جورج حداد
يعيش لبنان اليوم في خضم جملة من الازمات والتحولات التاريخية الجذرية، التي تعتمل وتتلاطم وتتضارب في وقت واحد فوق رؤوس الجميع، ولا حل لها الا بالتغيير التام لوجه لبنان، ومنطقة "الشرق الاوسط الكبير"، والعالم اجمع.
ويكفي ان نشير بالخطوط العريضة فقط الى اهم هذه الازمات والتحولات:
ــ1ــ قطريا (لبنانيا):
ــ أ ــ الافلاس التام للمارونية السياسية التي سلمها الجنرال هنري غورو والبطريرك الياس الحويك (سامحه الله!) قيادة "دولة لبنان الكبير"، والتي استمرت قيادتها، بدعم ومشاركة السنية السياسية، منذ "اعلان قصر الصنوبر" في 1920 وحتى "اعلان الطائف" في 1990.
ــ ب ــ الافلاس التام للسنية السياسية التي تم، في "اتفاق الطائف" في 1990، تركيبها بشكل مفتعل على ظهر الشعب اللبناني المظلوم، الذي أخرج لتوه من اتون الحرب الاهلية المدمرة، التي تسببت بها بشكل رئيسي المارونية السياسية، وكان لا يزال تحت نير الاحتلال الاسرائيلي، الذي كان مدعوما جهرا وسرا من الامبريالية الاميركية والاطلسية، ومن جميع الانظمة العربية.
ــ ج ــ الصعود "المفاجئ!" للشيعية السياسية، التي ــ بفضل مقاومتها الجماعية للاحتلال الاسرائيلي ــ صعدت الى سطح تمثيل الطائفة الشيعية التي، طوال اكثر من مائة عام من وجود دولة لبنان، عوملت معاملة القريب الفقير، واليتيم الغريب، والكريم على مأدبة اللئام.
وبغفلة تامة من جهابذة "السيادية اللبنانية"، تحولت الشيعية السياسية الى الرقم الاصعب، الذي لا يعادله رقم آخر، في كل المعادلة الطائفية للنظام اللبناني القائم.
ــ 2 ــ اقليميا (في العالم العربي ــ الاسلامي الواسع، ولبنان جزء منه طبعا):
ــ أ ــ الافلاس التاريخي التام للقيادات السنية، التي سيطرت على السلطة السياسية في الدولة العربية ــ الاسلامية، منذ صعود السفاح العشائري ــ العنصري، الحاسد والحاقد والمعادي للجنس العربي، والداعم للاستعمار اليهودي لفلسطين، والمهادن والمتحالف مع الافرنجة (الصليبيين)، القائد الكردي صلاح الدين الايوبي، الذي جعل ابادة الفاطميين، واضطهاد الشيعة، وذبح واذلال واستعباد العرب، سياسة رسمية للدولة "الاسلامية" التي سبق واسسها العرب انفسهم؛ ولا ينسى التاريخ ان صلاح الدين الايوبي وسلالته وقادته واغاواته هم الذين جاؤوا بالمماليك السنة، وسلطنوهم ومكّـنوهم من رقاب العرب، من المحيط الى المحيط؛ والمماليك بدورهم هم الذين فتحوا الطريق للغزاة العثمانيين، الذين اجتاحوا البلدان االعربية كالطاعون، بمساعدة الامراء والمحاربين الاكراد ايضا، وقادوا العالم العربي ــ الاسلامي كله الى حضيض الانحدار الحضاري، ولم يتركوا من اثر يشير اليهم في المجتمع العربي سوى السوط والمشنقة والخازوق التركي.
هذا، وبالرغم من كل الالتفاف الشعبي الهائل الذي حازته الناصرية، والقيادات الصدامية والبعثية الاخرى، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية (وكلها ذات خلفيات شعبية سنية)، بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاستعمار القديم، فإنها قادت الجيوش القطرية العربية، الوطنية المخلصة والشجاعة، والشعوب العربية جميعا، وحتى منظمة التحرير الفلسطينية، الى الهزيمة تلو الهزيمة، امام عدو تافه كاسرائيل، التي لا يزيد عدد سكانها عن عدد سكان احد احياء القاهرة، والتي وصفها السيد حسن نصرالله بأنها "اوهن من بيت العنكبوت".
ومثلما في العالم العربي ــ الاسلامي، كان ايضا الفشل للسنية السياسية في تركيا "الاتاتوركية ــ العثمانية الجديدة" والهند وباكستان وافغانستان واندونيسيا وغيرها.
ولكن الانظمة: الرجعية ــ التقليدية ــ الوهابيية ــ الداعشية، و"التقدمية" ــ "الثورية" ــ "الاشتراكية" ــ "العروبية" الدكتاتورية، التي فرضتها السنية السياسية على الشعوب العربية والاسلامية المظلومة، تلفظ الان انفاسها الاخيرة، وتفتح الطريق لمرحلة تاريخية جديدة.
ــ ب ــ انتصار الثورة الاسلامية في ايران، التي قادتها المؤسسة الدينية الشيعية، المرتبطة بالجماهير الشعبية، وصمودها الاسطوري بوجه الحصار والحرب الظالمة التي شنها نظام صدام حسين في 1980 ــ 1988، بدعم وتسليح وتمويل الامبريالية الاميركية والاطلسية، والانظمة النفطية العربية، والنظام المصري، والبيروقراطية السوفياتية الخائنة للشيوعية وللشعب الروسي؛ وبالرغم من العقوبات المريعة التي فرضت على ايران الثورة منذ ذلك الحين... بالرغم من كل ذلك شقت الثورة الاسلامية الايرانية طريقها، وتحولت الى قوة علمية وسياسية وعسكرية واقتصادية، هي الاقوى في المنطقة بأسرها، وهي الان تهدد موضوعيا وذاتيا كل الوجود والنفوذ والمصالح للامبريالية الاميركية والاطلسية والانظمة العربية وغير العربية التابعة للامبريالية في كل انحاء العالم العربي ــ الاسلامي.
ــ3ــ عالميا (الصراع بين الشرق والغرب):
ــ أ ــ الافلاس التاريخي التام لما كان يسمى "العالم الحر"، بقيادة الامبريالية الاميركية والاطلسية واليهودية العالمية. فمنذ نجاح الامبراطورية الرومانية القديمة في تدمير قرطاجة الكنعانية العظيمة في 146ق.م، والقضاء على المملكتين الشرقيتين الحضاريتين الاغريقية والفارسية، وصلب السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية)، والاضطهاد الفظيع للمسيحيين الشرقيين القدماء ذوي النزعة الوطنية والمعادية للعبودية، وابادة الملايين منهم، فإن روما القديمة، ومن ثم الدول الاستعمارية (الاوروبية الغربية واخيرا الاميركية الشمالية) التي ورثتها، فرضت الهيمنة الاستعمارية ــ الاستعبادية، الغربية، على الشرق والعالم. وخلال الاكثر من الالفين والمئتي سنة التي مضت، نجح الغرب الاستعماري في تطوير اوروبا الغربية، ومن ثم اميركا الشمالية، على حساب جميع شعوب العالم المظلومة، وخاصة شعوب الشرق. ولكنه، وبالرغم من التبني الشكلي والكاذب والاستغلالي للديانة المسيحية، بصيغها الكاثوليكية والبروتستانتية والانغليكانية ومتفرعاتها، وجنبا الى جنب الطغمة المالية ــ الدينية العليا اليهودية، بتعاليمها الدينية العنصرية والاستعلائية والاستغلالية، فإن الغرب الاستعماري فشل فشلا ذريعا في تحقيق الشعارات البراقة الخادعة التي كان ولا يزال يرفعها، وفي بناء عالم متآخ، متعاون، عادل ومزدهر، كما كانت تنادي الفلسفة الكلاسيكية اليونانية والفلسفة الرواقية الفينيقية القديمة، وما كانت تطمح اليه جميع شعوب العالم، وكما يليق بالكائن البشري الذي هو انبل واجمل واعقل ما في الكوكب الارضي وربما في الكون. بل على العكس تماما، فإن الغرب الاستعماري عمّق تقسيم العالم عنصريا ودينيا وطبقيا ومناطقيا، الى اسياد وعبيد، اقطاعيين واقنان، رأسماليين وبروليتاريا، غرب وشرق، شمال وجنوب، استعماريين ومستعمرين، اغنياء وفقراء، متخمين بطرين وجائعين؛ وتسبب الغرب الاستعماري في كل ما في التاريخ من حروب ومذابح، ومجاعات، ومظالم وجرائم كبرى ضد الانسانية، وفساد وانحطاط اخلاقي، وآفات اجتماعية واوبئة. ولم تكن آخر كل هذه المآسي الحربان العالميتان الاولى والثانية، اللتان اودتا بارواح عشرات ملايين البشر. والان فإن النظام الدولي المفروض من الغرب يضع العالم على شفا الحرب النووية الشاملة، وهو يتسبب بالتلوث البيئي الفظيع الذي يهدد بتحويل الكرة الارضية الى كوكب غير صالح للحياة ومقبرة جماعية لكل البشر والمخلوقات الحية.
ــ ب ــ بداية افول الامبريالية الغربية وظهور المحور الشرقي:
ولكن في المرحلة التاريخية الراهنة بدأت تتبلور لدى كل شعوب العالم، بمن فيها شعوب اوروبا الغربية واميركا الشمالية، ظاهرة اليقظة والوعي بأن انقاذ العالم من المآسي المتمادية والفناء المؤكد انما يمر عبر القضاء على الهيمنة الامبريالية الاميركية ــ الاطلسية ــ اليهودية، الغربية، على الشرق والعالم.
وفي هذا المناخ اليقظوي الاممي الجديد، الذي يتجاوز الاختلافات الاتنية والقومية والايديولوجية والدينية والسياسية، بدأ منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد منذ استلام الرئيس فلاديمير بوتين، وفريقه السياسي ــ العسكري ــ الاقتصادي، الوطني الروسي ــ الاورثوذووكسي، المتنور والمنفتح، دفة القيادة الروسية، اخذ يتبلور ظهور "المحور الشرقي الجديد"، الذي يتشكل بدايةً من ثلاث دول ــ أمم كبرى، ذات حضارات عريقة، ورقعة جغرافية واسعة، وحجم سكاني ضخم، وطاقات عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية هائلة، وثروات طبيعية طائلة، هي: روسيا الاتحادية، والصين الشعبية، والجمهورية الاسلامية الايرانية.
وبدأ هذا المحور يستقطب، كليا او قطاعيا، دولا وشعوبا اخرى عديدة، ديناميكية وفعالة، ككوريا الشمالية، وفنزويلا وكوبا، وارمينيا، ودول اسيا الوسطى الاسلامية (السوفياتية السابقة)، والهند وباكستان والبرازيل وافريقيا الجنوبية وغيرها.
وبظهور "المحور الشرقي الجديد"، سقطت الى الابد الاحادية القطبية الاميركية. وانقسم العالم الى معسكرين:
ــ1ــ المعسكر الامبريالي الاطلسي ــ الاوروبي الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة الاميركية واليهودية العالمية، وهو يعمل على اعادة فرض واستمرار الهيمنة الاستعمارية ــ الاستعبادية ــ الاستغلالية الغربية على شعوب العالم.
ــ2ــ معسكر المحور الشرقي الجديد الذي يناضل لاجل بناء عالم جديد، متحرر من الامبريالية الاميركية والاطلسية واليهودية العالمية، ويقوم على الحكمة الصينية القديمة "لتتفتح مائة زهرة"، وعلى مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى "حرية، اخاء، مساواة" التي تخلى عنها وخانها الغرب الاطلسي.
وكل التاريخ العالمي المعاصر يتمحور اليوم حول الصراع المستميت، السياسي والاقتصادي والثقافي والاعلامي، بين هذين المعسكرين. ويتخذ هذا الصراع في حالات معينة طابعا عسكريا (كما حدث في سوريا والعراق، خلال "الثورة الدمقراطية المزعومة ــ الداعشية"؛ وكما يحدث الان في اوكرانيا)، مما يضع العالم على شفا حرب عالمية ثالثة قد تتحول الى نووية.
ولكن كل الدلائل تشير الى اننا نعيش الان مرحلة بداية النهاية لعصر الهيمنة المتوحشة للغرب الامبريالي الاطلسي ــ اليهودي على العالم، واعادة القيادة الشرقية الحضارية للعالم.
ازمة الوجود اللبنانية
وبحكم جدلية التطورات التاريخية، وجدلية الارتباط الوثيق بين التاريخ والجغرافيا، فإن لبنان اليوم، بوجهه المقاوم، وكجزء لا يتجزأ من محور المقاومة العربية ــ الاسلامية، الذي تقوده ايران الثورة، وبالتالي كجزء لا يتجزأ من معسكر "المحور الشرقي الجديد"، يقع على خط المواجهة الاول مع المعسكر الامبريالي الاطلسي ــ اليهودي. وبالمقابل تقف ضده اسرائيل، الفصيل الامامي ورأس الرمح للمعسكر الامبريالي الاطلسي، الغربي.
على هذه الخلفية التحولية الجذرية: قطريا ــ لبنانيا، واقليميا ــ شرق اوسطيا، وعالميا، يمر لبنان اليوم في ازمة وجود مصيرية بمواجهة اسرائيل والمعسكر الغربي الداعم لها.
ولا شك ان الازمة اللبنانية الحالية لها علاقة وثيقة بطبيعة النظام القائم، السياسي ــ الاقتصادي ــ الاجتماعي ــ الثقافي ــ الطبقي ــ الطائفي ــ المافياوي. ولكن الازمة بجوهرها هي اعمق من ذلك بكثير.
وفي هذا الصدد، علينا ان نعترف ان ما يسمى دولة اسرائيل، التي اغتصبت ارض فلسطين العربية، حصلت على "الشرعية" والاعتراف الدوليين ونُسّبت الى هيئة الامم المتحدة، وامكنها "التعايش"، ولو مع حروب متقطعة، مع الدول العربية المحيطة بها: مصر والاردن وسوريا (ولبنان، حتى 25 ايار 2000).
ولكن في مقابل ذلك لا بد من الاعتراف ايضا ان قرار ما يسمى "الشرعية الدولية" حول تقسيم فلسطين، الصادر عن هيئة الامم المتحدة في تشرين الثاني 1947 ويحمل الرقم 181، يعطي دولة المغتصبين اليهود المزمع انشاؤها ظلما وجورا حوالى 58 بالمائة من الارض الفلسطينية المغتصبة؛ وحوالى الـ42 بالمائة كان من المقرر ان تعطى للدولة العربية الفلسطينية، باستثناء منطقة القدس وبيت لحم التي نص القرار على تحويلها الى منطقة دولية مفتوحة تحت اشراف الامم المتحدة (دام ظلها!).
اما اتفاقية اوسلو التي وقعها في واشنطن الرئيس الراحل ياسر عرفات مع شمعون بيريز وزير الخارجية الاسرائيلية في ايلول 1993، فتعطي دولة اسرائيل 78 بالمائة من الارض الفلسطينية المغتصبة، وما سمي "السلطة الوطنية الفلسطينية" ما نسبته 22 بالمائة فقط من الارض الفلسطينية.
وبدأت منذ ذلك التاريخ مفاوضات لا تنتهي (استغلتها اسرائيل لاحتلال واستيعاب المزيد من الاراضي عبر اقامة المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية والقدس)، بوهم اقامة دولة فلسطينية حتى على مساحة الـ22 بالمائة فقط من فلسطين التاريخية (خلافا لقرار الامم المتحدة رقم 181)، على امل تحقيق قاعدة "حل الدولتين: اليهودية والعربية" على الارض الفلسطينية.
ولكن هذا الامل، الذي عملت قيادة "السلطة الوطنية الفلسطينية" المستحيل لتخدير جماهير الشعب الفلسطيني به، وحرفها عن الخط الوحيد السليم، لتحرير فلسطين واسترجاع الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني، وهو فقط: خط المقاومة الشعبية الشاملة، السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والانسانية، وعلى رأسها الكفاح المسلح حتى التحرير التام لكل فلسطين، والقضاء التام على الكيان الصهيوني، لتحرير الشعوب العربية وجميع شعوب العالم، بمن في ذلك اليهود الشرفاء الذين ضللتهم الصهيونية، من طاعون العنصرية الاستعلائية، الاستعمارية والاستغلالية، اليهودية.
وطوال مدة الـ20 سنة منذ توقيع اتفاقية اوسلو، والـ75 سنة منذ صدور القرار الاممي ذي الرقم 181 حول تقسيم فلسطين، تأكد تاريخيا ان اسرائيل (ومن ورائها اليهودية العالمية والامبريالية الاميركية ــ الاطلسية) ليس فقط "لا تريد" بل وهي "لا تستطيع" ان تقبل بقيام دولة فلسطينية حتى على مساحة شبر واحد من ارض فلسطين التاريخية. لان مجرد الاعتراف بـ"شرعية" قيام دولة فلسطينية، يعني اوتوماتيكيا "الاعتراف"، بصفة "الامر الواقع" (ديفاكتو) وبالصفة "الحقوقية" (دي جور)، بـ"لاشرعية" قيام دولة اسرائيل على الاراضي الفلسطينية، وبالتالي على اي ارض عربية اخرى احتلتها وتحتلها اسرائيل؛ ويعني اوتوماتيكيا انه ينبغي على هيئة الامم المتحدة، التي يُزعم انها تمثل "الشرعية الدولية" ـــ ومثلما اصدرت قرارا تعسفيا بانشاء دولة اسرائيل (ضد التاريخ والجغرافيا والحضارة الانسانية) ــ ان "تتفضل" (هذه "الامم المتحدة") وتصحح هذا الخطأ التاريخي الاجرامي بحق الشعب الفلسطيني المظلوم، الذي لا تزال اجياله منذ ثلاثة ارباع القرن تعاني الويلات بنتيجة هذا الخطأ ــ الجريمة؛ وطبعا ان تصدر قرارا الزاميا بإجبار اليهودية العالمية والامبريالية الاطلسية والمطبعين العرب مع اسرائيل، بدفع التعويضات لجماهير الشعب الفلسطيني ولجميع ضحايا الاحتلال والحروب العدوانية الاسرائيلية ضد الجيوش والدول والشعوب العربية التي وقعت ضحية قيام اسرائيل ووجودها غير المشروع على الارض العربية، بموجب قرار خاطئ اجرامي للامم المتحدة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الاميركية.
واذا استثنينا الابادة الكاملة للهنود الحمر في اميركا الشمالية، في نهاية القرن الخامس عشر وما بعده، والمذابح الكبرى، التركية ــ الكردية، ضد المسيحيين الشرقيين (اليونانيين والارمن والاشوريين والسريان والعرب الاخرين) في اسطمبول وازمير وشرق وشمال تركيا وشمال العراق وشرق وشمال شرق سوريا، وابادتهم وتهجيرهم والاستيلاء على اراضيهم التاريخية، وتتريكها وتكريدها، بتأييد ودعم البابوية والدول الاستعمارية "المسيحية" الغربية، واليهودية العالمية؛ ــ اذا استثنينا ذلك، فإننا نجد ان الاحتلال الاسرائيلي هو اسوأ احتلال عرفه التاريخ (اسوأ حتى من نظام الابارتيد العنصري الذي كان في افريقيا الجنوبية)، لانه يحرم الشعب الفلسطيني حتى من "حقوق" الشعب المحتلة اراضيه. وان دولة "اسرائيل" هي قادرة على الاستمرار في الوجود بمقدار قدرتها على منع قيام دولة فلسطينية.
وخلاصة القول في الازمة الوجودية الحالية للبنان هي بالتحديد: انه اصبح من المستحيل لدولة لبنان ان توجد وتبقى، طالما ان دولة اسرائيل موجودة؛ وبالعكس. فإحدى هاتين الدولتين يجب ان تزول عن الخريطة السياسية للعالم، بحكم الضرورة التاريخية ــ الجيوبوليتيكية، كي تبقى الدولة الاخرى.
وفي هذا الصدد علينا ان نشير الى العاملين الذاتيين الرئيسيين اللذين مكنا دولة "اسرائيل" من الوجود والاستمرار في الوجود حتى الان:
الاول ــ حقوقيا وسياسيا: ان البروباغندا اليهودية الدينية والصهيونية السياسية، وبالدعم المطلق من البروباغندا الامبريالية الغربية، نجحت في تصوير "اسرائيل" بوصفها الطرف الصغير والضعيف صاحب "قوة الحق" الذي يقف بوجه الطرف العربي الكبير والقوي صاحب "حق القوة".
والثاني ــ ستراتيجيا: ان الشعب الفلسطيني، والشعوب والدول العربية التي تعرضت للعدوان، كانت تمتلك العمق الستراتيجي، جغرافيا وسكانيا (قوميا ودينيا وسياسيا)، ولهذا فهي كانت قادرة على تحمل الهزيمة تلو الهزيمة، ومع ذلك كانت قادرة على الاستمرار في الوجود. اما اسرائيل فهي لا تمتلك اي عمق ستراتيجي، لا سكانيا ولا جغرافيا، وهي لا تستطيع ان تتحمل ولا هزيمة واحدة، لان هزيمتها تعني نهايتها. ولذلك تضافرت عوامل: التعبئة الدينية والعنصرية اليهودية ــ الصهيونية، والدعم الامبريالي الاطلسي غير المحدود، والروح الانهزامية والخيانات في جانب الانظمة العربية؛ ــ تضافرت كل هذه العوامل لتحقيق الانتصارات الاسرائيلية وخلق اسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر.
وفي العدوان الغاشم على لبنان في صيف 1982، وبعد الاحتفال "المزدوج" ــ لانصار واعداء المقاومة الفلسطينية، كلا من جهته، ولاعتباراته ــ بإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ثم اقتحام الجيش الاسرائيلي لبيروت بمساعدة ما يسمى "القوات اللبنانية"، وايصال رئيس جمهورية لبناني كتائبي ــ قواتي (اي عميل مكشوف) الى سدة الرئاسة على متن دبابة اسرائيلية... بعد هذه التطورات التراجيدية، ظهر لاسرائيل، ومعها الامبريالية الاميركية والغربية ونظام الانظمة العربية (الرجعية و"التقدمية"، الخيانية و"الوطنية")، ان الامور تسير في مسارها "الطبيعي!"، اي الانتصارات الدائمة لاسرائيل وجيشها، والهزائم الدائمة للعرب وجيوشهم، وتكريس مقولة: ان الجيش الاسرائيلي لا يقهر... وان اسرائيل وجدت لتبقى... بل ولتتوسع... لانها تمتلك "قوة الحق" بوجه "حق القوة"!!!
ولكن رياح، او عواصف التاريخ جرت بما لا تشتهي سفن اليهودية العالمية، والامبريالية الاميركية والاطلسية، و"حلفائهما" المكشوفين، المتسترين بالوهابية والاسلام السلفي والداعشي و"السيادية" اللبنانية، والمستورين، المتسترين بشعارات "التحرير" و"العروبة" و"التقدمية" وحتى "الاشتراكية".
فمن تحت انقاض البيوت المتواضعة للمزارعين الفقراء في الجنوب والبقاع والاكواخ المسقوفة بالزنك في حاجين وشرشبوك والمسلخ والكرنتينا وكرم الزيتون وبرج حمود والنبعة وتل الزعتر وجسر الباشا وبرج البراجنة وصبرا وشاتيلا، ومن "شقعات" جثث الاطفال والنساء والرجال الفقراء والمظلومين الذين كان "ابطال" "القوات اللبنانية" يذبحونهم كالنعاج ويكدسونهم ويشعلون فيهم النار ويرقصون حول تلك النار وهم يعزفون موسيقاهم "السيادية" و"الحيادية"... من هذه "اللوحات" الجهنمية التي لم يكن ليتصورها لا بيكاسو ولا دانتي ولا ابو العلاء المعري، خرجت المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية، التي ــ وخلال مسيرتها البطولية والشاقة ــ اصاب بعض فصائلها "التعب" (لاسباب سياسية يتحمل مسؤوليتها بالكامل بعض من خانها من قياداتها وبعض اصدقائها العرب والدوليين)، فتوقفت في منتصف الطريق؛ ولكن "المقاومة الاسلامية" (الشيعية) بقيادة "حزب الله" تابعت المسيرة، بدعم تاريخي من الثورة الاسلامية الايرانية.
وبفضل كفاح وتضحيات المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية، تم طرد المحتلين الاسرائيليين من بيروت، ثم من الجبل، ثم من صيدا وجزين، واخيرا ــ في 25 ايار 2000 ــ تم تحرير كل الاراضي اللبنانية المحتلة (باستثناء مزارع شبعا، التي كان يوجد فيها، قبل حرب حزيران 1967، مخفر عسكري سوري (لا لبناني)، وجرى احتلالها من قبل الجيش الاسرائيلي بوصفها جزءا من الجولان).
وبتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة من قبل الجيش الاسرائيلي، كسرت المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية "عامليْ القوة": "الحقوقي" والستراتيجي، لاسرائيل:
فأولا ــ كان من الواضح تماما ان المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية، التي انتصرت على الجيش الاسرائيلي، لم تكن تملك 1\10.000 مما كان يمتلكه اي جيش عربي واجه اسرائيل بما في ذلك قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم ياسر عرفات، ولا 1\100.000 مما كان يمتلكه الجيش الاسرائيلي وعملاؤه "السياديون" اللبنانيون. وبهذا الانتصار اعادت المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية ايقاف الحقيقة التاريحية على قدميها، بعد ان كانت مقلوبة رأسا على عقب، بإظهار انتصار "قوة الحق" العربي على "حق القوة" الاسرائيلي.
وثانيا ــ بتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة في ايار 2000، وبالانتصار الحاسم للمقاومة بقيادة حزب الله في العدوان الغاشم على لبنان في 2006، ومنع الجيش الاسرائيلي من التقدم واحتلال شبر واحد من الارض اللبنانية، كسرت المقاومة الاسلامية مرة والى الابد اسطورة "الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر". وقدم الشهداء الابرار والجرحى والمجاهدون الابطال في المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، المثال الحي، لجميع الجيوش العربية ولجميع فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة، بأن دحر الاحتلال الاسرائيلي، والانتصار على الجيش الاسرائيلي، وتحرير القدس وفلسطين، والقضاء على دولة الاغتصاب والعدوان "اسرائيل"، هو... أمر ممكن!
وهذا هو بالضبط ما يجعل مسألة القضاء على هذا النموذج التحريري اللبناني مسألة وجودية بالنسبة لاسرائيل.
اي انه مثلما لا تستطيع اسرائيل القبول بقيام دولة فلسطينية، فإنها لا تستطيع القبول باستمرار وجود الدولة اللبنانية. لانها تعلم انه اذا لم يتم القضاء على هذا "المثال اللبناني"، فإنه سيتكرر حتما، فلسطينيا وعربيا واسلاميا وانسانيا.
وهذا هو بالضبط ما يدفع الان الامبريالية الاميركية والاطلسية، واليهودية العالمية، والانظمة الخيانية والانهزامية العربية، و"السياديين" و"الحياديين" اللبنانيين الخونة، لشن حرب تفكيك الدولة اللبنانية، والافقار والاذلال والتهجير والتجويع حتى الموت ضد جماهير الشعب اللبناني، كما تسارع الانظمة العربية الخائنة، للتطبيع مع اسرائيل، لحماية نفسها وعدم سقوطها الحتمي مع سقوط اسرائيل؛ لان سقوط اسرائيل يعني اعادة نظر جذرية في كامل التركيبة الجيوبوليتكية للمنطقة العربية ــ الاسلامية بأسرها.
لقد قضي الامر، ووصلت "اللعبة" الى خواتيمها.
والان ــ وبالرغم من النباح المبحوح لجميع ابواق الامبريالية الاميركية ــ الاطلسية، واليهودية العالمية و"الاسرائيلية"، والعربية الخائنة، و"السيادية" اللبنانية، فإن اسرائيل تقف امام خيارين تاريخيين لا ثالث لهما:
الاول ــ اما ان تنتصر "الحكمة" لدى "حكماء صهيون"، ويذعنون لنداء التاريخ، ويقررون "طوعا" الاعتذار للشعب الفلسطيني المظلوم، والشعب اللبناني المظلوم، وجميع الشعوب العربية، على ما ارتكبوه من جرائم ضد الانسانية، باسم "الحق الالهي" صوريا، و"الحق الاستعماري" فعليا، ويشرعون في حل جيشهم وتفكيك دولتهم، واعادة اليهود الاوروبيين والاميركيين الى اوروبا واميركا، والروس والاوكرانيين والاوروبيين الشرقيين الى روسيا القادرة على استيعابهم بسهولة، والعرب الى بلدانهم الاصلية، ومن شاء منهم البقاء في فلسطين كمواطن في الدولة العربية الفلسطينية العتيدة، ولم تكن يداه ملطختين بدماء الاطفال والنساء والمظلومين، فنحن شعب يخاف الله، وإن الله غفور رحيم.
والثاني ــ اما اذا وسوست شياطين صهيون لقادة "اسرائيل" ان يفكروا مرة اخرى في العدوان على لبنان، فستفتح لهم ابواب الجحيم على مصاريعها وبئس المصير!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل