أحمد فؤاد(*)
كلام العربي –الحقيقي- عن العراق، غالبًا، يندرج تحت بند العتب الأخوي الصادق، الذي يسعى لنصح الشقيق العزيز والاستفادة الكاملة من إمكانياته، وتحكمنا فيها نظرة العاشق الغيور، يجوز أن أقول أن للعراق بقلبي مثل ما لمصر، ويمكن أكثر، وخيبتنا هنا أشد وطأة و شخصية ومباشرة، من محاولة محور الاعتدال –الخيانة العربي- تغيبب العراق الكبير وعزله.
أي دولة عربية قائدة بقدر العبء وأثقال الدور القومي، مصر- جمال عبدالناصر كانت رائدة لأمتها، وسابقة لخطواتها، طالما كانت في الطريق الطبيعي للأمنيات والبوصلة العربية لشعوبها، أما حين خاصمت أمتها فقد انكفأت وتقزمت وتكاد تتلاشى، تحولت وبلسان الجنرال الذهبي الشهيد عبد المنعم رياض، ونبوءته الصادقة التي تحققت إلى "مرتع للسماسرة نهارًا والعاهرات ليلًا"، -تعير الشهيد النبيل نصًا- لكن العراق قائد دون شروط ولا طموح، الشمس التي يدور حولها الجميع بقوة جاذبية العشق المجرد دون احتياج لوقود، بما يجعلها مركز قيادة عربي ثابت وقائم وشرعي، بأحكام التاريخ التي لا تعرف الأهواء.
ربنا وهب "العراق" السعة في الكرم والحضور والرزق، العراق حرفيا ومجازيا هو "أرض الإيمان".. مأوى الذرية الكريمة وحصنهم، والمذبح المقدس للدماء الزكية والأنفس الطاهرة، وهو يمتلك من الموارد ما كان ليجعله سابقًا قفزة مهولة إلى عصر جديد، وهو يمتلك الآن ما يجعل وجوده في الميدان مكسبًا بطعم آخر، بطعم جنات العراق وأنهاره، بطعم ترابه المقدس، وبطعم تحرير قادم وأكيد، وقد بدأ.
كلنا بدون جهد نذكر العراق يوميا، وبشكل "روحي" غير مقصود ولا محسوس، في الدين والثقافة والوطنية، شئنا أم أبينا هي جذر النور والدين وعنوان الإيمان، أكتر المدن العربية ارتباطًا بالذاكرة وإلهامًا للروح العربية تقع في العراق، وحكاياتنا كلها –حتى الخيالية دارت في بغداد والكوفة وشربت من دجلة والفرات.
الدول العربية كلها يمكن أن يمر أسبوع أو شهر ولا تتابع إلا أخبارها المستفزة عبر أبواق إعلامية يدفع فيها الغالي وتشتري الرخيص، كلها غائبة لولا الخبر، العراق وحده المبتدأ والخبر والجملة المكتملة، هي اللغة بخصوصيتها والكلمة بمعناها ودلالتها والحرف بجلاله وتفرده ورنته البديعة المميزة.
العراق بالنسبة للعالم الإسلامي من ورائها، هي وجهنا نحن وصورتنا، وهي تملك من وسائل التأثير المعنوي والديني والثقافي حيزًا غير محدود وبلا سقوف، في العراق يجتمع العالمين الكبيرين الشقيقين، أمس واليوم وغدًا، وإن أردنا تغييرًا في واقع الأمة العربية، فإننا سنحتاج إلى العراق، أولا وقبل غيرها.
بالإضافة لذلك، من بين كل 4 مسلمين فيه مسلم عربي واحد، وكثافة الكتلة الهائلة الباقية تتركز في آسيا، من إيران حتى إندونيسيا، والعراق على الخريطة هو الجسر والمعبر والفكرة الواصلة بين عالمين، وهي باب الفرص الواسعة لأي مستقبل جيد، العراق وحدها هي بوابة الفرص القائمة والمتاحة، وليست الاحتمالات البعيدة.
العراق كان الجائزة الثمينة في عز المشروع الأميركي لتفكيك دول الطوق العربية وعزلها وتدميرها ذاتيًا، كان تاريخ وصول صدام للسلطة قريبًا من خروج مصر من الصراع، لتكتمل الضربة المروعة في حق الأمة كلها.
ليس هذا وفقط، ولكن حين دفعت أميركا صدام للحرب المجنونة مع الجمهورية الإسلامية, وحشدت خلفه الدعم الغربي العسكري، ووفرت غطاء تمويل هذه الحرب من أنظمة الخليج ومشيخاته! كانت في الوقت ذاته تخرب بوصلة العراق وتبعده عن طريقه العربي، وبعد أن أينع الثمر حان قطافه، فكان هو الآخر مأساة عربية جديدة، سجلت باسم "تحرير الكويت 1991"، ومعها أعلن الشيطان بوش الأب لحظة قيام النظام العالمي الجديد، بقيادة إمبراطوية الشر الأميركية.
وفي العام 2003، وبعد حصار مدمر للشعب العراقي، ونهب ثرواته تحت بند "تكاليف الحرب"، فإن هذا الإنهاك الذي كان مباشرًا على شعب العراق، بينما كان صدام وعائلته يراكمون أموالهم الحرام، ويتاجرون من قصور بغداد في الأغذية والأدوية، ويحولونها إلى الخارج، وهنا يكفي العودة إلى "اعترافات صدام وحسين كامل"، ابني عمومة صدام وزوجي ابنتيه.
كانت مهمة نظام صدام الأساسية هي "تدمير العراق" تمهيدًا لتقديمة قربان على المذبح الأميركي غير المقدس، للحظة ميلاد الشرق الأوسط الجديد، الذي كسره المجاهدون الصامدون، وأساطير بطولتنا، في حزب الله، وأمام العدوان الصهيوني في 2006، والذي كان الخطوة الأخيرة لتركيع الأمة كلها، ومرة واحدة، وإلى الأبد، وأن تقبل "العصر الإسرائيلي"، ومن رفض فإن مصير صدام كان كافيًا لتهتز ركب الحكام العرب وترتعش مفاصلهم، وكان مقدرًا لهم التسليم في العراء.
العراق في عز السقوط والهزيمة لا يموت، يوم سقوط بغداد كان هو نفسه يوم بعث المقاومة من بين الركام والأنقاض، وفي مواجهة "داعش الأميركية" كان ميلاد "حشدنا الشعبي" الحقيقي، الذي كنسها إلى مزابل التاريخ في أيام، بعد أن كادت تعصف بثلث البلد، على أقل تقدير، وكان الإعلام الخليجي والمصري يمارس معها بالضبط الفجور الذي يمارسه لصالح العدو الصهيوني, في معركة طوفان غزة.
لماذا العراق الآن؟
العراق برجاله ورسالته وما بذله بإخلاص، في القديم والحاضر، يخبرنا بأنه بلد قادر على قهر الموت، هو الشهادة والروح الإلهية غير القابلة للخضوع أو التسليم، يسقط أمام المغول فيقوم، ويذبحه "اليانكي" فيحقق أسرع عملية تحرير لبلد عربي، وأكثرها مهانة لأسطورة السلاح الأميركية.
لكي تذكر أية دولة عربية، يلزمك اختراع خصوصية –مزيفة وكاذبة- كي نشعر بوزن زائد لها، أو نقر لها بدور مؤثر وفارق في كل عالمها العربي أو الإسلامي الأوسع، العراق وحده هو الإطار اللي يجد فيه الكل الاجتماع والبوصلة، عراق علي والحسين وزينب، عراقنا وقبلة قلوبنا وأبصارنا.
..
"الحشد الشعبي" قدم في معركة طوفان الأقصى الكثير والكثير جدًا، من قدم الشهيد والدم الزكي في معركتنا طرف صادق مبدئيًا، إذ ليس كمثل الدم شيء، والكلمة هذه اللحظة، كما قالت المقاومة الفلسطينية البطلة، تستوجب استدعاء قصص النبل والكرامة، لأناس رفضوا أن تداس مقدساتهم وأهليهم وأخوانهم، وأقدموا على تدفيع الثمن للأميركي مباشرة، ويوميًا، قيامًا بحق الأخلاقية والشر والدين، هؤلاء من يجب أن نخرجهم من مسطرة الحساب العليلة لأنظمة خانت وتخون وستخون، وهي لا تملك أمام جماهير غاضبة وناقمة إلا أن تكرر أحقر كذبة في التاريخ الإسلامي "قتله من أخرجه"، وكأن المقاومة وليس الاستعمار أصل الشرور!
..
تحية عربية وإنسانية واجبة على كل حر، وكلمة تسد جزءًا من دين "الحشد الشعبي" وموقفه النبيل، تحية لمن عرف أن القلة المجاهدة الصابرة منتصرة، بوعد الله، فكانت في أول الصفوف، تحية طيبة مباركة لمن فعلوا ما فعلوه قيامًا بحق الله في أخوانهم المستضعفين في غزة، تحية لمن لا يهابون شيئًا إلى الله تعالى، رغم دمائهم السيالة منذ عقود، بتغطية عربية سافلة، ويخوضون مع حربهم الحالية نصال الخيانة ذاتها.. بوركتم وبوركت سواعدكم وقلوبكم.
(*) كاتب مصري