إعداد: نسيب شمس
يكثر الحديث في الفترة الأخيرة عن اللامركزية الإدارية واللامركزية الموسعة، لكن تبقى الأسئلة معلقة، دون جواب. وتبقى هذه المفاهيم المتداولة غامضة المعنى. سنحاول في هذه الدارسة المختصرة الإضاءة عليها من المنظر القانوني، مع مقاربة لبنانية سياسية أولية.
بداية، ما هي اللامركزية الإدارية؟
اللامركزية الإدارية وجه من أوجه التنظيم الإداري في الدولة، وقد تعتمد الدولة في تخطيط سياستها الإدارية نظام اللامركزية الإدارية أو نظام المركزية المطلقة أو نظام المركزية النسبية أي ما يسمى في فقه القانون الإداري بالحصرية La Déconcentration أو نظام الإقليمية Le Régionalisme في الدول الديمقراطية ، نجد أن اللامركزية هي المبدأ المتبع في التنظيم الإدارية وفي تسيير مرافق الدولة العامة.
ويحصر الفقه الفرنسي التقليدي عادة موضوع اللامركزية في الإطار الإداري ويعالجها من زاوية التنظيم الإداري لجهاز الدولة ، في حين أن اللامركزية تنطلق من اعتبارات سياسية تتعلق بالحريات العامة الأساسية للمجموعات المحلية.
كما أن المركزية واللامركزية وجهان من أوجه التنظيم الإداري، والسلطة الإدارية في الدولة يمكن أن تمارس من خلال هذين النظامين. فتباشر السلطة المركزية المهام ذات الطابع الوطني، بينما تعنى السلطة المحلية بالشؤون ذات الطابع المحلي.
اللامركزية الإدارية لا تؤثر في وحدة الدولة، وتبقى الدولة التي تعتمدها نظاماً إدارياً، ولها دولة موحدة في سلطاتها الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
بمعنى آخر، فإن اللامركزية الإدارية طريقة من طرق الإدارة تقضي بتوزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة التي تمثل السلطة المركزية وهيئات عامة أخرى (محلية أو مرفقية) تباشر وظيفتها تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية.
تطالعنا الصورة الإقليمية كأول صورة عرفت لفكرة اللامركزية الإدارية، بمعنى أن اللامركزية الإدارية نشأت في البداية على مستوى الإقليم وليس على مستوى العاصمة، وهذا ما يوحي به، تعبير اللامركزية. هنا السؤال الذين يطرح نفسه عن العلاقة بين الاقليمية واللامركزية، فما هو الفرق بينهما؟
إن اللامركزية هي نظام إداري يقوم على توزيع الوظيفة بين الإدارة المركزية وبين هيئات محلية تستقل في عملها عن سلطة الدولة وتتمتع بالشخصية المعنوية. في حين أن الإقليمية، ما هي إلا نوع من التقسيم الإداري يهدف الى جعل نشاط الإدارة أكثر فعالية وإنتاجاً لا سيما على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الاجتماعي. وهذا يشبه ما هو معروف في لبنان بالبلديات.
أما الفارق بين اللامركزية والفيدرالية، فهو أن اللامركزية تتعلق بالتنظيم الإداري للدولة، بينما تتعلق الفيدرالية بشكل الدولة. كما أن اللامركزية تبحث في نطاق القانون الإداري، في حين تجد الفيدرالية مكانها في إطار القانون الدستوري.
وتصنف الدول، وفقاً للقانون الدستوري العام، نحن تصنيفين: الدول الموحدة أو البسيطة، والدول المركبة، وهذه الأخيرة قد تأخذ شكل الفيدرالية أو الفيدرالية.
يحكم الفيدرالية مبادئ، منها مبدأ عام أول وهو قانون المشاركة Loi de participation، أما المبدأ الثاني الحاكم للفيدرالية ويميزها هو قانون الاستقلال الذاتي Loi duautonomie ويعني اشتراك كل دولة عضو في الدولة الفيدرالية بتكوين الإرادة العامة لهذه الدولة، وذلك عن طريق اشتراكها في تكوين الهيئة التشريعية الفيدرالية. أي أن يكون لكل عضو الحق في امتلاك دستور وتشريعات خاصة صادرة عن مجلسها التشريعي الخاص.
المبدأ الثالث الذي يميز الفيدرالية عن اللامركزية هو في أن توزيع الصلاحيات بين الدولة المركزية والدول الأعضاء يتم عن طريق الدستور الاتحادي، وهذا الدستور لا يمكن تعديله إلا بإتباع أصول خاصة.
اللامركزية الإدارية قد تنقلب الى لامركزية سياسية أو إلى فيدرالية، إذا ما أعطيت المجموعات المحلية حرية واسعة واستقلالاً في إدارة شؤونها المحلية. وإذا اتسعت صلاحياتها الإدارية لتشمل صلاحيات التشريع وسن القوانين، ويمكن القول إن لدى المجموعات المحلية ميلاً طبيعياً نحو الاستقلال وإعلان الحكم الذاتي، وفي حال اجتمعت لديها عناصر هذا الاستقلال ومقومات الدولة، ولا سيما إذا كانت البنية الاجتماعية لمجموعة محلية معنية، تختلف في أصلها وتاريخها وثقافتها ولغتها ودينها عن باقي المجموعات التي يتألف منها المجتمع السياسي المُكون للدولة، ومن هنا الخطورة التي قد تنشأ عن اللامركزية الموسعة، لأنها في طياتها تحمل بذور التفسخ والانقسام.
لا شك أن مسألة اللامركزية تبرز الى حد كبير الهوة العميقة التي تفصل بين اللبنانيين، ففي بداية الحرب الأهلية كانت الجبهة اللبنانية (ائتلاف الأحزاب اليمينية والمسيحية) ترى في اللامركزية السياسية صيغة انقاذ للبنان وللتعايش المسيحي – الإسلامي الهادئ فيه، ونموذجاً سياسياً يؤمن حرية واستقلال المجموعات الطائفية المختلفة اثنياً وحضارياً وثقافياً ودينياً، في حين كان التجمع الإسلامي والأحزاب اليسارية وأحزاب الحركة الوطنية، كان يرى في اللامركزية السياسية طريقاً ومقدمة للتقسيم وتفتيتاً لوحدة لبنان، بل يرى فيها تقسيماً مقنعاً، ولا يصح اعتمادها كصيغة لبناء لبنان الجديد. وعارض الرئيس رشيد كرامي آنذاك صيغة اللامركزية السياسية لأنها في نظره "طريق الى التقسيم" ، وأيد الرئيس صائب سلام اللامركزية الإدارية وعارض كل "ما يشتم منه أنه للتقسيم" . فيما تمسك زعيم الحركة الوطنية آنذاك وليد جنبلاط بوحدة لبنان ورفض تجزئته عن طريق "خلق كيانات طائفية تحت شعارات اللامركزية السياسية والكونتونات أو ما شبه نت بدع تقسيمية".
وعلى العكس من ذلك، فن الجبهة اللبنانية لا ترى في اللامركزية السياسية أو الفيدرالية صيغة تقسيمية، وإنما تجد فيها نظام "يجمع ويوحد ولا يُقسم".
وقد ردت الجبهة اللبنانية معارضة بعض الفئات اللبنانية للامركزية السياسية أو الفيدرالية إلى كونها " تحد من مطامعها في السيطرة على الجماعات اللبنانية غير المنتمية إليها وحكم لبنان عن طريق أكثرية عددية صحيحة أو مزعومة".
والحقيقة أن الجبهة اللبنانية قد رفضت التقسيم بمعنى شطر لبنان الى دولتين مستقلتين ومنفصلتين دستورياً، وأن كان بعض أركانها قد هدد باللجوء إليه أكثر من مرة، ولا سيما الرئيس كميل شمعون . ووعيا من الجبهة اللبنانية لمخاطر التقسيم، على الرغم من مطالبة بعض الفئات المسيحية المغالية بالتقسيم تحت وطأة الاحداث واشتداد ردة الفعل عليها . واعتبرته بمثابة كارثة اقتصادية اجتماعية وسياسية على المدى الطويل . حتى أنها رأت في الصيغة الفيدرالية " إنقاذاً للبنان من التقسيم الناتج عن الاحتكاكات المتواصلة والافتراءات المتوالية والاصطدامات المتتابعة ، والكفيلة " بإعادة تجميع لبنان وضمان وحدته ومعالجة الكثير من عوامل تهديمه".
اليوم، وعشية معركة رئاسة الجمهورية والأزمات الاقتصادية والمعيشية المتناسلة، يعود الحديث عن الفيدرالية تارة، وعن اللامركزية بأشكالها تارة أخرى، ولبنان ما بعد الطائف لا يختلف عن ما قبل الطائف، وهو في اتفاق الطائف لحظ نوعا من اللامركزية الادارية التي لم تتبلور. وتبقى الأسئلة أسئلة وجودية حول مصير لبنان الى أين؟ وأين سينتهي؟ وكيف سيجد جميع اللبنانيين المدخل الذي سيعبرون منه من المجهول؟ لبنان الكبير أي مصير؟ وهل يتجه لبنان الى اللامركزية؟ واي شكل منها؟ وهل يتجه الى الفيدرالية كشكل للدولة؟ أو سيذهب الى التقسيم والتفتيت والتشرذم؟ هذه الأسئلة وغيرها برسم إرادة الشعب اللبناني أولا وأخيرا.