جورج حداد
بعد انتخابه رئيسا اصيلا للفيدرالية الروسية في مطلع سنة 2000، وفي معرض تقييمه للتجربة المريرة للشعب الروسي في "الحرب الوطنية العظمى" (الحرب العالمية الثانية) قال بوتين:"اننا لن نكرر ابدا خطأ انتظار تلقي الضربة الاولى من المعتدين!".
وفي 21 شباط 2022، وبعد ان حصل الرئيس بوتين على دعم مجلس الدوما (البرلمان) الروسي، بما في ذلك دعم المعارضة الوطنية، دخل الجيش الروسي منطقة الدونباس، وبدأت في 24 شباط ما سمي "العملية العسكرية المحدودة" بهدف «تجريد أوكرانيا من السلاح واجتثاث النازية منها». واطلق هذا التوصيف للعملية العسكرية الروسية بهدف "تطمين"" الكتلة الناتوية بأنها ليست هي المقصودة بهذه العملية. وان الهدف يقتصر على الدفاع عن السكان الروس والناطقين بالروسية في شرق وجنوب شرق اوكرانيا، الذين كانوا يتعرضون لحملة ابادة حقيقية طوال الثماني السنوات السابقة، حيث كان النظام الانقلابي ــ النازي الموالي للامبريالية الغربية يقصف يوميا، بالمدفعية الثقيلة والصواريخ، الساحات العامة والاسواق الشعبية والمعاهد والمستشفيات والمجمعات السكنية وغيرها من البنى التحتية والبنى المجتمعية المدنية، ويحول الى جحيم حياة الناس في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيه وجنوب شبه جزيرة القرم.
ولاجل "تشجيع" مراكز القرار الاميركية خاصة والناتوية عامة على الاقتناع بجدية و"محدودية" العملية العسكرية الروسية التي بدأت في اوكرانيا، وقبل ان يجتاز اول جندي روسي "الحدود الدولية" الروسية ـــ الاوكرانية، اعلنت القيادة الوطنية الروسية الاستنفار العام والجهوزية التامة 24\24 لجميع القوات النووية الروسية، الصاروخية، الارضية والجوية والفضائية والبحرية، لتوجيه الضربة النووية الاولى، في اي لحظة يصدر فيها الامر الاخير بكلمة "اطلق" او "اطلاق" ("بوسك" PUSK بالروسية)، والتي ستكون ضربة ساحقة وماحقة لجميع مراكز القرار الناتوية في اميركا واوروبا وجميع القواعد العسكرية والاساطيل الحربية للامبريالية الغربية وحلفائها في اربع زوايا الارض وفي جميع البحار والمحيطات. وطبعا تم إبلاغ قرار الاستنفار النووي الروسي لجميع الاصدقاء والاعداء المفترضين، بالقنوات الخاصة في مثل هذه الحالة.
ولكن في الواقع فإن العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا هي اكثر بكثير من "عملية عسكرية محدودة". ويمكن القول انها كانت "فاتحة" او مقدمة لحرب طويلة الامد مع الكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية، انطلاقا من رؤية جيوستراتيجية شاملة بعيدة المدى، تهدف الى تقويض واسقاط النظام الامبريالي الغربي ــ اليهودي العالمي، مرة والى الابد. وتنبني هذه الرؤية على ركيزتين اساسيتين، تدخلان في صلب العقيدة العسكرية الروسية، وهما:
الاولى ــ إما ان يكون النصر لروسيا، في الحرب بكل الاسلحة الكلاسيكية "غير النووية".
والثانية ــ وإما ان تبادر روسيا لتوجيه الضربة النووية الشاملة الاولى (والاخيرة!) في حال تعذر الانتصار الروسي بالاسلحة "ما دون النووية" ونشوء خطر اقدام اميركا والناتو على استخدام السلاح النووي.
ولفهم طبيعة ومضاعفات والنتائج المرتقبة لهذه الحرب، من الضروري الاضاءة على المسارات الرئيسية لها، عبر ومن خلف تعقيداتها الشديدة. ونحاول ان نلخص ذلك فيما يلي:
XXX
التطلعات الجيوسياسية
للقيادة الوطنية الروسية:
في المحيط الجغرافي لروسيا يمكن التمييز بين ثلاث فئات مناطق تختلف نوعية الاهتمام الروسي بها، وهي:
الفئة الاولى ــ مناطق (ودول) كانت، حتى قيام الثورة الاشتراكية في روسيا في 1917، جزءا لا يتجزأ من اراضي الدولة الروسية القديمة، وترتبط جغرافيا وسياسيا واداريا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا بها. وتشمل هذه الفئة: جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، واوكرانيا وفنلندا وبولونيا، وارمينيا التاريخية الكبرى (الجمهورية الارمنية الحالية، وشرق وجنوب شرق تركيا الحالية، اي المناطق التي تمت فيها ابادة الارمن في 1915ــ1922 واحلال الاتراك والاكراد محلهم). وفي العهد السوفياتي شكلت غالبية هذه الفئة المناطقية (باستثناء شرق وجنوب شرق تركيا الحالية) اجزاءً من الاتحاد السوفياتي، ولكن بصيغ مختلفة لكل منها.
والقيادة الوطنية الروسية تطمح الى استعادة هذه المناطق (الروسية تاريخيا)، ولكن ليس كجزء من "اتحاد سوفياتي" جديد، بل كجزء من "الاتحاد الروسي" اي "الجمهورية الفدرالية الروسية" الحالية، مع منح "الاستقلال الذاتي" (authonomy) للمناطق التي تتوفر فيها الشروط الموضوعية لذلك.
الفئة الثانية ــ منطقة البلقان و"اوروبا الشرقية" التي دخل اغلبها الجيش الاحمر (الروسي ــ السوفياتي) خلال الحرب العالمية الثانية، متكبدا مئات الوف بل ملايين الشهداء والجرحى والمصابين، لتحريرها من المحتلين النازيين الالمان.
وبعد الحرب، وبالرغم من وضعه الاقتصادي الصعب جدا وحاجته هو نفسه الى المساعدة، فقد قدم الاتحاد السوفياتي، وبالاخص روسيا، مساعدات كبرى لهذه البلدان، لاعادة بناء اقتصادياتها ونهضتها العمرانية والثقافية.
ولا بد من الاخذ بالاعتبار، تاريخيا ومنطقيا وحضاريا وسياسيا، ان الغالبية الشعبية في هذه البلدان هي ــ كالشعب الروسي ــ سلافية الاصل القومي، وتكتب بالحرف "الكيريلي" السلافي، وتتكلم لغات مشتقة من اللغة السلافية القديمة، كما هي اللغة الروسية. كما ان القسم الاكبر من هذه الشعوب ينتمي الى المسيحية الشرقية (الاورثوذوكسية) مثلما الشعب الروسي.
وانه لمن المهازل التراجيدية ان تتوجه هذه البلدان للانضمام الى "الاتحاد الاوروبي" و"حلف الناتو"، ضد روسيا، بفعل عوامل الفساد والخيانة الوطنية للنخب السياسية التي تتحكم بمصائر شعوب هذه المنطقة.
والدولة الوطنية الروسية (ذات الاغلبية السلافية ــ الاورثوذوكسية) تطمح لان تكنس شعوب هذه المنطقة قشرتها النخبوية السياسية، الفاسدة والخيانية، التي هي امتداد للبيروقراطية "الاشتراكية" المزيفة السابقة، الستالينية والنيوستالينية. وهي ــ اي الدولة الوطنية الروسية ــ تطمح لان تستعاد، بشروط جديدة ومستويات اعلى، العلاقات الاخوية والصداقة الحقيقية بين الشعب الروسي والشعوب الشقيقة في هذه المنطقة.
والفئة الثالثة ــ هي ما درجت تقليديا تسميتها "اوروبا الغربية"، وهي تشمل: بلدان اوروبا الوسطى والشمالية والجنوبية والغربية. وابرز دول هذه المنطقة هي: المانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا وبريطانيا ودول الشمال السكندينافية.
وفي مطلع القرن الثامن عشر بنى القيصر بطرس الاكبر مدينة (سانت بيتربورغ = بتروغراد)، على مصب نهر نيفا على ساحل بحر البلطيق، وجعلها عاصمة روسيا بدلا من موسكو، كي تكون "نافذة" للتفاعل الحضاري مع اوروبا، عملا بالمعادلة القائلة: ان اوروبا (مع) روسيا هي كل شيء؛ اما اوروبا (بدون) روسيا فهي لا شيء. (مساحة اوروبا بدون القسم الاوروبي الروسي هي اقل من 30% من اجمالي مساحة الدولة الروسية "الاوراسية" الحالية).
وفي المرحلة الاخيرة من الحرب العالمية الثانية وصل الجيش الاحمر (الروسي ــ السوفياتي) الى برلين وطوقها وهاجمها. وكانت معركة تحرير برلين من اكثر المعارك دموية في الحرب. ولكن الجيش الاحمر تمكن من تحرير برلين وتجاوزها بمئات الكيلومترات. وبلغت خسائره في تلك المعركة التاريخية الفاصلة اكثر من 80 الف جندي قتيل، و280 الف جريح ومريض. ولكنه حقق النصر المنتظر على النازية، وفرض الاستسلام بدون قيد ولا شرط على الجيش الالماني النازي في 9 ايار 1945، بعد ان انتحر هتلر وغوبلز. وبتحرير برلين، تحررت تلقائيا كل اوروبا، بفضل التضحيات الكبرى للشعب الروسي والشعوب السوفياتية الاخرى، والتي بلغت اكثر من 29 مليون قتيل، واضعافهم من المفقودين والاسرى والجرحى والمصاين، حسب اغلب الاحصاءات التاريخية. وبعد تحقيق النصر، نشأت ــ نظريا وواقعيا ــ امكانية ان يرسل الجيش الاحمر فرقا رمزية الى عواصم جميع الدول الاوروبية، لمشاركة جميع الشعوب الاوروبية بالاحتفال بالنصر على النازية، ووضع الاسس لعلاقات الاخاء والصداقة والتعاون اللاحق بين روسيا والاتحاد السوفياتي وبين جميع الشعوب والدول الاوروبية.
ولكن كان قد سبق الانتصار النهائي على النازية ان خائن الشيوعية ومغتصب السلطة السوفياتية، العدو اللدود للشعب الروسي، الشوفيني الجيورجي يوسف فيساريونوفيتش دجوغاشفيلي (ستالين)، كان قد اقدم على توقيع "اتفاقية يالطا"، التي تقصر النفوذ السوفياتي على مناطق شرق اوروبا التي وصلها الجيش الاحمر، وتطلق يد الامبريالية الاميركية في الهيمنة على اوروبا وبقية ارجاء العالم، وهو ما سمي "العالم الحر".
وتم التوقيع على تلك الاتفاقية من وراء ظهر الحزب الشيوعي السوفياتي، ومن وراء ظهر الشعب الروسي؛ وهي تتناقض تماما مع "الثقافة الاممية" والتحررية، الثابتة والصادقة، للشعب الروسي.
ولتبيان مدى خطورة التزام القيادة الستالينية والنيوستالينية (اولا: الخروشوفية، واخيرا: الغورباتشوفية ــ اليلتسينية) بتلك الاتفاقية، نذكر الوقائع التاريخية التالية:
ــ*ــ معارضة ستالين والستالينيين استلام الحزب الشيوعي الايطالي للسلطة في ايطاليا، في 1945 ــ 1947، مع ان الشيوعيين كانوا هم عماد مقاومة الفاشية في ايطاليا، وهم الذين قبضوا على بنيتو موسوليني واعدموه وعلقوه من رجليه لعدة ايام في احدى الساحات الايطالية.
وكانت حجة تبرير هذه المعارضة من قبل الستالينيين هي: عدم زعزعة العلاقات الجبهوية مع "الاشتراكيين الدمقراطيين" و"المسيحيين الدمقراطيين" وغيرهم من "الدمقراطيين".
ــ*ــ وبالحجة ذاتها عارض ستالين والستالينيون، في 1945 ــ 1947، القيام بثورة اشتراكية جديدة ("كومونة باريس" ثانية) واستلام الحزب الشيوعي للسلطة في فرنسا، مع ان الشيوعيين الفرنسيين كانوا هم ايضا عماد المقاوممة الشعبية الفرنسية ضد الاحتلال النازي والمتعاونين معه (الفيشيين). وقد اتهم السنالينيون هذا التوجه الثوري بــ"الطفولية اليسارية"، و"التروتسكية"، و"التآمرية البلانكية" (لويس أوغوست بلانكي (1805 ــ 1881) مفكر "شيوعي طوباوي" فرنسي، شارك في ثورتي 1830 و1848، وحُكم مرتين بالاعدام وقضى اكثر من نصف حياته في السجن. وقد طرح بلانكي فكرة ان الثورة يمكن القيام بها من قبل مجموعة صغيرة منظمة، تعتمد خطة التآمر والانقلاب المسلح، بمعزل عن الاغلبية الشعبية، وربما ضدها. وهذا ما قامت به الزمرة البعثية الصدّامية في العراق، مثلا، وانتهى بها المطاف لان تصبح العوبة ومطية للدوائر الامبريالية الاميركية ومخابراتها).
ولاحقا، في 1954 ــ 1956، عارض النيوستالينيون (الخروشوفيون) ثورة التحرر الوطني في الجزائر، متهمين اياها بالرجعية الدينية (الاسلامية)، والعنصرية الشوفينية (العربية)، ومعاداة الاممية والاشتراكية، والنزعة الارهابية. وبرروا حينذاك تلك المعارضة، بأن تحرير الجزائر وغيرها من المستعمرات، ينبغي ان يتم بعد انتصار الثورة الاشتراكية في المتروبول، اي في فرنسا. اي ان البيروقراطية "السوفياتيةّ!" (الستالينية والنيوستالينية) كانت تعارض الثورة الاشتراكية في فرنسا، وتعارض ثورة التحرر الوطني في الجزائر والمستعمرات بحجة انتظار انتصار الثورة الاشتراكية في فرنسا. وهكذا بين هذه المواقف المتناقضة في الظاهر، الستالينية والنيوستالينية، انطبق عمليا المثل الشعبي اللبناني: "خبز مقسوم لا تأكل، ورغيف خبز كامل لا تقسم، وكول تا تشبع".
ــ*ــ وفي 1946 ــ 1947 تخلى ستالين والستاينيون عن "الجمهورية السوفياتية الاذربيجانية" (في اذربيجان الايرانية)، وعن "جمهورية مهاباد ادمقراطية الكردية" (في كردستان الايرانية)، تاركين الحركة التحررية الايرانية تحت رحمة المستعمرين الانكليز ونظام الشاه المرعوب والمتوحش.
ــ*ــ بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917، فإن السلطة السوفياتية الجديدة هي التي فضحت "اتفاقية سايكس ــ بيكو" (وملحقها المكمّل: "وعد بلفور")، ووصفتها بانها "اتفاقية لصوصية استعمارية". ولا تزال هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى الان، في الواقع الجيوسياسي العربي والاحتلال الصهيوني لفلسطين والاراضي العربية المحتلة الاخرى.
وحتى الحرب العالمية الثانية فإن "الكومنترن" (الاممية الشيوعية) وقف ضد النازية، كما ضد سياسة العداء لليهود وابادتهم؛ ولكنه في الوقت ذاته وقف بصلابة ضد الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية الى فلسطين واقامة "الوطن القومي اليهودي" الاستيطاني ــ الاستعماري، بدعم ومساندة الدول الاستعمارية وخاصة بريطاننيا التي حصلت من "عصبة الامم" على "حق" "الوصاية" و"الانتداب" على فلسطين.
ولكن بعد توقيع "اتفاقية يالطا"، والتزاما بها، فإن ستالين والستالينيين، بمن فيهم الستالينيون العرب وعلى رأسهم البكداشيون في الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، انقلبوا 180 درجة، وايدوا في 1947 قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين واقامة الدولة اليهودية على الاراضي الفلسطينية المغتصبة، وتمزيق النسيج الاجتماعي العربي في فلسطين وتهجير مئات الوف المواطنين الفلسطينيين المسالمين. ومن اوقح واحقر الحجج التي استند اليها ستالين والستالينيون لتبرير هذا الموقف الخياني للمبادئ الاشتراكية وللقضية الوطنية الفلسطينية والعربية، هي حجة "التحرر!" من "الانتداب البريطاني". ولم يقتصر هذا الموقف الخياني على الدعم السياسي فقط. ونذكر هنا انه في اعقاب الهدنة الاولى في مسرحية حرب 1948 ــ 1949، فإن الطائرات الحربية الاولى التي استخدمتها القوات اليهودية ضد الجيوش العربية كانت طائرات "تشيكوسلوفاكية" ارسلتها الحكومة الشيوعية التشيكوسلوفاكية لليهود، بأمر من ستالين. كما صدرت الاوامر الستالينية بتسفير الشيوعيين اليهود في اوروبا الشرقية واوكرانيا وجزئيا في روسيا، الى فلسطين للقتال الى جانب مشروع اقامة الكيان الصهيوني، على زعم ان هذا الكيان سيتحول الى "دولة اشتراكية" تؤسس لانتصار الاحزاب الشيوعية الستالينية و"الثورة الاشتراكية" في مختلف البلدان العربية.
وحينها كان القائد الشهيد فرج الله الحلو على رأس الحزب الشيوعي في لبنان، فعارض موافقة المندوب الستاليني على قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين واقامة الدولة الصهيونية. فعمد بكداش واذنابه البكداشيون الانتهازيون الى عزله من قيادة الحزب، واذلاله، واجباره على "جلد نفسه"، وكتابة "رسالة تقد ذاتي!" مذلة، المعروفة باسم "رسالة سالم" في الارشيف الحزبي.
ان هذا الموقف "التمردي" لفرج الله الحلو مثل "نقطة سوداء" في سجل تاريخه الحزبي.
وبالاضافة الى موقفه من "الوحدة السورية ــ المصرية"، المغاير لموقف بكداش والبكداشيين والبيروقراطية "السوفياتية" النيوستالينية (الخروشوفية)،
وبالاضافة الى موقفه من "الوحدة السورية ــ المصرية"، المغاير لموقف بكداش والبكداشيين والبيروقراطية "السوفياتية!" النيوستالينية (الخروشوفية)، كان موقف فرج الله الحلو التمردي من مسألة تقسيم فلسطين، من الاسباب التي "اقنعت!" القيادة البكداشية واذنابها في الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، لاجل المشاركة مع المخابرات "الوحدوية" بقيادة عبدالحميد السرّاج في مؤامرة اعتقال فرج الله الحلو وقتله تحت التعذيب في حزيران 1959. وهناك معلومات ان الضباط القتلة الصغار الذي تولوا اعتقال وتعذيب وقتل فرج الله الحلو كانوا ضباطا بعثيين. وبعد انفراط الوحدة السورية ــ المصرية في ايلول 1961، تم اعتقال أولئك الضباط المجرمين وصدرت ضدهم احكام مخففة جدا. وفي اذار 1963 وقع الانقلاب البعثي الذي عمد فورا الى "تبرئتهم" والافراج عنهم، وهو ما يرمي في مزبلة التاريخ كل تأويل بأن اولئك الضباط الفاشست ارتكبوا جريمتهم "تنفيذا للاوامر" و"بحكم الوظيفة" فقط.
ــ*ــ في 1952، وخلال الاصطدام بين الانقلابيين العملاء بقيادة الجنرال زاهدي ضد حكم الزعيم الوطني الايراني محمد مصدق، وقف الستالينيون "على الحياد!"، بحجة ان ذلك الصراع هو صراع بين اجنحة الطبقة البرجوازية، المعادية كلها للجماهير الشعبية(!). وبعد انتصار الانقلاب الاميركي ضد مصدق، فإن الحكم الدكتاتوري للشاه والجنرال زاهدي كافأ الستالينيين على موقفهم "الحيادي!" بسحق الحزب الشيوعي الايراني واعدام مئات الضباط الشيوعيين رميا بالرصاص.
ــ*ــ وفي 1962 ــ 1963 رفض النيوستالينيون (الستالينيون السابقون) فرض مشاركة الحزب الشيوعي في الحكم في عهد عبدالكريم قاسم في العراق. وهذا ما فتح الطريق لمجيء حزب البعث الصدّامي الى الحكم "في قطار اميركي" (كما قال علي صالح السعدي لاحقا)، مما جلب الويلات للدولة والشعب العراقيين، بما لا مثيل له في كل تاريخ العراق.
ويمكن ايراد الكثير جدا من الامثلة عن السلبيات والنتائج الكارثية لسياسة الالتزام الفعلي للبيروقراطية "السوفياتية!" الستالينية والنيوستالينية (اولا الخروشوفية، واخيرا الغورباتشوفية ــ اليلتسينية)، بـ"اتفاقية يالطا"، والذي استمر طوال "المرحلة السوفياتية"، واسهم في النهاية في تقويض "المنظومة السوفياتية" السابقة، وتفكيك وإسقاط الاتحاد السوفياتي ذاته.
والقيادة الوطنية الروسية الحالية، ومعها كل الشعب الروسي، تطمح لان تغير جذريا الموقع او التموضع الجيوسياسي الحالي لاوروبا، واجتذابها الى المفهوم الجيوسياسي الاوراسي، الذي يضطلع الان "المحور الشرقي" الجديد، المؤلف من روسيا والصين وايران، بدور محركه الرئيسي، والذي يعمل بشكل حثيث على تحرير العالم من نظام الاحادية القطبية والهيمنة الامبريالية الاميركية، والانتقال الى اعادة بناء نظام عالمي جديد، قائم على التعددية القطبية المفتوحة لكل شعوب ودول العالم، والتعاون بين جميع الدول، والتآخي والتفاعل الحضاري بين جميع شعوب العالم.
وفي التعامل مع اوروبا تنطلق القيادة الوطنية الروسية من مفهوم جبوسياسي رئيسي هو: ان أوروبا تتكون من شعوب وامم عريقة حضاريا وذات اسهامات كبرى في تقدم المجتمع البشري. ولكنها في الوقت عينه ذات تقاليد طبقية استغلالية، وصليبية، واستعمارية، وشوفينية، وصولا الى النازية والتمييز العنصري، وهي التقاليد التي عطلت ولا تزال تعطل الدور الحضاري العريق للشعوب والامم الاوروبية. وفي عصرنا الراهن ترتكز تلك التقاليد على التبعية الاوروبية للهيمنة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية.
فلاجل تحرير اوروبا من التقاليد الصليبية والاستعمارية والعنصرية البالية، ينبغي تقويض النظم المالية ــ الاقتصادية ــ السياسية ــ العسكرية الاوروبية، القائمة على التبعية للامبريالية الاميركية ــ اليهودية، والمتجسدة بشكل خاص في حلف الناتو العسكري. وقد بدأت الحرب في اوكرانيا تعطي نتائجها على هذا الصعيد.
وتظهر الان ما سميت تلطيفا "العملية العسكرية المحدودة" او واقعيا "الحرب المفتوحة" الروسية في اوكرانيا، بوصفها تحديا مصيريا ليس فقط للنظام ــ الدمية العميل الاوكراني، بل ولحلف الناتو بمجمله وعلى رأسه الادارة الاميركية واليهودية العالمية.
XXX
الامساك بزمام المبادرة العسكرية:
ان الامساك بزمام المبادرة العسكرية، بما تتضمنه من امتلاك عنصر المباغتة وافضلية توجيه الضربة الاولى في كل مرحلة من مراحل الحرب، هو من اهم العوامل لكسب الحرب.
وعشية بدء "العملية العسكرية المحدودة" الروسية، كان حلف الناتو العدواني قد حشد سرا وعلنا حوالى 500 الف جندي وضابط ناتوي (من مختلف البلدان) ومنهم حوالى 70 الف اميركي، من جميع انواع الاسلحة، بما فيها النووية، الصاروخية والطيرانية، في البلدان المحاذية او القريبة جدا من الحدود الروسية (دول البلطيق، بولونيا، مولدوفا، رومانيا، بلغاريا وغيرها). واستُقدمت السفن الحربية والغواصات الناتوية الى بحر البلطيق والبحر الاسود. كما تجمعت السفن الحربية والغواصات الناتوية ولا سيما الاميركية في بحور الشمال والشرق الاقصى، مشكّلة طوقا حربيا حول روسيا. وتلاحقت المناورات في كل هذه المناطق، تحت تسميات وعناوين "هجومية" مكشوفة، في ما يحاكي هجوما على الاراضي الروسية. وشُرع في تسليح وإعداد الجيش الاوكراني كي يضطلع بدور "الاداة الاولى" او "مخلب القط" في العدوان على روسيا بحجة "تحرير" شبه جزيرة القرم، التي استعادتها روسيا الى الوطن الام بعد الانقلاب النازي والموالي للغرب في كييف في 2014.
واخذت كل القرائن تشير الى ان العدوان الناتوي على روسيا اصبح وشيكا جدا، وهو سيقع بين يوم وآخر وحتى بين ساعة واخرى. وفي هذه الحالة، فإن المبادرة العسكرية كانت ستكون في قبضة القيادة الاميركية ــ الاوروبية الغربية للناتو، من حيث النطاق الجغرافي للعدوان، ونوعية الاسلحة، والاهداف الستراتيجية العسكرية والسياسية. وكان على القيادة السياسية والعسكرية لروسيا ان "تتحزّر" حول كل ذلك، للرد على العدوان في المكان والزمان والاسلحة المناسبة، بما في ذلك تحضير المجتمع المدني الروسي للواقع الحربي الجديد. اي ان روسيا كانت ستلعب دور "رد الفعل" بمواجهة "الفعل" الناتوي، بكل ما يعنيه ذلك من خسائر اضافية، ماديا وعسكريا ولوجستيا واقتصاديا وجغرافيا وبشريا، لاجل "استيعاب" الهجوم الناتوي والرد عليه بالشكل والزمان والمكان والاسلحة المناسبة.
من هنا كان القرار الحكيم للقيادة الوطنية الروسية، ومعها المجتمع الوطني الروسي بكل اطيافه السياسية والدينية والقومية، "الموالية" والمعارضة للسلطة، باجتياز الحدود الروسية ــ الاوكرانية وشن ما سمي "العملية العسكرية المحدودة". وقد عطلت هذه "العملية المحدودة" كل المخطط العدواني الناتوي المحضّر سلفا؛ واربكت واوقعت البلبلة في صفوف جميع مراكز القرار الناتوية، بما فيها خصوصا القيادة السياسية و العسكرية الاميركية، التي صار لزاما عليها ان تعيد النظر في كل مخططات المواجهة مع روسيا (التي هي ثانية اعظم قوتين نوويتين على الكرة الارضية)، وذلك ليس في ظروف شبه "عادية" لـ"الحرب الباردة" الجديدة، بل تحت وقع انفجارات القنابل والصواريخ، وفي ظروف الحرب الساخنة، بالاسلحة الكلاسيكية، التي قد تنقلب في اي لحظة الى حرب نووية محدودة او شاملة.
وعلى الفور توضح تماما ان الحرب التي اندلعت في اوكرانيا بمبادرة من روسيا، ليست حربا روسية ــ اوكرانية، بل حرب عالمية على الساحة الاوكرانية (حتى الان) بين روسيا وبين الناتو والكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية.
وكل مجرى التاريخ العالمي بمجمله لم يعد، بعد بدء العملية العسكرية الروسية المحدودة في 24 شباط 2022، كما كان من قبله. فكل الاحداث والتطورات الهامة، على النطاق العالمي، اصبحت ترتبط، ضمنا او مباشرة، بما يدور في ميادين الحرب في اوكرانيا (حتى الان). وموسكو هي التي تضبط ايقاعات هذه الحرب. ولم يعد اي محلل جيوسياسي عالمي يحتاج الى كبير جهد، كي يكتشف انه اذا كانت مقاييس التوقيت الزمني تضبط على ايقاع ساعة "بغ بن" في لندن، فإن الايقاع الجيوسياسي والجيوستراتيجي والجيواقتصادي للعالم اجمع اصبح يضبط على ايقاع ساعة الكرملين المطلة على "الساحة الحمراء" في موسكو، التي احتفظت بتسميتها "الحمراء"، بالرغم من كل عاديات الزمان.
XXX
التوسيع الجغرافي والتصعيد العسكري، التدريجيان، للحرب:
ومنذ الساعات الاولى لاندلاع الحرب في اوكرانيا اتضح وتأكد تماما ان الجبهة المعادية التي تقف ضد روسيا تتمثل في حلف الناتو ومجمل الكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية بقضها وقضيضها، وليس فقط نظام كييف العميل، الذي هو ليس اكثر من اداة لتلك الكتلة. ومن ثم فإن الحرب القائمة هي فعلا وقولا حرب عالمية بين روسيا والناتو والكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية بمجملها.
وفي هذا السياق ينبغي التأكيد بشدة على عدة مسائل في غاية الاهمية، وهي:
أ ــ ان العمق الستراتيجي (جغرافيا) للجبهة المعادية هو واسع جدا ويمتد من اوروبا الى اسرائيل الى اميركا الشمالية واوستراليا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، بكل ما بين هذه الاقاليم من بحور ومحيطات العالم. وهذا ما يجعل الحركة العسكرية الروسية، بالاسلحة الكلاسيكية، في منتهى الصعوبة، في حال التوسيع المفتوح لميادين القتال.
ب ــ ان اجمالي اقتصادات الكتلة المعادية لروسيا هو اكبر بعشرات المرات من الاقتصاد الروسي. وهو ما يمكّن الكتلة المعادية من تجنيد مئات الالوف بل وملايين المقاتلين المرتزقة من كافة ارجاء العالم، ونشرهم وتنقيلهم واستخدامهم في مختلف الميادين.
ج ــ ان الميزانيات الحربية لاميركا ودول الناتو وحلفائها الرئيسيين (خصوصا اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية واسرائيل) هي اكبر بـ25 ــ 30 مرة واكثر من الميزانية الحربية الروسية. وبالتالي فإن القدرات التسليحية للناتو وحلفائه الرئيسيين هي أضعاف القدرات التسليحية الروسية، إن بالسلاح "كميا!"، او بالجيوش "عدديا!".
وكل ذلك يعني:
1 ــ ان احتمال فتح معركة على نطاق واسع جغرافيا، سيمكّن الجبهة المعادية من الاستفادة القصوى من التفوق العسكري، التسليحي واللوجستي والعددي. ولما كانت القيادة الوطنية الروسية والشعب الروسي بأسره لن يسمحا بأية حال من الاحوال بهزيمة روسيا، فهذا يعني ان القيادات السياسية والعسكرية الروسية كانت ستضطر للجوء الى استباق الامور، وتوجيه الضربة النووية الاولى (والاخيرة!) للجبهة الواسعة للاعداء، من اوروبا الى اميركا الى الشرق الادنى والشرق الاقصى. وهو "الحل النهائي" الذي تتجنب القيادة الوطنية الروسية اللجوء اليه، الا في حالة الاضطرار القصوى، وكبديل حتمي عن الهزيمة المحتملة في الحرب بالاسلحة الكلاسيكية، بما فيها الاسلحة الحديثة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، في حال اتسع مسرح العمليات الحربية على نطاق عالمي واسع جدا، مما يمكّن الجبهة المعادية من استخدام كافة انواع الاسلحة بكثافة كبيرة جدا تتفوق فيها على القوات الروسية.
ولاسباب سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية عديدة (ومنها: الانقلاب الفاشي الموالي للامبريالية والصهيونية في كييف سنة 2014، قرب الحدود الاوكرانية من موسكو وما يمثله ذلك من تهديد للعاصمة الروسية، مرور انابيب الغاز الروسية عبر الاراضي الاوكرانية، وجود اسطول البحر الاسود الروسي في سيباستوبول في شبه جزيرة القرم التي كانت حتى سنة 2014 تعتبر دوليا تابعة لاوكرانيا، وجود ملايين المواطنين الروس والناطقين بالروسية على الاراضي الاوكرانية وتعرضهم لحملة ابادة منهجية بعد انقلاب 2014، وضرورة الدفاع عنهم، وغير ذلك من الاسباب) وجدت القيادة السياسية والعسكرية الوطنية الروسية ان اوكرانيا هي افضل ساحة حرب في المرحلة الراهنة لخوض اولى المعارك العسكرية الكبرى ضد حلف الناتو والكتلة الموالية للامبريالية الاميركية. وحينما كانت المخابرات الاميركية والاسرائيلية والناتوية عموما تحيك المؤامرات وتحضّر جيش المرتزقة والفاشيين الاوكرانيين للاضطلاع بدور مخلب القط في العدوان واسع النطاق الذي كان يجري الاعداد له على قدم وساق ضد روسيا، كانت القيادات الوطنية الروسية، السياسية والاعلامية والاقتصادية والعسكرية، تحضّر لشن الهجوم على النظام العميل للدولة المارقة اوكرانيا، كمقدمة للحرب الاستنزافية طويلة الامد ضد الناتو والكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية. وقد بدأ الهجوم فعلا في 24 شباط 2022.
وهكذا وقع الناتو والكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية في "الفخ الاوكراني" ذاته الذي كانا يحضّرانه ضد روسيا، وذلك قبل ايام معدودة وربما ساعات فقط من بدء العدوان الناتوي.
وقد اختارت القيادة الوطنية الروسية "اوكرانيا" كساحة اولية لبدء هذه الحرب العالمية طويلة الامد ضد الكتلة الامبريالية الغربية ــ اليهودية، اولا، لان اوكرانيا هي جغرافيا ساحة كبيرة بما فيه الكفاية "لاغراء" دول الناتو وعلى رأسها اميركا بالدخول في معركة كبرى ضد الجيش الروسي، بالاسلحة الكلاسيكية وبالقوات البشرية المقاتلة. وثانيا، لانها ليست كبيرة بما يكفي لتمكين الناتو ودول الكتلة الامبريالية الغربية وحلفائها من استخدام كل قوتها العسكرية الكلاسيكية، عدّة وعديدا، وإشراكها في المعركة.
ولتثبيت هذا الوضع، اكدت القيادة الوطنية الروسية على "محدودية" العملية العسكرية في اوكرانيا، وانه في حال تقديم اسلحة غربية لاوكرانيا قادرة على ضرب الاراضي الروسية في عمق معين، فإن روسيا ستوسع نطاق عمليتها "المحدودة" بما يوازي المسافة ذاتها باتجاه الغرب "ما بعد اوكرانيا". وخوفا من قيام روسيا بـ"إلحاق" اراض "اوروبية" جديدة، باوكرانيا، فإن القيادات الناتوية، وبالاخص الاميركية، الغبية والجبانة، تحرص على التأكيد المتواصل، وإن الكاذب، على انها لن تقدم لاوكرانيا اسلحة يمكنها ان تضرب عمق الاراضي الروسية.
وتفيد جميع التجارب العسكرية التاريخية ان اختيار ميدان المعركة هو عنصر حاسم في اية حرب. ومن ابرز الامثلة على ذلك ان الجيش القرطاجي بقيادة هنيبعل كان اقل عددا من الجيش الروماني، فما كان من هنيبعل الا ان استدرج الجيش الروماني لخوض المعركة في سهل كاناي الضيق، قريبا من روما، مما حرم الجيش الروماني من الاستفادة من تفوقه العددي، فكان الانتصار الباهر للكنعانيين في معركة كاناي في 216ق.م، واصبحت روما في حكم الساقطة عسكريا. ولكن القائد الروماني "سيبيون الافريقي" قام باعادة تنظيم الجيش الروماني خارج روما. وردا على استغاثات ملاّك العبيد (النبلاء) الرومان للقدوم والدفاع عن روما، التي كان جيش هنيبعل يقف على ابوابها، فإن القائد الداهية "سيبيون الافريقي" صم أذنيه عن استغاثات النبلاء الرومان الذين اخذوا يصرخون ""هنيبعل على الابواب!"، وغادر شبه الجزيرة الايطالية وابحر الى افريقيا الشمالية عازما على مهاجمة قرطاجة ذاتها عديمة الدفاع تقريبا. وهنا ارتكب هنيبعل غلطته التاريخية المميتة وهي انه ترك روما وشأنها ولحق بسيبيون لمطاردته ومنعه من مهاجمة قرطاجة. وكان هنيبعل يعتمد على دعم الامازيغيين، الحلفاء التقليديين لقرطاجة. ولكن الملك الامازيغي ماسينيسا انقلب على هنيبعل، مقابل الوعود الكاذبة التي تلقاها من "سيبيون الافريقي" بانشاء "مملكة امازيغية"" منافسة لقرطاجة. وقد نصب سيبيون كمينه لجيش هنيبعل في سهل زاما في تونس. وفي معركة زاما (202ق.م) بين الجيشين الروماني والقرطاجي، هاجم فرسان الملك الامازيغي ماسينيسا، من الخلف، الجيش المنهك والمغدور به لهنيبعل، فكانت الهزيمة المشؤومة للجيش القرطاجي، وهو ما حتم لاحقا التدمير الروماني التام لقرطاجة في 146ق.م.
اما اليوم، فإن القيادة الوطنية الروسية هي التي حددت ميدان المعركة، وإن موسكو (قرطاجة الشرق في العصر الحديث) وجميع المدن والاراضي الروسية هي محصنة بأقصى ما يكون ضد حرب الحصار والمقاطهة والعقوبات، والافقار والتجويع، كما ضد القنابل النووية. وبالمقابل فإن جميع مراكز القرار الاميركية والناتوية هي محكوم عليها إما بالهزيمة في حرب الاستنزاف طويلة الامد بالاسلحة الكلاسيكية، وإما بالموت الزؤام، بضربات القبضة النووية الروسية الجاهزة لسحق تلك المراكز جميعا في دقائق معدودات.
2 ــ ان حصر ميدان الحرب في ساحة محدودة، من شأنه ان يضعف قدرة الكتلة المعادية على استخدام تفوقها التسلحي الكمي.
3 ــ ان القوات الروسية هي مجهزة بكل الاسلحة الضرورية، الاكثر تفوقا من كل صنف مقابل من اصناف الاسلحة لدى الجبهة المعادية. ذلك انه، من زاوية النظر المخابراتية، فإن انضمام دول المنظومة السوفياتية السابقة، الى حلف الناتو، اتاح للمخابرات العسكرية الروسية الاطلاع الواسع والدقيق على جميع اسلحة الكتلة الغربية المعادية، نوعا وكما وتوزيعا، عن طريق العناصر العسكرية والخلايا المخابراتية، الوطنية حقا والمعادية للامبريالية الغربية والصديقة لروسيا، الموجودة في جيوش تلك الدول، التي اصبحت جيوشا ناتوية(!). والمجمّع الصناعي ــ الحربي، الروسي، قد حضّر الاسلحة المناسبة لتحطيم اي سلاح ناتوي يتم انزاله الى مسرح المعارك، وذلك بدون "توفير!" وبدون "تبذير!" للاسلحة، المستخدمة لـ"معالجة" الاسلحة الغربية.
4 ــ ان الجيش الروسي يحرص على التقليل الى الحد الاقصى من خسائره بالفوى البشرية. وفي الوقت ذاته يحرص على انزال اكبر الخسائر البشرية في صفوف القوات المعادية.
XXX
ستراتيجية القضم والهضم:
5 ــ على المستوى الجيوسياسي ـ الجغرافي، تنتهج القيادة الوطنية الروسية ما يسمى "ستراتيجية القضم والهضم".
وتمثلت اول خطوة تم تنفيذها، عملا بهذه الستراتيجية، في عملية استعادة شبه جزيرة القرم الى الوطن الام روسيا. وبالمعنى الجيوسياسي ــ العسكري ــ الجغرافي، المجرد، تمت عملية "قضم" منطقة شبه جزيرة القرم وضمها الى الاراضي الروسية في 2014. ومنذئذ وحتى 2022، تمت عملية "هضم" شبه الجزيرة، اي دمجها بالدولة الروسية، بالقوانين والبنى التحتية والمالية والاقتصاد وشبكة المواصلات البرية والبحرية والجوية والاتصالات السلكية واللاسلكية والنظم التعليمية والصحية والخدمات الاجتماعية والعسكرية والامنية، واخيرا لا آخر: الدفاعية، بشتى انواع الاسلحة الكلاسيكية والطيرانية والبحرية والصاروخية والفضائية والنووية التاكتيكية والستراتيجية. وخلال هذه المدة، وبعيدا عن الجعجعة الاعلامية، فرضت روسيا على الكتلة المعادية الالتزام الفعلي بأن الحدود البرية والبحرية والجوية لشبه جزيرة القرم اصبحت جزءا لا يتجزأ من الحدود الروسية، وان اي خرق لهذه الحدود سيعامل على انه خرق وعدوان على الحدود الروسية.
وبعد تثبيت "هضم" شبه جزيرة القرم، انتقلت القيادة الوطنية الروسية الى القيام بـ"قفزة النمر السيبييري" في شرق وجنوب شرق اوكرانيا والمنطقة الاوكرانية الواقعة الى جنوب شبه جزيرة القرم على ساحل بحر آزوف (مدينة ماريوبول ومحيطها). وفي ايلول 2022 وافق مجلس الدوما (البرلمان) الروسي على طلب انضمام المقاطعات الاربع (دونيتسك ولوغانسك وزابوروجيه وخيرسون) في شرق وجنوب شرق اوكرانيا الى روسيا. والمعارك الدائرة حاليا انما تتمحور محليا حول الدفاع عن تلك المناطق "الروسية الجديدة"، من الجانب الروسي، والسعي لاعادة السيطرة عليها من قبل النظام الاوكراني الخياني والنازي والصهيوني. وتستغل القيادة الوطنية الروسية هذه المعارك لايقاع اكبر الخسائر البشرية في صفوف القوات المعادية، ولاستدراج وتحطيم الاسلحة المتطورة التي تقدمها اميركا ودول الناتو لجيش المرتزقة من الاوكرانيين وغيرهم.
وفي هذه الاثناء تعمل القيادة الوطنية الروسية على تحقيق وتثبيت عملية دمج المناطق الروسية الجديدة في اطار الدولة الام روسيا، في كل الجوانب القانونية والادارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وخصوصا في الجانب الدفاعي، بحيث تتحول تلك المناطق الى قلاع عسكرية متقدمة، كلاسيكية وصاروخية ونووية.
وحينما يبدأ اليأس من امكانية اعادة السيطرة الاوكرانية على تلك المناطق ينخر جماجم القيادات الاميركية والناتوية، تبدأ القوات الروسية بتكثيف ضرباتها، لابعاد خط المواجهة عشرات الكيلومترات الى الوراء باتجاه العمق الاوكراني، ومن ثم الانتقال الى تحقيق "قفزة النمر السيبيري"" التالية باتجاه اواسط الجغرافيا الاوكرانية، اي في محيط الخط الممتد من العاصمة كييف الى مدينة اوديسا على البحر الاسود. وبعد قضم وهضم وسط اوكرانيا، سيبدأ التحرك الروسي نحو مولدوفا ورومانيا وبلغاريا وجورجيا، المشاطئة للبحر الاسود، بحيث تصبح روسيا وتركيا الدولتين الوحيدتين على البحر الاسود. وهذا يفتح الباب لتجديد المفاوضات الروسية ــ التركية، التي بدأت في القرن التاسع عشر، حول الادارة المشتركة لمضائق البوسفور والدردنيل، كمقدمة تاريخية لاعادة النظر الشاملة في الوضعية الجيوسياسية الدولية لاسطنبول ومنطقتها، التي هي تاريخيا منطقة اغريقية ــ مسيحية شرقية (اورثوذوكسية).
وفي هذه الاثناء بدأت القيادة الوطنية الروسية منذ الان حشد الاسلحة الكلاسيكية والنووية، التاكتيكية وغير التاكتيكية، في جمهورية بيلاروسيا، تحضيرا لـ"قفزات النمر السيبيري" القادمة، باتجاه دول البلطيق المارقة الثلاث (ليتوانيا واستونيا ولاتفيا) لاجل السيطرة الروسية شبه الكاملة على حوض بحر البلطيق، او باتجاه الدولة المارقة بولونيا، او بالاتجاهين معا، حسبما تقتضيه تطورات ومضاعفات المعركة اقليميا ودوليا. ولهذه الغاية جرى تحويل مقاطعة كالينينغراد الروسية على بحر البلطيق، والمجاورة لالمانيا وبولونيا، الى ترسانة اسلحة متطورة، جوية وصاروخية ونووية، منها طائرة سوخوي المتطورة التي تقلع بشكل كلاسيكي ولكنها في لحظات تتحول الى الطيران العامودي كصاروخ باتجاه الفضاء الكوني دون ان تدخل في الحدود الجوية لاية دولة اخرى. ومن علو عشرات الكيلومترات تطلق صواريخ نووية تنطلق بسرعة تبلغ 15 الف كلم/ساعة، ما يمكنها من اصابة فرصوفيا (عاصمة بولونيا) وبرلين (عاصمة المانيا) في اقل من 150 ثانية. اما باريس "البعيدة!" فيصلها الصاروخ النووي في 200 ثانية. واما لندن "الابعد" فيصلها الصاروخ في اكثر بقليل من 200 ثانية. ويقول الخبراء انه لا يوجد (ولن يوجد لعشرات السنين اللاحقة) اي نظام ناتوي مضاد للصواريخ يمكن ان يعترض هذه الصواريخ النووية الروسية، فائقة السرعة وفائقة الدقة. وهذا يعني ان جميع "مراكز القرار" الناتوية في اوروبا هي تحت السيطرة ومحكومة بالاعدام منذ الان عند الضرورة. اما الولايات المتحدة الاميركية، فلها "علاجاتها الخاصة"، ومنها الغواصات النووية والغواصات المسيّرة (بدون طاقم بشري) حاملة الصواريخ النووية، الرابضة بحوار المياه الاقليمية الاميركية، على بعد دقائق معدودة من نيويورك وواشنطن وجميع المدن الكبرى الاميركية، ومنها الصاروخ العملاق "سارمات" الذي يزن 208 اطنان ويحمل حتى 15 راسا نوويا ذات التوجه الذاتي لكل منها، ويطير "سارمات" بسرعة تفوق 10 مرات سرعة الصوت، اي انه يصل من اقاصي روسيا الى جميع المدن الرئيسية الاميركية في اقل من نصف ساعة، ومن المستحيل لاي نظام صواريخ مضاد للصواريخ ان يلحق به ويعترضه. وهذا لا يعني ان القيادة الوطنية الروسية ستوجه ضربتها النووية القاضية بشكل تعسفي واعتباطي، بل يعني:
ان الدولة الوطنية الرووسية كسرت مرة والى الابد هيبة وسطوة الامبريالية العالمية، وان القوات الروسية التي تقاتل الان في اوكرانيا، وغدا في غيرها، تقاتل وهي على ثقة تامة بتحقيق النصر، اما بالاسلحة الكلاسيكية، كما هو جارٍ الان، واما ــ اذا اقتضت الضرورة ــ بالضربة النووية القاضية، وفي كلتا الحالتين بالنصر الاكيد على الكتلة الامبريالية الغربية وعلى رأسها الامبريالية الاميركية ــ اليهودية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل