د. علي مطر
تستمر موجة التعامل والتطبيع مع الكيان الصهيوني من دول عربية عدة، لكن في المقابل فإن مكافحة التطبيع لم تقف، بل إن زخمها يزداد بدعم من قبل حركات المقاومة، التي تقف حصناً منيعاً في الدفاع عن القضية الفلسطينية بشتى المجالات والمستويات. وفيما يستمر هاذ المشروع بتأمر من أنظمة عربية عدة، سعيًا لحرف بوصلة الصراع العربي مع الكيان الصهيوني وتحويله إلى صراع فلسطيني صهيوني، فإن الأطراف التي تسعى إلى محاربة التطبيع تستند على وعي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الرافضة لهذا التعامل، وإسقاط كل محاولات تحويل المواجهة مع العدو، من مواجهة حول أصل وجود هذا الكيان الغاصب، إلى مجرد مواجهة تجري في منع تطبيع العلاقات، وبالتالي حرف البوصلة من رفض هذا الكيان الذي لا يوجد أي مسوغ لقيامه، إلى مجرد مواجهة مع الدول التي تريد تطبيع العلاقات معه على أساس أن تواجده أصبح طبيعياً.
يهدف مصطلح تطبيع العلاقات والذي يأتي من كلمة Normalization أو يُطبّع؛ أن تصبح العلاقات وفق المصطلح السياسي طبيعية بعد فترة من التوتر أو القطيعة لأي سبب كان، حيث تعود العلاقة طبيعية وكأنه لم يكن هناك خلاف أو قطيعة سابقة. وعندما نقول تطبيع فإنه يؤشر إلى وجود نهج يعمل على كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، على كل المستويات، الثقافية، الإعلامية، السياسية، الاقتصادية، السياحية، الدينية، العسكرية والأمنية، وبالتالي هو مشاركة في أي مشروع يجمع مع العدو الصهيوني. لكن بعيداً عن المصطلحات والمفاهيم، أو طرق وأساليب التمويل، فإن الهدف هو جعل الإحتلال العدو الصهيوني في فلسطين أمراً طبيعياً، ومن هنا يأتي القول بأن التخاذل أو الذهاب نحو اتفاقات أو أي شكل من أشكال التعامل يعد تطبيعاً مع العدو.
وبات واضحاً أن التسوية التي يحاول الكيان الصهيوني فرضها على على الدول العربية، لم مجرد سعي إلى إقامة علاقات، بل هي محاولة إسقاطات تاريخية وثقافية ودينية وغيرها، وهي محاولة إسقاط مفهوم الكيان الصهيوني والعداء له من قاموس الدول العربية، وجعل هذا القاموس العربي يتقبل وجود كياناً دخيلاً مصطنعاً ومحتلاً في فلسطين، فضلاً عن أن هذا التعامل يفتح للكيان الصهيوني بابًا واسعاً للتغلغل في المنطقة العربية، بدون حاجة لوجود ترتيبات أمنية نتيجة إسقاط فكرة الحرب العربية الإسرائيلية، بعد أن تصبح الذاكرة الوطنية العربية مخترقة ويتم تحويلها وفق هذا المشروع.
وبإشارة سريعة فإن التطبيع الثقافي هو الذي يحصل من التبادل والتفاعل الثقافي الحي والمباشر، من خلال المؤتمرات والمحافل الثقافية والأدبية، فيما التطبيع الإعلامي يكون من خلال بث مقابلات مع أشخاص من الكيان الصهيوني على قنوات عربية، بينما يكون التطبيع الاقتصادي هو دخول الكيان "الإسرائيلي" إلى الأسواق العربية وتسويق منتجاته بأسماء شركات وهمية، وغيرها.
لا شك أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع وجود لا صراع حدود، وهذا ما يدركه الجميع، فالشعوب العربية إلى اليوم لا تزال تؤمن وتدافع عن القضية الفلسطينية وتنبذ الإحتلال الصهيوني، فضلاً عن أنه من المستبعد أن يستطيع العدو الصهيوني شراء الشعوب العربية، وحتى أن الدول المطبعة تعلم ذلك، لكنها تعمل وفق قناعات مختلفة هي الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها ولو على حساب كل المقدسات.
ومع أن العدو يعمل دائماً على البحث عن ثغرات يدخل منها إلى تطبيع العلاقات، ومنها المسارات التربوية والثقافية والإعلامية، فإن المواجهة في المقابل حاضرة، وقد ظهر ذلك من خلال مؤتمرين مهمين جداً عقدا مؤخراً في بيروت، منها اللقاء الوطني الإعلامي مؤتمر "إعلاميون ضدّ التطبيع" في بيروت تحت عنوان "لا للتطبيع… التطبيع خيانة" بمشاركة واسعة من الإعلاميين، والنشاط الهام الثاني، هو المؤتمر الاسلامي العربي لمناهضة التطبيع التربوي الذي نظّمه مركز الأبحاث والدراسات التربوية واتحاد المعلمين العرب.
لا شك أن هذه المؤتمرات تؤكد على منحيين المنحى الأول هو رفض أي تطبيع على المستوى الإعلامي، ومنها ما قام به بعض الإعلاميين والإعلاميات في الآونة الأخيرة ومنهم ماريا معلوف ومارسيل غانم، وفيما طبعت الأول علناً فإن الثاني عمل على تقبل الفكرة والدفاع عنها في برنامج "صار الوقت"، وهنا تكمن أهمية رفض هذه العلاقات، فيما تكمن أهمية المؤتمر الثاني في أنه يؤكد على التأصيل الفكري والثقافي والتربوي الرافض لفكر التطبيع، والذي يؤكد على أن التاريخ والجغرافيا والفكر العربي يرفض التسليم لوجود الكيان الصهيوني.