بتول قصير
شهدت العلاقات السياسية بين أنقرة والرياض أزمات معقدة ومليئة بالتحديات لكلا الجانبين باعتبارهما من أهم أقطاب التأثير في الشرق الأوسط، فما من ساحة مشتعلة فيه إلا وجدت السعودية وتركيا على طرفي نقيض رغم حرص الطرفين على تجنب مواجهة علنية أو إشعال فتيل جديد للصدام فيما بينهما. إلا ان الدولتين تعتزمان اليوم طيّ صفحة الخلاف وفتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، وذلك عبر الزيارة التي يجريها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المملكة تلبية لدعوة سلمان بن عبد العزيز.
يعود تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وتركيا إلى 1929، بعد عام من توقيع اتفاقية الصداقة والتعاون بينهما. إلا ان العلاقات التركية السعودية قد تردت بسبب عدد من القضايا الخلافية بين الجانبين منها ما يتعلق بالصراعات في ليبيا وسوريا وحصار قطر راهناً، بحيث كان كلا البلدين يخطو نحو أهدافه بعيداً عن الآخر، فقد كانت تركيا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والاندماج معه، بينما كانت السعودية منشغلة بمحيطها العربي ومواجهة إيران، بالإضافة إلى أن مصر كان لها دور أكبر من السعودية في ملفات الشرق الأوسط وقضاياه. بالإضافة إلى حادثة قتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي وتقطيعه داخل قنصلية بلاده في اسطنبول عام 2018 والتي أدت إلى القطيعة بين البلدين مع الحفاظ على "أوتار خط رجعة ديبلوماسية" بينهما.
إلا أن هذه الأسباب تعد ظاهرية وغير رئيسية في تراجع العلاقات بين كلا البلدين، إذ أن جذور الصراع بين متزعمي الجناح السني في العالم الاسلامي هو أعمق من قضية حصار قطر وقواعد تنتشر هنا وهناك، وهي أكبر من فضيحة اغتيال الصحفي خاشقجي، فكل ذلك ما هو إلا رأس الجبل الظاهر في علاقات البلدين، بينما تحمل هذه المشكلات صراعًا وتنافسًا فكريًّا ورياديًّا لقيادة المنطقة والعالم الإسلامي ببُعد سياسي وتنظيمي من منظور المصالح لكل طرف.
بوادر الصراع الاولى بين السعودية وتركيا نشبت عندما دعمت الرياض انقلاب السيسي على الشرعية وساهمت بعد ذلك في شيطنة الأخوان المسلمين لقطع الطريق على التوجه الفكري الاسلامي التركي الذي بدأ، وهو ما اعتبرته (العائلة الحاكمة في السعودية) خطوة أولى نحو محاصرتها وتجريدها من مشروعية إدارتها للاماكن المقدسة، وتياراً إسلامياً جديداً سيشكل ضرراً مستقبلياً في منظومتها الداخلية المبنية على السلفية من جهة، ومن جهة اخرى القلق من التجربة التركية الناجحة وقوة تأثيرها في المنطقة والعالم، مما دفع السعودية للتحرك بشكل أكبر بمالها السياسي ونفوذها الاقتصادي لمواجهة الشعبية المتزايدة للدور التركي ثقافياً وإعلامياً وسياسياً وعسكرياً.
واليوم وبعد حوالي خمس سنوات من التوتر الذي طبع علاقات الرياض وأنقرة، يزور الرئيس التركي، أخيرا، المملكة العربية السعودية، في محاولة لطي صفحة الخلاف واستعادة الدفء في علاقات البلدين.
أردوغان الباحث عن تحسين العلاقات مع القوى الإقليمية في خضم مصاعب اقتصادية جمة تواجهها بلاده، التقى الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان، وجرى خلال اجتماعه بهما "استعراض فرص تطوير العلاقات السعودية التركية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى بحث مستجدات الأوضاع الإقليمية والدولية والجهود المبذولة بشأنها" كما جاء في البيان الرسمي بعد اللقاء.
هذه الزيارة التي تحمل في طياتها العديد من التساؤلات حول اهدافها المبطنة، إلا ان أنقرة تدرج خطوتها هذه ضمن إطار إعادة رسم اصطفافاتها في المنطقة، والوصول إلى سياسة "صفر مشاكل" التي لطالما انتهجها إردوغان طيلة فترة ولاياته، في ظل العداوات التي خلقتها تركيا مؤخرًا مع الدول العربية، خاصة التدخلات في أكثر من دولة، والسياسية العدوانية التي طرأت الفترة السابقة، ما أوصل الاقتصاد التركي إلى حالة التضخم والانكماش ومعدلات البطالة المرتفعة.
ماذا بشأن مدى الاستفادة الطرفين من هذا التقارب؟
الأكيد أن كلا البلدين سيحقق نتائح من هذا التقارب، فعلى الجانب التركي الذي سيكون أول المستفيدين من تطبيع العلاقات مع السعودية، حيث عانت أنقرة من خسائر فجة على المستوى السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، نتيجة هذه القطيعة، وبالتالي فأن تطبيع العلاقات مع كل الدول لا سيما الخليجية وفي مقدمتها السعودية، سيفتح الباب أمام حلحلة الأوضاع، والحصول على نتائج اقتصادية ملموسة نتيجة هذا التقارب والتطبيع.
وفي المقلب الآخر فإن المملكة هي الأخرى ستستفيد من تطبيع العلاقات مع تركيا، لا سيما في الملف القضائي لقتل خاشقجي سيما على الصعيد الدولي، والمنظمات الحقوقية والمدنية العالمية التي وضعت السعودية في مصاف الدول التي تمنع حرية الرأي والمعارضة السلمية وإن كانت لم تصل إلى مستوى الادانات الرسمية.
بات واضحاً ان ما يقوم به الرئيس التركي الآن هو عبارة عن إعادة تموضع ورسم خريطة التحالفات والعلاقات من جديد، خاصة أن المملكة تمثل ثقلا بالنسبة لمن يعملون في فلكها، وأنها تُعدّ المحرك الأول للدول الخليجية سيما في المسار التطبيعي الخليجي وهو أمر مشترك يحتاجان فيه ان يكونا جنباً إلى جنب في المرحلة المقبلة.