جورج حداد(*)
هناك مقولة مشهورة تقول: ان التاريخ يكتبه المنتصرون!
وهذه المقولة هي صحيحة بمقدار، والاصح هو القول: ان التاريخ الرسمي تكتبه الطبقة الحاكمة والحكام سواء كانوا منتصرين او مهزومين.
والمجتمع العربي هو في الاغلب مجتمع مهزوم منذ اكثر من حوالى الف سنة. وتاريخه الرسمي هو تاريخ مهزومين كتبته فئتان:
ــ أ ــ عملاء وابواق الغزاة والحكام الاجانب وغير العرب (من الرومان الى الصليبيين، الى الايوبيين الاكراد، والمماليك الناطقين بالتركية، والعثمانيين، وانتهاء بالمستعمرين والامبرياليين الاوروبيين والاميركيين واليهود في العصر الحديث).
ــ ب ــ الطبقات "الوطنية" الاستغلالية الحاكمة والحكام المرتبطون عضويا، مباشرة او غير مباشرة، بالغزاة والمستعمرين والامبرياليين الاجانب.
وقد كتبت الطبقات الحاكمة والحكام "الوطنيون"، تاريخنا، بما يتناسب مع مصالحهم وتسلطهم على شعوبنا المظلومة، وتبعيتهم للغزاة الاجانب والمستعمرين والامبرياليين.
وكان التضليل والديماغوجيا و"لوي عنق" التاريخ وتزييفه، هي الادوات المعرفية الاساسية في كتابتهم للتاريخ الرسمي العربي، القديم والحديث.
وكانت سياسة الكذب والدجل، وسياسة القمع والاضطهاد الفظيع وإخراس "الصوت الاخر"، هما الاداتان الرئيسيتان للطبقات الحاكمة والحكام، لفرض الهيمنة والسيطرة على جماهير الشعوب العربية التي ابتليت بحكمهم.
ومن أسوأ امثلة الكتابة المزيفة والتضليلية لـ"تاريخنا" الرسمي، هو مثال السفاح الطائفي والعنصري، الذي يعود له "فخر" افتتاح عصور الانحطاط الحضاري للمجتمع العربي ــ الاسلامي. ونعني به صلاح الدين الايوبي، الذي اضفيت عليه صفات "المحرر" (من الصليبيين)، و"الموحد القومي" لمصر والمشرق العربي، و"المتسامح الديني".
وفي هذا السياق نذكر انه في 1963، وبعد "نجاح" النظام الدكتاتوري الناصري (تحت عنوان الوحدة السورية ــ المصرية) في تحويل سوريا (بالاضافة الى مصر) الى سجن كبير ومسلخ بشري (بالمعنى الحرفي للكلمة = الشهيد فرج الله الحلو جرى تقطيع جثمانه وسكب الاسيد على القطع وتذويبها قطعة قطعة)، وبالتالي إفشال الوحدة بين مصر وسوريا وتوجيه طعنة لفكرة الوحدة العربية لا تزال مفاعيلها السامة سارية في الجسم العربي الى اليوم، انتج ذلك النظام الدكتاتوري الكارثي الفيلم المعنون "الناصر صلاح الدين"، الذي تولى اخراجه احد ابرز المخرجين المصريين (يوسف شاهين)، وكتب روايته والسيناريو بعض اشهر الكتاب المصريين المرموقين (يوسف السباعي، نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوى وغيرهم)، وحُشد له رهط كبير من افضل واشهر الممثلين المصريين (أحمد مظهر، صلاح ذو الفقار، حمدي غيث، عمر الحريري، محمود المليجي، ليلى فوزي وغيرهم).
والفيلم بمجمله لا قيمة تاريخية وثقافية له، وليس اكثر من مشهدية تشويق و"أكشن"، تقوم على التزييف والمغالطات والاكاذيب التاريخية، التي فحواها إضفاء هالة كبرى على "الناصر" صلاح الدين، كمحرر وموحد قومي، ومتسامح ديني، وفارس شجاع ونبيل. وكل الهدف من هذا الفيلم كان: الايحاء بأن "قائد الامة" جمال عبدالناصر (الذي كان يوجهه ويديره الماسوني محمد حسنين هيكل) هو "هذا الصلاح الدين"، وان صلاح الدين كان "عبدالناصر ذلك العصر"، وعبدالناصر هو "صلاح الدين هذا العصر"!
ان تعميم هذه "الخلطة الثقافية الناصرية ــ الصلاح الدينية" الآسنة، والمجبولة بالكذب من الالف الى الياء، ــ هذا التعميم استخدم كغطاء لصرف النظر وتزويق انحرافات وارتكابات النظام الناصري التي ادت الى إفشال الوحدة السورية ــ المصرية، وادت بعد ذلك الى الهزيمة الشنيعة في حرب 5 حزيران 1967، التي دفع حياته ثمنا لها الوف الجنود والضباط المصريين الوطنيين الشرفاء والشجعان، الذين لم يرفعوا الرايات البيضاء بعد ان قُدموا كاهداف حية سهلة ومكشوفة للطيران الاسرائيلي الذي مزقهم بالقنابل ورصاص الرشاشات الثقيلة للطائرات، وسالت دماؤهم الزكية وتناثرت اشلاؤهم فوق رمال صحراء سيناء، بفضل الخيانات التي كانت تنهش القيادات السياسية والعسكرية والمخابراتية المصرية، بدءا من رؤوسها.
وقد تلقف النظام البعثي المتفسخ الذي كان حينذاك قائما في سوريا والعراق، فيلم "الناصر صلاح الدين"، وتبناه كهدية من السماء.
وتلاقى "الاضداد" ظاهريا: النظامان الناصري والبعثي والاسلامويون، على رفع صلاح الدين الايوبي، السفاح والعدو الاول للعرب، الى مرتبة القديسين واولياء الله الصالحين. وعممت هذه الصورة على جميع وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، كما و"الشعبية" الموالية والمعارضة، وادخلت في مناهج التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، لتضليل الجماهير الشعبية وتسميم الاجيال الصاعدة بهذه "الثقافة" المزيفة، التي كان من الطبيعي ان تنتج لنا الهزيمة ــ الفضيحة، البشعة والكارثية، في حرب حزيران 1967، وما تلاها من هزائم وانتكاسات، وصولا الى "كامب دايفيد" و"اوسلو" و"الربيع العربي" المشؤوم والانتكاسة الحضارية الداعشية المسماة "الثورة السورية" التي حركتها المخابرات الاميركية والاسرائيلية ومولت بالدولارات النفطية السعودية والخليجية، واخيرا الى حركة التطبيع مع اسرائيل القائمة الان على قدم وساق.
كل ذلك يقتضي اعادة النظر في هذه "الثقافة الوطنية!" الانحرافية والسامة، وتقويم هذا الاعوجاج. وتلك مهمة تقع على عاتق جميع المثقفين الوطنيين والتقدميين والاسلاميين، الشرفاء.
صلاح الدين الايوبي
على حقيقته
يقول الروائي الشهير، والباحث التاريخي في التراث، الاكاديمي المصري يوسف زيدان، "ان صلاح الدين الايوبي هو من احقر الشخصيات التي عرفها التاريخ".
وبمعزل عن "ثقافة!" فيلم "الناصر صلاح الدين"، والتقييم الحدّي ليوسف زيدان، يتوجب على جميع المثقفين العروبيين والاسلاميين الشرفاء النظر في حقيقة صلاح الدين الايوبي، لما لذلك من اهمية قصوى ليس فقط لتصويب المفاهيم الخاطئة لتاريخنا الماضي، بل وبالاخص لفهم طبيعة المرحلة التاريخية التي نعيشها الان، والتي لا زالت فيها "ثقافة!" صلاح الدين الايوبي المزيف تلقي بظلالها على مجتمعنا وتفعل فعلها فيه.
ونحاول فيما يلي ان نلخص تقييمنا لصلاح الدين الايوبي، والعصر الايوبي، على حقيقتهما، من وجهة نظرنا المتواضعة:
ــ1ــ لم يكن صلاح الدين الايوبي "حقيرا"، بل كان شخصا "عاديا" و"طبيعيا" جدا كزعيم كردي، ونموذجا مثاليا للزعماء الاكراد القدماء والجدد، اي انه كان زعيم اقطاع عسكري، طائفيا ــ عشائريا ــ شوفينيا، سفاحا وانتهازيا، عديم المبدأ، همه الرئيسي هو السلطة ومغانمها؛ وكل سلوكه العسكري والسياسي والاجتماعي و"الديني" والاخلاقي و"الحضاري" كان في خدمة اهدافه الوصولية السلطوية.
ــ2ــ تميز صلاح الدين الايوبي بـ"مكيافيليته" النموذجية؛ بل ان مكيافيلي ذاته يمكن ان يعتبر تلميذا صغيرا عند صلاح الدين، حيث انه ذهب الى مصر برفقة عمه اسدالدين شيركوه الذي ارسله الامير نورالدين زنكي حاكم سوريا (السني التركي)، الموالي للخلافة العباسية (السنية العربية) على رأس قوة عسكرية كردية الى مصر، بناء لطلب الخليفة الفاطمي (الشيعي العربي) للمساعدة في حماية مصر من الصليبيين. وقد عين الخليفة الفاطمي شيركوه وزيرا له، ولكن شيركوه مات بعد شهرين بسبب اصابته بالتخمة في وليمة عرمرية، مما يكشف مدى نهم الطغمة العشائرية الكردية الى السلطة ومباهجها. فعيّن الخليفة الفاطمي صلاح الدين وزيرا بعد موت عمه شيركوه. فاستغل صلاح الدين (الكردي السني) وزارته لدى الفاطميين (الشيعة) لتعزيز استقلاليته عن اميره (السني) نورالدين زنكي الحاكم في سوريا. ولما طلب منه نور الدين قطع الخطبة للخليفة الفاطمي في صلاة الجمعة وجعلها للخليفة العباسي، تمنع عن ذلك لمدة ثلاث سنوات. ورفض طلب الامير نورالدين بالعودة اليه في سوريا، لانه خشي انه اذا قابل نورالدين زنكي فسوف يعزله. وبعد ثلاث سنوات من توزير صلاح الدين مات الخليفة الفاطمي وهو شاب في الـ21 سنة من عمره. ويقول الكثير من المؤرخين القدماء ان صلاح الدين دبر قتل الخليفة الفاطمي بالسم. وبعد وفاة الخليفة الفاطمي، عمد صلاح الدين، وبمعزل عن نورالدين وبمبادرة وقرار منه، الى قطع الخطبة للخليفة الفاطمي، وحولها للخليفة العباسي. ونشب خلاف صامت بين صلاح الدين ونورالدين، لان الاخير كان واثقا من ان صلاح الدين لا يرسل له الا النزر اليسير من الاموال التي يجمعها من مصر. وقد رفض صلاح الدين العودة الى سوريا بطلب من نورالدين زنكي. بل ورفض طلب نورالدين للمشاركة معه في حصار الصليبيين في قلعة الكرك والشوبك في الاردن، خشية ان يلتقي بنورالدين حتى لا يعزله. فقرر نورالدين تجييش حملة عسكرية للمسير الى مصر وعزل صلاح الدين وفرض السيطرة الزنكية المباشرة على مصر. ولكن نورالدين مرض فجأة ومات. وتوقفت الحملة بموته. ويشكّك كثير من المؤرخين ان لصلاح الدين يدا في مرض نورالدين وموته الفجائي. وبعد موت الاخير، جاء صلاح الدين الى دمشق، وتزوج ارملة نورالدين رغما عنها، كي يحافظ على مسحة "شرعية" زنكية لسلطته، اضافة الى صفته "الشرعية" كوزير للخليفة الفاطمي الاخير. وسيطر على الحكم في سوريا (بما فيها فلسطين ولبنان)، باستثناء مدينة حلب التي أبقى حاكما فيها ابن نورالدين وكان صبيا صغيرا لم يتجاوز الـ12 سنة من عمره.
ــ3ــ من زاوية نظر محددة، فإن صراع صلاح الدين مع الصليبيين، بقرار ودعم من قبل الفاطميين، والانتصار في معركة حطين في 1178، خدم موضوعيا قضية التحرير. الا ان الهدف الذاتي لصلاح الدين هو نفسه لم يكن التحرير بحد ذاته، بل الوصول الى السلطة والاحتفاظ بها؛ وقد استخدم الصراع مع الصليبيين كمدخل ووسيلة للحصول على دعم الزنكيين الاتراك السنة، من جهة، واستمرار دعم خصومهم الفاطميين العرب الشيعة، من جهة ثانية، وتوطيد سلطة مستقلة له بين الاطراف المتخاصمة الثلاثة معا: الصليبيين والزنكيين والفاطميين.
ــ4ــ بعد وفاة الخليفة الفاطمي، أضفى صلاح الدين على نفسه بنفسه الصفة الشرعية المستقلة، بقطع الدعاء للخليفة الفاطمي والشروع في الدعاء للخليفة العباسي في المساجد المصرية، وذلك بأمر مباشر منه بمعزل عن الزنكيين. وكان هدفه من هذا "اللعب" على العباسيين والفاطميين، العرب، من جهة، وعلى الزنكيين الاتراك، من جهة ثانية، هو الاستيلاء على السلطة والاستقلال بها للاكراد في مصر والمشرق العربي معا.
ــ5ــ كان الانتصار العسكري بقيادة صلاح الدين الايوبي على الصليبيين في معركة حطين في تموز 1187، احدى اهم النقاط المضيئة في التاريخ العربي ــ الاسلامي، وفتح هذا الانتصار الطريق لتحرير القدس في ايلول من السنة ذاتها. ودخلت قوات المسلمين المدينة المقدسة، بعد استسلام حاميتها الصليبية الضعيفة، بدون ارتكاب اية مجزرة، لا كما فعل الصليبيون حينما احتلوا القدس في تموز 1099 وابادوا جميع اهاليها، وذبحوا 70.000 مسلم في المسجد الاقصى (وهذا ما يتناساه اليوم الملوك والحكام العرب المسلمون "المطبّعون" مع اسرائيل والسائرون في ركاب اميركا والناتو). وهذه ايضا احدى النقاط المضيئة الكبرى في التاريخ العربي ــ الاسلامي.
ولكن صلاح الدين سمح للقادة العسكريين والسياسيين والدينيين الصليبيين ان يخرجوا من القدس ليس فقط باشخاصهم، بل ان يُخرجوا معهم كل اموالهم وكنوزهم ومقتنياتهم النفيسة. وكان هذا "التساهل" (الديني في الظاهر) يحمل رسالة ضمنية للقادة الصليبيين بامكانية التفاهم معهم لاحقا.
ــ6ــ وعلى هذه الخلفية، وفي حزيران 1192 وقع صلاح الدين الايوبي مع الصليبيين ما يسمى "معاهدة الرملة"، وهي تنص على أن يبقى الساحل بيدهم من يافا الى صور بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف، ومن صور الى شمال سوريا حتى الحدود التركية، وتكون مدينة الرملة واللد مناصفة بين المسلمين والصليبيين. وقد أمر صلاح الدين أن يذاع خبر المعاهدة في معسكرات الجنود وفي الأسواق ليستطيع المسلمون والصليبون التنقل في البلاد بحرية وسلام.
وكان هدف صلاح الدين من "معاهدة الرملة" او "صلح الرملة" ان تبقى الامارات الصليبية حاجزا بين سلطنته في مصر، وبين سوريا (والمشرق العربي)، التي لم يكن قد سيطر على كل اجزائها بالكامل، وكي يتسنى له التفرغ لـ"فتح" بقية اجزاء سوريا، وفتح اليمن وغيره من اراضي المشرق العربي. (وهذا ما يسميه العروبيون والاسلاميون المزيفون: توحيد مصر والمشرق العربي!).
وفيما بعد، وفي حمأة تكالبهم على السلطة وصراعهم ضد بعضهم البعض، وتعاونهم مع الصليبيين ضد بعضهم البعض، اعاد السلاطين الايوبيون القدس الى الصليبيين، بموجب "معاهدة يافا" التي وقعها السلطان الكامل (ابن اخ صلاح الدين) مع الصليبيين في شباط 1229؛ والتي تقرر بمقتضاها الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا، كما ذكر الكاتب الأميركي ويل ديورانت في مؤلفه الضخم "قصة الحضارة".
وفي 1250 اعاد المماليك تحرير القدس مرة ثانية من الصليبيين. ومنذ ذلك التاريخ رزحت المدينة المقدسة تحت حكم المماليك فالعثمانيين فالانكليز حتى مسرحية حرب 1948-1949 حينما احتل اليهود القدس الغربية وغيرها من الاراضي الفلسطينية؛ وفي هزيمة حزيران 1967 احتلوا القدس الشرقية وكامل الاراضي الفلسطينية وسيناء والجولان ومزارع شبعا في لبنان.
ــ7ــ ان قناع "التسامح الديني" الذي وُضع على الوجه البشع لصلاح الدين الايوبي، استنادا الى تعامله مع الصليبيين لدى تحرير القدس ليس سوى قناع زائف ومغرض، الهدف منه في ايامنا تبرير التعامل مع الدول الامبريالية الغربية والتطبيع مع اسرائيل.
ويكشف زيف هذا القناع التعامل الجاحد والغادر والوحشي لصلاح الدين الايوبي والايوبيين من بعده، مع الفاطميين وكافة الشيعة والعرب في مصر والمشرق العربي.
فمع ان الخليفة الفاطمي (الشيعي) كان قد وزّر عم صلاح الدين، اسد الدين شيركوه (السني)، ثم صلاح الدين نفسه بعد وفاة شيركوه؛ فبعد وفاة الخليفة الفاطمي فإن صلاح الدين "لم يضيّع الوقت!" وشرع فورا في حملة ابادة كاملة للفاطميين. فقام اولا باعتقال جميع الامراء و"كبار القوم" من الفاطميين، من الرضّع حتى الطاعنين في السن، وفصل الذكور عن الاناث فصلا كاملا حتى لا يستطيعون التناسل لاحقا، ولكنه عاد فغير رأيه وقرر ابادتهم سريعا، فقتل بيشمركته الذكور حتى الرضّع بالسيف، واشعلوا النار في امكنة اسر الاناث، حسبما يقول العديد من الروايات التاريخية. ومن ثم قام بيشمركة صلاح الدين بالبحث عن الفاطميين "العاديين" في كل مكان، وابادتهم رجالا ونساء وشيوخا ورضّعا. واخيرا توج صلاح الدين، هتلر زمانه، حملته الهولوكوستية بالشروع في ابادة كل الشيعة في مصر. وتجدر الاشارة ان بيشمركة صلاح الدين كان يسمح لهم بنهب وسلب الشيعة، واغتصاب وسبي نسائهم، قبل ابادتهم، ولذلك فإن حملته الهولوكوستية ضد الشيعة في مصر حققت من النجاح اكثر مما حققه الهتلريون في حملتهم المعادية لليهود (الشيوعيين وغير الصهاينة) في اوروبا عشية وخلال الحرب العالمية الثانية.
وبعد ان استتب الامر لصلاح الدين في مصر، قام بالاستيلاء على السلطة في سوريا (الكبرى) واليمن، حيث واصل حملته المعادية لابادة الشيعة، وهو ما تابعه من بعده الامراء الايوبيون، فالمماليك، فالعثمانيون، حيث كان يتم قتل الشيعة ونهب واحراق بيوتهم، وارتُكب ما لا يحصى من المجازر الجماعية ضدهم، التي كان يقتل في كل منها عشرات الالوف دفعة واحدة، وهذا ما اسهم في تقويض كل الاسس المفترضة، الاخلاقية والدينية السوية والحضارية، للسلطة "الاسلامية اسما" في جميع تلك العصور السوداء التي تعتبر نكسة، او نكبة، او سقطة كبرى، وفي كل الاحوال لطخة عار في تاريخ الحضارة الانسانية.
ــ8ــ واكبر كذبة "يترصع" بها التاريخ الرسمي العربي هي ان صلاح الدين الايوبي مع بيشمركته الكردية كان "موحدا قوميا" قام بتوحيد مصر وسوريا والمشرق العربي، بعد ان كانت منفصلة خلال مرحلة الخلافتين العباسية والفاطمية. ولا تقترب قليلا من هذه الكذبة سوى كذبة الانتصارات العسكرية التي كانت تتغنى وتتشدق بها الاذاعات "الناصرية" في الايام الاولى من حرب حزيران 1967، وكذبة "عروبية" الحرب الظالمة التي شنها النظام البعثي لصدام حسين ضد الثورة الاسلامية الايرانية، لمصلحة وبدعم الامبريالية العالمية والاميركية واسرائيل والسعودية ومشيخات النفط العربية.
والواقع انه بعد استتباب الامر لصلاح الدين في حكم مصر بالحديد والنار، استولى ايضا على الحكم في دمشق واليمن وغيرهما من مناطق المشرق العربي. وتعامل مع المنطقة العربية التي حكمها وكأنها اراض اقطاعية تعود ملكيتها له ولافراد اسرته وعشيرته. وقبل 725 سنة من "اتفاقية سايكس ــ بيكو" لتقسيم البلدان العربية، قام صلاح الدين الايوبي قبل وفاته في 1193 بتقسيم "اقطاعيته العربية" الواسعة، المغتصبة، بين افراد عائلته: اخوته وابنائه وذراريهم. ولم يكن ذلك التقسيم قائما على الاختلاف المذهبي كما كانت الخلافتان العباسية والفاطمية، وليس على اساس اختلاف مناطق النفوذ الدولي كما كانت اتفاقية سايكس ــ بيكو، بل كان "تقسيما ارضيا خالصا!"، تقسيما لاجل التقسيم، لاجل تمزيق الارض العربية والامة العربية، وتحويل شتى الاقسام الى "ملكية خاصة" لامراء بني ايوب والقواد العسكريين للبيشمركة الكردية الخاصة بكل منهم. وقد تعامل كل امير ايوبي كردي مع "الرعايا" في "ارضه!" ليس بوصفهم اصحاب الارض الاصليين، بل بوصفهم "قطعان ماشية بشرية" تحل له ولبيشمركته حياتهم واعراضهم واموالهم. وعلى هذه الخلفية بدأ كل امير ايوبي يطمح الى توسيع "ارضه!".
وان تاريخ "العصر الايوبي"، الذي وضع اسسه ودشنه "الناصر" صلاح الدين، ليس سوى تاريخ الصراع بين "الاقطاعات" التابعة لشتى الامراء وقادة العصابات الايوبية، وعلى حساب الجماهير الشعبية العربية المظلومة، المستغلة والمسحوقة في تلك "الاقطاعات".
ــ9ــ ان صفات "السماحة والفروسية والنبالة والشهامة" التي اظهرها صلاح الدين في علاقات الصراع حينا، والتهادن والتصالح احيانا، مع الصليبيين، لم يظهر مثلها ــ ولو في ادنى مستوى ــ في علاقاته مع المصريين والسودانيين وكل العرب، السنة والشيعة والمسيحيين. بل تكشف عن موقف عنصري ــ شوفيني متوحش ضدهم. وتذكر المرويات التاريخية ان صلاح الدين بعد وفاة الخليفة الفاطمي الاخير، الذي عينه وزيرا، اعلن نفسه سلطانا، قد حكم مصر بواسطة بيشمركته الكردية، واستبعد جيش الدولة المصرية الفاطمية، والذي كان يتألف في الاغلب من السنة، وكانت فيه اعداد كبيرة ممن كانوا يسمون "السودان" (الذين كانوا من ابناء السودان وبلاد النوبة وابناء الصعيد، الداكني البشرة). ولم تعترف غالبية المصريين بحكم صلاح الدين وبيشمركته الايوبية الكردية، وقام ضده العديد من تمردات الجيش الفاطمي السابق وانتفاضات المصريين، وخصوصا في الاطراف. وقد تمكنت قوات صلاح الدين من اخماد تلك التمردات والثورات، لانها كانت متفرقة وتقوم بشكل منفصل بعضها عن بعض، مما مكّن صلاح الدين من سحقها بوحشية تامة. ولم تكن البيشمركة الايوبية تحتفظ بالاسرى، بل كان يتم ذبح الاسرى جميعا. وفي البلدات والقرى التي كان يتم اخضاعها كان يجري نهبها وسبي نسائها واعتقال وقتل الالوف من الرجال المقاتلين والعزل وصلب جثامينهم امام البيوت وعلى جذوع الاشجار في الغابات المحيطة بالمدن، للارهاب وبث الرعب في نفوس عامة المصريين. وفي احد تلك التمردات، بلغ عدد الجنود "السودان" المتمردين حوالى 100 الف جندي، ضربت عليهم البيشمركة الايوبية الحصار، ولكنهم صمدوا في مواقعهم الحصينة. وخشي صلاح الدين الايوبي ان يكون هذا الصمود قاعدة لتمرد وثورة اوسع واشمل، فسحب قسما من البيشمركة قام بمهاجمة حي المنصورة في القاهرة، حيث كانت تقيم عائلات "السودان" المتمردين (من مسنين ونساء واطفال)، وقامت البيشمركة الكردية بنهب الحي واغتصاب وسبي النساء، ثم اشعال النيران في الحي وقتل كل من بقي حيا فيه، من مسنين ونساء واطفال، حرقا بالنيران. مما اضطر المتمردين "السودان" على الخروج من معاقلهم مذعورين، مهرولين بدون انتظام الى حي المنصورة لنجدة عوائلهم، فتصدت لهم البيشمركة الايوبية التي كانت لهم بالمرصاد، وقضت عليهم جميعا.
ومما هو جدير بالذكر انه لما استتب الحكم لصلاح الدين عين نائبا عنه، يحكم باسمه، يدعى بهاء الدين قراقوش، وهو مخصي ابيض كان عبدا مملوكا لاسدالدين شيركوه فأعتقه لاخلاصه له واستخدمه، وبعد موت شيركوه ورث صلاح الدين (وابناؤه من بعده) هذا القراقوش واستخدموه ايضا ورفعوا من شأنه لوحشيته واخلاصه للايوبيين. وصارت الناس تعزو مظالم الايوبيين لقراقوش، وتهزأ من حكم الايوبيين وتسميه "حكم قراقوش". ولا تزال هذه العبارة سارية الى اليوم.
وتفيد بعض المرويات التاريخية انه، عدا ابادة الفاطميين، فإن اعداد المتمردين والثائرين المصريين الذين قضى عليهم "الناصر" و"البطل الاسطوري العربي ــ الاسلامي" صلاح الدين الايوبي، بلغت 250 الف مصري او اكثر؛ بالاضافة الى عشرات الوف القتلى في المشرق العربي. اي ان صلاح الدين قتل من العرب اضعاف ما قتل الصليبيون حينما اجتاحوا القدس. فنعمى لـ"البطولة والنبل والسماحة"، ونعمى لـ"العروبية الناصرية والبعثية" ونعمى لـ"الاسلاموية الداعشية!".
ومن الامثلة على التعامل "الاخوي الاسلامي" للايوبيين مع المصريين والعرب:
ــ أ ــ "جهز شمس الدولة توران شاه (اخو صلاح الدين)، وسار إلى أسوان، ومنها إلى بلاد النوبة، فنزل قلعة اسمها أبريم، فحصرها، وقاتله أهلها، فلم يكن لهم بقتال العسكر "الإسلامي" قوة - لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب، فسلموها، فملكها، وأقام بها، ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه وتُحتمل المشقة لأجله، وقوتهم الذُرَة، فلما رأى عدم الحاصل، وقَشَف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة، تركها وعاد إلى مصر بما غنم، وكان عامة غنيمته العبيد والجواري"..(الكامل 9/380).
ــ ب ــ ولم يكتفِ توران شاه بذلك بل ذهب لغزو اليمن بأمر من أخيه صلاح الدين بنفس الدافع وهو جمع المال وتحصين مصر من الجنوب ضد نور الدين، وحكى ابن الأثير مشهدا من معركة اليمن قال.. "فقاتلهم شمس الدولة (توراه شاه) ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد (بلدة في اليمن) وانهزموا، ووصل المصريون (الايوبيون) إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب".. (المصدر السابق).
ان ارتكابات صلاح الدين ذكرها المؤرخون السنة، بمن فيهم بهاء الدين بن شداد كاتب "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" (اي محاسن يوسف بن ايوب الملقب "صلاح الدين")، ــ ذكروها في معرض مدحه والاشادة به بأنه اتصف بالحزم والشدة في الدفاع عن المذهب السني.
ومدح ابن الجوزى ارتكابات صلاح الدين ضد المصريين فى كتاب كامل أسماه "النصر على مصر".
ــ10ــ لقد دامت الدولة الايوبية في مصر من 1174 الى 1250. وخلال هذه الفترة استقدم صلاح الدين والايوبيون اعدادا كبيرة من الاكراد ليحكموا بهم المصريين. ولكن ذكريات ارتكابات وجرائم ومجازر صلاح الدين والايوبيين ضد مصر والمصريين، رفعت جدرانا من النفور والتباغض بين المصريين والاكراد، حتى بعد ان ازاح المماليك الايوبيين عن السلطة. وهذا ما دفع الغالبية الساحقة من الاكراد الى النزوح عن مصر. وفي محصلة تاريخية فإنه لم يبق في مصر ولا كردي واحد ناطق باللغة الكردية، باللهجة الكرمانجية او السورانية او الكاكائية او غيرها. اما الفئة القليلة من العائلات المصرية من اصل كردي، مثل عائلة محمد على باشا، وعائلة خورشيد، واباظة، وعائلة امير الشعراء احمد شوقي، وعائلة العقاد، وبدرخان وغيرها، فكانت قد اندمجت بالمجتمع المصري، وتمصّرت، وتعرّبت.
ــ11ــ من زاوية نظر دينية (مذهبية) ــ وعنصرية (اتنية ــ اقوامية) ــ وحضارية (اجتماعية ــ سياسية ــ اقتصادية)، فقد اتصف صلاح الدين بصفتين رئيسيتين:
الاولى ــ الشعور الباطني باحتقار الذات، بسبب جحوده حيال الفاطميين والانقلاب عليهم والغدر بهم؛ ومن هنا نشأت نزعته نحو ابادة الفاطميين بالكامل وكأنهم لم يكونوا.
والثانية ــ الشعور بالدونية حيال المصريين والعرب، ومن هنا نزعة الحسد والحقد حيالهم والرغبة في اضطهادهم الوحشي وكسر شوكتهم والحط من قدرهم وافقارهم واذلالهم واستغلالهم. ولهذه الغاية أزاح صلاح الدين البيروقراطية الحاكمة آنذاك وحوّل النظام الاقتصادي في مصر والشام الى نظام الاقطاع الزراعي العسكري، مما أتاح لقادته العسكريين السيطرة المباشرة على جميع الأراضي الزراعية الغنية، واصبحت الارض ومن عليها ملكا للقائد الكردي او المملوك الذي مُـلّكت له.
وقد ورث المماليك المتحدثين بالتركية كل النظام الايوبي؛ فإلى جانب السيطرة على الاماكن المقدسة (مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف)، امتلكوا ايضا جميع الأراضي الزراعية الخصبة في مصر وغيرها.
وقد تعامل صلاح الدين (والايوبيون ومن بعدهم المماليك)، مع المصريين (واستطرادا مع جميع العرب) ليس بوصفهم اهل البلاد، بل وكأنهم اسرى غرباء مجلوبين، يعيشون ويتناسلون ويعملون كــ"عبيد قرار"، مقيدين بالارض او الحِرَف التي يعملون فيها، ويؤخذ منهم كل "فائض" انتاج عملهم (كل ما يزيد على الحد الادنى المتناقص من الطعام لكي يبقوا على قيد الحياة ويتابعوا التناسل والعمل)، تحت شكل ضرائب ورسوم ومكوس وجبايات مختلفة، ولا يحق لهم بيع اشخاصهم ولا احد من افراد عائلاتهم، كليا او جزئيا لأجَل محدد، كعبيد ومماليك، ولا يحق لهم حمل السلاح تحت اي ظرف كان تحت طائلة القتل.
وفي العصر الايوبي (وامتداده المملوكي) فقد التجار المصريون مكانتهم التي احتلها اليهود والعسكريون الغرباء (غير العرب)، وتحولت الحكومة إلى حكومة نهب ولصوصية، خاصة وان "السادة" الايوبيين والمماليك لم تكن تربطهم بمصر أية روابط لا بالنسبة لمستقبلها ولا لماضيها، بل كان ولاؤهم لأنفسهم ولطبقتهم فحسب. وصارت البلاد مسخّرة لاستغلالهم لها.
ولخوف صلاح الدين من ثورة شاملة للمصريين ضد حكمه الطائفي والعنصري الجائر، عمد الى حجارة الاهرامات الصغرى التي هدمها لنهبها، وبنى بها قلعته الشهيرة قرب القاهرة، ليس لحماية المدينة، بل لجعل القلعة مقرا لحكمه وملجأ له ولعصابات البيشمركة الخاصة به من غضب المصريين في حال قيام اي ثورة عامة.
وللتمكن من حكم المصريين باطمئنان اكثر، كان صلاح الدين يأخذ الاموال من "عبيد القرار" المصريين، ويشتري بتلك الاموال العبيد ــ المماليك لحكم المصريين انفسهم.
ولم يكن بالامكان شراء المماليك لا من المصريين ومن اهل شمال افريقيا العرب والامازيغ ولا من اهل المشرق العربي، السوريين والعراقيين واليمنيين وابناء شبه الجزيرة العربية، لان جميع هؤلاء هم من محور حضاري عربي واحد، ومن المؤكد ان ينقلبوا الى جانب المصريين في حال قيام اي ثورة.
كما لم يكن بالامكان شراء المماليك من الفرس او الترك، لشيعيتهم او لغلاء اثمانهم.
وهكذا رست "القرعة التاريخية" لشراء العبيد المماليك من الترك القدماء من سكان اسيا الوسطى وما وراء القوقاز، لكونهم مقاتلين اشداء، وفقراء جدا، يبيعون انفسهم بارخص الاثمان لاجل توفير ما يقي من الموت جوعا عائلاتهم، المتروكة وراءهم.
وبسبب الخوف المتزايد للايوبيين من المصريين، فقد ازدادت طردا اعداد المماليك، الذين ــ حينما اصبحت اعدادهم اكثر من البيشمركة الايوبية الكردية ــ انقلبوا على الايوبيين وازاحوهم عن السلطة وحلوا محلهم.
ومن سخرية الاقدار التاريخية ان العرب (بالمعنى الحضاري الواسع للكلمة) الذين يصفهم الاسلام بأنهم "خير امة أخرجت للناس" صاروا شعوبا مستعبدة من قبل العبيد (بالمعنى الحرفي المباشر للكلمة)، وذلك "بفضل" "البطل الاسلامي!" و"المحرر العظيم!" "الناصر صلاح الدين".
ــ12ــ ان صلاح الدين، الحاكم المكيافيلي، المستبد والسفاح ولكن المحنك، كان في قرارة نفسه يكره ويعادي بعمق المصريين والعرب اجمعين، المسلمين والمسيحيين (الشرقيين)، كما أسلفنا. وفي معادلة عكسية "طبيعية" لهذا الكره والعداء كان تعامله الايجابي مع الطغمة اليهودية العليا. ومن السطحية بل والسخافة اعتبار ذلك ناتجا عن نزعة انسانية ــ دينية للتسامح والتعاطف مع الاديان الابراهيمية و"اهل الكتاب". إذ لو كان الامر كذلك لشملت هذه النزعة الانسانية التسامحية الفاطميين والمسيحيين والصعايدة وكافة المصريين والنوبيين والسودانيين والعرب. والتفسير المنطقي التاريخي للموقف الايجابي لصلاح الدين الايوبي من اليهود هو تلاقي المصالح العليا للقيادة الكردية الشوفينية مع الطغمة المالية العليا اليهودية. ونشير في هذا السياق الى الوقائع التالية:
ــ أ ــ من المعلوم في زمننا ان ضباط الموساد الاسرائيليين كانوا يشكلون حلقة المستشارين الاوائل للزعيم الكردي العراقي الاشهر مصطفى البارزاني. ولكن البارزاني لم يكن السبّاق في "مستشاريته" اليهودية الموسادية، بل هو كان يقتدي بالزعيم "البطل" صلاح الدين الايوبي، الذي كان مستشاره الاول الحاخام اليهودي الاكبر في مصر موسى بن ميمون، الذي يقول عنه اليهود "بعد موسى (النبي التوراتي) لا يوجد الا موسى (اي ابن ميمون)". ويمكن الاستنتاج ان صلاح الدين الايوبي كان ألعوبة بيد الداهية موسى بن ميمون (كما كان جمال عبدالناصر ألعوبة بيد الماسوني محمد حسنين هيكل)، وان كل ما كان يقوم به، من مجازر ونظام حكم واستقدام المماليك الخ، كان بنصيحة ومشورة ذلك الحاخام الاكبر.
ــ ب ــ ان "الناصر" صلاح الدين قام بـ"إنجاز حضاري" يليق به وبامثاله، وهو هدم جميع الاهرامات الصغيرة الـ18 التي كانت بجوار الاهرامات الثلاثة الكبرى التي عجز عن هدمها وبقيت الى اليوم. ومن خلال منطق السياق التاريخي يمكن الاستنتاج ان هذا "الانجاز" انما تم بمشورة موسى بن ميمون. وكانت توجد عدة دوافع لتحقيق هذا "الانجاز". ومن هذه الدوافع: رغبة الغزاة المنتصرين في طمس التاريخ الحضاري للمهزومين الاكثر حضارية منهم، لتبرير استعبادهم بوصمهم بالتخلف. ولكن اهم تلك الدوافع كان: الاستيلاء على الكنوز والاثريات المهمة التي كانت تحويها تلك الاهرامات، وضمها الى المنهوبات من الفاطميين والمصريين وبيعها الى تجار المسروقات، اليهود، الذين سربوها عبر يهود المغرب والاندلس الى اوروبا وباعوها فيها. واي تحقيق علمي ملموس حول الكنوز والاثريات المصرية القديمة الموجودة الى اليوم في المتاحف ولدى الاغنياء هواة جمع الاثريات في اوروبا واميركا يمكن ان يثبت مصدر هذه الاثريات و"مسارها التاريخي" الذي يعود الى العصر الايوبي في مصر.
ــ13ــ ان أبلغ تعبير عن الحقد الدفين لصلاح الدين الايوبي ضد العرب يتجلى في كونه الحاكم "الاسلامي!" الذي وضع حجر الاساس لمشروع الاستعمار اليهودي للقدس وفلسطين، في مطلع العهد الايوبي، بعد القضاء على الدولة الفاطمية وابادة الفاطميين.
ففي تشرين الثاني 1917، وبعد ان أزاح المستعمرون الغربيون دميتهم العثمانية عن المسرح الدولي، واحتلوا المشرق العربي، صدر "وعد بلفور" لاقامة "الوطن القومي اليهودي" على ارض فلسطين المغتصبة.
ولكن التاريخ الرسمي العربي المزيف، الذي يمجد صلاح الدين الايوبي يتناسى تماما انه قبل اكثر من 725 سنة من "وعد بلفور" الانكليزي، كان قد سبقه صدور "وعد بلفور الايوبي" الكردي.
فبعد ان غزا فلسطين وباقي مناطق المشرق العربي، وبطلب من مستشاره الخاص "وايزمن زمانه" الحاخام الاكبر موسى بن ميمون، اصدر صلاح الدين الايوبي في 1190 مرسوما دعا فيه اليهود الى الاستيطان في القدس وفلسطين، خلافا لـ"العهدة العمرية" التي تمنع اليهود من ذلك. كما كان ممنوعا على اليهود الاقامة في القدس وفلسطين خلال العهدين البيزنطي والصليبي.
طبعا ان وزير الخارجية البريطانية ارثر بلفور الذي اصدر "وعده" لليهود لم يقدم الى المحاكمة في بريطانيا بتهمة الخيانة العظمى، لانه لم يعطِ اليهود ارضا بريطانية، بل قدم لهم ارضا مغتصبة ومستعمرة، كجزء من صفقة مصالح دولية بين الامبريالية الانكليزية والطغمة المالية العالمية اليهودية.
والشيء ذاته ينطبق على صلاح الدين الايوبي، فهو لم يقدم لليهود ارضا "كردية" بل ارضا اغتصبها "الايوبيون الاكراد" (تماما كما قامت القيادات العشائرية الكردية في حقبة زمنية لاحقة،، سائرة تحت الأعلام العثمانية، باغتصاب الاراضي الارمنية والاشورية والسريانية في شرق تركيا وشمال العراق وشمالي شرق سوريا). ولكن هذا يدفع كل عربي ومسلم صادق الى التساؤل: هل ان ممجدي صلاح الدين الايوبي، من العروبيين المسطحين والشيزوفرينيين، الى الاسلامويين المزيفين والمشبوهين، هم حقا عرب ومسلمون؟!
ــ14ــ في مطالع القرون الوسطى، وتحديدا في الحقبة التي يتوسطها زمنيا عهد صلاح الدين الايوبي، تعرض المشرق العربي ومصر لغزوتين معاديتين خارجيتين هما: الحملات الصليبية من الغرب، وغزوة المغول والتتار بزعامة الجزار هولاكو من الشرق.
وكان الغزاة الطامعون جميعا يدركون ان المصدر الاول لحضارية وتقدم وغنى المجتمع العربي ــ الاسلامي هو الثقافة والعلم.
ولذلك فإن الصليبيين، انصاف المثقفين، كان اول شيء يفعلونه لدى احتلال اي مدينة عربية هو الاستيلاء على ما فيها من مخطوطات وكتب، لحرمان العرب منها، ولكي يستفيدوا هم ويتعلموا منها ويتفوقوا على اصحابها العرب. ولا تزال هذه المخطوطات الى اليوم تتصدر رفوف المتاحف والمكتبات العامة ومكتبات الجامعات ومراكز الابحاث الاوروبية والغربية.
اما المغول والتتار، الاكثر بدائية وهمجية، فحينما اجتاحوا واستباحوا بغداد العظيمة في 1258، فلم يكتفوا بتدمير المدينة وابادة غالبية سكانها، بل انهم عمدوا الى "التخلص" من ملايين الكتب والمُؤلَّفات القيِّمة والنفيسة في مُختلف المجالات العلميَّة والفلسفيَّة والأدبيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وغيرها، بعد أن أضرموا النار في مكتبة "بيت الحكمة"، وكانت إحدى أعظم مكتبات العالم القديم آنذاك، وألقوا بالكُتب في نهريّ دجلة والفُرات، وبقي الماء فيهما اسود اللون عدة اشهر لما نضح فيه من حبر المخطوطات.
ولكن الى جانب هاتين الغزوتين الخارجيتين، كانت مصر والمشرق العربي قد تعرضا لغزوة "داخلية" ("اسلامية!") هي الغزوة الايوبية الكردية. إذ قبل كارثة "هولاكو في بغداد" كان العالم العربي ــ الاسلامي قد ابتلي بكارثة "صلاح الدين في القاهرة". والواقع ان فكرة حرق واتلاف الكتب العربية ــ الاسلامية اخذها هولاكو من صلاح الدين الايوبي، الذي لم يخجل النظام الدكتاتوري الناصري والتاريخ الرسمي العربي من تسميته "الناصر" صلاح الدين!
فبعد ان استتب الحكم في مصر في 1171، لصلاح الدين الايوبي، المشبع بالحقد على العرب المتقدمين، لم يكن همه السعي لرفع مستوى عشيرته وقومه الى المستوى "العربي"، بل العمل لانزال المستوى "العربي" الى ما دون المستوى العشائري الايوبي ــ الكردي، لتبرير التسلط على العرب واستغلالهم واذلالهم واستعبادهم.
ولهذه الغاية عمد "الناصر" صلاح الدين الايوبي الى القيام بكل ما من شأنه محو الذاكرة الحضارية للعرب، وتقويض معالم الحضارة العربية ــ الاسلامية. وكان على رأس "انجازاته":
ــ أ ــ تدمير جميع الاهرامات الصغيرة التي استطاع تدميرها.
ــ ب ــ اغلاق الجامع الازهر في 1171 (بحجة شيعيته)، وكان الازهر ــ ولا زال ـــ بمثابة جامعة حقيقية، من اهم جامعات العالم القديم، تدرس فيه جميع العلوم اللغوية والفلسفية والاجتماعية والوضعية، الى جانب العلوم الدينية. وبقي الجامع الازهر مغلقا حوالى مئة سنة اي طوال العهد الايوبي، واعيد فتحه في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في 1266م.
ــ ج ــ اتلاف واحراق المخطوطات في مكتبة دار الحكمة في القاهرة، وكانت تحتوي حسب المرويات التاريخية اكثر من 1.600.000 مخطوطة في مختلف العلوم الدينية واللغوية والفلسفية والاجتماعية والوضعية، وكذلك المخطوطات التي كانت تصادر من قصور ودور الفاطميين والمصريين. وتقول المرويات التاريخية ان صلاح الدين سمح لعبيده وجنوده بأن ينزعوا جلود المجلدات النفيسة ويصنعوا منها احذية لهم. وجرى تكديس اوراق المخطوطات في اكوام خارج القاهرة واشعال النار فيها؛ وقد سفّت الريح الغبار والتراب على تلك الاكوام، وهطلت عليها الامطار فتكونت منها ما سمي تلة او تلال الكتب.
وقد ظل هذا "الخط الايوبي الكردي" المعادي للثقافة العربية ساريا طوال العهدين المملوكي والعثماني. ويذكر المثقف الموسوعي والمؤرخ علي باشا مبارك انه مع تدهور التجارة والحِرَف (في العهد العثماني في مصر) انهار التعليم أيضا، وبحلول القرن الثامن عشر كانت توجد في القاهرة عشرون مدرسة فقط ما زالت تعمل من بين خمسة وسبعين مدرسة كانت موجودة في زمن المقريزي (مؤرخ مشهور مصري من اصل بعلبكي ــ توفي في 1445). ويضيف "لقد زادت هذه الحالة سوءا عاما بعد عام حتى توقف التعليم وبيعت الكتب وأصبحت المدارس حظائر للماشية وزرائب للحيوانات".
ولكي نعطي كل ذي حق حقه نرى من الإنصاف ان نضيف: ان الايوبيين الاكراد والمماليك الترك والعثمانيين نجحوا ايما نجاح في تحويل جميع المناطق التي حكموها الى "زرائب للمواشي البشرية". وكان ذلك بمثابة تمهيد تاريخي لتمكين الاستعمار الغربي، ومن ثم الصهيونية، من السيطرة على البلدان العربية، واغتصاب فلسطين.
*****
ان "الدواعش" الاسلامويين، و"التطبيعيين" العرب، و"السياديين" المزيفين مجوعي الشعب اللبناني، الذين يقفون اليوم ضد خط المقاومة، هم بامتياز ورثة حقيقيين للايوبيين الاكراد والمماليك الترك والعثمانيين، ويريدون ان يجعلوا من البلدان العربية لا اكثر من "زرائب مواشٍ بشرية"؛ والتحرر من هؤلاء الاعداء الداخليين هو جزء لا يتجزأ من عملية الكفاح لاجل التحرر من الامبريالية والصهيونية واسرائيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب لبناني مستقل