإستهتار الذي أبدته حكومتهم تجاه حياتهم وحياة الأسرى، وأنه هو من سيقوم بقتلهم خلال قصف في غزة، والأكثر من ذلك أن استعادة الأسرى الذين تم تبادلهم كان عبر التفاوض والتفاوض فقط، وشهد خلالها العالم باكمله والصهاينة معهم أن عملية التبادل قد بنت لبنة أخرى من مجد وعزة المقاومة، من خلال رقي أخلاقها في التعامل مع الأسرى أمام شاشات التلفاز التي رآها العالم. فيما خرج الأسرى الفلسطينيون المحررون، منهكين عيونهم غائرة والرصاص ينهال من حولهم ومن حول أهاليهم الذين جاؤوا لإستقبالهم أما أعين العالم. مفارقات جعلت العالم يعيد التفكير، المقاوم الفلسطيني لم يقاتل طفلاً وشخص أعزل مع أنه يقبع في سجن مفتوح منذ العام 1967. وابتدأ الحديث يملأ وسائل التواصل الإجتماعي في العالم، حول حق الفلسطينيين في أرضهم وارتفع شعار فلسطين حرّة من البحر إلى النهر، وفضحت المجازر التي ارتكبت في مستشفيات غزة وبيوتها وسهولها وبين الردم، وابتدأ تناول قصص سرقة الصهاينة لجثامين الشهداء، دناءة العدو.
أعجبهم أم لم يعجبهم لقد جاءت نتائج طوفان الأقصى بأوسع بكثير مما كان يأمل به العالم مجتمعاً: لقد أوقف طوفان الأقصى أقسى اتفاقية تطبيع على القضية الفلسطينية بعد اتفاقية السلام المصرية، كانت ستوقع مع العدو الصهيوني ما بين الصهاينة والمملكة السعودية. أسواء أجلها أم ألغاها، فقد كانت عزيمة أهل غزة المحاصرة أشد عزيمة من الأميركيين والصهاينة مجتمعين. وأعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية وباتت القضية الأولى في العالم بعد سنين طويلة من التعتيم الإعلامي، وبتنا نرى فيديوهات على مختلف وسائل التواصل الإجتماعي تشرح عن القضية وعن صراع العرب والفلسطينيين مع الصهاينة منذ 75 وعاماً.
وعلينا أن لا نستسهل تأثير هذه الفيديوهات على من تمر عليه عشرات المرات في اليوم. هناك رجال ونساء وشباب وشابات ومن مختلف الأعمار من الغرب والشرق يكرسون الوقت اليومي والأسبوعي من أجل توضيح ما يحدث في غزة. وعلى الصعيد العسكري، لقد خرجت "اسرائيل" الجيش الذي لا يقهر مهزوماً منذ ساعات الصباح الأولى ولن ينسى أحداً مشهد الضبط الصهاينة وجنودهم وهم يجرون من رقابهم من ثكناتهم الحربية. إنها لحظات انتصار لا يمكن ان تنسى.
واتسعت المبادرات، لدعم غزة، ولم يعد الكلام وقفاً على على الإعلام العربي المقاوم أو حتى ذلك الذي يصف نفسه أنه على الحياد، بل ابتدأ نشر أخبار المجازر في الإعلام الغربي، وهو يسخر من الإنجازات الصهيونية في العديد من المقالات هامة، إنجازات اقتصرت على المجازر والتدمير والتجويع واستهداف المؤسسات الطبية والكنائس والمساجد، مما يثبت عنصرية الكيان المقيتة. ومن أهم إنجازاته التي حققها مع الهجوم على غزة، كان استعادة اليمن السيادة على الملاحة في البحر الحمر والبحر العربي وباب المندب، لقد تحدثنا سابقاً عن أهم أهداف اتفاقيات أبراهام هو السيطرة التامة على المنافذ البحرية، والتي سقطت اليوم أهمها بقبضة الأحرار اليمنيين. كما أشعلت غزة نيران غضب المقاومة العراقية وحتى السورية، وإن لم تعلن حتى اليوم، على المحتل الأميركي وابتدأ صيده في المواقع التي يحتلها في سوريا والعراق والأردن كما البط في بحيرة مغلقة.
ومنذ يومين لاحت بشائر أخرى مرتبطة بطوفان الأقصى، فقد حدث في الأردن حدثين هامين يجب البناء عليهما، جاء بعد أسابيع على ضرب البرج 22 على الحدود بين سوريا والأردن في الشهر الماضي، ما خلا المظاهرات الغاضبة التي تملأ شوارعه كل جمعة. أولهما، خروج مجموعة من الأردنيين الوطنيين كتحركات بدائية من أجل قطع قوافل الإمداد التي تسير بإتجاه الكيان قادمة عبر الطريق الجديد البري من الإمارات العربية المتحدة، كطريق بديل لتمويل الكيان عبر البحر الأحمر، وأعلن هؤلاء الوطنيون الأردنيون عن مواقف جريئة جداً وطالبوا صانعي القرار في الأردن بعدم التعامل مع فلسطين وغزة بسياسة فيها وجهين متناقضين. وثانيهما، مشهد استجد في الأردن وهو خروج الضباط المتقاعدين والملزمين، حتى بعد التقاعد، بقواعد محددة في التصريحات والمقابلات الصحفية، والذين بدؤوا برفع أصواتهم وانتقاد الدور الرسمي الأردني ووجوب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين مدعومين بقضاة في الأردن.
هناك تصريح هام لـ "سنام وكيل" مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا" في تشاتام هاوس، وهي تقود العمل في مشروع "ديناميكيات إيران والخليج العربي"، على منصة X، قالت فيه: "مع أن المنطقة تدندن مع المعزوفة الأميركية، إلا أن فكرة تهميش القضية الفلسطينية هي سراب". ليست أهمية التصريح هي بذاته، لأننا في المنطقة نعرف ذلك وهو جزء من ضميرنا، ولكن الهام بهذا التصريح، هو أن يعترف الأميركي بذلك وأن يقر به من يستمد منهم أصحاب القرار الأميركي النصائح.
مهما كتبنا في نتائج طوفان الأقصى لا يمكن لصفحات قليلة أن تحيط به، ولكن أقل ما يمكن أن يقال فيها، أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى القمة التي تستأهلها، وأنها فضحت الوجه الحقيقي للعالم الغربي عن وحشية الصهيونية العالمية، وفضحت الطغمة الحاكمة من الجماعات المتطرفة التي تدير الكيان وتتحكم بمفاصلها، وأن الحقيقة الثابتة أن الكيان خسر المعركة منذ اليوم الأول وفي الإستراتيجية فإسرائيل مهزومة وانتهت أسطورة أنها جيش لا يقهر، وأن رئيس وزراءه يسير حثيث الخطى نحو السجن أو الإنتحار أو القتل، وفي جميع الأحوال فقد انتهى في الحضيض، وأن صمود الفلسطينيين اسطوري وستكتب فيه ملاحم عبر التاريخ رغم الآلام المبرحة التي يرزخ تحتها، إن فلسطين والمنطقة تولد من جديد ومن رحم الآلام.