عبير بسّام
لا يقف الصهاينة عند حد التعامل مع الحركات الفاشية والنازية، بل إن المؤسسة الصهيونية كانت ترى الأمر أعمق من ذلك، كانت ترى أنه من أجل تحقيق أهدافها في بناء وطن مستقل في فلسطين لابد من القيام أمور هامة: أولها، التضحية بيهود من أجل القضية الكبرى، وثانيها، المقاومة وعدم القبول بالإذعان ومن أجل ذلك بدأ تحضير وتدريب العصابات، والتي تربت على نوع من الشراسة بحيث لا تهتم لقتل أطفال الغوييم وأطفال إليهود إن احتاج الأمر. وثالثها، تغريب إليهود في مجتمعاتهم.
وأما التضحية باليهود فقد كانت برفض الحلول من أجل نقل إليهود إلى اي مكان آمن في العالم يمكن أن ينسجموا فيه في المجتمعات الأخرى، مثل بريطانيا على سبيل المثال. وجمع موقع الحصن، العديد من التصريحات إليهودية الصهيونية التي تتعلق بهذا الأمر، في مقال تحت عنوان "العلاقة الفعلية بين إليهود والنازية"، ونقل كلام بن غوريون في 7 كانون الأول/ ديسمبر، حيث أكد أن المسألة إليهودية لم تعد مشكلة آلاف إليهود المهدّدين بالإبادة وإنما هي مشكلة الوطن القوميّ أو المستوطن الصهيوني، ووجد أن هناك خطورة على المشروع الصهيوني إذا استولت: "الرحمة على شعبنا ووجه طاقاته إلى إنقاذ إليهود في مختلف البلاد فإن ذلك سيؤدي إلى شطب الصهيونية من التاريخ". وفي العام التالي صرح أمام زعماء الصهيونية العالمية: "لو عرفت أن من الممكن إنقاذ كلّ أطفال ألمانيا بإيصالهم إلى انجلترا، في مقابل أن آخذ نصفهم وأنقلهم إلى فلسطين فإني أختار الحل الثاني".
أما اسحاق جرونباوم، رئيس لجنة الإنقاذ في الوكالة إليهودية، فقد ذهب إلى ابعد من ذلك وقال امام اللجنة التنفيذية في 18 شباط/ فبراير 1943، أي في خضم الحرب العالمية الثانية: "إن بقرة واحدة في فلسطين أثمن من كلّ إليهود في بولندا". وأما حاييم وايزمان فكان يرى: "إن العجائز سيموتون، فهم تراب وسيتحملون مصيرهم، وينبغي عليهم أن يفعلوا ذلك". أي أن الصهاينة كانوا قادرين على إنقاذ من سيقوا إلى معتقلات الموت، ولكنهم فضلوا أن لا يفعل ذلك. حتّى أن إميل لودفيج، وهو كاتب يهودي ألماني، رأى أن ظهور النازية دفع بالآلاف من إليهود إلى حظيرة إليهودية مرة أخرى بعد أن كانوا قد ابتعدوا عنها، وقال: "أنا شخصيًا ممتن لهم"، ورأى أن الهتلرية أنقذت يهود ألمانيا، مؤكدًا: "أنا مثل هتلر أؤمن بفكرة الدم". وقد يفهم هذا بمعنى فكرة نقاء الدم، ولكنها أيضًا تعنى بدفع الدم مقابل الحفاظ على نقاء الدم.
وأما أسباب الشقاق بين النازية والصهاينة، فيمكننا فهمه من خلال السياق التاريخي والسياسي للأحداث، التي جاءت خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. إذ وقفت الولايات المتحدة إلى جانب الحلفاء، ضدّ المانيا وروسيا والدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ومن ثمّ وقف الحلفاء ضدّ المانيا وحكومة فيشي في الحرب العالمية الثانية. وخلال فترة الحربين جمع الأميركيون الألمان كالنعاج وأجبروهم على ترك بيوتهم في أميركا، ونقلوهم إلى معسكرات اعتقال، تمامًا كما حدث مع ذوي الاصول الاسيوية بعد قصف بيرل هاربر. وما فعله هتلر، في ألمانيا يتطابق مع الإجراءات الأميركية. إذ جمع إليهود والمعارضين له من جميع الفئات والجنسيات في معتقلات، ليس معلومًا كم كانت حصة إليهود تحديدًا فيها بسبب التعتيم الذي فرضه الغرب والصهاينة تحت شعار معاداة السامية، ولكن اعتقال إليهود كعملاء للصهاينة كان بسبب تعامل إليهود مع البريطانيين وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية. وكما لاحظنا أن شتيرن والآرغون كانوا يدعون لقتال الإنكليز، في ما تعاملت معهم باقي العصابات، وخاصة الهاغاناه، وقاتلت إلى جانبهم ضدّ ألمانيا، وظهر منهم جواسيس كثر لمصالحتها، على الرغم من الدعم الذي تلقته الصهيونية العالمية في ألمانيا والحريات التي منحت لهم كمواطنين ألمان. ودليل ذلك، مطالبة الفرد روزنبيرغ المنظر في الحزب النازي ضرورة مساندة الصهيونية بكلّ نشاط بمبرر: "حتّى يتسنى لنا أن نرسل سنويًا عددًا محدّدًا من إليهود إلى فلسطين، أو على الأقل عبر الحدود".
فسمحت ألمانيا للصهاينة بإصدار المنشورات وجمع التبرعات وتدريب الراغبين بالهجرة على الحرف المختلفة ومنها الزراعة، حتّى أن إدوين بلاك مؤرخ اتفاقية الهعفراه (أي النقل)، قال: "إن الصهيونية هي الفلسفة السياسية المستقلة الوحيدة التي وافق عليها النازيون". وكان هذا الكلام كان في العام 1937. وعلى الرغم من التصريحات الصهيونية المتتالية حول دور الألمان في مساندة الصهيونية، إلا أن الألمان تعرضوا للخيانة خاصة وأن مصلحة الصهيونية كانت تقتضي التعامل مع البريطانيين، الذين كانوا يحتلون فلسطين.
على المقلب الآخر، لم تكن عائلتي روكفلر ودالاس الوحيدتين كعائلات أميركية ومن أصحاب المال والشركات الكبرى التي تعاملت مع النازية، وبحسب السفير الأميركي ويليام دود، الذي شغل منصب سفير أميركا في ألمانيا إبان النازية خلال الأعوام 1933 - 1937، في عهد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت. ونحن نعلم أنه بعد اللقاء ما بين روزفلت والملك عبد العزيز بن آل سعود على إحدى البوارج الحربية الأميركية، أوقف روزفلت القرار بتقسيم فلسطين ومنحها للصهاينة. ولكن المشروع أعيد إطلاقه بعد استلام هاري ترومان، نائب روزفلت، بعد موت روزفلت المفاجئ، والذي كان التقى بحاييم وايزمان أنذاك ووعده بدعم الاعتراف بدولة "إسرائيل". نحن نقول هذا الكلام، لأنه من الواضح أن العائلات المالية والصناعية التي كانت تعمل في ألمانيا إبان النازية كان لديها ضوءًا أخضر من حكومتها لتعمل هناك، وكانت معظم الشركات الكبرى مملوكة لأشخاص عرفوا بتعاملهم مع النازية وبأنهم معادين للسامية وبالتالي فقد تم بعد مرحلة ترومان ابتزاز هؤلاء من أجل دفع الأموال لبناء دولة "إسرائيل" بعد أن تم الاعتراف بها.
بحسب دود، الذي كان مؤرخًا وكاتبًا ليبراليًا وديمقراطيًا، والذي يعرف عنه انه كان معاديًا للسامية، ثمّ غير موقفه بالتأكيد، فإن شركات تصنيع الطائرات الأميركية كانت على علاقة وثيقة مع شركة الصلب الألمانية كروب، من أمثال أي جي فاربن. وقد ذكر موقع القرية الكونية، أن شركات الطيران الأميركية وغيرها لعبت دورًا حاسمًا في تعزيز قوات هتلر العسكرية. وهي شركات اتّهمت في ما بعد بانتهاك حقوق الإنسان واستغلال المعتقلين للعمل في السخرة. كما اعترف دود في مقابلة أجريت معه في العام 1938، بعد مغادرته ألمانيا بأن: "بعض الصناعيين الأميركيين كان لهم دور كبير في تأسيس ودعم الأنظمة الفاشية في كلّ من ألمانيا وإيطاليا، وقدموا لهذه الأنظمة المساعدات للوصول إلى كرسي الحكم ويساعدون على بقائها هناك".
من الشخصيات التي عملت مع النازية وحتّى العام 1942، كان بريسكوت بوش مدير بنك، وكان مساهمًا في شركة تايسن وغيرها. حيث قدم صاحب معمل الصلب الألماني، جوستاف كروب، رجل الأعمال والمال، فريتز تايسن، إلى هتلر. تايسن هو صاحب شركة تايسن للصلب، وكما تم تقديم شخصيات أخرى من أصحاب البنوك مثل هيالمار شاخت. ولكن المهم في قضية تايسن أنه كان على علاقة برجل الأعمال بريسكوت بوش، مدير "مؤسسة الاتحاد المصرفية". وفي مرحلة لاحقة امتلك بريسكوت بوش شركة منفصلة، بحسب موقع "القرية الكونية" وغيرها، وهي شركة الصلب سيليزيا المساهمة المحدودة، وكانت سيليزيا متورطة في أعمال السخرة النازية، وقد حقق بريسكوت بوش أرباحًا هائلة من خلال العمل مع شركة تايسن، التي تبرعت بمئات الآلاف من الماركات لصالح قضية هتلر وشجعت الصناعيين الآخرين على تمويل النازيين. واستطاع بريسكوت والد جورج دبليو بوش الأب، الذي أصبح رئيس أميركا في التسعينات، وجد جورج دبليو بوش الابن الذي أصبح رئيس أميركا في العام 2001. وبذا تمكّن ابن بريسكوت بفضل الأموال التي جمعها والده، جورج الأب، من العمل في مجال النفط منذ أواخر الأربعينات، هذا مع العلم أن بريسكوت بوش أصبح عضوًا في مجلس الشيوخ في العام 1952.
لم يتوقف تعامل الصهاينة مع الفاشيين واليمينين المتطرّف و"المعادي للسامية"، حتّى يومنا هذا. ففي شباط/فبراير العام 2018، أصدرت بولندا قانونًا، يعاقب على الإشارة إلى أي تورط لبولندا في فظائع النازي التي ارتكبت على أراضيها خلال الحرب العالمية الثانية بالسجن دون أن يقيد الأبحاث حول الحرب العالمية أنذاك. القانون أثار قلقًا أميركيًا وغضبًا صهيونيًا، وكانت بولندا أول دولة تشير إلى عدد البولنديين الذين قتلوا على يد النازية وقد وصل عددهم أكثر من مليون ومئتي ألف بولندي. وقال يومها رئيس الوزراء البولندي، ماتيوش مورافيتسكي: " الموت والمعاناة في معسكرات التعذيب النازية الألمانية كانت تجربة مشتركة ليهود وبولنديين وأشخاص من جنسيات أخرى، وبولندا لن تقيد أبدًا الحوار والنقاش حول المحرقة". فالبولنديين لقوا حتفهم على يد النازية وليس إليهود فقط، وهذا ما يحاول كلّ من الأميركيين والصهاينة جعله حقًا حصريًا لليهود في أوروبا، كما أن البولنديين وبحكم معرفتهم بتاريخ بلادهم هم يعرفون عمق العلاقة ما بين الدولة البولندية وما بين تسهيل تهجير إليهود من خلال العلاقة مع المملكة البولندية والتي كانت تتبع سياسيًا للقيصر الألماني. وهنا علينا أن لا ننسى ان معسكرات الاعتقال في أوشفيتز والتي سيق إليها إليهود والغجر وغيرهم من المعتقلين من قبل النازية الألمانية، والتي تحتضن المحارق، بحسب الزعم، تقع في بولندا.
وقد أشار آفي شيلون في مقال نشر في هآرتس عن العلاقة التي ينتهجها نتنياهو منذ العام 2018 في بناء علاقات قوية مع الحركات المتطرّفة والمعادية لليبرالية في أوروبا، واستعرض خلال ذلك العلاقة مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والتي كانت في أفضل حالاتها أنذاك. جنوب إفريقيا التي تحررت من هذا النظام وثارت عليه، وهي التي رفعت دعوى على الجيش الصهيوني بتهمة الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في غزّة. كما أن العديد من النواب اليساريين في الكنيست الصهيوني هاجموا نتنياهو بعد محاولاته التقريب من مجموعة فيشيغراد، والتي تضم كلّ من هنغاريا وبولندا وسلوفاكيا والتشيك، من أجل ان كسب ودها في مواجهة سياسة الاتحاد الأوروبي، ككتلة مؤثرة، عندما تتعلق القرارات بالصراع الصهيوني ــ الفلسطيني، والتي يعتبرها نتنياهو معادية "لإسرائيل" ومنحازة ضدّها. وقد قام نتنياهو في العام 2018 باستقبال فيكتور أوربان، رئيس وزراء هنغاريا، في فلسطين وقام بتكريمه وامتدحه، وأوربان كان قد امتدح ومنح وسام مالطا لزولت باير، المعادي للسامية، والذي مجد وامتدح الحاكم الذي تعاون مع النازيين في إبادة يهود هنغارية، وتاريخه وكتاباته في الصحافة الهنغارية مليئة بالتحريض ضدّ "إسرائيل" واليهود.
يومها انتقد مائير لبيد نتنياهو على استقبال أوربان كما غيره من اليسار الصهيوني، وفي نفس السياق الذي كتب فيه حول علاقة هرتسل بالفاشية وبمن اضطهدوا يهود أوروبا، ينتقد شيلون نتنياهو، مع أن هناك تناقض في مواقفها التي تقف مع "إسرائيل" وتعادي السامية في آن، واعتبر ان "كراهية العرب" هي جزء من معاداة السامية. وخلص شيلون في مقاله حول التعامل مع الحركات الفاشية في أوروبا ومنها، استقبال وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، في 2018، زعيم حزب "رابطة الشمال"، التي تضم اليمين المتطرّف في إيطاليا، وعلى الرغم من معاداة اليمين المتطرّف في أوروبا للسامية، فإن التواصل ما بين زعماء الحركة الصهيونية والمعادين للسامية، "لم تنشأ في زمن نتنياهو، بل هو توجه ناجم عن كون الصهيونية كانت حركة هامشية و" بحثت عن تحالفات بالسراج والفتيلة" بين حكومات تدمج ما بين المعاداة للسامية ومؤيدة لإنشاء دولة الكيان، وهي سياسة راسية في سياقات دينية وتاريخية عميقة وليست مرتبطة فقط بما يسمّى بأزمة الليبرالية".
وبالتالي فهي سياسات انتهازية عرفتها الصهيونية منذ نشأتها وفي توجه داعميها منذ بدأت نشأتها وحتّى الساعة.