عبير بسّام
في وقت وصلت فيه الصين في استثماراتها إلى المحيط الهندي وأفريقيا وانتشرت موانئ استثماراتها في شرق آسيا وغربها وحتى انها وصلت بحر الشمال وتوسعت في علاقاتها الإقتصادية مع روسيا وإيران والسعودية، فمن المحق التساؤل حول أسباب تأجيل هذه الإستثمارات في سوريا، وهي الطريق الجيوسياسي الأهم والواصل من غرب الصين عبر إيران وصولاً إلى العراق ومنها إلى البحر المتوسط فأوروبا، فما الذي يؤجل وصول الإستثمارات إلى سوريا على الرغم من العلاقة المتميزة بين البلدين؟
في قراءة لتقرير حول الإستثمارات الصينية في سوريا، كتبه كل من تشانغ شين بينغ وداي جياو من جامعة لانتشو الصينية في العام 2019، والذي تضمن معطيات في أغلبها تعدد أسباب تردد الصين للتوجه للاستثمار في سوريا. أحد المعوقات الهامة حول تفاصيل وأسباب تراجع الإستثمار الصيني، التي تحدث عنها تقرير بينغ وجياو، انعدام الأمن ووجود قوى مسلحة على الأرض، والحديث عن تنفيذ القرار 2254 وإيجاد نوع من التوافق السياسي ما بين الحكومة والمعارضة، والقلق حول فرض عقوبات اقتصادية أميركية. ولكن الظروف منذ نشر التقرير تغيرت وخاصة، بعد الحرب الأميركية الروسية في اوكرانيا، وتغير نظام التبادل المالي ما بين الدول التي دخلت على خط الإستثمارت الصينية مما سهل حركة التجارة الصينية وحررها بنسبة كبيرة، إلا أن الواقع الأمني في سوريا لم يتغير منذ 2018 وحتى اليوم.
فهل سيكون هناك استثمارات صينية في سوريا في المرحلة القادمة؟ وما هي المعوقات الحقيقية أمام البدء بها؟
بالطبع، ستكون هناك استثمارات صينية في سوريا والتحضير لها لم يبدأ من اليوم، بل ابتدأ التحضير لها قبل العام 2012، أي قبل توجه الدولة السورية لشراء السلاح الصيني الذي حاربت به الإرهابيين حتى دخول الروس على خط الأزمة في العام 2015. فمن هم هؤلاء الإرهابيين الذين يشكلون أزمة في طريق الاستثمارات الصينية؟ إنهم مقاتلو الإيغور القادمين من تركستان الشرقية، أو مقاطعة زينغ يانغ الصينية، والذين هم على علاقة سيئة مع الدولة الصينية وترفض الصين أي نوع من التعامل مع ازمتهم.
استقدم الإيغور إلى سوريا للقتال ضد الدولة فيها، وقدمت التسهيلات من قبل التحالف الدولي وبخاصة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذين حمل قدومهم حلماً أردوغانياً ببناء نوع من التحالف ما بين الشعوب الطورانية. ويتجمع هؤلاء اليوم في مدينة جسر الشغور ويشكلون الخطر الأكبر على أي خط من خطوط النقل من العراق وحتى البحر المتوسط. ومايزال هؤلاء يتمتعون إلى جانب المقاتلين التركمان بحماية خاصة من أردوغان، ووجودهم يعد أحد أهم أسباب تأخير العمل على اللإستثمارات في سوريا، بما تسببه هؤلاء من حالة من الفوضى السائدة في الشمال الغربي من سوريا.
نبدأ بهذا الكلام كي نوضح أن معوقات الإستثمار الصيني، لم تعد تتعلق بأي حل سياسي في سوريا، إلا إذا تضمن هذا الحل خروج الإحتلالين الأميركي والتركي من الشمال السوري. كلا الإحتلالين في المرحلة الحالية باتا حالة مقلقة ومضنية للأفرقاء الإقليميين والدوليين وللسوريين بالتأكيد. لأن سوريا بعد هذا الصمود فرضت واقعاً جيوسياسياً ثابتاً للمرحلة القادمة، والذي يقول أن الدولة السورية موجودة، وأن أي مرور للمشاريع فوق أراضيها سيكون بموافقة الدولة، وما غير ذلك فهو مخالف للقوانين والأعراف الدولية، وهذا ما لن تخالفه الصين. أي لا يمكن للصين أن تبدأ بأية مشاريع في شمال الأراضي السورية حيث يحكم الإحتلال التركي، ويخالف القوانين الدولية بانتهاك سيادة الدولة السورية في داخل أراضيها. كما لا تستطيع الصين ايضاً البدء بتنفيذ الإستثمارات المرتبطة بمشروع حزام وطريق في الوسط السوري حيث يرتع الإحتلال الأميركي ويعربد في البادية السورية بواسطة أدواته من داعش أو جيش مغاوير الثورة، أو أي كانت تسمية الإرهابيين الذين يديرهم.
أما بالنسبة للعامل الإقتصادي المتعلق بالموقف الأميركي، والذي تحدث عنه تقرير العام 2019، الذي يفترض تعرض الصين لعقوبات إقتصادية أميركية عليها إذا ما ابتدأت بالإستثمارات في سوريا قبل إنجاز "التسوية" السياسية فيها. هذا العامل لم يعد بذي أهمية تذكر، منذ أن قررت الدول التي انفتحت على الصين بالتعامل بعملاتها المحلية، وهذا ما حدث مع إيران وروسيا والسعودية، وأما بالنسبة لسوريا فسيسير في طريق الحلحلة مع استمرار. توافد العرب باتجاه دمشق بعد كارثة الزلزال.
وهنا نعود للتأكيد، إن الحلحلة العربية والدولية التي شهدتها سوريا منذ السادس من كانون الثاني/يناير وحتى اليوم لم تكن نتيجة مباشرة لنتائج الكارثة الإنسانية بعد الزلزال المدمر الذي ضرب شمالها وغربها، ولكن جاء كنتيجة غير مباشرة، والدليل على ذلك هو دخول الصين على خط التسويات والمصالحات من بين إيران والسعودية، وبالتالي ما بين اليمن والسعودية في المرحلة القادمة، وما بين السعودية وسوريا بالتأكيد وخاصة بعد تصريحات وزير الخارجية السعودي خلال الأسابيع الماضية، وهذه التسويات يجري العمل عليها منذ زيارة الرئيس الصيني للسعودية في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي.
هذا العامل سيكون له دور مؤثر وفاعل في إتمام عملية إنجاز مشروع نطاق وطريق عبر سوريا، والذي باتت الصين في المراحل الأخيرة من إنجازه بعد تحقيقه بالفعل في المحيطين الهادئ والهندي، وإقامة المشاريع المشتركة مع دول المنطقتين، والوصول من مضيق ملقا ما بين المحيط الهندي وبحر الصين إلى مضيق باب المندب وبكل سهولة، وإقامة قاعدة للحماية من القرصنات البحرية في جيبوتي. ومن هنا يمكننا فهم أساس بناء العلاقات السعودية الصينية، التي يجب ان تكون مبنية على أساس الأمن والسلم وليس على أساس الحرب والفوضى. وبعد أن وصل المشروع الصيني عبر روسيا إلى بحر الشمال، فإن الصين بحاجة إلى إكمال دورة طريقها للوصول إلى البحر المتوسط عبر سوريا في آسيا ومصر في أفريقيا. وهنا يجب التأكيد أن هناك حاجة صينية لتمرير المشروع عبر الأراضي السورية قادماً من العراق وإيران، أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد أن ثبت للصين استحالة القيام بإنجازه عبر لبنان، وعبر مرفأ طرابلس بالتحديد. لكن هذا الخط يصطدم بالتواجد العسكري الأميركي في التنف وفي مناطق شرق الجزيرة السورية.
بالتأكيد هناك حاجة ملحة في دمشق باتجاه بدء الإستثمارات الصينية فيها، وخاصة فيما يتعلق بإعادة بناء وتطوير خط القطار من الحدود السورية العراقية باتجاه حلب وصولاً إلى اللاذقية. ويمكن للمتابع ان يفهم أهمية طريق الـ M4، وأسباب تحرك الجيش العربي السوري في العام الماضي من أجل تحريره من الإرهاب ثم توقف بعد إشارات ارسلتها انقرة حول استعدادها للعمل بشكل جدي مع الدولة السورية، ولكن عادت فتراجعت عن مواقفها مؤخراً. في كل مرة بعد كل اجتماع في أستانة، كانت تتعهد أنقرة بالإنسحاب وتسليم الحدود للدولة السورية، مستغلة الإتفاق للحصول على المزيد من الإستثمارات التجارية مع كل من إيران وروسيا، في الحقيقة أن ما كانت تفعله أنقرة ومازالت تفعله يشبه الإبتزاز.
ويبدو أن خط العمل على انقرة غير سالك هذه الأيام، خاصة بعد الموافقه على انضمام فنلندا إلى الإتحاد الأوروبي، موجهة طعنة خطيرة لروسيا عبر الموقف الذي اتخذته، والسبب أن أردوغان لم يعط الضوء الأخضر الأميركي للخروج بعد، لأن الإحتلال التركي مرتبط بشكل عضوي بالإحتلال الأميركي. وأردوغان لا يريد مغادرة الشمال السوري وهو ما يزال يناور ويحاول ان يظهر بمظهر الرئيس القوي. وماتزال أنقرة تلعب دوراً معيقاً في وجه البدء بالإستثمارات عبر مواصلة دعم المجموعات المسلحة والإرهابية، والتي لا يستطيع أردوغان التخلي عنها في المرحلة الحالية أو حتى التوقف عن دعمها، لأنه مايزال يعتبرها ورقة مفاوضات ستمكنه من الإحتفاظ بقليل من ماء وجه، والخروج من سوريا بأقل الخسائر المعنوية. وفي انتظار الخروج ستبقى الإستثمارات الصينية واقفة على وضعية التأهب.