إعداد : يحيى دايخ
أولا ـ في ملخص الباحث: يعتبر مفهوم السلطة من المفاهيم المحورية الذي يقاربها علم الاجتماع السياسي، ويتقاطع هذا المفهوم بالبنى الاجتماعية والنظريات السياسية وهوركيزة أساسية من الفقه والعقائد الإسلامية، وتأخذ السلطة مشروعيتها الدينية ـ الإسلامية كونها أداة تنفيذية لتطبيق الأحكام الإلهية، وكذلك أداة تغييرية لرقي المجتمع وسعادته. فالسلطة في تعريفها العام" هي الحق في الأمر، وتستلزم وجود طرفين آمِرًا ومَأْمُورًا، آمرًا له الحق في إصدار أمرٍ إلى المأمور، ومأمورًا عليه واجب الطاعة للأمر وتنفيذ الأمر الموجه إليه.
علاقة السلطة تقوم على الاعتراف التامً والمتبادل، وإذا تطرق الخلل إلى أحد طرفيها، فإنّها تتعرض إلى الانهيار.
يشير الباحث الى أن هذا المفهوم طرحه الإمام الخامنئي في إطار نظرية جديدة في الاجتماع السياسي الإسلامي، فيحاول الباحث الاستفادة من موضوعٍ مركّب لا يتنافى مع الإسلام، كمعطى ثيوقراطي ولا يتنافى مع المجتمع كمعطى سوسيولوجي. وهو نتاج التجربة الإسلامية للجمهورية الإيرانية، وقد قاربه الباحث من خلال الاجتماع السياسي ضمن المناخ المعرفي الإسلامي.
ثانياً ـ في المقدمة الباحث: السؤال المطروح حالياً سيطرح إشكالاته النقدية هذه المرة، على ضوء البحوث المنهجية المهمومة بالانتقال من مهمة تجديد الخطاب والممارسة الدينية، إلى مهمات تجديد الفكر الديني ذاته، في سياق العمل للاستجابة للتطورات والمتغيرات ليتساوق مع روح العصر، خصوصاً في مجال الاجتماع السياسي. وضمن الرؤيتين الغيبية للدين والمادية للإنسان ابتدأ النقاش للجدل في زمن الحداثة وما بعدها، وقد أدى الحراك السياسي ـ الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية الممتد من خمسينيات القرن الماضي إلى وقتنا الراهن، إلى قراءة الظروف الخاصة لهذه المجتمعات ضمن تحليلات بنيوية ووظيفية تكشف عن المضمر من هذا الحراك.
يرى الباحث أن تحوّل موضوع علاقة الدين بالسياسة، من موضوع نخبوي تتناوله النخب من أهل الفكر والفقه والسياسة، إلى موضوع استهلاكي، تستخدمه المدوّنات لجذب الانتباه وإثارة الفضول، على اعتبار أنَّ الظاهرة الإسلامية بتفسيرها للسلطة والدولة، هي ظاهرة جديدة، وجاء انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 ليزيد النقاش حولها، من باب التجديد الفقهي للإسلام السياسي.
فقد قام الفقهاء وعلماء الاجتماع والسياسة في إيران، بوضع نظرية في الاجتماع السياسي الإسلامي تتماشى مع الواقع القائم ضمن الإيديولوجية الإسلامية للتوفيق بين ولاية الفقيه (الديني) والديمقراطية الشعبية (السياسي).
من هنا، تعتبر أطروحة الإمام الخامنئي التجديدية في مفهوم السلطة السياسية الإسلامية: السيادة الشعبيّة الدينيّة من المباحث المهمّة التي حظيت بالاهتمام في الآونة الأخيرة، وإعتبرها البعض تعادل مفردة ومفهوم "الديمقراطيّة" بالمعنى الغربي، كون جوهر الأخيرة يرجّع مصدر تشريع السلطة من الناس. بيد أن الإمام الخامنئي يعتبرها حصيلة الفكر والتجربة السياسيّة الإسلاميّة في إيران، وأنّها تصلح للممارسة خارج الدائرة الإيرانيّة، عند شعوب تطمح لممارسة القيم الإسلاميّة في الحكم. ويشكّل مفهوم السيادة الشعبيّة الدينيّة من خلال الاجتماع السياسي الإسلامي، جزءًا من الحراك الفكريّ حول مفهوم السيادة الشعبيّة من جهة، وعلاقته بالبعد الديني من جهة أخرى، حيث أنها تبدو للوهلة الأولى بأنها معادلة وسطية بين الحكم الإلهي ـ الثيوقراطي وبين الحكم الديمقراطي الشعبي الوضعي، وهي من هذا المنظار، تعد نظرية جديدة في الاجتماع السياسي الإسلامي. فالاستفتاء على الجمهورية الإسلامية الإيرانية والانتخابات النيابية وانتخابات مجلس الخبراء، هي مشروعية سلطوية شعبية بشرعية دينية.
ثالثاً في المنهج : إن الجديد في البحث هو إعادة تشكيل لمنظومة فكرية تعتمد على البناء الهندسي ـ الفكري، وذلك في المعالجة من خلال مضامين الفقه وإعادة إنتاجها. وهي أيضاً محاولة لمقاربة معرفية لإعادة تظهير الرؤية العامة للنظرية السياسية الإسلامية وفق منهجية بحثية علمية، فيما يقتضى البحث الإضاءة على الخصوصيات الكامنة داخل المجتمع والدولة. لقد ولد الحراك السياسي والاجتماعي العام في هذه المجتمعات ظروفاً كشفت عن مدى ثبات بنيتها الاجتماعية والثقافية والفكرية.
من هنا، يلعب المنهج المقارن دوراً معرفياً واسعاً، خصوصاً إذا ما تم استعماله بين مجتمعين مختلفين لمفهوم واحد هو السلطة السياسية (السيادة الشعبية والديمقراطية). بين المجتمع في الجهورية الإسلامية الإيرانية والمجتمع العربي الذي أبدت الطبقة الحاكمة فيه هلعاً متزايداً من أية نشاطات إصلاحية أو تغييرية أو تجديدية اجتماعية كانت أو سياسية، قامت أو تقوم على التحالفات بين قوى سياسية مختلفة وشخصيات فكرية وأكاديمية تغييرية، كون هذه الطبقة ـ الحاكمة ـ ألفت طريقة في التعامل مع أشتات سياسية واجتماعية، فقد تهدد هذه الأطروحات الجديدة السلطة الحاكمة من خلال إعادة نشر الوعي بين شعوب هذه المجتمعات، الأمر الذي يفقد هذه السلطة السيطرة وينذرها بعواقب وخيمة، فما يتوخاه الباحث من هذا البحث، هو تبيان العلاقة القائمة بين السلطة والمجتمع، أي مجتمع.
رابعاً ـ نظريات تطور السلطة وتشكل مؤسساتها السياسية : إن قيام السلطة المؤسساتية الحاكمة في الجماعات البشرية أمر يستدعي بذاته التأمل والتفكير، فالسلطة تنبع من حاجة الحياة الاجتماعية إلى النظام والسلم والأمن وإلى أهمية توافر الاستقرار الاجتماعي... وعلى هذا الأساس تكون الحاجة الاجتماعية أساس ظاهرة السلطة، ويتعدد استخدام مفردة السلطة في إطار الهيئات والتنظيمات الاجتماعية المختصة، فيقال سلطة دينية، سلطة عسكرية، ولكن السلطة العليا تبقى في يد الدولة صاحبة الحق في إصدار القوانين وفرضها.
لقد تطور مفهوم السلطة وممارسته تاريخياً في المجتمعات الى المؤسسات السياسية في الدولة، وظهرت في مجال تفسير نشوء مفهوم الدولة الحديث وتشكل المؤسسات السياسية، نظريات كثيرة ومتباينة في أطروحاتها، حيث عكست كل نظرية صورة واقع المجتمع الذي تعايشت معه، إما إيجابيا وإما سلبيا، وفي سياق تبرير مأسسة السلطة والدوافع التي أدّت إليها، بما ينسجم مع موقفها الاجتماعي السياسي، لتنطلق من خلاله إلى صياغة مفهومي الدولة والسلطة، باعتبارهما منبثقين عنهم أو هما نتيجة حتمية لهم.
يشير الباحث إلى أهم نظريتين قاربتا مفهوم المشروعية السلطوية، من خلال إيجاد مؤسسات سياسية تتولى الحكم وإدارة الدولة وبشكل موجز:
أـ نظرية العقد الاجتماعي : يرجع ظهور هذه النظرية إلى القرون الوسطى، ولكنها لم تأخذ شكلها المنظم، إلاّ في القرن السابع عشر، مع توماس هوبز وجون لوك ثمَّ مع جان جاك روسو وغيرهم. تعتبر هذه النظرية أنَّ السلطة هي ظاهرة إراديّة قامت نتيجة تعاقد واتفاق مجموعة من الناس فيما بينهم، لتشكل دولة.
ـ توماس هوبز: انصبَّ اهتمامه على دراسة مراحل تطور الحياة الإنسانية، انطلاقا من صورتها البدائية النرجسية الأولى، وصولاً إلى المجتمعات الكبرى المنضوية تحت سلطة الدولة. ويعتبر أنَّ بقاء الإنسان مستمراً في حياته على الصورة البدائية الأولى، يعرض حياة البشرية للفناء. وبالتالي يسعي كل فرد إلى إشباع حاجاته وتحقيق رغباته، من دون الالتفات إلى حاجات الآخر، سيؤدّي حتماً إلى نشوب النزاعات واستخدام العنف والعدوان وسيلة للغلبة.
ـ جان جاك روسو : برزت معه قيم الحرية والعدالة والمساواة بشكل أكبر، لإيمانه بأنَّها ثوابت ملازمة للفطرة الإنسانية، ومن أجل حفظها عليه (الإنسان) أن يتخلى عن فرديته لصاح الإرادة العامة. ويُعتبر روسو مؤسس فكرة السيادة الشعبية في نظرية العقد الاجتماعي .
ـ أما جون لوك : فأضاف بأن القيم الأخلاقية أيضاً إلى جانب العوامل الاقتصادية والمالية، تشكّل دافعاً عند الإنسان للالتزام بهذا العقد، تجنُباً لآثار المنافسة والجشع والطبقية.
ب ـ نظرية الأصول الدينية : من أعلامها مارسيل غوشيه، يرى غوشيه أنَّ العلمنة لا تكون بالتخلي عن المعتقدات الدينية والخروج من الدين، وإنَّما تكون بتحديد وظيفة الدين بشكل منفصل كليّاً عن وظيفة الدولة. فالدين يوظّف في عالم اجتماع الإنسان مع عالم الغيب، بينما وظيفة الدولة تتحرَك في عالم تفاعل الإنسان مع محيطه.
ويعتبر غوشيه أنَّ الدين قادر على توظيف الشأن المقدّس واستغلاله إيديولوجياً بشكل يؤدي إلى تلاشي سلطة السياسي ضمن سلطة الدين العليا، ولا يرى غوشيه مشكلة في الدين نفسه، وإنَّما تكمن المشكلة عنده في استغلال فئة معينة لهذا الدين، بالاستحواذ على السلطة والتحكم بشؤون إدارتها بطريقة لا تخدم إلاّ مصالحها. لأنّ دور السلطة عند غوشيه هو العمل على تطوير المجتمع المدني، وإدارة الحكم بما يخدم الصالح العام، ولكن يقول بأنه سوف يبقى هناك شيء من التقديس في السياسية، هذا شيء محتوم، وإلاّ فإنّ السياسة لا تستمر ولا تشتغل، وإلاّ فقدت هيبتها، وضعفت سلطتها، ويبرّر تمسُّك الملكية في المرحلة الانتقالية في أوروبا، بهذه القداسة. حيث "كانت الدولة، تعتبر نقطة الوصل بين السماء والأرض، كما الكنائس.
ولم تعرف العلمنة طريقها إلى السياسة، إلاّ مع بداية النصف الأول من القرن السابع عشر. حسب رأي غوشيه، حيث نشأت ثنائية المؤمن الصالح، والمواطن الصالح في المجتمع. لأنَّ ديمقراطية الدولة عنده تعني، إرجاع التصور السياسي الذي سيكون شكل نظام الحكم في الدولة، إلى الشعب. وليس إلى السماء.
أما ميكافللي، أعلن بقوة الفصل الجذري بين السياسة والأخلاق ( الدين)، وذلك بفضل الوضوح القاطع الذي فصل به ما بين السياسة وممارستها السلطوية والأخلاق والقيم الإنسانية في كتابه الشهير " الأمير".
من خلال ما تقدم، كلما نزعت السلطة إلى الاتساع، كثر الجدل حول طبيعتها وحول مبادئها، سواء على مستوى نموها أو على مستوى ضمورها، وقد عجزت النظريات عن شرح هذه الظاهرة شرحاً شاملاً.
خامساً ـ مشروعية السلطة الإسلامية : من وجهة نظر الباحث ناصيف نصار في كتابه "منطق السلطة"، ينبغي البحث عن مصادرها في عالم الإنسان، في بنية العلاقات الاجتماعية، بوصفها شكلاً من أشكال العلاقات بين الإرادات الإنسانية، وهي تنتمي إلى العلاقات الأمرية، من هنا يتم طرح الأسئلة التالية ما هو الحراك الاجتماعي السياسي الذي أدى إلى وجود السلطة وتطورها في المجتمعات الإسلامية والعربية؟ وما هي المشروعية التي تستمدها السلطة الدينية؟ وكيف مارس المسلمون هذه السلطة؟.
يأخذ مفهوم السلطة في الأنظمة الثيوقراطية بعده من خلال "تركز السلطة في الجهة الدينية العليا وتستند فيها الشرعية السلطوية إلى الحق الإلهي. من هنا، ويمكن القول إنَّ الخطاب الإسلامي، تاريخياً كان خطاباً سلطوياً (يتصدّى لشأن السلطة) وهو محكوم بهدفين أساسيين :
أ ـ ترسيخ الخطاب الإسلامي وتعزيزه من خلال ربطه بالسلطة الإلهية العليا، وبالتالي تعزيز مكانة الرسول (ص) وتمكين سلطته.
ب ـ نسخ الخطابات السابقة عن طريق إبطالها وإظهار عدم جدواها في حياة الإنسان، وبالتالي إظهار عجزها عن حلّ مشاكله وتلبية احتياجاته. فالسلطة السياسية في الإسلام تستند إلى السلطة الإلهية، لا بل تنبثق عنها، وتتفاعل في ظلّها. من هنا نجد أنَّ السيادة الإلهية والسلطة السياسية في الإسلام لا تنفصلان، ما دامتا ـ على الأقل ـ ممارستين من قبل الرسول، فحتى أن المعارضة السياسية التي وجدت في مجتمع صدر الإسلام، كانت معارضة للممارسة السياسية وليس للسلطة نفسها.
فمشروعية السلطة في نظر الإسلام الديني تأخذ بعدها من خلال الله، من هنا، فممارسة السلطة هي فعل مجتمعي، أما مشروعيتها فهي فعل ديني. " إن تحقيق الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية ينطلق من خلال قدرة البسط ووضع اليد للحاكم، فالسلطة هنا قدرة ممارستها وليس فقط مشروعيتها، إن شرعية السلطة ليست سوى كونها " معترف بها بمثابة سلطة من قبل أعضاء الجماعة، وعندما يكون ثمة إجماع ضمني حولها فيما يتعلق بمشروعيتها." فالمصدر الوحيد لشرعية سلطة ما، هو أنها مطابقة لصورة المشروعية التي يحددها نظام القيم والمعايير الخاص بالجماعة التي تمارس فيها، وأن ثمة إجماعاً ضمنياً داخلها، فالسلطة ـ أية سلطة وفي أي مجتمع ـ لا تستغني عن عنصري: القوة و الشرعية.
سادساً ـ التجديد والاجتهاد السياسي : قارب علماء الاجتماع والفقه مفهوم "التجديد" وإشكالياته من خلال إعادة قراءة النظريات المختلفة التي اتكأت على المقاربات الاجتماعية والدينية والسياسية تاريخياً.
نقد الدكتور حسين رحال في كتابه إشكاليات التجديد الإسلامي المعاصر، الخطاب السياسي والفكر الديني المعاصر لبعض الشخصيات والعلماء والقيادات السياسية للحركات الإسلامية في العالم العربي، مسلطاً الضوء على تعثرات التجديد وتحدياته، في تلك المجتمعات، فهو يشر إلى حالة تجديدية جريئة أقدم عليها الشيخ محمد مهدي شمس الدين حين "نزع مفاعيل المقدس الثابت عن بعض النصوص الدينية العائدة للنبي والأئمة، فإن إمكانية الاجتهاد تجاهه تبقى مستمرة باعتباره نصاً تدبيرياً." من هنا، يأخذ الاجتهاد مداه الواسع في الفكر الإسلامي الشيعي دوراً أساسياً في عملية التجديد.
كان التجديد في الفقه، إعادة إحياء مستمر لمخزون النص الأصيل، وقد سادت تساؤلات حول مقدرة الدين على مواجهة العصر وتحدياته، خصوصاً بأن العلماء والفقهاء المهتمين بالبعد الديني، طرحوا رؤيتهم حول بعض الأفكار والأطروحات الحديثة. من هنا، كان لا بد من فتح ملفات التجديد والاجتهاد والحداثة لمقاربة الهواجس المشتركة بين الديني والعلماني، فالتجديد لا يعني تغيير النصوص الدينية، بل يعني تغيير الفهم لتلك النصوص بما يتناسب مع العصر، على أن لا يتم الإسقاط التاريخي على الزمن الراهن، ولا إسقاط المفاهيم الواردة على النص الديني.
ليس ثمة تضاد بين العلم والدين إنما التعارض قائم بين مسلكين مختلفين للفهم والتفسير, فإذا كانت هناك قطيعة معرفية، فهي ليست بين العلم والدين، وإنما ستكون بين النهجين العلمي بوصفه تجربة مادية، والبياني ( الديني ) بوصفه تعبيراً عن عالم المعنى، لهذا فإن المثقف الإسلامي معني بحل القطيعة، عبر عملية التوفيق بين النزعتين من دون اللجوء إلى استلاب صلاحيات منطقة على حساب أخرى.
أن التعريف المناسب للاجتهاد هو: "استخراج المفاهيم والقضايا والمعارف والأحكام من النصوص الدينية وفق قواعد وضوابط محددة تقرها الشريعة وترضى بها منهجاً ووسيلة للاستنباط، سواء استندت هذه الضوابط إلى العقل المشترك، أو إلى غيره مما يثبت جواز الاعتماد عليه،مع الالتفات إلى أن نتيجة الاجتهاد، حجة يجب الخضوع لها وامتثال مقتضاها، إلا أنها ليست ضرورية الصدق، وإلا لو كانت ضرورية الصدق لما كانت اجتهاداً".
ظهر مصطلح الفقه السياسي نتيجة التلاقي بين علمي الفقه والسياسة، وقد تم تقسيم الفقه إلى قسمين: الأحكام العامة والأقسام الخاصة، ثم جعلوا الفقه السياسي داخل أبحاث الأحكام العامة التي موضوعها المجتمع وعموم الناس.
سابعاً ـ الديمقراطية والإسلام: شكلت الشورى والبيعة والنص، في التاريخ الإسلامي، طريقة لإعطاء المشروعية الدينية للسلطة في الإسلام، وظلت هذه المفاهيم نظرياً ومبدئياً على الأقل، الآلية المعتمدة لإنتاج السلطة في الاجتماع السياسي الإسلامي.
وجد من المسلمين من يرى بأن الديمقراطية الغربية تترجم عملياً بمفهوم الشورى الإسلامية، وأن " نواب الأمة في الغرب هم أهل الحل والعقد في التجربة الإسلامية. ومراقبة هؤلاء للسلطة التنفيذية لا تختلف عما عرف بالحسبة الإسلامية. والدستور لا يختلف عن الشريعة، وبالتالي لا يعود هنالك عوائق أو موانع دينية أو إسلامية تحول دون اقتباس هذه المفاهيم ومؤسساتها.
أن منبت مفهوم الديمقراطية هو الحاضرة اليونانية، إنّ مفهوم الديمقراطيّة، الذي ولد في سياق تطوّر الحضارة الأوروبيّة، "لا ينتمي إلى الحقل الدلاليّ الإسلاميّ، ولا يتّكأ إلى مرجعيّة نصّيّة. بل إنه حضر ( مفهوم الديمقراطية ) للمرّة الأولى في عصر النهضة الإسلاميّة الأولى نتيجة التعارف بين الحضارات، إلّا أنّ هذه المقاربة للديمقراطيّة أثارت وجهة نظر مناقضة، تبلورت أكثر مع أبي الأعلى المودودي، الذي اضطر فيما بعد للاعتراف للبشر بنوعٍ من الحاكميّة، أسماها "الحاكميّة الشعبيّة المقيّدة".
أما أصحاب البعد الديني فهم يشيرون إلى أن هناك الفارق كبير بين النظام الإسلامي وبين النظام الديمقراطيّ؛ فالأخير يفتقد للمعرفة التامّة بالإنسان وبالمجتمع الإنسانيّ، وبسبل السعادة الإنسانيّة, بينما في نظام السيادة الشعبيّة الدينيّة، كان وضع القانون بيد الله العالم المطلق بالإنسان والمنزّه عن الميول والرغبات والمصالح هو السبيل للوصول إلى سعادة أفراد المجتمع في الدنيا والآخرة من خلال العمل بهذا القانون.
لا بد من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين مفهوم الديمقراطية والإسلام، لأن مفهوم السيادة الشعبية الدينية طرح مقابل مفهوم الديمقراطية، في أوج الصراع السياسي بين القوى الحزبية الإيرانية.
استخدم الرئيس الإيراني محمد خاتمي كلمة الديمقراطيّة، والمجتمع المدنيّ، للإشارة إلى إعطائه الناس مزيداً من المشاركة السياسية، فاستخدم الإمام الخامنئي مقابلها نظريّة الحاكميّة الشعبيّة الدينيّة، والمدينة النبويّة، وإن كان أصولها منذ الإمام الخميني.
فالتمييز ما بين الديمقراطيّة بوصفها منهجًا، والديمقراطيّة بوصفها قيمةً من القيم، فالديمقراطيّة الغربيّة ليست قيمةً بحدّ ذاتها، وما يضع الديمقراطيّة بوصفها منهجًا هو قدرة الناس على المشاركة في الحكم، إذاً لا يمكن لنا القول بأنّها غربيّة بالكامل، فالرسول بنى مدينته بالبيعة. والإمام علي بن أبي طالب هو أول حاكم إسلامي، جمع المشروعية الدينية ـ من خلال النص ـ والمشروعية الشعبية من خلال مبايعة الناس له .
أعطى الإمام الخامنئي لمفهوم الديمقراطية بعداً إسلامياً " فإذا كانت الديمقراطية بمعنى الشعبية والانتخابات الحرة في إطار أصول الثورات، فلتكونوا جميعاً ديمقراطيين. وإذا كانت بمعنى السقوط في شراك الليبرالية الديمقراطية التقليدية (المفهوم الغربي) ومن الدرجة الثانية، فلا يكن أحد ديمقراطياً." من هنا، يمكن أن نرى بأن هناك أوجه شبه واختلاف بين المفهومين (السيادة الشعبية الدينية والديمقراطية الغربية) وهي:
أولاً ـ أوجه الشبه :
أ ـ أعطاء مساحة للإنسان في أموره الخاصة، والحد من تدخل الدولة فيها.
ب ـ احترام الحريات الفردية والعقائدية الشخصية.
ج ـ حاكمية القانون والشرع.
د ـ المساواة بين المواطنين.
هـ ـ مشاركة الناس في القرارات السياسية والاجتماعية، بشكل مباشر أو غير مباشر (عبر الانتخابات).
و ـ العمل ضمن المؤسسات السياسية كالأحزاب وجماعة الضغط لمراقبة السلطة والنظام.
ثانياً ـ أوجه الاختلاف :
أ ـ السيادة الشعبية الدينية مقيدة بالدين، وبالتالي لا تتحمل الحكومة تبعات النظام الديني وتطبيقاته.
ب ـ يعتبر النظام القائم على البعد الديني أكثر ثباتاً، بسبب عدم القدرة على نقضه، بخلاف النظام الديمقراطي.
ج ـ إن ملاك شرعية الديمقراطية هو الكمية العددية، وليس الكمية النوعية. بخلاف السيادة الشعبية الدينية الذي يعتبر ملاك شرعيتها مزيج من الكمية العددية والنوعية معاً.
د ـ يلعب رأس المال والإعلام والثروة دوراً محورياً في الحكومات الديمقراطية، بخلاف الحكومة القائمة على السيادة الدينية.
هـ ـ تتعقد شروط ومواصفات الحاكم وصاحب السلطة في السيادة الشعبية الدينية، فالحاكم يجب أن يتمتع بصفات إيمانية خاصة كمصداق للآية القرآنية "فمن آمن وأصلح"، وهي أساس الحكم في هذه السلطة، بخلاف النظم الديمقراطية التي تنطلق من خلال مواصفات سياسية بحتة.
و ـ عادة ما تعبر الديمقراطية عن الإرادة الغالبة المنبثقة عن إرادة الجماهير، لكن الأسلوب الذي تجتمع به الإرادات الفردية؛ فتتراكم لتكوّن الإرادة الغالبة، قد يكون قائماً على أساس من الإغراء أو التخويف أو التضليل في تكوين الرأي العام لها. فلا تعبر عن شرعية السلطة بل عن غلبتها، وما شهده واقع المجتمع البشري في الماضي والحاضر من سيطرة بعض الطواغيت والعناصر الشريرة على السلطة في كثير من المجتمعات، يؤكد على الغلبة وليس على الشرعية.
ثامناً ـ مفهوم السيادة الشعبية الدينية : يحتوى هذا المفهوم على عناصر متعددة تنصهر في مفهوم موحد أطلقه الإمام الخامنئي ضمن رؤيته التجديدية، إلا أنه ينقسم في الفكر الغربي، إلى عدة مفاهيم متصلة ببعضها اتصالا عضوياً، وهي تأخذ مداها في الاجتماع السياسي، حيث سنشير إليها ضمن العناوين الآتية:
أولاً ـ مفهوم السيادة : وهذا المفهوم ينطلق من فكرة بأن الحق بالحكم يعود أخيراً للمجتمع، حيث "يتعين على كل فرد من أفراد المجتمع أن يمتثل وليس لأحد أن يمتنع"، ومفهوم السيادة يشير إلى " السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة، وهي ميزة أساسية للدولة", وتكون السيادة خارجية ( بالعلاقات الخارجية ) بمعنى الاستقلال وعدم التبعية لدول أخرى، وداخلية تمارس سلطتها داخل حيزها الجغرافي. وفي هذا الإطار ينقسم مفهوم السيادة إلى مفهومين، السيادة الإلهية والسيادة الشعبية.
مفهوم السيادة الإلهية: "إن الصفة الأساسية التي تتميز بها السلطة ذات السيادة المطلقة هي أنها تتمتع بالقوة التشريعية، وإليها يرجع تعديل القوانين المفروضة على الأفراد، وتحديد قوانين أعمالها، وهي فوق الشرائع جمعاء، مطلقة، وأنها مصدر الشرائع والحلول".
مفهوم السيادة الشعبية: إن الحراك السياسي والاجتماعي الذي حصل في أوروبا والثورات الصناعية والثقافية بدأ من القرن السابع عشر، أدى إلى إحلال مفهوم السيادة الشعبية بدلاً من مفهوم السيادة الإلهية في الحكم، وبدأ الناس يشاركون في العمل السياسي الأمر الذي أدى إلى ظهور "المجال السياسي"، إلا أن هذا المفهوم تطور من خلال التجربة الأوروبية إلى مفهوم الديمقراطية. بل يعتبر مفهوم السيادة الشعبية هو الفكرة الأصيلة في تاريخ مفهوم الديمقراطية الغربية.
السيادة الشعبية الدينية : انطلق هذا المفهوم من خلال الفقه السياسي لولاية الفقيه، والذي امتزج بالتجربة القانونية والسياسية لمسار تشريعي خاص ضمن الحراك السياسي الاجتماعي الإسلامي الإيراني.
أعتبر الإمام الخامنئي بأن " شعوب العالم الإسلامي يقومون بمواجهة الاستبداد، لأنهم يريدون أن يكونوا مسلمين معاصرين أن يتحرروا من الاستبداد والاستعمار والتخلف بإسلوب السيادة الشعبية الدينية.", ولا بد من الإشارة بأن نظام السيادة الشعبيّة الدينية ليس التقاطًا بين نظامين، بل هو مستوحًى من الحكومة النبويّة والعلويّة في صدر الإسلام، وهو الأساس الذي بُنيت عليه الجمهوريّة الإسلاميّة، وهذا ما كان عبّر عنه الإمام الخميني.
يبدو للوهلة الأولى، بأنّ تركيب هذا المفهوم غير منسجم، وهو نتاج عنصرين ومفهومين لا ارتباط بينهما إطلاقًا، فالسيادة الشعبية من جهة، هي خلاف النظرة الإسلامية في إعطاء المشروعية في الحكم كما ذكرنا، والسيادة الدينية تناقض تدخل الناس في الحكم من جهة أخرى.
إن مفهوم السيادة الشعبية الدينية هو مفهوم موحد متماسك ومتناغم، يكون فيها الدين هو المرجعيّة المعتمدة في تحديد وبيان العناصر المكوّنة للديمقراطيّة، من القوّة وسلطة الجماعة والمشاركة الشعبيّة، ليصبح هذا المفهوم ممكنًا وبيانه ممكن أيضًا وعناصره المكوّنة منسجمة ومتناغمة.
أصبح مصطلح متداول في الاجتماع السياسي المعاصر. حيث إنّ في المشروعيّة الدينيّة للسيادة الشعبيّة ثنائيّةً، وهذه الثنائيّة هي أولًا أهليّة الحكّام، وثانيًا رضا الناس عنهم. وفي هذا السياق يبرز لدينا عاملان:
دور الإسلام : تحديد الهدف الأساس للإنسان في هذه الحياة سعادته في الدنيا والآخرة.
شعبيّة النظام : اعتبر أنّ دور الناس ليس خلق المشروعيّة، بل جعل هذه المشروعيّة فعليّةً، فلا تصل مشروعيّة أيّ صاحب حقّ إلى عالم الفعل إلّا مع رضا الناس، ولا يصبح التكليف ملزمًا لمن على عاتقه أداء التكليف إلّا مع رضا الناس.
ملاحظة : فالشرعيّة والمشروعيّة، مفهومان مختلفان فالشرعيّة هي من خلال بالبعد الإلهيّ، أمّا المشروعيّة فهي من موافقة الناس عليه لأنّ المشروعيّة صنو الفعّاليّة.
ويحدّد الشيخ شفيق جرادي جملة أصول لـ"السيادة الشعبيّة الدينيّة" من خلال الدستور الإيراني وهي:
الأصل الأوّل: حاكميّة الله المطلقة على الوجود.
الأصل الثاني: أصالة الشريعة الإسلاميّة في بناء مؤسّسة الإدارة والحكم.
الأصل الثالث: أصالة الحقوق الشعبيّة التي أولاها الله للناس.
إنّ نظام السيادة الشعبيّة الدينيّة، يشتمل، ولو لم يكن هناك ولاية فقيه، على الحدّ الأقصى من القيم الإسلاميّة. وهو يفترض، حسب مطلقها الإمام الخامنئي، أن هناك انسجاماً تكوينياً بين إرادة الله التشريعية وبين مصالح الناس، إنها إحدى المفاهيم التجديدية التي تقاطعت بين مفهوم الديمقراطية الغربي، وبين مفهوم ولاية الفقيه، أفرزتها ضرورات الحكم وممارسته.
تاسعاً ـ الخاتمة : أنّ السلطة في الدولة سلطتان: سلطة الدولة، وهي سلطة طبيعة أصلّية، وسلطة الحاكم، وهي سلطة تفويضية مستمدة من سلطة الدولة وراجعة إليها.
فالدولة، إذ تفوض إلى فرد، أو إلى جملة أفراد، الحق في أمر أعضائها جاعلة بالفعل نفسه من يتولى الأمر حاكمًا ومن يتلقاه شعبًا، فهي لا تتنازل عن هذا الحق، في أي شكل من الأشكال، والتنازل عنه يعني نفيًا لوجودها. وفي الاتجاه نفسه، ولا يمكن أن يكون تفويض سلطة الدولة إلى الحاكم تفويضًا مطلقًا وكليًا، لأن التفويض الكلي والمطلق لحق من الحقوق يساوي التنازل عنه. وهذا يعني أنه لا بد في كل دولة محققة لماهية الدولة من نظام لتفويض السلطة العامة إلى الحاكم .
تمثل حدود السلطة السياسية وجهًا من وجوه حدود السلطة إجمالاً، إذ لا سلطة مطلقة إلاَ للكائن المطلق، فكل سلطة في المجتمع سلطة نسبية ومحدودة.
يتحدد الوضع السليم لسلطة الحاكم، باحترام الحاكم لسلطة الدولة وباعترافه بأن سلطته لا تحل محل سلطة الدولة ولا تتماهى معها، وإن كانت منحدرة منها, أما الحكم السياسي، فيعتبر في ذاته ممارسة عينية لسلطة المجتمع على نفسه، فالاستغناء عنه يعني تخلي المجتمع عن ممارسة سلطته على نفسه، وهذا أمر مستحيل, فالنقد المشروع لسيطرة طبقة اجتماعية في مجتمع سياسي معيّن يستتبع رفضًا للحكم السياسي القائم في هذا المجتمع، فلا بد لإلغاء حكم سياسي قائم من إحلال حكم سياسي جديد محله. إن شرعية المعارضة السياسية نابعة من منطق السلطة، وهذا الأخير يجب أن ينتصر على منطق السيطرة في الحكم، فمنطق السلطة لا يستبعد المعارضة، بل يستبعد العصيان والثورة.
وأخيراً، ويمكن الخلوص إلى مجموعة من المسائل، التي يمكن البناء عليها، لتوسيع دائرة الإمكانيّة لحركة أطروحة السيادة الشعبيّة الدينيّة، في أقطار وبلدان خارج إيران، ومنها:
أوّلًا : انتقال الاجتهاد الإسلاميّ من مجرّد كونه أمرًا فقهيًّا ضيّقًا إلى اجتهاد فقهيٍّ موسّع، يلحظ كلّ حيثيّات النصّ الدينيّ، فانطلاقاً من القيم الإسلامية السيادية، وهي المعنوية المتمحورة على التوحيد، والذي بدوره يضفي عليها روح الرحمانية الإلهية الضامنة للكرامة الإنسانية.
وهنا يقع الربط مع العدالة كقيمة تحمل طابع التمدد والانتشار إلى جوانب والوجود والمعتقد ، أي العدل، لتكون العدالة عندئذ تعبيراً عن معنوية الرحمة الإلهية،وهذه التوليفة النظرية التأسيسية هي التي أطلق عليها الإمام الخامنئي، اسم أسلوب السيادة الشعبية الدينية.
ثانيًا: التدقيق في الإجراءات والقيود العملانيّة التي يمكن لها منع الحاكم ـ الولي من ممارسة سطوة في سلطته، وهو أمرٌ يعود إلى الدور العملانيّ الذي تقدّمه الأطروحة في بناءاتها العملانيّة وتجربتها الحيّة.
ثالثاً: إن مصطلح السيادة الشعبية الدينية مركب من ثلاثة ألفاظ، فإن هذه الألفاظ تشكل كلا غير قابل للتجزيء. وأي تجزيء لهذا الكل يخرجه عن دلالاته الحقيقية. وهو مصطلح موجود في الفكر الغربي بعنوان السيادة الشعبية السياسية، حيث أختار الفكر الغربي السياسية بدل الدينية لأن توجه الناس لديه ينطلق من خلال بعده السياسي وليس الديني. إما في المجتمع الإيراني فاختار الدينية بدل السياسية لأن الحاكم على توجهه السياسي هو البعد الديني. من هنا، فإن هذين المفهومين متقاربان منهجياً ومتباعدان أيديولوجياً.
مما تقدم يتبين لنا في جميع المجتمعات الإنسانية العلمانية منها والدينية، بأن للسلطة في الفكر البشري خصائص ثلاث: صفة القوة، وصفة الشرعية، وصفة الخير.