صوفيا ــ إعداد: جورج حداد
مقـدمة
لا خلاف ان روسيا السوفياتية كانت تمثل قلب الاتحاد السوفياتي السابق والكتلة الوطنية الاكبر فيه. وفي المرحلة السوفياتية قدم الاتحاد السوفياتي مساعدات اقتصادية وعسكرية وتعليمية وثقافية هائلة للبلدان العربية المستقلة حديثا والخارجة لتوها من تحت ربقة الاستعمار القديم الغربي. ولا تزال هذه المساعدات ماثلة الى اليوم في مختلف البلدان العربية: في السد العالي بمصر، وفي المصانع والمعامل ومحطات توليد الكهرباء والمطارات والمرافئ، والنهضة الزراعية والبنى التحتية، وبشخص عشرات الوف الخريجين العرب من الجامعات السوفياتية، من الاطباء والمهندسين والخبراء والمثقفين والضباط الذين حصلوا على منح دراسية مجانية وتخرجوا من مختلف الجامعات والمعاهد العليا والاكاديميات العسكرية الروسية خاصة والسوفياتية عامة.
كما ان الحركات والمنظمات والاحزاب الوطنية والتقدمية العربية، ولا سيما الاحزاب الشيوعية، كانت تتلقى الدعم السياسي واللوجستي والتسليحي والاستشفائي والاسكاني والحياتي العائلي وحتى الترفيهي للكوادر القيادية ولجمهور واسع جدا من المناضلين.
وهناك فكرة شائعة وهي ان تلك المساعدات الاخوية الروسية للشعوب العربية والاسلامية انما كانت تتم انطلاقا من الايديولوجية والعقيدة السياسية للنظام السوفياتي السابق في روسيا والاتحاد السوفياتي. وهذه الفكرة هي صحيحة، في جانب، الا انها قاصرة ومبتسرة بل ومشوهة، في جانب اخر.
فالنظام السوفياتي في العهد الستاليني اعترف بتقسيم فلسطين واقامة الكيان الاسرائيلي الغاصب على حساب طرد جماهير الشعب الفلسطيني من ارضه وبيوته ومدنه وقراه. اي ان مواقف النظام السوفياتي السابق كانت قضية سياسية ومسألة مشروطة ترتبط بالقناعات والحسابات السياسية الظرفية لقيادة النظام، التي قد تخطئ وقد تصيب.
اما صداقة الشعب الروسي للعرب والشعوب العربية والاسلامية المناضلة فهي قضية وجودية غير مشروطة وفوق ــ سياسية، وظاهرة تاريخية اقدم بكثير من النظام السوفياتي، وهي مستمرة بعده. وقد نشأت الصداقة الشعبية الروسية لشعوب الامة العربية عبر التاريخ، وتأصلت في الثقافة القومية والتكوين النفسي للشعب الروسي، منذ بدايات تكوينه كشعب وكأمة.
وتعود صداقة الروس للعرب، الى ألفي سنة واكثر، حتى قبل ان يتشكلوا ــ اي الروس ــ كشعب ودولة، وقبل ان تتبوتق شعوب العراق وسوريا ومصر وشمال افريقيا مع اليمن وشبه الجزيرة العربية في الاطار الحضاري للامة العربية. وبكلمات اكثر تحديدا فإن الصداقة الروسية ــ العربية تعود الى المرحلة التي نشأت فيها الامبراطورية الرومانية القديمة ذات النظام العبودي العنصري، وقامت بشن الحرب على قرطاجة الفينيقية ــ الكنعانية، التي كانت تمثل خط الدفاع الاول عن الشرق بأسره، بما فيه الاراضي والجماعات البشرية التي تشكل منها لاحقا الشعب والدولة الروسيان. فإن "الروس" القدماء، وقبل ان يتشكلوا كأمة، وجدوا انفسهم في خندق واحد مع "العرب" (بالمعنى الحضاري الواسع للكلمة، اي الفينيقيين ــ الكنعانيين والاقباط والفرعونيين المصريين، والسريان ــ السوريين، والبابليين والاشوريين والكلدانيين ــ العراقيين، والحِمْيَريين اليمنيين وبقية سكان شبه الجزيرة العربية).
الخلفية التاريخية الجيوسياسية
وينبغي ان نتوقف هنا عند بعض الوقائع التاريخية في غاية الاهمية والدلالة وهي:
ــ1ــ في ظروف الانطلاق، والمسار المعقد، واخيرا فشل "الحملات الصليبية الشرقية" (ضد المنطقة العربية ــ الاسلامية)، و"الحملات الصليبية الشمالية" (ضد روسيا)؛ ازدادت حاجة اوروبا الغربية الى الرأسمال الربوي ــ التجاري اليهودي؛ وفي الوقت ذاته ــ ولاسباب سياسية، شعبوية، متلبسة بالجلباب الديني "المسيحي" المزيف ــ صعّدت المؤسسة الاكليروسية، الكاثوليكية خاصة، الحملات الشعبوية المعادية لليهود العاديين، جنبا الى جنب الحملات ضد الاسلام والمسلمين. وعلى هذه الخلفية الاساسية، التقت مصلحة الطبقات الحاكمة والمتسلطة في اوروبا، وعلى رأسها المؤسسة البابوية، مع مصلحة الطغمة المالية العليا اليهودية، في دعم توسع تسلط الايوبيين الاكراد والمماليك، ومن ثم السلطنة العثمانية الصاعدة، ضد العرب والفرس المسلمين، وضد المسيحيين الشرقيين عموما، من عرب وروس واغريق (بيزنطيين) وارمن وبلقانيين؛ وهو ما شمل الدعم الاوروبي الغربي واليهودي العالمي للاحتلال العثماني للقسطنطينية وانتزاعها من المسيحيين الشرقيين.
ــ2ــ عشية وخلال استيلاء العثمانيين على القسطنطينية، وتحويلها الى عاصمة للسلطنة العثمانية، تحولت المناطق "العثمانية الجديدة" المحتلة الى مركز استقطاب للطغمة المالية الربوية ــ التجارية اليهودية، وحولها الحرفيون والاختصاصيون وعامة اليهود، الفارون من مختلف المناطق الاوروبية ومن روسيا واوكرانيا وبولونيا. ومنذ عهد السلطان محمد الثاني (الفاتح)، حتى غزوة نابوليون للشرق، كان لليهود وضع مالي ــ اقتصادي ــ اجتماعي ــ سياسي مميز في السلطنة العثمانية. وبعد تحطيم الاسطول الفرنسي لنابوليون في المعركة البحرية في خليج ابو قير بمصر في تموز 1798، شجع المتنفذون اليهود في اسطنبول السلطان سليم الثالث على شن الحرب ضد فرنسا، فأرسل جيشين إلى مصر. انطلق أول جيش، تحت قيادة أحمد باشا الجزار، مع 12.000 جندي. وتم تعزيزه بقوات من دمشق، حلب، العراق (10.000 رجل) ، والقدس (8.000 رجل). وانطلق الجيش الثاني، تحت قيادة مصطفى باشا، الى رودس مع حوالي ثمانية آلاف جندي. كما أُعلم مصطفى باشا أنه سيتم دعم جيشه بحوالي 42.000 جندي من ألبانيا والقسطنطينية والأناضول واليونان.
ــ3ــ ومن الامثلة التاريخية عن التعاون الوثيق بين اليهود والطغاة العثمانيين: ان قائد المقاومة العكاوية ضد الحصار الفرنسي البونابرتي، كان بالتحديد: الوجيه اليهودي، الافندي حاييم فرحي، الذي كان المستشار الاول، والممول الاول، لحاكم عكا في حينه احمد باشا الجزار، العائد للتو من اسطنبول مع جيش عثماني. وقد اتصل نابوليون، بواسطة بعض "يهوده"، بهذا الحاييم فرحي، مرسلا اليه رزمة من الوعود والعهود، لاستمالته. ولكن اليهودي حاييم فرحي، العثماني، "الوطناوي جدا" و"الاسلاماوي جدا"، بقي وفيا لسيده الوحش البشري المعروف احمد باشا الملقب بالجزار، ورفض جميع وعود وعهود نابوليون. وبالعكس، فإن حاييم فرحي عمد الى طلب المزيد من المساعدات، بالمدافع والقنابل والاسلحة والذخائر والمؤن، من قائد الاسطول الانكليزي الاميرال نيلسون، لتدعيم وتشديد دفاعات عكا، التي لم تصمد الا بفضل الدعم الانكليزي من البحر المفتوح، مما ساهم ــ الى جانب وباء الطاعون الذي تفشى بين الجنود الفرنسيين ــ في إفشال الحصار الفرنسي البونابرتي، ورفع الرايات العثمانية مجددا على اسوار عكا.
ــ4ــ ان فشل الحملات الصليبية "الشرقية" و"الشمالية" كان بمثابة زلزال قوض اسس نمط الانتاج الاقطاعي، والانظمة الاقطاعية ــ الملكية المطلقة في اوروبا، واخذ ينمو ويتوسع نمط الانتاج الرأسمالي، ومن ثم انتشرت الافكار الليبيرالية للبورجوازية المدينية الصاعدة. وفي هذا المناخ قامت في اوروبا الحركات الاصلاحية، الدينية والاجتماعية والسياسية، وبرزت خصوصا الثورة الاصلاحية الانكليزية بقيادة كرومويل، التي آلت الى نشوء الملكية الدستورية والبرلمانية في انكلترا، المترافقة مع نزعة الاستعمار الانكليزي. كما برزت الثورة الفرنسية بقيادة "اليعاقبة"، التي ادت الى ظهور النزعة الاستعمارية الفرنسية والامبراطورية البونابرتية التي هاجمت وقوضت الانظمة الملكية الاوروبية التي كانت منضوية تحت جناح البابوية الكاثوليكية. ولكن "الاندفاعة الثورية" الفرنسية خارج حدود فرنسا عجزت عن تحطيم الملكية البريطانية بسبب طابعها "الجزيري" وتفوقها البحري.
ــ5ــ وفي هذه الاوضاع الاوروبية المضطربة، عمدت الطغمة المالية اليهودية العليا العالمية الى تكوين "المحافل الماسونية" و"نوادي النورانيين" (The Illuminati)، التي بواسطتها شاركت في الحركات الاصلاحية والثورية البورجوازية، الرأسمالية ــ الاستعمارية، الاوروبية. وتمكنت الطغمة المالية اليهودية العليا من ان تنشئ، مباشرة او بواسطة "المحافل الماسونية" و"نوادي النورانيين"، علاقات وثيقة مع الاوساط المالية والتجارية والقيادات السياسية والعسكرية الفرنسية (الفرنكو ــ لاتينية) والانكليزية (الانغلو ــ ساكسونية) والروسية والعثمانية؛ وكانت خطتها تقوم على ما يلي:
ــ أ ــ دعم الجميع ضد الجميع، لاضعاف الجميع، والسيطرة على الجميع.
ــ ب ــ اضعاف وتقويض السلطنة العثمانية وروسيا، وتحويل اراضيهما الى لقمة سائغة وفريسة للاستعمار الاوروبي الغربي، المرتبط عضويا بالطغمة المالية العليا اليهودية.
ــ ج ــ واخيرا تقرير وضع "بيضة القبان" الرأسمالية الاحتكارية اليهودية في جانب المعسكر الاستعماري الذي يبرز على الساحة الدولية بأنه الاقوى: (الفرنسي) الفرنكو ــ لاتيني، او (الانكليزي) الانغلو ــ ساكسوني.
ــ6ــ كانت الطغمة المالية اليهودية العليا تدرك تماما ان اوروبا (والعالم) لا تتسع لوجود مركزين تسلطيين استعماريين. وانه ينبغي لاحد المحورين الاستعماريين، الانغلو ــ ساكسوني (الانكليزي)، او الفرنكو ــ لاتيني (الفرنسي)، ان يسيطر احدهما على الآخر. وكانت هي على علاقة وثيقة بالمحورين، وتغذي الصراع بينهما وتستفيد منه وتنتظر نتائجه. ولكن اخذا بالاعتبار ديناميكية الثورة الفرنسية والكتلة الفرنكو ــ لاتينية الاكبر في اوروبا، فإن الاوساط البورجوازية اليهودية وطدت علاقات وثيقة جدا مع الدوائر الثورية الفرنسية وخصوصا عبر "نادي اليعاقبة"، وعلى رأسه روبسبيير ومارا ودانتون؛ وهذا النادي كان المحرك الاكبر للثورة، ومن ثم حكومة "الادارة" (directoire) التي قادها نابوليون. والدوائر اليهودية هي التي اوعزت لنابوليون بشن حملته على مصر والشام، ومولت تلك الحملة، لاجل قطع طرق المواصلات البحرية، العسكرية والتجارية، امام الانكليز، من بريطانيا الى الهند.
وبعد فشل تلك الحملة لنابوليون، بسبب التدخل الانكليزي الحاسم لجانب السلطنة العثمانية، فإن الدوائر اليهودية ذاتها هي التي اشارت عليه بشن حملته الهائلة على روسيا، في 1812، ومولت تلك الحملة، بهدف الاستيلاء على الثروات اللامتناهية لروسيا، كمقدمة شرطية للانتصار على بريطانيا، والزحف على اسطنبول (القسطنطينية) من بولونيا واوكرانيا، عبر البلقان والبحر الاسود وما وراء القوقاز، وسحق السلطنة العثمانية، واكتساح الصين والهند وآسيا الغربية وكل افريقيا، وفرض السيطرة الفرنسية على العالم.
التاريخ الذي تكتبه الشعوب بالدماء لا يطفئ نوره الاعداء والعملاء
كانت النخبة الروسية القديمة، ومن خلال علاقات السلافيين القدماء (ولا سيما الروس) بالاغريق والمقدونيين والبلغار القدماء، القريبين جميعا من الشرق "العربي"، ــ كانت تدرك ان السيد المسيح الذي قتله الرومان واليهود، والمسيحيين الاوائل (السوريين والفلسطينيين واليمنيين وعرب الجزيرة والقبط) الذين ذاقوا الامرين على ايدي الرومان، بعد تدمير قرطاجة، كانوا كلهم "عربا".
وقد وقفت الجماعات الانسانية التي تشكل منها لاحقا الشعب الروسي، الى جانب الكنعانيين ــ الفلسطينيين والسوريين والاقباط والمسيحيين "العرب"، في الكفاح ضد الامبراطورية الرومانية. ويعود للجماعات الانسانية "الروسية" الفضل الاول في تحطيم موجة التوسع الاستعماري ــ العبودي الروماني. وهذا ما اكسب الروس خصوصا والسلافيين عموما حقدا خاصا من قبل روما، وهو حقد تاريخي ما زال ساريا الى اليوم في اوروبا الغربية والغرب عموما. وكتجسيد لحقد الرومان على الروس، فإن لفظة "موجيك" الروسية، التي تعني حرفيا "رجل" او "الرجل"، صارت تستعمل في اوروبا (بلفظها الحرفي الروسي) ككلمة سخرية واهانة وتعني "الفظ" او "غير المتمدن" او "الهمجي"؛ كما حرّفوا كلمة (Slav) ومعناها "سلافي" لتصبح (slave) ومعناها "عبد". ولكن على صخرة مقاومة أولئك "الافظاظ ــ الهمج" و"العبيد" الروس تحطمت نزعة السيطرة الرومانية على العالم، ومن ثم تحطمت الامبراطورية الرومانية ذاتها، كما اخذت اليوم تتحطم نزعة السيطرة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية على العالم.
*****
بعد ان تبنت روسيا، في نهاية القرن العاشر، المسيحية الشرقية (الاورثوذوكسية)، اعترفت البطريركية المسكونية الاورثوذوكسية في القسطنطينية بالكنيسة الاورثوذوكسية الروسية؛ وحسب المعطيات التاريخية، فإن أول مطران ارسلته كنيسة القسطنطينية الى روسيا ويدعى ميخائيل كان ــ كما هو القديس مار مارون الذي يتبع له الموارنة في لبنان ــ من أصل سرياني ــ سوري. وكان عشرات الالوف من الروس يأتون للحج الى القدس وبيت لحم والناصرة وغيرها من الاراضي الفلسطينية المقدسة. وكان الالوف منهم ينذرون ان يحجوا الى فلسطين سيرا على الاقدام لمسافة الوف الكيلومترات من الاراضي الروسية الشاسعة الى فلسطين البعيدة. وكان الكثير منهم يأتي بدون مال وبدون زاد، ناذرا ان يشحذ خبزه في الطريق الى فلسطين.
*****
وفي القرون الوسطى الباكرة (السابع والثامن والتاسع)، وبمبادرة من التجار والنخاسين "اليهود العرب" (العبرانيين)، الذين كانوا يسيطرون على التجارة العالمية من الاندلس وما بعدها حتى سور الصين وما بعده، تأسست على سواحل بحر قزوين، وتوسعت، مملكة الخزر (وهم من اصل طوراني "تركي قديم")، الذين كانوا على الوثنية، وقلة منهم كانت على الاسلام، فتبنوا اليهودية نزولا عند رغبة التجار والنخاسين "اليهود العرب" العبرانيين، ولاجل تأمين مصالح الطرفين. وكان "اقتصاد" تلك المملكة الطفيلية والهمجية يقوم على الغزو والسلب والنهب واصطياد البشر، وخصوصا الفتيان والصبايا. وكان الهدف او الضحايا الاول لغزوات الخزر هم البلغار القدماء (بلغار الفولغا، الذين كانوا على الاسلام، ولا تزال بقاياهم موجودة الى اليوم في جمهورية روسيا الاتحادية، ويتكلمون اللغة البلغارية القديمة). والهدف الثاني للغزوات الخزرية كان الجماعات الروسية المتفرقة. وكان اللصوص وقطاع الطرق اليهود الخزر يستهلكون ما يسرقونه من اغذية، ويجمعون باقي المنهوبات (الاخشاب النادرة والاحجار الكريمة وجلود الحيوانات وغيرها) وخصوصا الاسرى والسبايا، ويبيعونهم للتجار والنخاسين اليهود العبرانيين، الذين كانوا يبيعونهم بدورهم في اسواق النخاسة في بغداد ودمشق والقاهرة والمغرب والاندلس.
وكان اليهود "العرب" العبرانيون يأملون ان تواصل المملكة اليهودية الخزرية التوسع وتقوى الى درجة يستطيعون معها، بواسطة تلك الدولة الباغية، السيطرة على الاراضي الروسية و"الاوكرانية"، ومنها على القسطنطينية وبيزنطية "الاورثوذوكسية، واخيرا القيام بالغزو والسيطرة التدريجية على الدولة العربية ــ الاسلامية وخصوصا على القدس وفلسطين، لتجديد ما يسمى "مملكة داود" اليهودية الشيطانية، كما يدعو "يهوه" في التوراة اليهودية.
وكان النخاسون اليهود يشيعون بين "زبائنهم" من الامراء والقادة المسلمين ان "العبيد" و"الجواري" البيض او "البيضان" هم "روميون" و"روميات"، في اشارة الى البيزنطيين (وكانت بيزنطية لا تزال في حالة حرب اسمية مع الدولة العربية ــ الاسلامية) وذلك من اجل التخفيف من وقع جريمتهم ونوع عملهم اللاانساني. وبشكل خاص من اجل التستير على نواياهم للسيطرة على الدولة العربية ــ الاسلامية والقدس وفلسطين. وقد تبنى التاريخ الرسمي العربي هذا التعريف "الرومي"، للعبيد والغلمان والاماء والجواري، مع ان الغالبية العظمى من اولئك البؤساء او كلهم كانوا من الروس والبلغار القدماء ولم يكونوا بيزنطيين.
وعلى هذه الخلفية التقت المصلحة الوجودية ــ الانسانية ــ الحضارية، للروس والعرب، في الكفاح ضد مملكة الخزر اليهودية.
وحينما نشأت اول دولة روسية في مدينة كييف (عاصمة اوكرانيا اليوم)، وسميت "روس كييف" (اي "روسيا كييف" او "الدولة الروسية في كييف")، بقيادة الامير سفياتوسلاف (الذي طوّبته الكنيسة الاورثوذوكسية الروسية لاحقا كقديس)، كان اول قرار ستراتيجي رئيسي (او "قرار دولة") اتخذته الدولة الروسية الناشئة في 963م، هو التخلص من كابوس مملكة الخزر اليهودية. وتجهز الجيش الروسي الموحد الجديد، بقيادة الامير سفياتوسلاف وهاجم في 965م إيتيل عاصمة خزاريا على سواحل بحر قزوين. واستمرت المعركة 8 ايام بلياليها. وتقول الروايات ان سفياتوسلاف ظل خلالها يقاتل ويقود المعركة وهو على صهوة حصانه. وتم تدمير إيتيل تدميرا كاملا ومسحت كليا عن الخريطة. وسقطت نهائيا مخططات اليهود العبرانيين للسيطرة على المنطقة العربية وفلسطين، بواسطة اليهود الخزر = الاشكينازيم = الغربيين؛ حتى صدور "وعد بلفور" في 1917، حينما جاء الخزر لاحتلال فلسطين بمساعدة المستعمرين الانكليز والغربيين. وبعد تدمير إيتيل والقضاء على مملكة خزاريا اليهودية، مُنع اليهود من السكن في محيط بحر قزوين ومصب نهر الفولغا، ومن السكن والتجمع في المدن الروسية، وسمح لهم في السكن فقط في الارياف المتباعدة. ولهذا تسلل القسم الاكبر منهم الى بولونيا الكاثوليكية وبقية انحاء اوروبا المسيحية الغربية. وعلى هذه الخلفية التاريخية، فإن القيادة اليهودية العالمية العليا، المالية ــ السياسية ــ الدينية، التي تتشكل في الغالب من اليهود الخزر = الاشكنازيم = الغربيين، تكن حقدا دفينا على روسيا والشعب الروسي، اكثر بكثير من حقدها على العرب والفلسطينيين، وذلك بالرغم من ان المقاومة البطلة للشعب الروسي ضد النازيين الهتلريين هي التي انقذت اليهود الاوروبيين من الابادة الكاملة على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.
ولو قدّر لمملكة خزاريا ان تبقى، ولمشروع اليهود الشرقيين "العرب" (العبرانيين)، ان يتحقق، بواسطة تلك المملكة الهمجية، لما اتخذ اليهود من العرب والمسلمين عبيدا، لانهم كانوا يريدون الارض فقط بدون شعب، بل لذبحوهم بالملايين ولشردوا من بقي حيا منهم في اربع جهات الارض.
*****
وفيما بعد، في الربع الاخير من القرن العاشر، دخلت روسيا في المسيحية الاورثوذوكسية، ليس لاسباب لاهوتية وليتورجية وطقوسية دينية كما يدعي الدينيون الجهلة والمسطحون والمغرضون، وكما يعتقد بعض المؤمنين السذج، بل لسبب سياسي ــ اجتماعي ــ قومي اساسي هو ان الاورثوذوكسية هي ضد روما واوروبا الغربية الكاثوليكية. اي ان الروس حينما ارادوا الانتماء الى المسيحية واختيار احد المذاهب، سألوا: ما هي ديانة (او مذهب) روما، وقيل لهم انها الكاثوليكية، قالوا: اذن نحن نكون اورثوذوكسيين، اي ضد روما الكاثوليكية. وطبعا انسحب هذا الموقف لاحقا على البروتستانتية والانغليكانية اللتين هما متفرعتين عن الكاثوليكية. وهذا بالاضافة الى العداء المتبادل بين الروس واليهود بسبب القضاء الروسي على مملكة خزاريا. وهذا يعني ان روسيا لا تعادي الكاثوليكية والمسيحية الغربية واليهودية لاسباب عنصرية ــ طائفية ــ مذهبية ــ دينية ــ لاهوتية؛ بل لسبب سياسي ــ اجتماعي ــ قومي ــ تحرري معادٍ للغزو والاستعمار والاستعباد. وبكلمات اخرى ان روسيا لم تصبح معادية لروما والغرب الاستعماري والصهيونية لانها "عملت اورثوذوكسية"؛ بل على العكس تماما هي "عملت اورثوذوكسية" لانها معادية سياسيا واجتماعيا وقوميا لروما والغرب الاوروبي والاميركي واليهودي، الاستعماري، المعادي للروس والعرب والمسلمين وجميع شعوب العالم.
وينسحب ذلك ايضا على قيام الثورة الاشتراكية الروسية في 1917. فان الدافع الاول والاساسي لتبني روسيا للاشتراكية لم يكن لان الانتلجنسيا الروسية كانت اكثر اطلاعا وتعمقا بالنظرية الماركسية ــ اللينينية، من الانتلجنسيا الالمانية والانكليزية والفرنسية والغربية عموما، ولا لان الفكر الاشتراكي العلمي اوو الاجتماعي او الانساني او الطوباوي كان اكثر انتشارا في روسيا، منه في اوروبا واميركا، بل لان جماهير الشعب الروسي كانت معادية للغرب الاستعماري "بالفطرة المتشكلة تاريخيا". اي ان روسيا لم تعادِ الغرب لانها "عملت اشتراكية وشيوعية"، بل على العكس تماما هي "عملت اشتراكية وشيوعية" لانها (في اعماق وجدانها الشعبي الاصيل) معادية للغرب الاستغلالي ــ العبودي ــ الاستعماري، وصديقة لكل الشعوب المناضلة ضد العبودية والاستعمار.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر، يمكن القول إن عدم التجذر الكافي للفكر الاشتراكي العلمي في روسيا، ولو بالمستوى الذي كانه في اوروبا الغربية، هو الذي سمح للدكتاتور المتوحش، وخائن الشيوعية الاكبر، العميل السري لليهودية العالمية، يوسف ستالين، ان يتآمر ويدبر قتل لينين جسديا، بدون حساب، وان يشوه الماركسية ــ اللينينية ويزورها، وينشئ طبقة بيروقراطية فاسدة متعالية على الشعب، هي ذاتها التي خانت الاشتراكية كنظام اجتماعي، بكل تشوهاته الستالينية، وخانت روسيا كبلد وشعب ووطن في تسعينات القرن الماضي، وحاولت تحويل روسيا الى مستعمرة اميركية ــ اوروبية غربية ــ يهودية. ولكن الوطنية الاصيلة للشعب الروسي، المتشكلة تاريخيا، افشلت في نهاية المطاف هذا المخطط لايتام الستالينية الخونة وعملاء اليهودية العالمية، امثال غورباتشوف ويلتسين.
*****
وفي ظروف الخوف المَرَضي من احتمالات توطيد دعائم المسيحية الحقيقية الشرقية (الاورثوذوكسية)، والاسلام الحقيقي المعادي للعبودية والظلم والاستعباد، في روسيا والعالم العربي ــ الاسلامي، بادرت البابوية الكاثوليكية الى التواصل مع جميع ملوك وامراء ونبلاء اوروبا الغربية وتحريضهم للتكاتف في توحيد الجهود لتمويل وحشد الجيوش المشتركة لتنظيم وتسيير "حملات صليبية" للقضاء على المسيحية الشرقية (الاورثوذوكسية) في روسيا، وعلى الاسلام الجهادي المعادي للغرب العبودي في العالم العربي ــ الاسلامي. وانقسمت تلك "الحملات" الى فرعين، كان عليهما الالتقاء في القدس، لفرض السيادة الاوروبية الغربية (باسم الكاثوليكية والمسيحية الغربية) على شرق اوروبا وروسيا والعالم العربي ــ الاسلامي، ومن ثم على العالم قاطبة. وهذان الفرعان هما:
ــ1ــ الفرع الاول: هو "الحملات الصليبية الشرقية"، التي اتجه اغلبها برا عبر اوروبا الشرقية والبلقان وسواحل شرقي البحر الابيض المتوسط؛ واتجه بعضها الاخر بحرا عبر مصر، وصولا الى فلسطين والقدس.
ــ2ــ والفرع الثاني: هو "الحملات الصليبية الشمالية"، التي اتجهت من شمال المانيا ودول البلطيق وسكندينافيا وبولونيا الكاثوليكية، وكان هدفه مهاجمة روسيا من ظهرها واحتلالها واختراقها وتجاوزها وصولا الى فلسطين والقدس ايضا.
وقد تمكن فرع "الحملات الصليبية الشرقية" من اقامة الامارات والممالك الصليبية على امتداد سواحل البحر الابيض المتوسط، والوصول الى القدس واحتلالها في 1099 وذبح اهاليها، بسبب ضعف الامبراطورية البيزنطية الاغريقية ــ البلقانية (المسيحية الشرقية الاورثوذوكسية)، من جهة، وتلكؤ وتذبذب مواقف الاتراك وحلفائهم الاكراد (المسلمين جميعا!) في مواجهة الصليبيين، من جهة ثانية.
اما "الحملات الصليبية الشمالية"، فقد واجهت مقاومة شديدة من قبل الدولة الروسية الناشئة والشعب الروسي بالرغم من الفقر والضعف العسكري. وفي سنة 1242 وقعت معركة حاسمة بين الجيش الروسي الضعيف المؤلف من المشاة والخيالة خفيفة التسلح وكان تعداده اقل من 50 الف مقاتل بقيادة الامير الكسندر نيفسكي، وبين الجيش الصليبي المخيف وكانت قوته الرئيسية تتشكل من 100.000 فارس مدرع تدريعا كاملا للفارس والحصان معا، وكان يتألف من الالمان والبلطيقيين والبولونيين والسكندينافيين وخصوصا السويديين. وكان من المحتم، في مميزان القوى الظاهر، ان تتم بسهولة هزيمة الجيش الروسي الضعيف. ولكن الامير الكسندر نيفسكي وضع خطة فذة تم بموجبها استدراج الجيش الصليببي لخوض المعركة الحاسمة في الشتاء فوق بحيرة نيفا، المتفرعة عن نهر نيفا (وكانت متجمدة تماما، واستطاعت الخيالة الروسية الخفيفة العبور بسهولة فوق القشرة الجليدية والتربص على حوافي البحيرة). وحينما دخل الجيش الصليبي ذو الاثقال الكبيرة فوق البحيرة، انكسرت القشرة الجليدية تحت الفرسان، الذين اخذوا يغرقون بفعل ثقل دروعهم ويتجمدون ويموتون من الصقيع، والفارس الذي كان يستطيع التخلص من درعه حتى لا يموت غرقا وصقيعا، ويفر الى الشاطئ، كان الفرسان والمشاة الروس يتطايرون اليه ويمزقونه بسيوفهم الخفيفة. وكانت هذه الواقعة معركة فاصلة تكبد فيها الصليبيون عشرات الوف القتلى، وتوقفت بعدها "الحملات الصليبية الشمالية"؛ واضطر الالمان لتوقيع اتفاقية يتعهدون بموجبها بالانسحاب الكامل من الاراضي الروسية وعدم التوجه نحوها لاحقا؛ وهوو ما نقضه النظام الهتلري في منتصف القرن العشرين، وتحطمت قرونه على صخرة المقاومة الشعبية الروسية. اما السويديون، الذين أبيدت تماما غالبية فرسانهم ونبلائهم، فتلقوا درسا قاسيا امتنعوا بعده عن القيام بأي عمل توسعي وعدائي ضد روسيا طوال مئات السنين لاحقا. وفيما بعد طوّبت الكنيسة الاورثوذوكسية الروسية الامير الكسندر نيفسكي كقديس؛ واقيم العديد من الكنائس باسمه في الكثير من المدن الروسية والسلافية بما فيها اكبر كنيسة اورثوذوكسية في وسط العاصمة البلغارية صوفيا.
ولو قدر لـ"الحملات الصليبية الشمالية" ان تخترق روسيا وتصل الى القدس حيث تلتقي مع الحملات الصليبية الشرقية، لكان تاريخ الشرق العربي ــ الاسلامي، والعالم، اتخذ مسارا آخر، ولكان مصير الشعوب العربية والاسلامية أسوأ من المصير الذي واجهه الهنود الحمر في اميركا بعد ثلاثة قرون، ولكانت ارتكبت ضدهم مجازر فظيعة ابادت اكثريتهم الساحقة، والقلة ممن يبقون احياء كان سيجري تجميعهم في "محميات طبيعية" للاجناس المهددة بالانقراض، كما جرى للهنود الحمر في اميركا الشمالية لاحقا. *****
وفي هذه الحقبة التاريخية ذاتها تعرض العالم العربي ــ الاسلامي، وروسيا، معا، للغزو المغولي التتاري.
ففي الربع الاول من القرن الثالث عشر اقتحم المغول والتتار الاراضي الروسية قادمين من الصين. وفي الوقت ذاته تقريبا اقتحموا بلاد فارس، وبعدها العراق ثم البلاد الشامية.
وفي 1258م حاصر هولاكو عاصمة الخلافة العباسية بغداد التي اقتحمها المغول وارتكبوا فيها احدى اكبر المجازر في التاريخ الانساني، واحرقوا مكتبة بيت الحكمة ورموا القسم الاكبر من المخطوطات والكتب في نهري دجلة والفرات.
وبعد احتلال بغداد تقدموا واحتلوا المدن والمناطق الشامية واستقروا في دمشق. ثم جهزوا جيشا من 20.000 مقاتل لمهاجمة مصر واحتلالها. وقد نفر جيش المماليك لملاقاتهم خارج الحدود المصرية؛ واشتبك الجيشان في معركة عين جالوت في فلسطين، التي هزم فيها جيش المغول في 1260م لاول مرة على الارض العربية.
ويقول الكثير من المحللين التاريخيين ان الخطة الاساسية لامبراطورية جنكيزخان المغولية لم تكن تتوقف عند حدود روسيا والاراضي العربية، بل كانت تهدف الى:
ــ1ــ تجاوز روسيا واحتلال كافة الاراضي الاوروبية وصولا الى السواحل الاوروبية للمحيط الاطلسي.
ــ2ــ تجاوز بلاد الشام الى وادي النيل ومنه الى كافة الاراضي الافريقية، وصولا الى السواحل الافريقية للمحيط الاطلسي.
ــ3ــ تجاوز الصين الى الهند واحتلالها وصولا الى السواحل الهندية للمحيط الهندي.
اي ان امبراطورية جنكيزخان المغولية كانت تطمح الى احتلال وحكم جميع اراضي العالم القديم (اسيا واوروبا وافريقيا) التي يمكن الوصول اليها على صهوات الخيل التي كان المغول يجيدون ركوبها والقتال بواسطتها.
ولكن خلافا لاي منطقة اخرى احتلها المغول والتتار، فإنهم في روسيا واجهوا مقاومة شعبية شديدة، متواصلة وشاملة.
وخلال مرحلة الغزو المغولي، كانت تقوم على الاراضي الروسية امارات متفرقة لم تكن تتعاون مع بعضها البعض في مواجهة المغول، مما سهل سقوطها واحدة تلو الاخرى. ولكن المقاومة لم تكن تتوقف بعد هزيمة جيش اي امارة، بل كانت تنطلق وتعم وتتواصل في جميع مدن وارياف كل امارة كان يحتلها المغول والتتار.
وهكذا وجد المغول والتتار انفسهم يخوضون حربا متواصلة على كل شبر من الاراضي الروسية التي تحولت الى ساحة حرب دائمة.
وقد كبدت هذه الحرب الشعب الروسي خسائر هائلة، حيث تم سلب ونهب واحراق وتدمير مئات والوف المدن والقرى بشكل كامل، وابادة الملايين من السكان، الامر الذي تسبب بانخفاض عدد السكان الروس في تلك الحقبة السوداء من الاحتلال المغولي ــ التتاري.
ولكن هذه المقاومة المتفانية لجماهير الشعب الروسي اجبرت الغزاة على الاحتفاظ بغالبية قواتهم العسكرية على الارض الروسية، ومن ثم العجز عن التقدم لاحتلال كافة الاراضي الاوروبية، والعجز عن إمداد المغول في المشرق العربي بما يكفي من القوات لاجتياح مصر وكافة الاراضي الافريقية.
وبذلك يمكن القول ان المقاومة الشعبية الروسية ساهمت في هزيمة المغول في معركة عين جالوت، ثم اجبارهم على الانسحاب من كافة الاراضي السورية والعراقية وعدم العودة اليها حتى مطلع القرن الخامس عشر تاريخ غزو الطاغية تيمورلنك (تيمور الاعرج) لدمشق في 1400 ــ 1401.
وفي 1380م جرت في سهل كوليكوفو قرب نهر الدون بروسيا معركة فاصلة بين جيش روسي موحد والجيش المغولي، هزم فيها الروس المغول مرة والى الابد، واخرجوهم كليا ونهائيا من مسرح التاريخ، وهم الان شعب شرقي كادح يكافح من اجل البقاء، بالاعتماد على الصداقة والمساعدات الاخوية من قبل روسيا والصين. وقد مهد ذلك لاحقا للانتصار على التتار في شبه جزيرة القرم وعلى الشركس في منطقة سوتشي، على البحر الاسود، في الربع الاخير من القرن الثامن عشر، وكانوا ــ اي التتار والشركس ــ قد تحولوا من التحالف مع الطغاة المغول الى التحالف مع الطغاة العثمانيين الاكثر همجية. ولكن الروس دفّعوا التتار والشركس ثمنا غاليا، وملأوا البحر الاسود بجثثهم. وحتى اليوم لا يزال بعضهم يأنفون من اكل السمك من البحر الاسود، لانه سبق ان اكل جثث اجدادهم.
ولو قدر للمغول والتتار تحقيق مبتغاهم، لكان العالم العربي كله الان ــ كما يتصور بعض المتخيّلة ــ مسرحا للمستعبِدين الهمج، يقيمون فيه حفلات السكر والعربدة والمجون والفسق الجماعي بالنساء وذبح الاضاحي البشرية وشَيْ الاطفال وأكل لحومهم.
*****
وفي اواسط القرن الخامس عشر (وبتواطؤ دولي: بابوي ــ يهودي عالمي ــ عثماني)، تمكنت السلطنة العثمانية من القضاء على البقية الباقية من الامبراطورية البيزنطية القديمة (المسيحية الشرقية = الاورثوذوكسية)، والسيطرة على مدينة ومنطقة القسطنطينية. وبذلك اقيم سد "اسلامي!" موالٍ للغرب، بوجه روسيا، وحيل بينها وبين العبور (من البحر الاسود، عبر مضائق البوسفور والدردنيل) الى البحر الابيض المتوسط، ومن خلفه الى المياه البحرية العالمية من سواحل اوروبا الغربية وافريقيا حتى شرقي الصين. وقد ادى ذلك الى نتيجتين عالميتين جيوستراتيجيتين كبيرتين هما:
ــ1ــ تسهيل الاكتساح العثماني، بالتعاون مع الاقطاع العسكري الكردي، للمناطق العربية في المشرق العربي، ووادي النيل، وشمال افريقيا، بدون اي عائق "دولي"، بل بدعم اوروبي غربي. ولا بد من التذكير انه بعد معركة مرج دابق في 1516، بعشرين سنة فقط، اي في 1536، بدأ السلطان العثماني سليمان القانوني بإعطاء ما يسمى "الامتيازات الاجنبية" لمختلف الدول الاوروبية الغربية الاستعمارية والمستفيدة من الاستعمار، بحيث يمكن القول ــ من زاوية نظر محددة ــ ان السلطنة العثمانية لم تكن على ارض الواقع سوى "وكيل" للاستعمار الاوروبي الغربي (وشريكه اليهودي) للشرق العربي ــ الاسلامي، و"حملة صليبية" جديدة بأعلام وبيارق "اسلامية!".
ــ2ــ تحولت الاستانة او اسطنبول (القسطنطينية سابقا) وغيرها من المدن التي انتزعها العثمانيون من اليونانيين والاورثوذوكس (مثل سالونيكي وازمير (سميرنا اليونانية) وغيرها، ــ تحولت الى مراكز رئيسية لليهودية العالمية، ولا سيما بعد سقوط الاندلس وطرد العرب بمن فيهم اليهود من شبه الجزيرة الايبيرية. وتحول المتمولون والمتنفذون اليهود الرابضون في اسطنبول الى "مفتاح" حقيقي لـ"الباب العالي"، والى موجّه رئيسي للادارة العثمانية للولايات العربية التي يحكمها العثمانيون (في عام 1523م عين السلطان سليمان القانوني، المتنفذ اليهودي إبراهيم آغا، في وظيفة الوزير الأول. وفي القرن السادس عشر صار المتمولون اليهود يقرضون السلطان ذاته).
ــ3ــ في ظروف عزل روسيا عن المسرح الدولي، بفعل الحاجز العثماني بينها وبين البحار العالمية، وبفعل تطور نمط الانتاج الرأسمالي، والنظام الاقتصادي ــ الاجتماعي ــ السياسي ــ العسكري، الناشئ عنه والتابع له، في اوروبا، ومن ثم بدء الثورة الصناعية، واستخدام الطاقة المائية والبخارية واستبدال العمل اليدوي بالآلة وحلول المصانع والمعامل مكان المشاغل اليدوية (manifactures)، وتفاقم البطالة وما يسمى "الفائض النسبي للسكان"، وازدياد الحاجة الى الخامات والمواد الاولية، والى الاسواق الخارجية، والمحطات التجارية وطرق المواصلات؛ ــ نقول: بفعل هذه الخلفية الجيوسياسية ــ الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية ــ العسكرية، انطلقت في جميع البلدان الاوروبية (باستثناء البلدان السكندينافية، في اقصى الشمال، المجاورة لـ"البعبع الروسي" والمرعوبة الدائمة منه) حملة مسعورة لاكتشاف واستعمار الاراضي "ما وراء البحار"، في آسيا وافريقيا والقارة الاميركية التي تم اكتشافها (بالصدفة) ضمن نطاق تلك الحملة. وباستثناء سويسرا وبعض الامارات الاوروبية الصغيرة، فإن الغالبية الساحقة من الدول الاوروبية مارست الاستعمار، ووجدت الاشكال المناسبة للاستفادة والتعايش مع الاستعمار العثماني للشرق العربي.
وفي حين كانت اوروبا الاستعمارية تنهض وتتقدم، كانت تتفرج بفرح على السلطنة العثمانية وهي تأخذ العالم العربي ــ الاسلامي الى الحضيض، اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا، مما يسهل عليها لاحقا استعماره.
*****
شهد اليهود الإنجليز «عصرًا ذهبيًا» تحت حكم هنري الثاني في أواخر القرن الثاني عشر بسبب التوسع الاقتصادي الضخم وزيادة الطلب على الائتمان. وتكونت ثروات يهودية كبيرة في لندن وأكسفورد ولينكولن وبريستول ونوريتش. واستفاد التاج البريطاني ذاته من ثروات اليهود.
وبسبب فائدتهم المالية، حظي اليهود الإنجليز بالحماية الملكية.
وأتاحت الحروب النابليونية لبعض العائلات اليهودية الإشكنازية، مثل عائلتي روتشيلد وجولدسميث، احتلال مواقع مرموقة في المجتمع الإنجليزي بفضل خدماتهم المالية المهمة.
وساعد كل ذلك على نمو الجماعة اليهودية في إنجلترا وعلى تزايد حجم المهاجرين اليهود القادمين من أمستردام وإسبانيا والبرتغال. كما ازداد هؤلاء ثراءً وأهمية بتزايُد أهمية لندن (بالمقارنة مع أمستردام) كمركز للتجارة العالمية. وعمل أثرياء اليهود في السمسرة والتجارة الخارجية، وكانوا مُمثَّلين بشكل كبير في مستعمرات الإمبراطورية البريطانية المتنامية، وخصوصاً في نيويورك وبومباي وجزر الهند الغربية. ومن الشخصيات اليهودية البارزة في تلك الفترة سامسون جدعون ويوسف سالفادور اللذان قدما استشارتهما المالية المهمة للوزارات الإنجليزية المتعاقبة.
وقد امتلكت عائلة روتشيلد ثروة كبيرة قبل بداية الحروب النابليونية (1803 - 1815)، وكانت هذه الأسرة متفوقة في مجال تجارة السبائك الذهبية في ذلك الوقت. ومن عام 1813 إلى عام 1815، كان لـ ناثان ماير روتشيلد دورٌ فعال في تمويل المجهود الحربي البريطاني بمفرده تقريبًا، إذ نظم شحن السبائك الذهبية إلى جيوش آرثر ويلزلي في جميع أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى دفع الإعانات المالية من بريطانيا إلى حلفائها.
وكنتيجة لاستعمارها الولايات المتحدة الناطقة بالانجليزية في شمال القارة الاميركية، واستعمار غالبية الامارات الهندية بواسطة "الشركة الهندية الشرقية" (وكانت اول شركة متعددة الجنسية في التاريخ)، وتدفق الذهب والخامات والموارد عليها، تمكنت بريطانيا من ازاحة اسبانيا والبرتغال عن مركز الاولوية الاستعمارية في العالم، وتحولت هي ــ اي بريطانيا ــ الى اكبر دولة استعمارية، "سيدة البحار"، "مصنع العالم"، و"المركز التجاري الاول في العالم"؛ وهيمنت على غالبية خطوط المواصلات وشبكة التجارة العالمية. ومن زاوية نظر رأسمالية عالمية، اصبحت اوروبا (باستثناء روسيا) بمثابة "حوش خلفي" لبريطانيا.
*****
وفي 1789 وبانتصار الثورة التي قلبت النظام الملكي ــ النبلائي ــ الاقطاعي، وفتح الطريق للنظام الرأسمالي ــ البورجوازي، قوضت فرنسا وزعزعت الانظمة الملكية في اوروبا، واندفعت لنيل حصتها واخذ مكانها في النظام الاستعماري العالمي. وكان الاصطدام الاكبر لفرنسا "الثورية" مع بريطانيا، التي كانت قد استطاعت تطوير وتوطيد نظامها الملكي باحتواء ثورتها الدمقراطية البورجوازية (ثورة كرومويل 1599 ــ 1658)، ومنع قيام الجمهورية مقابل تحويل الملكية الى نظام ملكي دستوري ذي برلمان متوسع الحقوق والصلاحيات.
وبوصول نابوليون بونابرت الى السلطة في فرنسا كان هدفه الاكبر ضرب القوة البريطانية، ولكن نسبة القوى لم تكن في صالح فرنسا.
*****
ولهذا قرر نابوليون غزو الشرق العربي ــ الاسلامي، اولا لنهب ثرواته، وثانيا لقطع شبكة المواصلات التجارية والعسكرية بين اوروبا (وضمنا بريطانيا) وبين الهند وشرق وجنوب شرق اسيا؛ والتمهيد لاحقا لشن الحرب على الجزيرة البريطانية ذاتها، وانتزاع الاولوية الاستعمارية العالمية منها.
وتلك هي الخلفية الاساسية لحملة نابوليزن لغزو مصر وبلاد الشام التي دامت من 1 تموز 1798 حتى 2 ايلول 1801.
وتقول المرويات التاريخية ان حكومة الادارة(directoire) الفرنسية قامت عام 1789 بإعداد خطة سرية لإنشاء كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي بما فيه فلسطين، وذلك مقابل تقديم الممولين اليهود قروضا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك في ضائقة اقتصادية خانقة.
وتضيف المرويات التاريخية أن حملة نابليون على مصر والشام جاءت في مرحلة كانت فيها فرنسا مفلسة. وخلال حكومة الدركتوار، أو الحكومة الإدارية ما بعد الثورة الفرنسية، قامت مجموعة من اليهود بتمويل الحملة النابوليونية مقابل وعد نابليون بإنشاء دولة يهودية في فلسطين، وذلك بحسب الباحثة خيرية قاسم في كتابها "النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه". وكان الايرلندي البارز توماس كوربت، الذي كان ضابطا في الجيش الفرنسي، قد عرض في 17 شباط 1799م على عضو حكومة الدركتوار بول باراراس Paul Bararas مشروعًا يقترح فيه الاستفادة من اليهود في حملة نابوليون، وينصح الفرنسيين باستعمار الشرق، وخلق "وطن قومي يهودي" في فلسطين يكون ركيزة لفرنسا. وقد لقيت الرسالة اهتماماً بالغاً عند نابوليون، فعقد على الأثر اجتماعا سريا بينه وبين يهود فرنسا، تمت فيه مساومة مكشوفة بين نابوليون واليهود كي “ينفق اليهود على نابوليون وحروبه، على أن يقتسم الطرفان المغانم: لنابوليون السلطة، ولليهود إنشاء إسرائيل”. وبالاضافة الى المساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة نابوليون بونابرت، تعهد اليهود ببث الفوضى واشعال الفتن وإحلال الأزمات في المناطق التي يرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل امر احتلالها. وتلقى صناع السفن اليهود في ميناء جنوى في إيطاليا التوجيهات لبناء قطع الأسطول الذي سيحتاجه نابوليون في حملته.
وبهدف القيام بحملة الغزو، جمع نابوليون، في سنة 1798، جيشا مؤلفا من 40 الف جندي وضابط، ومعهم 1200 حصان، واسطولا مؤلفا من عشرات السفن الشراعية الحربية، المقاتلة واللوجستية، واكثر من 300 سفينة نقل؛ وحمل الاسطول قوة بحرية قتالية وخدماتية مؤلفة من حوالى 15.000 رجل. وكان برفقة الحملة حوالى 200 من العلماء و2.000 من المتخصصين في شتى العلوم الدينية والفلسفية والتاريخية واللغوية والاجتماعية والآثاريات والجغرافيا والجيولوجيا وعلوم الطب والفيزياء الخ.، مما يدل على النية المسبقة لنابوليون في الاستيطان في الشرق واستعماره الى امد غير محدود. وقد قام هؤلاء العلماء والمتخصصون بدراسات معمقة جدا لمصر والتاريخ المصري، شعبا وجغرافيا، قديما وحديثا، ووضعوا تآليف قيمة للغاية لا تزال تعتبر الى اليوم المرجع الرئيسي لدراسات "علم المصريات".
وفي ايار 1798 ابحرت قوة الغزو الفرنسية نحو مصر، التي كانت حينذاك تعتبر اسميا ورسميا ولاية عثمانية، الا انها فعليا كان يحكمها المماليك.
وأنزلت قوة الغزو الفرنسية على ساحل خليج ابوقير قرب الاسكندرية في 1 تموز 1798. وكانت الاسكندرية التي اسسها الاسكندر الكبير المقدوني (الاغريقي) قد تدهورت في ذلك الزمن وتحولت الى بلدة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها 10.000 نسمة.
وفي ليلة 1ــ2 تموز 1798 دخل الغزاة الى الاسكندرية بدون معركة مع الجيش المملوكي الذي انسحب الى القاهرة لدى ظهور الفرنسيين. ولكن فور احتلال الفرنسيين للمدينة انطلقت على الفور حركة مقاومة شعبية مسلحة، بقيادة حاكم المدينة المصري محمد كريّم. وهو رجل اسكندراني المولد. وفاجأت المقاومة بشدة القادة الفرنسيين وعلى رأسهم نابوليون، الذي كان يحاول التقرب من المسلمين والتظاهر بأنه انما جاء لانقاذ المسلمين والعرب من المماليك. وقد تمكن الجيش الفرنسي من محاصرة وأسر محمد كريّم، واقتيد الى نابوليون الذي قابله شخصيا، وافرج عنه، واعاد اليه سلاحه الفردي، واعاد تعيينه حاكما للمدينة من قبل الفرنسيين. ولكن محمد كريّم عاد فتابع المقاومة؛ فأسره المحتلون مرة اخرى؛ واقتيد الى القاهرة، حيث جرت محاكمته بشكل سريع في 5 ايلول 1798 والحكم عليه بالاعدام، وتم اعدامه في اليوم التالي في 6 ايلول 1798. وقد امر نابوليون شخصيا ان يتم اعدام البطل الوطني محمد كريّم رميا بالرصاص (بوصفه مقاتلا باسلا). وفي 1958 تم الاعتراف بمحمد كريّم كبطل وطني، واطلاق اسمه على احد المساجد واحدى المدارس واحد الشوارع، وصنع له تمثال في "حديقة الخالدين" في الاسكندرية.
وقد زحف جيش نابوليون نحو القاهرة، واشتبك مع جيش للمماليك في "معركة امبابة" (وتسمى ايضا: معركة الاهرامات) قرب القاهرة في 21 تموز 1798، وانتصر عليهم بسهولة ودخل القاهرة في 24 تموز 1798. وانطلقت في القاهرة مقاومة شعبية واسعة ومتواصلة ضد الاحتلال، وكان قادة وابطال المقاومة الذين يقعون في الاسر يحاكمون ميدانيا بسرعة ويحكم عليهم جميعا بقطع الرؤوس في الساحات العامة، وكان نابوليون وجنرالاته يحضرون شخصيا حفلات قطع الرؤوس. وكان ابرز احداث المقاومة قيام الطالب الازهري (السوري الاصل من ريف حلب) البطل سليمان الحلبي، باغتيال الحاكم الفرنسي الجنرال كليبر في حديقة منزله بالذات، يوم 14 حزيران 1800. وتفيد المرويات التاريخية ان سليمان الحلبي لم يقم بعمليته كردة فعل انفعالية، بل فكر في الامر بروية وعمق، وقبل تنفيذ العملية سافر الى قريته في ريف حلب، وودع اهله، وفي طريق عودته الى القاهرة عرّج على القدس، حيث مكث اكثر من يوم عند احد رجال الدين المسلمين وحصل على تشجيعه ومباركته، وبعد عودته الى الازهر الشريف اطلع بعض اخوانه الخلّص على نيته ونال تأييدهم. وبعد اعتقاله قدم الحلبي للمحاكمة امام محكمة عسكرية فرنسية، هو وعدد من رفاقه الازهريين الذين كانوا على معرفة بنيته اغتيال الحاكم الفرنسي. وحكم على جميع رفاقه بقطع رؤوسهم امامه قبل اعدامه؛ اما هو فتعمدت هيئة المحكمة الحكم عليه بالاعدام "على الطريقة التركية" وذلك بحرق يده (التي طعن بها الجنرال كليبر) ثم خوزقته، حيث ظل مرفوعا على الخازوق مدة 4 ساعات يعاني سكرات الموت، الى ان اشفق عليه جندي فرنسي فناوله كوب ماء ليشرب ويموت بسرعة. وتقول بعض المرويات التاريخية ان البطل سليمان الحلبي هو، اتنيا، كردي الاصل؛ ولكن هذا لا ينفي، بل يؤكد اكثر، ان انتماءه الوجداني ــ الحضاري ــ العقائدي، هو: وطني ــ عروبي ــ اسلامي. ولا تزال فرنسا الاستعمارية الى اليوم تحتفظ بجمجمة هذا المناضل والبطل العربي في مكعب بلوري في "متحف الانسان" في باريس، ومكتوب تحتها، بكل نذالة استعمارية اوروبية: "جمجمة مجرم"! (والمدلول السياسي العميق لهذه الواقعة، هو ان المناضل الوطني، والمقاوم الشعبي، والشهيد، العربي والاسلامي، المعادي للاستعمار والمدافع عن ارضه وشعبه، يعرض للجمهور الفرنسي والاوروبي على انه "مجرم"!. وهو ما يعني، بالمفردات السياسية المعاصرة، انه: "ارهابي"! ــ فيا لعار جميع الحكام العرب، الذين لا يزالون الى اليوم يسكتون عن هذه الاهانة في الصميم للامة العربية المجيدة!).
ولكن الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام تلقت ضربة قاصمة ادت في نهاية المطاف الى فشلها التام؛ وتمثلت تلك الضربة في الهجوم الليلي الذي شنه الاسطول البريطاني على الاسطول الحربي الفرنسي وتحطيمه تحطيما كاملا في خليج ابي قير قرب الاسكندرية في ليل 1 ــ 2 اب 1798، وسيطرة الاسطول البريطاني على البحر في سواحل مصر وبلاد الشام؛ ومن ثم قطع العلاقة تماما بين القوة الفرنسية الغازية وفرنسا، واضطرارها للاقتصار فقط على ما تمتلكه من امكانيات في البر المصري والشامي.
ومع استتباب الامر للغزاة في مصر، تقدم نابوليون برا نحو الساحل الفلسطيني، وضرب الحصار برا حول عكا في 20 اذار 1799م بواسطة المشاة فقط؛ ولكن والي عكا العثماني احمد باشا الجزار تلقى المساعدات بالمؤن والاسلحة والذخائر والمدفعية من الاسطول البريطاني الذي تولى حماية المدينة وضرب القوات الفرنسية بالمدافع من البحر؛ وهكذا فشل نابوليون بونابرت في اقتحام اسوار عكا برا، ولا سيما بعد انتشار الطاعون والاوبئة في صفوف الفرنسيين. ويذكر على هذا الصعيد ان حاكم جبل لبنان حينذاك كان الامير بشير الثاني الشهابي، الموالي للانكليز؛ وقد طلب نابوليون المدد من موارنة جبل لبنان، ولكن القيادة المارونية التي كانت ميالة الى فرنسا امتنعت عن ارسال المقاتلين لدعم الغزاة الفرنسيين، واكتفت بأن ارسلت لهم كمية من التين المجفف والنبيذ. وعقب فشل الهجوم الفرنسي الأخير على اسوار عكا في 10 ايار، قرر نابوليون رفع الحصار والإنسحاب إلى مصر، في 21 ايار 1799م. وفي تلك الاثناء وصلت انباء من فرنسا بهزيمة الجيش الفرنسي امام الجيش النمساوي، وبحدوث نزاعات داخل صفوف "الادارة" (directoire) التي كانت تحكم فرنسا، مما يهدد زعامة نابوليون ذاته، فقرر العودة الى فرنسا لمواجهة تلك الاوضاع؛ وفي 23 اب 1799 غادر نابوليون سرا الى فرنسا، بعد ان عين نائبا عنه لقيادة الحملة في مصر الجنرال كليبر. وبعد اغتيال كليبر تسلم القيادة الجنرال مينو.
وقد ارسل السلطان العثماني قوة عسكرية قدّرتها بعض المرويات التاريخية بمائة الف جندي. وأنزلت تلك القوة قرب الاسكندرية، وانضمت الى الانكليز الذين كانوا يحاصرون الفرنسيين من الاسكندرية الى القاهرة. ووقعت عدة معارك بين الطرفين، في ظروف غير مؤاتية للجيش الفرنسي، الذي كان يواجه ايضا المقاومة الشعبية المصرية المتصاعدة داخل القاهرة، مما ادى في النهاية الى هزيمة الفرنسيين. واضطر الجنرال مينو الى قبول الاستسلام. وسمحت القيادة الانكليزية لمن تبقى من الجيش الفرنسي بالانسحاب الى فرنسا على متن السفن الانكليزية، وذلك في 1 ايلول 1801. وهو تاريخ نهاية الحملة الفرنسية بقيادة نابوليون بونابرت على مصر وبلاد الشام.
وعلينا ان نطرح هنا ملاحظة مهمة جدا وهي: انه في مجمل الحملة الشرقية لنابوليون، وخصوصا في معركة حصار عكا، فإن الطغمة المالية اليهودية العالمية العليا، كانت تدعم، في الوقت ذاته، المعسكرين المتصارعين: الفرنسي، والانكليزي ــ العثماني. وفي معركة عكا، كان اليهود يطلقون نار المدافع ضد بعضهم البعض في كلا الجانبين.
وهذا يقودنا الى الاستنتاج المنطقي ان الطغمة المالية اليهودية العليا تتعامل مع "عامة اليهود" او "المجتمع اليهودي" او "الشعب اليهودي"، كما تتعامل مع بقية المجتمعات وشعوب العالم، اي كادوات ومطايا لتحقيق مصالحها التسلطية الطبقية، الاقتصادية والسياسية.
وهذا يعني، في ايامنا الراهنة، ان وجود ما يسمى "اسرائيل" ذاتها، هي غاية بالنسبة للتيارات المتعصبة الدينية اليهودية وللتيارات "القومية" الصهيونية اليهودية؛ ولكن كل التيارات "الدينية" و"القومية الصهيونية" اليهودية، وكل التركيبة الكيانية الاسرائيلية، وكل وجود دولة اسرائيل، ليس غاية، بمقدار ما هو وسيلة للطغمة المالية اليهودية العليا العالمية، لتحقيق مصالحها في السيطرة على العالم. وفي اللحظة التي تجد فيها تلك الطغمة ان الاحتفاظ بالدولة الاسرائيلية اصبح عبئا وورقة خاسرة بالنسبة لمصالحها، فإنها ـ اي الطغمة المالية اليهودية العليا العالمية ــ ستختار مصالحها وتتخلى عن وجود الدولة الاسرائيلية، وستترك جمهور اليهود المضللين والاغبياء يواجهون مصيرهم الذي لا يحسدون عليه. وتشير اكثرية الدلائل الراهنة، القائمة على تغير موازين القوى عالميا واقليميا، وفيما بين محور المقاومة والكيان الصهيوني، ان هذا اليوم لم يعد بعيدا.
*****
بعد فشل حملته "الشرقية" لاجل إحلال السيطرة الاستعمارية الفرنسية على العالم، محل السيطرة الانكليزية، كان نابوليون واثقا ان الصدام بينه وبين روسيا امر لا مفر منه. لانه كان يدرك ان السيطرة على روسيا، بمساحتها الجغرافية الهائلة، وثرواتها الطبيعية اللامتناهية، ستشكل قاعدة انطلاق ستراتيجية جبارة له، للانتصار على الانكليز والسيطرة على اوروبا كلها، ومن ثم على العالم بأسره، كما كان يحلم في القديم "الاسكندر المقدوني" الاغريقي. وفي 1811، عشية الحملة الفرنسية ضد روسيا، قال نابوليون متبجحا "بعد خمس سنوات سأصبح سيد العالم، لم تبق سوى روسيا، ولكنني سوف اسحقها".
وفي هذا السياق كان نابوليون يدرك ما يجول في اذهان الزعماء اليهود، ولم يتردد في السعي لاسترضائهم والحصول على مساعدتهم حينما دعته الحاجة لذلك ثانية. ولهذا فهو تقبل بسهولة "المشورة" اليهودية بالتحضير لحملته ضد روسيا، والمساعدة اليهودية في تمويل تلك الحملة. واخذ يهيئ جيشه للزحف على روسيا عبر المسافة الطويلة التي تفصلها عن فرنسا. وكان حريصا على كسب تأييد وولاء اليهود الروس واستغلالهم كطابور خامس خلال الحرب، اذ كان القسم الاكبر من اليهود الروس يعادون روسيا، لكونهم من اصل خزري ولا سيما بولوني، حيث انه حينما تم تقسيم بولونيا عام 1795 بين كل من روسيا وبروسيا والنمسا، حصلت روسيا بمقتضى ذلك التقسيم على مناطق واسعة من بولونيا بما فيها دوقية فرصوفيا التي كان يقطنها اليهود باعداد كبيرة. وقدر عدد اليهود الذين اصبحوا يعيشون تحت الحكم الروسي انذاك بحوالي 1،4 مليون نسمة.
ومن اجل ذلك دعا نابليون في ايلول عام 1806 الى عقد السنهدرين (Sanhedrin) وهي الهيئة القضائية العليا لليهود التي كانت قائمة في الازمنة القديمة، واستمر اجتماعها حتى نهاية شباط عام 1807، حينما اعلن نابليون ان اليهود اصبح لهم كيان رسمي داخل الدولة، وان الديانة اليهودية اصبحت احدى الديانات الرسمية في فرنسا. وقد ضم هذا الاجتماع حوالي 80 شخصية دينية وعلمانية يهودية، يمثلون اليهود في جميع البلدان التي كانت تسيطر عليها الجيوش الفرنسية زمن نابوليون بونابرت.
وبالتأكيد ان نابوليون قام بدراسة التجربة العسكرية الفاشلة لـ"الحملات الصليبية الشمالية" ضد روسيا في القرن الثالث عشر، واستفاد من عبرها ودروسها في التحضير للحملة الفرنسية بقيادته ضد روسيا.
وجند نابوليون في حملته على روسيا جيشا ضخما وصل تعداده الى 680.000 جندي، 300.000 منهم فرنسيون، والباقون من مختلف البلدان الاوروبية التي كانت فرنسا تحتلها حينذاك.
وفي 24 حزيران 1812 أمر نابوليون قواته بعبور نهر نيمان الروسي الواقع على الحدود مع بولونيا. وبذلك بدأ حربه على روسيا والتي أطلق عليها الروس فيما بعد تسمية «الحرب الوطنية، عام 1812» لمشاركة الشعب فيها على نطاق واسع إلى جانب القوات النظامية (وللتمييز، فإن الحرب ضد النازية في 1941 ــ 1945 يسميها الروس "الحرب الوطنية الكبرى").
واندفع جيش نابوليون بسرعة لمسافات بعيدة عبر القطاع الاوروبي من روسيا، في محاولة لملاقاة الجيش الروسي في معركة حاسمة.
وبالاضافة الى الهدف الرئيسي وهو الانتصار العسكري على روسيا واحتلالها، كان من ضمن اهداف الحملة الفرنسية بقيادة نابوليون تكوين دولة بولونية (كاثوليكية) كبرى، تضم ليتوانيا وبيلاروسيا واوكرانيا، تقف الى جانب فرنسا بوجه روسيا (الاورثوذوكسية).
وامام هذا الهجوم الاضخم في التاريخ حتى ذلك الوقت، اتبع الجيش الروسي خطة تجنب خوض معركة كبرى حاسمة، والتراجع إلى داخل البلاد، لابعاد الجيش الفرنسي عن خطوط تموينه، واجباره على الانتشار في مساحات واسعة وانهاكه؛ وأوكلت للخيالة القوزاق مهمة إحراق القرى والمدن والمحاصيل قبل تقدم الجيش الفرنسى إليها. وكان الغرض من عملية الإحراق حرمان الفرنسيين من إمكانية الإعتماد على ما تحويه المدن والقرى الروسية من مواد غذائية وغيرها لتموين الجيش الغازي.
وقد فوجئ الفرنسيون بخطة الروس، وبحجم الدمار الذي ألحقوه بممتلكاتهم وأراضيهم. ودفعت هذه الخطة الفرنسيين لمحاولة إمداد جيشهم من فرنسا واوروبا، عبر خطوط إمداد طويلة وصعبة أثبتت لاحقا فشلها في إمداد الجيش.
وفي السابع من ايلول 1812 لحق الجيش الفرنسى بالجيش الروسي الذي كان قد تحصّن في التلال المحيطة ببلدة صغيرة تسمى "بورودينو" تقع على بعد حوالى 125 كلم غرب موسكو، للوقوف بوجه تقدم الجيش الفرنسي لاحتلال موسكو. ووقعت هناك أكبر معركة في الحروب النابوليونية كلها حيث اشترك فيها 300.000 جندي من الطرفين، ووقع منهم 70,000 قتيل، واكثر من ذلك من الجرحى. وعلى الرغم من تحقيق الجيش الفرنسي التفوق بالمعركة إلا أنه لم يستطع تحقيق النصر الحاسم.
واطلقت على تلك المعركة تسمية "معركة بورودينو" وهي اكبر معركة جرت في الحرب الفرنسية ــ الروسية سنة 1812. وقاد "معركة بورودينو" الجنرال الكبير ميخائيل كوتوزوف، من الجانب الروسي، والامبراطور نابوليون بونابرت من الجانب الفرنسي.
وفي تلك المعركة، استمر القتال المرير مدة 15 ساعة، سجل خلالها تفوق الجيش الفرنسي، الا انه لم يستطع تحقيق النصر الحاسم الذي كان يريده نابوليون. وفي نهاية اليوم انسحب الجيش الروسي نحو قرية تدعى غوركي واخذ يلملم صفوفه ويستعد لمتابعة المعركة في اليوم التالي. ولكن الجنرال كوتوزوف ارتأى ان احتمال اصابة القوات الروسية بالهزيمة في اليوم التالي هو كبير. وفي وقت متأخر من الليل اصدر كوتوزوف الامر بوقف الاستعدادات للقتال، وتنظيم الصفوف والانسحاب تحت جنح الظلام باتجاه موسكو.
وتصف بعض المصادر "معركة بورودينو" بأنها "معركة الجنرالات"، حيث قتل فيها من الجانب الروسي 4 جنرالات واصيب بجراح وأعطب 23 جنرالا؛ كما قتل فيها 12 جنرالا فرنسيا واصيب بجراح 38 آخرين.
وفيما بعد قيّم بونابرت "معركة بورودينو" قائلا: "من بين كل المعارك التي خضتها، فإن تلك المعركة قرب موسكو كانت هي الاقسى. وقد ظهر فيها الفرنسيون بانهم جديرون بالنصر؛ وظهر الروس بأنهم لا يقهرون...".
ودخل الجيش الروسي المنسحب من "بورودينو" الى موسكو. وقام باخراج السكان من المدينة واشعال النار فيها. وبعد اسبوع دخل نابوليون بجيشه الى موسكو، فوجدها مدينة محترقة وغير صالحة للسكن ولا توجد فيها اية اغذية او البسة او اي شيء يستفاد منه.
وكانت معادلة كوتوزوف تقول: اذا سقطت موسكو يبقى الجيش وتبقى روسيا؛ ولكن اذا سقط الجيش، تسقط موسكو وتسقط كل روسيا.
ووجه كوتوزوف الجيش لخوض حرب استنزاف، اي خوض معارك صغيرة متوالية، وحرب عصابات، بالتعاون مع الفرسان القوزاق ومع الفلاحين والاهالي الذين احرقت قراهم ومدنهم وانتشروا في الغابات.
وحينما دخل جيش نابوليون الى موسكو كانت مدينة لا يوجد فيها الا الرماد والانقاض. ومع ذلك فإن نابوليون مكث مع جيشه مدة شهر في موسكو، في ظروف قاسية جدا على الجيش، منتظرا دون جدوى ان يعلن القيصر استسلام روسيا، وتوقيع معاهدة الصلح مع الغزاة بشروطهم. ولكن القيصر الروسي الكسندر الاول قال: "لن نعقد الصلح الا في باريس".
وبعد مرور شهر اضطر نابوليون لمغادرة موسكو، واصبح جيشه عرضة لحرب عصابات تنهشه من كل جانب.
ودفع الجوع والبرد والبؤس الجنود الفرنسيين لمغادرة معسكراتهم ليلًا، في مجموعات لصوصية صغيرة، للبحث عن الطعام والالبسة الدافئة، عن طريق السطو على اي منزل منفرد في اي قرية منعزلة. وكانوا غالبًا ما يقعون فريسة سهلة للقوزاق والقرويين وعموم السكان الروس، الذين كانوا قد غادروا بيوتهم المحروقة وانتشروا في الغابات، والذين أسروا أو قتلوا الكثير من الجنود الفرنسيين الباحثين عن الغذاء والكساء.
وأدى نقص المؤن والغذاء والالبسة الشتوية للجنود والعاف للخيل، والبرد القارس، والهجمات المتكررة للفلاحين الروس على أطراف القوات الفرنسية، ــ ادى كل ذلك إلى خسارة العديد من الأرواح في صفوف الجيش الفرنسي، كما أدت تلك العوامل إلى خسارة الجيش الفرنسي تماسكه ونظامه.
وخسر الجيش الفرنسي الضخم حوالي 370.000 جندي كنتيجة للقتال وظروف الطقس القاسية، وتم أسر 200.000. واعتبر اكثر من 50.000 جندي مفقودين او فارين.
وبحلول شهر كانون الاول 1812 وعند عبور نابوليون وجنرالاته لنهر بيريزينا (في بيلاروسيا) عائدين مهزومين الى فرنسا، لم يكن قد تبقى من ذلك الجيش الضخم سوي 10.000 ــ 27.000 جندي (حسب مختلف المصادر). وكان الروس يطاردونهم وهم منسحبون. وتقول بعض المصادر ان 36.000 من الجنود الفرنسيين غرقوا في المياه الجليدية لدى عبورهم النهر فارين بغير انتظام.
لقد استمرت تلك الحرب ضد روسيا من 24 حزيران – 14 كانون الاول 1812 (5 اشهر، 2 اسبوعان، و6 أيام). وانتهت بهزيمة ساحقة كسرت ظهر فرنسا نابوليون بونابرت، وحتّمت هزيمة جيش نابوليون امام الانكليز في معركة "واترلو" في 18 حزيران 1815.
وفي البيان الرسمي الذي اصدرته الحكومة الروسية بعد طرد الفرنسيين من الاراضي الروسية، تقول: "لقد انتهت الحرب بالابادة الكاملة للعدو".
ومرة اخرى كان الشعب الروسي هو القوة الرئيسية التي حطمت امكانية فرض السيادة الاحادية على العالم، لاية قوة استعمارية، وفتحت الطريق امام الشعوب العربية والاسلامية وجميع شعوب العالم، للنضال والتحرر من اية سيادة استعمارية مهما كانت عاتية.
*****
وعشية الحرب العالمية الاولى، في الفترة من 18 الى 23 حزيران 1913، عقد في الجمعية الجغراقية في باريس "المؤتمر العربي الاول" وهو مؤتمر اقامته مجموعة من المفكرين والسياسيين والقوميين العرب بصفة "مندوبين" من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق (بلغ عددهم 23 شخصية)، وبعض "المراقبين" من مصر وبعض الاقاليم العربية الاخرى.
وظهر في المؤتمر، واستطرادا في مختلف الجمعيات العربية التي تشكلت في تلك الحقبة في مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والعراق، اتجاهان:
ــ1ــ اتجاه اصلاحي ويدعو الى تطبيق الدستور واللامركزية في السلطنة العثمانية؛
وــ2ــ اتجاه استقلالي يدعو الى الانفصال عن السلطنة وتشكيل دولة عربية مستقلة.
ولكن جماعة "الاتحاد والترقي" الاتراك، الذين استولوا على السلطة في السلطنة العثمانية بعد انقلاب 1908، ردوا على المطالب الاصلاحية والاستقلالية للعرب والارمن والمقدونيين واليونانيين، برفع شعار "التتريك"، وبالمذابح والابادة الجماعية للمسيحيين الارمن والاشوريين والسريان والمقدونيين واليونانيين؛ وبتجويع اللبنانيين (كما يفعل الاميركيون اليوم بلبنان)، وبفرض الاحكام العرفية على المناطق العربية، ومطاردة المثقفين العرب الاحرار وسجن ونفي الالوف منهم الى الاناضول، ونصب المشانق في بيروت ودمشق. وقد تم اعدام غالبية المشاركين في "المؤتمر العربي الاول" في باريس، حتى سمي "مؤتمر الشهداء".
وفي تلك الحقبة، وخصوصا بعد اندلاع الحرب العالمية الاولى، كانت الدول الاستعمارية الاوروبية (ولا سيما فرنسا وانكلترا)، تتظاهر بالصداقة مع العرب، ودعم مطالبهم الاصلاحية والاستقلالية، مقابل الثورة على السلطنة العثمانية والقتال الى جانب "الحلفاء" ضد المعسكر الالماني ــ العثماني.
وتبدى هذا الموقف الاستعماري الاوروبي المخادع، بشكل خاص، في ما يعرف بــ"مراسلات الحسين ــ مكماهون" في 1915 ــ 1917. (هنري ماكماهون، قائد عسكري ودبلوماسي بريطاني كان مفوضا من قبل الحكومة الملكية البريطانية بالاتصال بالقيادة العربية). وفي هذه المراسلات وافقت الحكومة البريطانية على الاعتراف باستقلال العرب في القسم الآسيوي من الوطن العربي (ما عدا عدن التي كانت محمية بريطانية) بعد الحرب العالمية الأولى، مقابل إشعال شريف مكة الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.
وقد جاء في رسالة مكماهون إلى الحسين، في 24 تشرين الاول 1915: "إن بريطانيا العظمى جاهزة للاعتراف، ولتأييد استقلال العرب في جميع المناطق داخل الحدود التي طلبها شريف مكة".
وفي رسالة من الحسين إلى مكماهون، في 5 تشرين الثاني 1915، يقول: "ولايتا حلب وبيروت وسواحلهما": نرفض استثناءهما حيث إنهما "ولايتان عربيتان بشكل كامل، ولا فرق بين عربي مسلم وعربي مسيحي".
وفي رسالة الحسين إلى مكماهون، في 1 كانون الثاني 1916، يقول: "من المستحيل السماح بأي انتقاصٍ يُعطي فرنسا ــ أو أية قوةٍ أخرى ــ شبر أرضٍ في تلك المناطق".
ويجيب مكماهون إلى الحسين، في 25 كانون الثاني 1916، قائلا: "نقدر حق التقدير الدوافع التي تقودكم في هذه القضية الهامة، ونعرف جيداً أنكم تعملون في صالح العرب".
وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني حينذاك ديفيد لويد جورج المراسلات بانها "معاهدة مع العرب".
وطبقاً لهذا الفهم أسس العرب قوة عسكرية تحت قيادة فيصل بن الحسين قاتلت بتوجيهٍ من لورانس العرب ضد السلطنة العثمانية أثناء الثورة العربية.
وجاءت الاحداث التاريخية اللاحقة لتؤكد ان بريطانيا والحلفاء كانوا يخدعون العرب، ويعملون ضمن مخطط يؤمن المصالح الاستعمارية ضد الامة العربية بجميع مناطقها واقطارها واديانها ومذاهبها. وفيما بعد، كتب ضابط المخابرات البريطاني توماس ادوارد لورانس، المشهور باسم "لورانس العرب"، يقول: ان "العرب هم أقل استقراراً حتى من الأتراك. وإذا تعاملنا مع الأمر بحرصٍ، فسيبقون في حالةٍ من الفسيفساء السياسية، نسيجا من الإمارات المتحاسدة [المتنافسة] وغير القادرة على التلاحم".
وفيما كانت بريطانيا تغدق الوعود الكاذبة للشريف الحسين، كانت تجري بين الدولتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا مباحثات سرية لتقاسم اراضي السلطنة العثمانية بعد نهاية الحرب (العالمية الاولى)، وخصوصا تقسيم وتقاسم الاراضي العربية، وهي المحادثات التي اسفرت عما سمي "اتفاقية سايكس ــ بيكو" (وقد جرت المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23 تشرين الثاني 1915 و 3 كانون الثاني 1916، وهو التاريخ الذي وقع فيه الدبلوماسيان، الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، على وثائق مذكرات التفاهم). وبموجب هذه الاتفاقية حصلت "صديقتنا بريطانيا" على امكانية استمرار سيطرتها على خطوط المواصلات من الهند الى الجزيرة البريطانية، والسيطرة على استخراج وتسويق النفط من العراق وايران والخليج، عبر المحيط الهندي ومضيق هرمز والخليج وبحر العرب والبحر الاحمر وقناة السويس؛ وحصلت "الام الحنون فرنسا" على منطقة نفوذ اساسية في شرق المتوسط، تتمثل في الدولتين الحاليتين سوريا ولبنان، بما في ذلك قيليقية في شمال تركيا الحالية، ولواء الموصل في شمال العراق، وان تحصل بذلك على "امتياز" الحماية الكاذبة لمسيحيي الشرق، تدعمها في ذلك البابوية "الصليبية" الكاثوليكية. ولكن بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب، وكنتيجة لضعف موقع فرنسا بسبب اندلاع "ثورة الريف" (1920 ــ 1927) في المغرب بقيادة عبدالكريم الخطابي و"الثورة السورية الكبرى" (1925 ــ 1927) بقيادة سلطان باشا الاطرش، و"التقارب" الاوروبي الغربي ــ الاتاتوركي، أبقيت قيليقية تحت سيطرة الاتاتوركيين، واعيد اقتطاع لواء الموصل في العراق من منطقة النفوذ الفرنسية وإلحاقه بمنطقة النفوذ البريطانية.
وفي 2 تشرين الثاني 1917، صدر "وعد بلفور" (وزير الخارجية البريطاني)، بوصفه جزءا مكوّنا اساسيا من اتفاقية سايكس ــ بيكو، بهدف انشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين.
وفي المراسلات سنة 1916 بين سازونوف (وزير الخارجية للقيصرية الروسية حينذاك) وباليولوغ (السفير الفرنسي في روسيا القيصرية)، اعلنت القيصرية الروسية موافقتها على اتفاقية سايكس ــ بيكو، مقابل منح روسيا "ارمينيا الغربية" (او ما كان يسمى "ارمينيا العثمانية" او "ارمينيا التركية")، بالاضافة الى القسطنطينية ومضائق البوسفور والدردنيل.
ولكن في 7 تشرين الثاني 1917، اي بعد خمسة ايام فقط من وعد بلفور، فوجئ لصوص العالم الرأسمالي والاستعماري والامبريالي في العالم، بقيام "الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا"، التي حولت مجرى التاريخ العالمي 180 درجة، ووضعت "على جدول البحث" ــ لاول مرة في التاريخ ــ وجود النظام الرأسمالي والاستعماري والامبريالي العالمي.
وبالرغم من انحراف خائن الشيوعية الاكبر يوسف ستالين، العميل السري لليهودية العالمية مثله مثل النازي ادولف هتلر في المانيا، فإن الشعب الروسي، بقيام ثورته الاشتراكية، حقق انجازات تاريخية كبرى، منها ــ على صعيد العلاقات الاخوية مع الشعوب العربية والاسلامية، الانجازان الكبيران التاليان:
ــ1ــ اقامة علاقات صداقة صادقة مع الشعوب الاسلامية في القوقاز واسيا الوسطى، التي دخلت في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية؛ وقد اسهمت المساعدات الاخوية التي قدمها الشعب الروسي للشعوب الاسلامية "الشقيقة"، بشكل رئيسي، في انتشال تلك الشعوب من غياهب الجهل والتخلف والبداوة وظلامية القرون الوسطى، ووضعها على سكة التطور والتقدم للزمن المعاصر. وبالرغم من تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، فإن البلدان الاسلامية (السوفياتية السابقة) في القوقاز واسيا الوسطى لا تزال تحتل المرتبة الاولى، في العالم الاسلامي، من حيث التقدم الاجتماعي والعلمي والثقافي والحضاري.
ــ2ــ وفي الساعات الاولى لانتصار الثورة الاشتراكية، داهم الشيوعيون الثوريون الروس مقر وزارة الخارجية القيصرية الروسية، وصادروا وثائقها، ومنها وثائق "اتفاقية سايكس ــ بيكو" و"رسائل سازونوف ــ باليولوغ" المتعلقة بها؛ واعلنوا على الفور رفض مشاركة الشعب الروسي في هذه الصفقة الاستعمارية العالمية، والامتناع عن الحصول، من وراء ظهر الشعوب، على اية اراض في السلطنة العثمانية المهزومة؛ وفضحوا الاتفاقية ونشروا نصوصها الكاملة في صحيفتي "ازفستيا" و"برافدا" في 23 تشرين الثاني 1917؛ وبعد ثلاثة ايام نشرت جريدة "غارديان مانشيستر" الانكليزية النصوص في 26 تشرين الثاني 1917.
وبعد فضيحة نشر نصوص اتفاقية سايكس ــ بيكو، فإن القائد العسكري والدبلوماسي البريطاني هنري مكماهون (صاحب رسائل واتفاقية "الحسين ــ مكماهون") قدم استقالته.
ويعود تحريض عبد العزيز آل سعود على ضم الحجاز الى "مملكته"، إلى رغبة بريطانيا بالتخلص من الشريف الحسين والوعود التي اعطيت بواسطته للعرب.
وللاسف ان امتناع روسيا عن وضع اليد على ارمينيا الغربية والقسطنطينية والمضائق، اتاح للعنصريين الاتراك (حزبي "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاة" والاتاتوركيين)، بالتعاون مع بعض العشائر الكردية وخصوصا "فرسان الحميدية"، وبتشجيع من الدول الاستعمارية الغربية، ــ اتيحت لهم امكانية مواصلة وتكثيف المذابح والابادة الجماعية (التي استمرت من 1915 حتى 1923) ضد جميع المسيحيين الشرقيين (اليونانيين والبلغار والاشوريين والكلدان والسريان وغيرهم من المسيحيين العرب)، في القسطنطينة (اسطمبول)، وتراقيا، وسميرنا (ازمير)، وارمينيا الغربية، وقيليقية، وشمال العراق، وشمالي شرق سوريا، وهي المذابح والابادات التي ذهب ضحيتها الملايين من الارمن وغيرهم من المسيحيين الشرقيين، الذين تناستهم البابوية "الصليبية" الكاثوليكية واوروبا الغربية واميركا الشمالية، "المسيحيتان" الكاذبتان، اللتان تولتا دعم العنصريين الاتراك ومكافأة تركيا بضمها الى حلف الناتو. وفي تلك المذابح والابادات أخليت الاراضي من سكانها الاصليين الذين عاشوا في تلك الاراضي وعمروها قبل الاف السنين من ميلاد المسيح. وبعد ابادة وتهجير المسيحيين الشرقيين، جاء اتراك واكراد واستوطنوا الاراضي المهجورة، زاعمين انها "ارضهم!"، ومفترين على الله (جل جلاله) انه "فتحها!" و"اعادها!" او "اعطاها!" لهم، تماما على طريقة استيطان اليهود في فلسطين الكنعانية ــ العربية، الذين يغطّون بعباءة "يهوه" جرائمهم ضد الانسانية.
ولكن اذا كانت روسيا رفضت المشاركة في الجريمة الاستعمارية لتقاسم تركة "الرجل المريض"، اي السلطنة العثمانية، فإن اتفاقية سايكس ــ بيكو، بملحقها "وعد بلفور"، شقت طريقها نحو التنفيذ على ارض الواقع، بفعل الدعم الاستعماري والامبريالي العالمي، وإضفاء الطابع "الشرعي الدولي" على جميع الكيانات السايكس ــ بيكوية العربية المزيفة، جنبا الى جنب الكيان "البلفوري" اليهودي ــ الصهيوني.
*****
ولكل من يعتقد ان اتفاقية سايكس ــ بيكو هي ذكرى من التاريخ نقول: كلآ! والف كلا!
ان اتفاقية سايكس ــ بيكو وملحقها وعد بلفور، هما الارضية "الشرعية الدولية"، والدستورية والحقوقية والقانونية، والسياسية، والاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، والتعليمية، والثقافية، والاعلامية لجميع الدول والكيانات "العربية" ومعها "الكيان اليهودي".
وكل التفاصيل الحياتية اليومية التي نعيشها، في اي قطر عربي كان، ليست هي سوى نتاج وتطبيق يومي لاتفاقية سايكس ــ بيكو.
ويكفي ان نورد بعض الامثلة:
ــ1ــ في مسرحية الحرب في 1948 ــ 1949 تم طرد الفلسطينيين من بيوتهم وارضهم، بالتنسيق بين الدول الاستعمارية، والعصابات اليهودية التي سميت لاحقا "جيش الدفاع الاسرائيلي"، من جهة، والجيوش العربية التي جاءت صوريا للنجدة المزعومة للشعب الفلسطيني "الشقيق"، من جهة ثانية.
وفي عدوان حزيران 1982 على لبنان، قاتل "السياديون" اللبنانيون الى جانب الجيش الاسرائيلي. وبعد اجبار قوات منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان، بالاتفاق بين "الامم المتحدة" و"جامعة الدول العربية"، بقي المدنيون الفلسطينيون في المخيمات البائسة (برعاية الامم المتحدة طبعا)، فذهب "السياديون" اللبنانيون، مدعومين من جيش شارون، الى مخيمي صبرا وشاتيلا، وارتكبوا احدى افظع الجرائم في التاريح الانساني العالمي المعاصر.
اي انه، بمنطق سايكس ــ بيكو، و"الشرعية" الدولية و"العربية"، و"السيادية اللبنانية" المزعومة، فإن الفلسطينيين احفاد الكنعانيين، "الملعونين" والذين يدعو "يهوه" الى ابادتهم كما جاء في التوراة، هم غير مقبولين في ارضهم، وغير مقبولين ايضا في مخيمات اللجوء، ولم يتبقَّ لهم سوى القبر. وتلك هي مشيئة "يهوه" و"الشرعية الدولية" و"سايكس ــ بيكو" والانظمة العربية و"السياديين اللبنانيين".
ــ2ــ ان محاصرة وتجويع وتدمير وتقتيل المدنيين والشيوخ والنساء والاطفال في اليمن، هو شأن "سيادي" سعودي، لا يجوز لاحد التدخل فيه. اما تصريح بسيط من اعلامي لبناني مرموق (جورج قرداحي) بأن حرب اليمن هي حرب "عبثية"، فهو تعدٍ على "السيادة" اللبنانية وتعكير للعلاقات "الاخوية" العربية مع "الاشقاء" السعوديين جزاري الشعب اليمني "غير العربي" و"غير الشقيق" في نظر "السياديين اللبنانيين"!
*****
ان كل ما يجري اليوم في لبنان، و"الشرق الاوسط الكبير"، له ارتباط وثيق بموضوع تزويد اوروبا بالغاز والنفط،، ومنع "وقوعها" في حضن روسيا. وكانت "الحريرية السياسية"، منذ ايام المرحوم رفيق الحريري، قد قبضت سلفا مليارات الدولارات لاجل "إقناع" حزب الله بتكبير الحصة الشيعية في نظام المحاصصة الطائفية اللبناني، مقابل تطنيش المقاومة بقيادة حزب الله (باسم اكذوبة "الوحدة الوطنية" طبعا!) عن تحويل اسرائيل الى قاعدة محورية رئيسية لاستخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط وتصديره الى اوروبا، والسكوت والرضا بأي فتات او عظمة تلقى للدولة اللبنانية على هذا الصعيد. ولكن حزب الله لم "يقع في التجربة" (اي في "الخطيئة" كما تقول المسيحية)، لا بالاغراءات الطائفية والمالية ولا بالضغط والتهويل الداخلي والخارجي، وتمسكت المقاومة بشدة اكبر بالحقوق البحرية والغازية والنفطية للبنان. وبنتيجة فشل "حكومة الوحدة الوطنية" السابقة برئاسة سعد الحريري في "إقناع" حزب الله بالصفقة الطائفية معه، تم احتجازه ــ اي سعد الحريري ــ في السعودية واجباره على تقديم الاستقالة؛ وبعد "استعادته" تحت ضغط حزب الله وحلفائه، تم التفجير المشبوه لـ"ثورة الواتس اب" الكاراكوزية في 17 تشرين الثاني 2019؛ وقدم سعد الحريري استقالته واعلن انسحابه الملتبس والمشبوه من الحياة السياسية، لفتح الباب امام الفتنة الطائفية والمذهبية في لبنان. ولكن مشروع الفتنة لم يكن لاصحابه من القوة الفعلية لتطبيقه على الارض اكثر من النباح الاعلامي الفارغ للابواق المعهرة والمأجورة. فشنت حينذاك الحرب الاقتصادية على لبنان كبلد وشعب ودولة، لاجل تحميل المقاومة المسؤولية وإسقاط شعبيتها. ولكن ارباب المؤامرة على المقاومة والشعب اللبناني اوقعوا انفسهم في الفخ الذي نصبوه لحزب الله. ذلك ان الاطراف الدولية والعربية واللبنانية، المعادية للمقاومة، هي نفسها المشاركة في الحرب الاقتصادية وحرب التجويع ضد الشعب اللبناني. وقد ظهرت مكشوفة ومفضوحة تماما: من اميركا واوروبا الناتوية الى اسرائيل الى السعودية، وامتدادا الى اذنابهم "السياديين" و"الحياديين" اللبنانيين، الممسكين بكل مفاتيح القطاع المصرفي والمالي والتجاري والخدماتي والطائفي والسياسي.
وقد فقد المعسكر الامبريالي الاميركي ــ الناتوي ــ الاسرائيلي ــ السعودي نهائيا امكانية الاستفراد بلبنان والشعب اللبناني، ذلك ان المقاومة اصبحت تقف بوجه هذا المعسكر، بقوتها الشعبية الداخلية، التي لم تعد تدانيها اي قوة طائفية او عميلة في لبنان، بل وتحولت الى بعبع مخيف لاسرائيل واميركا بالذات؛ كما صارت تظهر ــ اي المقاومة بقيادة حزب الله ــ كجزء لا يتجزا من محور المقاومة الاقليمي الذي تقوده ايران الثورية، التي هي بدورها جزء اساسي من المحور الشرقي الجديد: الروسي ــ الصيني ــ الايراني وحلفائه.
*****
في الزمن القديم قال السيد المسيح لبطرس الرسول: انت الصخرة؛ وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي!
وفي زمننا الجديد: ان الشعب الروسي العظيم، المصهور كالفولاذ دهورا بعد دهور واجيالا بعد اجيال، في معمعان الكفاح ضد العبودية والطغيان والرأسمالية والاستعمار والامبريالية، هو "الصخرة البطرسية" التي يبنى عليها اليوم "المحور الشرقي الجديد" لروسيا (القومية الروسية ــ الاورثوذوكسية) والصين الشعبية (الشيوعية ــ الكونفوشيوسية) والجمهورية الايرانية (الثورية ــ الاسلامية المتنورة). وهذا المحور هو القمين بتوحيد وتحرير جميع شعوب العالم، وإعطاء وجهة جديدة للتاريخ العالمي، وشق الظلمات لبزوغ فجر جديد للاخاء، الحرية، المساواة والكرامة، الحضارة والتقدم والازدهار للانسانية جمعاء!
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل